الصفحة 95
وغيرها.

وفي المقابل انظر إلى جواب الرسول الأكرم لعمر (لقد جئتكم بها بيضاء نقية) وقسه مع جواب ابن مسعود لمن أعجب بالصحيفة: (إن احسن الهدى هدى محمد) لتعرف ما وراء نظرة المعجبين واتحاد جواب ابن مسعود مع جواب الرسول الأكرم، أضف إلى ذلك اننا لم نقف على رواية نطقت بهذا الإعجاب وذاك التهديد من رسول الله إلاّ تلك الروايات المروية عن عمر وإعجابه بمكتوبات اليهود، وإذا أمعنت النظر في تعليل ابن مسعود بالاماثة تراه يصب في المصب الشرعي وخصوصاً حينما تراه يميثها بالماء ولا يحرقها بالنار مؤكّداً على أن احسن الهدى هدى محمد وأن احسن الحديث كتاب الله وأن شر الامور محدثاتها.

حتّى أنّ ابن مسعود زاد تصريحه وضوحاً بقوله في عدّة مرويات (ألاّ إنّ ما في هذه الصحيفة فتنة وضلالة وبدعة)، وبقوله في مقام آخر: (إنّما أُهلِك أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والإنجيل حتّى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والأحكام).

فقد وضُحَ أنّ الصحائف المأتي بها إلى ابن مسعود لم تكن تتعلّق بالفرائض والأحكام، وإنّما كانت تدوّن القصص والحكايات وبعض الأذكار المتعلّقة بهذه الحكايات المنسوبة في تلك الأساطير والخرافات والزيادات.

وبهذا يحتمل أن يكون في هذه الصحيفة قصص تميم الداري ـ الراهب النصرانىّ الذي استأذن عمر أن يقصّ فأذن له(1) ويحتمل أن تكون صحفاً مشابهة لها.

ويتبيّن الأمر أكثر وضوحاً وجلاءً في قول ابن مسعود: (فأُنشِد الله رجلاً عَلِم مكان صحيفة إلاّ أتاني، فوالله لو علمتها بدير هند لانتقلتُ إليها)، وفي قوله: (فوالذي نفس عبد الله بيده لو أعلم منها صحيفة بدير هند لأتيتها ولو مشياً على

____________

1- المذكر والتذكير والذكر لابن ابي عاصم: 63، كنز العمّال 10: 280، 29445 و29446.


الصفحة 96
رِجلي) وقوله ـ كما نقله الراوي ـ (وأُقسِمُ بالله لو أنّها كانت بدار الهند(1) ـ أراه يعني مكاناً بالكوفة بعيداً ـ إلاّ أتيته ولو مشياً)(2)، فهذا الجدّ والإصرار منه على محو مثل تلك الصحف كان لنكتة، ألا وهي اختلاط تلك الأحاديث واستقاؤها من أحاديث أهل الكتاب، فكأنَّ ابن مسعود يرى أنّها من صنع الأديرة، ومن قصص وأساطير أهل الكتاب التي غذّوا بها عقول الضعفاء من المسلمين والمغفّلين، ومن يتعاطف معهم فكريّاً، بالإضافة إلى ميل النفوس إلى أُسلوب السرد القصصىّ وسماع الغرائب والعجائب، وكأنّ نشر تلك القصص كان أمراً متعمّداً مدروساً من النصارى، فلذا كان ابن مسعود يمحوها أحياناً بمجرد إلقاء النظرة عليها، أو حتّى دون إلقاء النظرة الفاحصة لعلمه سلفاً بما تحويه تلك الصحائف والكتب.

فلذلك وقف ابن مسعود من تلك المدوّنات الموقف الحازم، الذي قد بدا سلبيّاً بسبب معاصرته للحملة التي قادها عمر بن الخطّاب ضدّ التحديث والتدوين، وبين المنعيَن فرق لا يخفى على كلّ ذي لبّ وبصر!!

وبعد الوصول إلى هذه النتيجة المتمخّضة عن النظر الشامل لروايات المنع المنسوب إلى ابن مسعود، يحقّ لنا أن نقول إنّ رواية الدارمىّ التي تنصّ على أنّ محتوى الكتاب (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر)، لم تكن وافية، إذ لم تكن هذه الجمل فقط هي محتوى الكتاب، بل هناك أشياء أُخرى من قبيل ما مرّ

____________

1- دير الهند: من قرى دمشق. ودير هند الصغرى: بالحيرة، كانت تنزله هند بنت النعمان بن المنذر، ودير هند الكبرى: بالحيرة أيضاً، بَنَته هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكل المرار. [ معجم البلدان 2: 542 ـ 543 ]. وقد يطلق دير هند ويراد به دير هند الصغرى [ انظر الأغاني 2: 131]. وعلى كلّ التقادير فالظاهر أنّ المراد (بدار الهند) (دير هند). ونحن نرجّح أنّ يكون مراد ابن مسعود هو الدير الذي بالشام، لما في ذلك من ارتباط بالصحف المأتي بها من الشام، ولأنّه أبلغ في البُعد، لأنّ الظاهر هو صدور هذه الأقوال من ابن مسعود في الكوفة، إذ الرواة كوفيّون.

2- سنن الدارمي 1: 130، ح 479، المصنف لابن ابي شيبة 5: 315، ح 26447.


الصفحة 97
ذكره في سائر الروايات، بقرينة قول ابن مسعود في الرواية الأخرى: (إنّ ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة)، إذ لا يعقل توجيهه هذا الكلام لمجرّد التسبيحة والتحميدة والتهليلة والتكبيرة، مع أنّه كان يقولها صباحاً ومساءً في صلواته الخمس، ولا يعقل صدور هذا الردع لهذه الكلمات الطيّبات من مسلم عادىّ، فضلاً عن صحابىّ من كبار صحابة النبىّ (صلى الله عليه وآله).

والقول: بأنّ الردع في كلامه موجّهٌ إلى نفس الكتابة والتقييد، وأنّها ضلالة بغض النظر عن المكتوب، لا تساعده العبارة المذكورة ولا تدلّ عليه، لأنّ قوله: (إنّ ما في هذا الكتاب) يدلّ على أنّ المقصود هو محتوى الكتاب، لا مجرّد ومحض التقييد والتدوين، وإلاّ لقال مثلاً: (إنّ الكتابة بدعة وفتنة وضلالة).

ومثل هذا الكلام نقوله في الرواية اليتيمة التي ادّعت أنّ في الصحيفة فضائل أهل بيت النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، فإنّ جملة هذه القرائن تدلّ ـ إن صحّت هذه الرواية ـ على وجود أكاذيب ومختلقات وربّما شي يُدّعى أنّه من سيرة أهل البيت وفضائلهم ممّا لا يمتّ إلى الواقع بصلة، أو ممّا بولغ فيه، ومهما يكن من شي فإنّ الإذعان لمحو ابن مسعود لفضائل أهل البيت محالٌ، خصوصاً بعد الفراغ من أنّ ابن مسعود كان من أكبر المحدّثين بفضائلهم والناشرين لمآثرهم.

هذا، ونرى أنّ ابن مسعود لم يكن كأبي بكر وعمر في أُسلوب المحو، لأنّه لم يلجأ إلى أُسلوب الحرق والإبادة الشاملة للمدوّنات، وإنّما اتّخذ أُسلوب الإماثة بالماء، وهو الأسلوب الشرعىّ لمحو كتب الضلال، التي فيها اسم من أسماء الله أو الأنبياء أو الأوصياء والأئمّة (عليهم السلام)، إذ يحرم الحرق، وينحصر الإتلاف بالميث بالماء أو الدفن في الأرض.

وربّما يعضّد ما استنتجناه هنا بما صرّح به بعض الأعلام; إذ قال أبو عبيد: إنّه [ أي ابن مسعود ] يرى أنّ هذه الصحيفة أُخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد الله

الصفحة 98
النظر فيها. وقال مرّة: أما أنّه لو كان من القرآن أو السنّة لم يمحُهُ، ولكن كان من كتب أهل الكتاب.(1)

وبهذا يمكن أن يكون نهي ابن مسعود جاء لما فصّلناه عنه سابقاً، وهناك احتمال آخر نراه هو الأقرب; وهو صدورها عنه تقيّةً أو مصلحة أو تخوّفاً من درّة عمر إذ عرف عن عمر أنّه أمر بإتلاف الصحف والإقلال في التحديث، وقد ضرب بعض الصحابة على ذلك، وسجن آخرين كان من بينهم ابن مسعود، فلا يستبعد إذاً أن يكون ما فعله ابن مسعود مع الصحيفة جاء آنذاك مماشاةً للوضع العامّ في الدولة الإسلاميّة وكي لا يتخطّى أمر الخليفة عمر بن الخطّاب، إمّا تخوّفاً من بطشه أو مداراة ومصلحة، فعن الحارث بن سويد قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول (ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلّماً به).

وقال ابن حزم معقباً: (ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف)(2).

وجاء عنه أنّه صلّى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ـ والي عثمان على الكوفة ـ تقيّة، وأنّ الوليد كان قد صلّى الصبح بهم أربعاً ثمّ قال: أزيدكم؟

فقال له ابن مسعود: مازلنا معك منذ اليوم في زيادة!(3)

وبهذا يصحّ القول في نهي ابن مسعود ـ لو صحّ عنه ـ أن يكون اتّقاءً من درّة عمر وحفظاً لكيان الإسلام، إذ اشتهر عنه أنّه صلّى مع عثمان بمنى أربعاً رغم خلافه معه اتّقاءً للفتنة والشرّ.

فقيل له: ألم تحدّثنا أنّ النبىّ صلّى ركعتين، وأبا بكر صلّى ركعتين؟

____________

1- جامع بيان العلم وفضله، وسنن الدارمي 1: 134، ح 477، كما في تدوين السنّة: 341.

2- المحلّى لابن حزم 8: 336 المسألة (1409).

3- شرح العقيدة الطحاويّة، للقاضي الدمشقىّ 2: 532 كما في واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة: 106.


الصفحة 99
قال: بلى، وأنا أحدّثكموه الآن، ولكنّ عثمان كان إماماً فما أُخالفه، والخلاف شرّ(1).

وجاء عن ابن عوف أنّه لقي ابن مسعود ـ يوم اعتراضه على عثمان وإتمامه الصلاة بمنى ـ فقال له ابن مسعود: الخلاف شرّ، قد بلغني أنّه [ أي عثمان ] صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي أربعاً.

فقال ابن عوف: قد بلغني أنّه صلّى أربعاً، فصلّيت بأصحابي ركعتين، أمّا الآن فسوف يكون الأمر الذي تقول: يعني نصلّي معه أربعاً(2).

وعليه فقد استبان لك خطّة الصحابة في الصدر الأوّل وأنّهم كانوا يريدون الحفاظ على كيان الإسلام رغم احتفاظهم بما يعتقدون به باطناً. وهذا الكلام لا ينافي ما ذهبنا إليه من كون ابن مسعود من دعاة التحديث والتدوين ومن الذين رووا في فضائل أهل البيت، إذ عرفت أنّ الإنسان قد يكتم ما يعتقده ولا يبيح به مصلحةً أو خوفاً، وترى هذا واضحاً في سيرة ابن مسعود; فالنصوص المنقولة عنه في علىّ والزهراء والحسن والحسين وكونه من السبعة الذين شهدوا دفن الزهراء والاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر غصبه الخلافة، وتقارب فقهه معهم، كلّها تخالف ما جاء في تعليل غالب كتّاب الشيعة في خصوص ابن مسعود.

إذ الشخص الذي يعدّ من أهل البيت لكثرة دخوله وخروجه عليهم حتّى قالوا عنه: ما نراه إلاّ عبد آل محمّد، واعتقاده بلزوم الصلاة على آل محمّد في الصلاة، وغيرها، لا يتّفق مع ما علّل سابقاً. وعليه فيلزم حمل الخبر على ما قلناه سابقاً من التقيّة والمصلحة وما شابه ذلك.

____________

1- السنن الكبرى للبيهقي 3: 144، ح 5221، البداية والنهاية 7: 218.

2- تاريخ الطبري 2: 606، احداث سنة 29 هـ، وانظر الكامل لابن الأثير 3: 494، البداية والنهاية 7: 154.


الصفحة 100
وعليه، فإنّا لا ننكر الرأي السابع برمّته وإن كنّا لا نعتقد في الوقت نفسه بصحّته على نحو الإطلاق وانحصار السبب الأساسىّ فيه، وبهذا يكون السبب السابع حسب ما فصّلناه رأياً قريباً للصحّة وأنّه جزء العلّة لاتمامها.

والآن لنواصل البحث عن السبب الواقعىّ في منع الشيخين لتدوين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولنتعرّف على سبب صرف الخلفاء الناسَ إلى القرآن، كما لوحظ في مرسلة ابن أبي مُليكة، وقول الخليفة أبي بكر: (بيننا وبينكم كتاب الله)(1) وقول عمر وعائشة: (حسبنا كتاب الله)(2) و(ليس بعد كتاب الله شي) وغيرها.

كانت هذه مبرّرات ذكرها الشيخان وبعض الكتّاب، مستشرقين ومسلمين، شيعةً وسنّةً، قديماً وحديثاً، وإليك السبب الأخير عسى أن تقف فيه على الحلّ المطلوب.

____________

1- تذكرة الحفّاظ 1: 2 ـ 3، حجّيّة السنّة: 394.

2- امّا كلام عمر فهو معروف مشهور قاله ورسول الله مسجّى على فراش المرض (انظر البخاري) كتاب العلم باب كتابة العلم، وكتاب الجهاد باب المغازي باب مرض النبىّ، وكتاب المرضى باب قول المريض (قوموا عنّي)، وكتاب الاعتصام باب كراهية الخلاف. وانظر شروح البخاري كفتح الباري 1: 209، ارشاد الساري 1: 169، عمدة القاري 1: 575، وشرح النووي على مسلم 2: 90 ـ 92، والمصنّف لعبد الرزاق 5: 438 و439، ح 9757، ومسند أحمد 1: 334، ح 2992، 1: 336، ح 3111، ودلائل النبوّة للبيهقي 7: 181، 283، وغيرها. أمّا كلام عائشة فهو (حسبكم القرآن) وقد أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز 2: 77، ح 1226، صحيح مسلم 2: 642، ح 929، باب التشديد في النياحة.


الصفحة 101

السبب الأخير
هو ما نذهب إليه


إن منع التحديث والكتابة والتدوين لا يمكن أن يأتي وليد ساعته ولا أن يعزى لعامل واحد فقط، بل لا بدّ ان تتظافر فيه عدة عوامل ومقدمات لتكوين وتعميم فكرة المنع ويتمخص ذلك بنظرنا في أربعة عوامل، وقد تكون أكثر، وهي:

العامل الأول: هو ما مر في السبب السابع لكن بمعنى منع انتشار تفسير وبيان الأحاديث الواردة في أهل البيت والتي لها أبعاد تمسّ مدرسة الخلافة في الصميم، وأما نقل الفضائل لوحدها دون التوعية الكامنة فيها فهو غير مقصود بدرجة كبيرة في منعهم العام الشامل للأحاديث، ويدخل في هذا الإطار منع نشر مثالب ونقائص كبار قريش والنهج الحاكم; إذ القرآن الكريم ورسول الله مدح أشخاص وذم اخرون.

فمنعوا تفسير الصحابة البياني للقرآن وشأن النزول في الاحكام(1) والفضائل والمثالب(2) أو حدّوه بدعوى اختلاطه مع القرآن والتثبت في النقل!!

____________

1- منها ما جاء في مصحف عائشة وحفصة وام سلمة وقراتئتهم للآية {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} هكذا (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) وقرأ ابن عباس واُبي بن كعب وابن مسعود وعلي بن ابي طالب {فما استمتعتم به منهن فاتوهن اجورهن الى اجل مسمى} وامثالها.

2- منها ما جاء في الدر المنثور للسيوطي 2: 298 بسنده عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله {يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك ـ ان علياً مولى المومنين ـ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}، أو ما جاء في تفسير {ان جاءكم فاسق بنبأ} أو {لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي}و {وان تظاهرا عليه} و{الشجرة الملعونة في القرآن} وغيرها.


الصفحة 102
العامل الثاني: عدم احاطة الحكام بجميع الأحكام الشرعية، وهذا مما حدى بهم لان يرسموا شيئاً فشيئاً منهجاً في الشريعة يختلف فيه معهم أناس كثيرون.

فالخلفاء كانوا أولا يسائلون الصحابة مما لا يعرفونه من الاحكام التي جاءت في الكتاب العزيز والسنة المطهرة ويخضعون لاجاباتهم دون أي حرج ظاهر، لكن وبمرور الايام اكتسبت هذه الاجابات صبغة التخظئة والمناقشة ـ حسبما ستقف عليه لاحقاً ـ، فجاء عن عمر بن الخطاب أنه قرأ {السابقون الاولون من المهاجرين والانصار الذين اتبعوهم باحسان} فرفع {الانصار} ولم يلحق الواو في {الذين }فقال له زيد بن ثابت: {من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان} فقال عمر: (الذين اتبعوهم باحسان) فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بابي بن كعب فأتاه فساله عن ذلك فقال أُبي لعمر: إني والله لقد قرأتها على رسول الله {والذين اتبعوهم بإحسان} وإنك يومئذ تسكن ببقيع الغرقد، فقال عمر: حفظتم ونسينا، وتفرغتم وشلغنا، وشهدتم وغبنا... (1).

وفي هذا المأزق كان المنع من التحديث والكتابة والتدوين خير سبيل لسد باب الاحتجاج والوقوف أمام الحرج، فلذلك راح الخلفاء يهددون ويسجنون المحدثين بعد أن كانوا يأمرون بالإقلال منه.

العامل الثالث: تجويز الخلفاء لانفسهم ـ في مراحل متأخرة ـ أن يكونوا شِبْهَ مصادر التشريع حتى شرّعت سيرة الشيخين قسيماً للكتاب العزيز والسنة المطهرة أولاً، ثم تلتها تشريعات اخرى، كل ذلك لتثبيت الحاكمية التشريعية للخلفاء بجانب

____________

1- جامع البيان 11: 7، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 305، الدر المنثور 3: 269، والكشف والبيان للثعلبي 5: 183، وفيه ذيل الخبر الذي نقلناه، وانظر المحتسب لابن جني 1: 300، وستقف لاحقاً على تخطئات كثيرة من الصحابة لعمر بن الخطاب.


الصفحة 103
الحاكمية الحكومية، وما مقولة عمر بن الخطاب عن صلاة التراويح (نعمة البدعة هي)(1).

وعن المتعة (كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما)(2) وغيرها إلاّ أمثلة لهذه الحاكمية التشريعية والتي سموها من بعد اجتهاداً، رافعين بضبع الخلفاء إلى مستوى الرسول، في الوقت نفسه منزلين الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى مستوى المجتهد المفتي طبق الظن، وعمليتهم هذه دعت لغلق باب التحديث والكتابة والتدوين، وإلاّ لظهر اختلاف المفتى به من قبل الخليفة مع ما شرّع في السماء وبينه الرسول.

العامل الرابع: وهو عامل البيئة والمجتمع وتأثيرهما على الأفكار والثقافات، حيث ان المانعين نشأوا في بيئة ومجتمع لا يعير ان الاهتمام للكتابة والتدوين بقدر ما كان يركز على الشعر وايام العرب والمفاخرات وما شابهها وقد كان هذا عاملاً اخر للمنع; اذ انت تعلم أن تضخيم هذه الأمور بحكم الضرورة التاريخية يتقاطع مع الثقافة الإسلامية العامة.

مؤكدين للقارئ بانا سنلسلط الضوء على القاملين الثاني والثالث اكثر من الاخيرين لان الاشارة إلى التفسير البياني للصحابة وعامل البيئة والمجتمع يحتاجان إلى دراسة مستقلة نتركها إلى حينها مكتفين بما سنذكره استطراداً ضمن العاملين السابقين.

وإليك الآن تفصيل رؤيتنا من خلال محورين:

____________

1- صحيح البخاري 2: 707، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان ح 1906، صحيح ابن خزيمة 2: 155، ح 1100، السنن الصغرى للبيهقي 1: 481، ح 847، السنن الكبرى للبيهقي 2: 493، ح 4379.

2- شرح معاني الآثار 2: 146، كتاب السنن لسعيد بن منصور 1: 352، ح 852، التمهيد لابن عبد البر 8: 355، 10: 113، 23: 365، المحلى 7: 107، تذكرة الحفاظ 1: 366، أحكام القرآن للجصاص 2: 152.


الصفحة 104

الصفحة 105

المحور الأول
(نشوء فكرة الاجتهاد)

إذا وقف المطالع في تاريخ الإسلام على مواقف الصحابة في عصر الرسالة والتشريع، وجد أنّهم كانوا طائفتين، باعتبار التعامل مع النصوص الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله).

الطائفة الأولى: انتهجت منهاج الطاعة والامتثال لمطلق الأحكام الصادرة عن الله ورسوله; وذلك لعدّة اعتبارات:

منها: قداسة تلك الأحكام، باعتبارها صادرة عن الواحد الأحد (عزّ وجلّ)، فضلاً عن قداسة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

ومنها: وجوب طاعة المُشرِّع، وعدم جواز مخالفته; لقوله تعالى {أطِيعُوا اللهَ وَرَسوُلَهُ}(1)، وقوله {ومَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ويَخْشَ اللهَ ويَتّقهِ فأولئك هُمُ الفائِزون}(2)، وقوله {ومَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهاكُمْ عُنْه(3)ُ فانْتَهُوا}، وقوله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمّ لا يَجِدُوا في أنفسِهم حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسلِيما}(4)، وقوله {إنّما كانَ قول المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيْحكُم بينهم أن يَقولوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأولئكَ هُمُ المُفْلِحون}(5)، وقوله {وما كان لِمُؤمن ولا مؤمنة إذا قَضَى اللهُ ورسُولُه أمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الِخيَرةُ من أمْرِهِم، ومَن يَعْصِ اللهَ ورسُولَه فقد ضَلَّ ضَلالاً مُبينا}(6) وغيرها.

____________

1- الأنفال: 20، 46.

2- النور: 52.

3- الحشر: 7.

4- النساء: 65.

5- النور: 51.

6- الأحزاب: 36.


الصفحة 106
ومنها: أنّه لا مجال للعمل بآراء شخصيّة لتنظيم سلوك الفرد والمجتمع، وذلك لتكامل الشريعة وبيان جميع الأحكام في القرآن، فلا حاجة ولا نقصان يحتاج معه إلى المكمّل للشريعة، بل هي كاملة تامّة بنفسها، قال تعالى: {وَنَزَّلنا عَليكَ الكِتابَ تِبياناً لكُلِّ شَي}(1).

فصارت سمة هذه الطائفة تعبُّدها بالنصوص الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وليس للرأي عندهم في مقابل ذلكم البيان الإلهىّ أيّ اعتبار، مع ملاحظة إمكان وقوع الخطأ والسهو والنسيان منهم; لعدم عصمة بعضهم!! وستقف على مصاديق ومواقف لهذه الطائفة لاحقاً.

والطائفة الثانية: هم الذين كانوا يتعاملون مع النبىّ كأنّه بشر غير كامل يصيب ويخطئ ويَسبُّ ويَلعن ثمّ يَطْلُبُ المغفرة لأولئك(2). وهؤلاء هم الذين لم يعطوا للرسول القدسيّة والمكانة التي أعطاها الله إيّاه، ولم يتعاملوا معه كما أمر الله، وهذه حقيقة دلّ عليها القرآن والأثر:

أمّا القرآن ففيه آيات عديدة:

منها: قوله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبىّ ولا تجهَروا له بالقول كجَهْرِ بعضكم لبعض، أن تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون}(3).

فالآية تشير إلى انعدام قدسيّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) عند بعض الصحابة، مع تأكيده سبحانه وتعالى على لزوم مراعاة مكانته (صلى الله عليه وآله).

ومنها: قوله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا ما لَكُم إذا قيل لكم انفروا في سبيل

____________

1- النحل: 89.

2- انظر صحيح البخاري 5: 2339، ح 6000، باب قول النبي (صلى الله عليه وآله) من آذيته فاجعله له، وصحيح مسلم 4: 2007، ح 2600 باب من لعنه النبي و2008، ح 2601 و20009، ح 2602، ومسند أحمد 2: 390، ح 9062 و488، ح 10341 و3: 400، ح 15329، سنن الدارمي 2: 406، ح 2765.

3- الحجرات: 2.


الصفحة 107
الله اثّاقلتم إلى الأرض... }(1).

وهي تدلّ على عدم الطاعة والامتثال كما تدلّ على التثاقل عن الجهاد عند البعض.

ومنها: قوله تعالى: {إنّ الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه لَعَنهم الله... }(2)، وقوله:

{ومنهم الذين يؤذون النبىّ}(3)، وهي صريحة في أنّ البعض من الصحابة كانوا يؤذون الرسول (صلى الله عليه وآله).

ومنها قوله: {ألَمْ ترَ إلى الذين نُهوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نُهوا عنه، ويتناجَون بالإثمّ والعُدوان ومعصيةِ الرسول، وإذا جاءَوك حَيَّوك بما لم يُحَيِّك بهِ الله...}(4).

كلّ هذه النصوص القرآنيّة وعشرات أمثالها تدلّ على وجود رجال من بين الصحابة لا يدركون حقيقة النبوّة وما للنبىّ من مكانة في التشريع الإسلامىّ، فتراهم يرفعون أصواتهم على صوت النبىّ (صلى الله عليه وآله) (5) ويتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله(6) ويعترضون على رسول الله في أعماله(7)، ويتّبعون ما تمليه عليهم المصـلحة التي يتخيلونها مع وجود النصّ(8)، ويفتون بالرأي وهم بحضرته(9). وبعض هؤلاء كانوا من الذين يطلبون من رسول الله أن يُغيّر بعض الأحكام تبعاً للمصالح، وهو

____________

1- التوبة: 38.

2- الأحزاب: 57.

3- التوبة: 61.

4- المجادلة: 8.

5- انظر صحيح البخاري 4:1833، باب لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، فتح الباري 8:590، تفسير القرطبي 16:303، تفسير ابن كثير 4:206، تفسير الطبري 26:117 ـ 119.

6- انظر تفسير ابن كثير 2: 358، تفسير الطبري 10: 133 ـ 134، تفسير البغوي 2: 292.

7- صحيح البخاري 3: 1321، ح 3414، الاحكام لابن حزم 1: 89.

8- انظر صحيح مسلم 2: 896، ح 1222، مسند أحمد 1: 50، ح 351.

9- سبل الهدى والرشاد 5: 53، وانظر الأحاديث المختارة 1: 325، المعجم الكبير 1: 72، 6: 88.


الصفحة 108
يقول: {ما يكـون لي أن أُبـدِّله من تِلقاء نفسـي إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يُوحى إلىّ}(1)، وسبحانه يؤكّد عليه (صلى الله عليه وآله) في أكثر من سورة بمثل قوله تعالى: {ثمّ جعلناكَ على شريعة من الأمر فاتَّبِعْها ولا تَتّبع أهواءَ الذين لا يَعْلَمون}(2). وهؤلاء الصحابة لم يقتصروا على المنافقين ومن أرادوا المصالح من المؤلّفة قلوبهم، بل إنّ الحقائق التاريخيّة وكتب تراجم الصحابة تدلّنا بوضوح على أنّ عدداً آخر منهم كانوا يحملون أفكاراً مغلوطة في التعامل مع نصوص الله. ومع أقوال وأفعال النبىّ (صلى الله عليه وآله) خصوصاً، كان ذلك لما يحملون من رواسب وقناعات عرفيّة يؤمنون معها بأنّ النبىّ ما هو إلاّ رجل قائد مجرّب يمكن أن يخطىَ ويصيب، فكانوا يعترضون عليه اعتراضات لا توجّه إلاّ لرجل عادىّ، مع أنّ الله سبحانه والسنّة النبويّة نفسها ردعت عن مثل هذه الأفكار.

فقد ثبتت نصوص كثيرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا السياق:

منها قوله (صلى الله عليه وآله) لبعض أصحابه: ما لكم تضربون كتاب الله بعضَه ببعض؟! بهذا هلك من كان قبلكم(3)، وقوله في حديث آخر: أيُتلعَّب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!(4)

وفي ثالث: أبهذا أُمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الامم قبلكم في مثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شي انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به والذي نهيتم عنه فانتهوا(5).

____________

1- يونس: 15.

2- الجاثية: 17.

3- مسند أحمد 2: 178، ح 6668 و185، ح 6741 و2: 195، ح 6845، فتح الباري 9: 100 ـ 101، المعجم الاوسط 2: 79 ح 1308، و3: 227، ح 2995، 7: 124، ح 7052.

4- سنن النسائي (المجتبى) 6: 142، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليط، ح 3401، ورواة الحديث ثقات كما نص عليه ابن حجر في فتح الباري 9: 362، المبدع 7: 262.

5- مسند أحمد 2: 195، ح 6845، السنة لابن ابي عاصم 1: 177، ح 406، اعتقاد أهل السنة 4: 627، ح 1119، المعجم الاوسط 2: 79، ح 1308.


الصفحة 109
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي كرّسها النبىّ (صلى الله عليه وآله) لإِبطال ذلك الفهم وإبداله بفهم آخر للنبىّ وعصمته، لأنّ المجتمع آنذاك كان لا ينظر النظرة الواقعيّة للنبىّ بل يعتبره شخصاً عاديّاً يخطئ ويصيب ويسهو وينسى و... فلذلك اعتُرض على النبىّ (صلى الله عليه وآله) في أكثر من واقعة وحادثة، كما وقع ذلك الاعتراض حول الصلاة على المنافق، وحول صلح الحديبيّة وغيرهما ممّا فعله النبىّ (صلى الله عليه وآله) وبيَّن لهم الصحيح المُنزل من الله سبحانه وتعالى.

والدراسة الوافية لهذه الحالة قادَتْنا إلى أن نصرّح بحقيقة مرّة مفادها أنّ الكثير من سالكي هذا المسلك لم يرتدعوا ولم ينقادوا لما وُضِّح لهم، بل سعو وجدّوا في ترسيخ فكرتهم بعد رسول الله، ناسين أو متناسين وصايا الشارع المقدّس.

فمع بداهة عصمة دم من شهد الشهادتين، وتأكيد النبىّ (صلى الله عليه وآله) على هذا في بدء الإسلام نرى أُسامة بن زيد يقتل مرداس بن نهيك حين أغارت السريّة على قوم فيهم مرداس، وكان قد أسلم فلم يهرب من السريّة، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبَّر ونزل، وقال: لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أُسامة بن زيد وساق غنمه، فأخبروا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوجد وجداً شديداً، وقال: قتلتموه إرادةَ ما معه؟! ثمّ قرأ الآية {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً}(1).

وأصرح من ذلك ما فعله خالد بن الوليد ببني جذيمة، قال الطبري في أحداث السنة الثامنة من الهجرة:

وفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد

____________

1- النساء: 94، القصة في تفسير أبي السعود 2: 219، وانظر في تفسير الطبري 2: 224، وتفسير الفخر الرازي 11: 3، وتفسير الكشاف 1: 552، وتفسير ابن كثير 1: 851 ـ 852.


الصفحة 110
بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكّة يدعون الناس إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان ممّا بعث خالد بن الوليد، بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً... فلمّا نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا، فوضعوا السلاح، فأمر خالد بهم فكُتّفوا. ثمّ عرضهم على السيف فقتل منهم من قَتَل، فلمّا انتهى الخبر إلى النبىّ (صلى الله عليه وآله) رفع يديه إلى السماء ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد، ثمّ أرسل عليّاً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فوَدى لهم الدماء والأموال...(1)

واستمرّ هذا النهج، وظلّت تلك العقليّة تتحكّم وتؤثّر في الأحداث والأمور حتّى في زمن الشيخين، قال ابن حجر: وكان فيه [أي في خالد ]تقدّم على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها أبو بكر(2).

ولم يكن أُسامة وخالد قد انفردا بهذا المسار، بل كان ذلك مساراً ومنهجاً عند الكثير من الصحابة الذين كانوا يرتجلون المواقف والآراء ويعملون بها في زمان النبىّ (صلى الله عليه وآله) خلافاً لكتاب الله وسنّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، وكانت نسبة المرتئين المجتهدين عند المهاجرين أكثر بكثرة ساحقة ممّا هي عليه عند الأنصار الذين سارت أغلبيّتهم الغالبة وفق نهج التعبّد المحض.

فهؤلاء الأنماط من الصحابة كانوا هم البذور الأوّليّة للاجتهاد والرأي، كما أصبحوا لاحقاً حجر الأساس في منع التحديث والكتابة والتدوين.

نعم، إنّ أمثال هؤلاء قد نَهَوا عبدَ الله بن عمرو بن العاص من تدوين حديث رسول الله، وهم الذين أشاعوا أفكاراً وآراءً عُدّت لاحقاً من ضمن شريعة سيّد

____________

1- انظر تاريخ الطبري 2: 164، البداية والنهاية 4: 313 ـ 314، 6: 323، المنتظم لابن الجوزي 3: 331.

2- الإصابة 2: 255، ترجمة خالد بن الوليد الرقم 2203.


الصفحة 111
المرسلين(1).

موقف الشيخين من المنهجين:

ولمّا كان بحثنا يدور حول بيان سبب منع التحديث والكتابة والتدوين، فالذي يَهُمُّنا هو معرفة موقف الشيخَين من النصوص، وهل كان الشيخان من أنصار التعبّد المحض، أم من أصحاب الاجتهاد والرأي؟ كي يمكن رسم رؤيتنا في المنع على ضوئه، ونحن وإن كنّا لا نحبّذ الدخول في بحوث من هذا النوع، خوفاً من إثارة أُمور طائفيّة نحن في غنـىً عنها، إلاّ أنّ الدراسة ألزمتنا بحث هذا الموضوع وغيره، لأنّ تركه يعني كتمان بعض الحقائق وإسدال الستار عليها وعدم العثور على السبب الحقيقىّ الكامن وراء منع التحديث والكتابة والتدوين، بل تحجيم الفكر والعقيدة وعدم الحرّيّة في إبداء النظريّات والأسباب.

وهذه النقاط هي التي ألزمتنا بعدم ترك هذا الجانب وإن ارتبط بمكانة الشيخين وبعض الصحابة، وإليك بعض النصوص في ذلك:

منها: ما جاء في قصّة الرجل المتنسّك التي رواها أبو سعيد الخدرىّ وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصارىّ، وغيرهم من أعيان الصحابة، واللفظ للثاني، قال: ذكر رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) له نكاية في العدو واجتهاد.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا أعرف هذا!!

قال: بل نعته كذا وكذا.

قال: ما أعرفه!!

____________

1- منها قولهم إنّ رسول الله خَفِي عليه أمر الوحي حتّى أخبره ورقة بن نوفل بذلك، وهذا يخالف ما جاء في خصائص النبىّ وأنّ خاتم النبوّة مكتوب على كتفه، ومعناه أنّه (صلى الله عليه وآله) لا يحتاج إلى شهادة ابن نوفل وغيره على نبوّته!! انظر خبر ورقة في صحيح البخاري 1: 4 ح 3، 3: 1241 ح 3212، 4: 1894 ح 4670، 6: 2651 ح 6581.


الصفحة 112
فبينما نحن كذلك إذ طلع الرجل، فقال: هذا هو يا رسول الله.

قال: ما كنت أعرف هذا!!، هذا أول قرن رايته في امتي إن فيه لسعفة من الشيطان.

فلما دنا الرجل سلم فرد عليه السلام، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): انشدك بالله هل حدّثت نفسك حين طلعت علينا إن ليس في القوم أحد افضل منك؟

قال: اللهم نعم.

فدخل المسجد فصلى.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابي بكر: قم فاقتلهُ، فدخل أبو بكر فوجده يصلي، فقال أبو بكر في نفسه: إن للصلاة حرمة وحقاً لو أني استأمرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فجاء اليه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أقتلته؟ قال: لا رأيته يصلي ورايت للصلاة حرمة وحقاً إن شئت اقتلهُ، قتلته، قال: لست بصاحبه. اذهب أنت يا عمر فاقتله.

فدخل عمر المسجد فإذا هو ساجد فانتظره طويلاً، ثم قال في نفسه إن للسجود حقاً ولو أني استأمرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد استأمره من هو خير مني، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقال (صلى الله عليه وآله): اقتلته؟ قال: لا، رأيته ساجداً ورايت للسجود حقاً وإن شئت أن اقتله، قتلته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لست بصاحبه، قم يا علي أنت صاحبه إن وجدته.

فدخل فوجده قد خرج من المسجد، فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أقتلته؟ قال: لا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو قتل اليوم ما اختلف رجلان من امتي حتى يخرج الدجال، ثم حدثهم رسول الله عن الامم، فقال: تفرقت امة موسى على إحدى وسبعين ملّة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت امة عيسى على ثنتين وسبعين ملّة إحدى وسبعين منها في النار وواحدة في الجنة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):