الصفحة 113
وتعلوا امتي على الفرقتين بملة، اثنتين وسبعين في النار وواحدة في الجنة(1).

فالحقيقة أنّ موقف أبي بكر كان منطلقاً من الاجتهاد وتعرّفه على المصلحة وهو بحضرته (صلى الله عليه وآله) لعدم ارتضائه قتل الرجل، لصلاته وخشوعه! ولم يكن خاضعاً ومتعبّداً بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) كما هو بيّن.

وكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب فإنّه قد قدّر المصلحة ولم يرتضِ قتل الرجل مع تأكيد الرسول على قتله بعد سماعه تعليل أبي بكر.

والآن نتساءل: ماذا يعني تأكيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتل الرجل المتنسّك بعد سماعه تعليل أبي بكر وسبب انصرافه عن تنفيذ أمر النبىّ (صلى الله عليه وآله) بقتله؟!

وهل يجوز أن يأمر رسول الله بقتل المصلّي الخاشع ومن لم يستحقّ القتل؟! وكيف يمكن تصوّر خطِئه (صلى الله عليه وآله) والأمر يتعلّق بالنفوس؟!

وإذا جاز قتله أو وجب، لقوله (صلى الله عليه وآله) (قم فاقتله) فلِمَ توانى الشيخان عن أمره؟

ألم يكونا يعلمان أنّ الله سبحانه قال: {وما آتاكمُ الرسولُ فخُذُوه وما نَهاكم عنه فانتهوا}(2) وقال: {إنَّهُ لَقولُ رسول كريم * ذي قوّة عند ذي العرش مكين * مُطاع ثَمّ أمين * وما صاحبكم بمجنون}(3).

وقال: {وما هو بقولِ شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تَذَكّرون}(4).

وقال: {ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحىٌ يوحى}(5).

____________

1- مسند أبي يعلى 6: 341، ح 3668، حلية الاولياء 3: 227، سبل الهدى والرشاد 10: 157، وعن أبي سعيد الخدري في مسند أحمد 3: 15، ح 11133، البداية والنهاية 7: 299.

2- الحشر: 7.

3- التكوير: 19 ـ 22.

4- الحاقّة: 40 ـ 41.

5- النجم: 2.


الصفحة 114
إنّ عدم تعبّد الشيخين ـ في امتثال أمر الرسول ـ واجتهادهم بالرأي وتعرّفهم على المصلحة وهم بحضرة الرسول لأَمر يجب الوقوف عنده، وهو جدير بالدرس والتحليل.

ومن ذلك: اعتراض عمر على رسول الله في صلح الحديبيّة وقوله له: ألَسْتَ نبىّ الله حقّاً؟

قال: بلى.

قال: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟

قال: بلى.

قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا؟

فقال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري.

قال: أوَ ليس كنت حدَّثتنا، أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟

قال: بلى، أفأخبرتُك أنّا نأتيه العام؟!

قلت: لا.

قال: فإنّك آتيه ومطوّف به.

قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبىّ الله حقّاً؟

قال: بلى.

قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذَنْ؟

قال: أيّها الرجل! إنّه رسول الله، وليس يعصي ربّه، وهو ناصُره، فاستمسك بغرزه فوالله إنّه على الحقّ.

قلت: أليس كان يُحَدِّثنُا، أنّا سنأتي البيت ونطوّف به؟

قال: أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟

قلت: لا.


الصفحة 115
قال: فإنّك آتيه ومطوّف به(1).

فالشكّ في صحّة قول الرسول وعدم الاطمئنان بكلامه (صلى الله عليه وآله) واضح في كلام عمر بن الخطّاب، ولا يمكن لأحد أن يماري في ذلك، لأنّ تكرار عمر ومعاودة مسائلة أبي بكر، يعني عدم الاطمئنان بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقول أبي بكر لعمر (أيُّها الرجل! إنّه رسول الله وليس يَعصي ربّه) ليؤكّد ذلك الأمر، وكذا تأكيده بلزوم التمسّك بغرزه (فاستمسك بغرزه فوالله إنّه على الحقّ).

ثمّ إنّ عمر ومع سماعه كلام أبي بكر نراه يصرّ على السؤال ويشكّك للمرّة الثالثة فيقول: (أليس كان يُحَدِّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوّف به...).

فهذا النصّ يوضّح أنّ عمر بن الخطّاب لم يكن من أتباع مسلك التعبّد المحض، فإنّه لو كان من أتباع هذا المسلك لامتثل كلامه (صلى الله عليه وآله) ولما احتاج إلى قول أبي بكر أو غيره من الصحابة ولمّا يشكك، إذ صرح بذلك في قوله: والله ما شككت منذ اسلمت إلاّ يومئذ(2).

وثمّة مواقف أُخرى يفهم منها أنّه كان لعمر آراء خاصّة كان يجدّ في ترسيخها ويلزم بها الصحابة على الرغم من معرفته بمواقف الرسول منها.

منها: أنّه كان لا يرتضي البكاء على الميّت، وقد ضرب ام فروة بنت أبي بكر

____________

1- الخبر مشهور بل متواتر ورواه أغلب المفسّرين والمؤرّخين، وللتأكيد انظر صحيح البخاري 2: 978، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب..، ح 2581 عن طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وفي 3: 1162، باب اثم من عاهد ثم غدر...، ح 3011 عن سهل بن حنيف وعنه أيضاً في صحيح مسلم 3: 1411، باب صلح الحديبية، ح 1785، ورواه مختصراً الطبراني في المعجم الكبير من طريق عمر نفسه 1: 72، ح 82، وكذا البيهقي في المدخل 1: 192، ح 217، وقال ابن حجر 5: 347 وهو عند البزار عن ابن عمر عن عمر (مسند البزار 1: 254، ح 148) وعند الواقدي عن ابن عباس قول عمر وعنده من حديث ابي سعيد عن عمر كذلك، وانظر تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي: 58.

2- مصنف عبدالرزاق 5: 339، صحيح ابن حيان 11: 227، المعجم الكبير 20: 14، تفسير الطبري 26:129، الدر المنثور 6:77، تاريخ دمشق 57:229، سنن الهدى والرشاد 5:53.


الصفحة 116
لبكائها على أبيها(1) وبعضَ الباكين على رقيّة بنت النبىّ(2) وإبراهيم ابنه بحضرته (صلى الله عليه وآله) ، دون إعارة أي اهتمام لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ القلب ليحزن والعين لتدمع(3)، مشيراً إلى عدم جواز ضرب المصدومين والمنكوبين، بل يجب اتّخاذ أُسلوب الرحمة معهم لا الشدّة والضرب، وقد جاء عنه أنّه (صلى الله عليه وآله) مسح عين فاطمة لمّا كانت تبكي على أُختها رقيّة، وأمَرَ نساء الأنصار بالبكاء على عمّه حمزة وقوله (صلى الله عليه وآله) (ولكنّ حمزة لا بواكي له)(4) وقد بكى (صلى الله عليه وآله) عليه، وفي بعض الاخبار ان عمر بن الخطاب ـ على رغم عدم ارتضاه البكاء على الميت ـ امر بالبكاء على خالد بن الوليد(5)، وبكى هو على النعمان بن المقرن وعلى غيره(6)، والمطالع في كتب الشريعة والتاريخ والنفس يقف على ان البكاء هي حالة فطرية وطبيعية تفرض نفسها على صاحب العزاء، والشرع المقدس لم ينهى عنه، نعم نهى عن الجزع والفزع وخمش الوجوه ونتف الشعر وما إلى ذلك من وجوه الجزع.

وقد بكت عائشة على إبراهيم(7) وأبو هريرة على عثمان، والحجاج على ولده(8)، وصهيب على (عمر)(9) وقيل بان عمر بن الخطاب كان قد اتبع في نهيه

____________

1- منحة المعبود 1: 158، اخبار اصفهان 1: 91، الطبقات 3: 209، 346، 362، تاويل مختلف الحديث: 245.

2- مسند أحمد 1: 237، ح 2127، 1: 335، ح 3103، طبقات ابن سعد 3: 398، مسند الطيالسي 1: 351، ح 2694.

3- صحيح البخاري 1: 439، 1241، طبقات ابن سعد 1: 139، الاصابة 1: 175.

4- المستدرك على الصحيحن 1: 537 و3: 215، ح 4883، السنن الكبرى للبيهقي 4: 70، ح 6946، مصنف ابن أبي شيبة 3: 63، ح 12127.

5- التراتيب الادارية 2: 375، الاصابة 1: 415، صفة الصفوة 1: 655، اسد الغابة 2: 96، حياة الصحابة 1: 465، المصنف لعبد الرزاق 3: 558، تاريخ الخميس 2: 247، فتح البارئ 7: 79، الفائق 4: 19، ربيع الابرار 3: 330، تاريخ الحلفاء: 88، لسان العرب 8: 363.

6- الاستيعاب ترجمة النعمان بن مقرن، الرياض النضرة 2:378 حول بكاء عمر على الاعرابي.

7- منحة المعبود 1: 159.

8- الطبقات 3: 81، ربيع الابرار 2: 586.

9- الطبقات 3: 362، منحة المعبود 1: 159.


الصفحة 117
أهل الكتاب حيث جاء في التوراة: يا ابن آخذ عنك شهوة عينيك بضربة فلا تنح ولا تبك ولا تنزل دموعك تنهد ساكناً ولا تعمل مناحة على اموات(1).

وجاء عن عمر أنّه اعترض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا أراد أن يصلّي على منافق، وأخذ بثوبه (صلى الله عليه وآله) وقال له: أتصلّي عليه وهو منافق؟!(2) ثمّ ندم عمر على ما فعله معه (صلى الله عليه وآله).

ولا تنحصر مواقف عمر بهذه المفردات بل تتعدّاها إلى أبعد من ذلك، فإنّه أنكر على رسول الله أخذه الفداء من أسرى بدر، لأنّه كان يرى أن يعمد حمزة إلى أخيه العبّاس فيقتله، ويأخذ علىّ أخاه عقيلاً فيقتله، وهكذا كلّ مسلم له قرابة في أسرى المشركين يأخذ قريبه ويقتله بيده حتّى لا يبقى منهم أحد(3).

فأعرض رسول الله عن هذا الرأي تعبُّداً بالوحي الموافق للرحمة والحكمة.

ولمّا كان التاريخ والفقه ـ في بعض مدارسه ـ ممّا رسمته ريشة الحُكّام بعد أن اختطّت أُصوله في زمن الشيخين، كان لا بدّ أن نجد من المؤرّخين والمحدّثين مَن ينال مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كي يبرّر ما فعله الشيخان تجاهه (صلى الله عليه وآله) ، فيذهب إلى القول بأنّ ما قالاه هو تفسير لما نزل من القرآن في تلك الواقعة، وأنّه نزل قوله تعالى {ما كانَ لنبىّ أن يكون له أسرى حتّى يثخنَ في الأرض}(4) في التنديد برسول الله وأصحابه حيث آثروا ـ حسب زعم هؤلاء ـ عَرَض الحياة الدنيا على الآخرة فاتَّخذوا الأسرى وأخذوا منهم الفداء قبل أن يُثخنوا في الأرض، وزعموا أنّه لم يَسْلم يومئذ من الخطيئة إلاّ عمر. ونحن لا نريد التفصيل في تفسير هذه الآية، بل نكتفي بما قاله

____________

1- حزقيال، الاصحاح 24 الفقرة 16 ـ 18.

2- صحيح البخاري 4: 1716، ح 4395.

3- صحيح مسلم 3: 1385، ح 1763، مسند أبي عوانة 4: 255، ح 6692، السنن الكبرى للبيهقي 6: 320، ح 12622.

4- الأنفال: 67.


الصفحة 118
السيّد شرف الدين في ذلك، فقال:

"وكذب من زعم أنّه (صلى الله عليه وآله) اتّخذ الأسرى وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الأرض، فإنّه بأبي وأمي إنّما فعل ذلك بعد أن أثخن في الأرض، وقتل صناديد قريش وطواغيتها، كأبي جهل، وعُتبة، وشيبة، والوليد، وحنظلة، إلى سبعين من رؤوس الكفر وزعماء الضلال، كما هو معلوم بالضرورة الأوّليّه، فكيف يمكن بعد هذا أن يتناوله (صلى الله عليه وآله) اللَّوم المذكور في الآية، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً؟!

والصواب أنّ الآية إنّما نزلت في التنديد بالذين كانوا يودّون العير وأصحابه، على ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الواقعة فقال عزّ من قائل {و إذ يعدكم اللهُ إحدى الطائفتَين أنّها لكم وتَوَدُّونَ أنّ غَيْرَ ذاتِ الشوكةِ تكون لكم ويُريدُ الله أن يُحِقّ الحَقَّ بكلماتِه ويَقْطَعَ دابرَ الكافرين}(1) وكان (صلى الله عليه وآله) قد استشار أصحابه، فقال لهم: إنّ القوم قد خرجوا على كلّ صعب وذلول فما تقولون: العير أحبُّ إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ، وقال بعضهم حين رآه (صلى الله عليه وآله) مُصرّاً على القتال: هلاّ ذكرت لنا القتال لنتأهّبَ له، إنّا خرجنا للعير لا للقتال! فتغيّر وجه رسول الله فأنزل الله تعالى:{كَمَا أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيِتكَ بالحَقّ وإنّ فَريقاً مِنَ المؤمنينَ لكارِهُونَ * يُجادلِونَك في الحقّ بعدَما تَبيّنَ كأنّما يُساقون إلى الموت وهُمْ يَنْظُرون}(2).

وحيث أراد الله عزّ وجلّ أن يقنعهم بمعذرة النبىّ (صلى الله عليه وآله) في إصراره على القتال وعدم مبالاته بالعير وأصحابه قال عزّ من قائل {ما كان لنبىّ} من الأنبياء المرسلين قبل نبيّكم محمّد (صلى الله عليه وآله) {أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض}.

فنبيُّكم لا يكون له أسرى حتّى يُثْخِنَ في الأرض على سنن غيره من الأنبياء، ولذلك لم يبالِ إذ فاته أسر أبي سفيان وأصحابه {تُرِيدُونَ عرض الدنيا والله يريد

____________

1- الأنفال: 7.

2- الأنفال: 5 ـ 6.


الصفحة 119
الآخرة}باستئصال ذات الشوكة، من أعدائه (والله عزيز حكيم) والعزّة والحكمة تقتضيان يومئذ اجتثاث عزّ العدوّ وإطفاء جمرته، ثمّ قال تنديداً بهم وتهديداً لهم {لو لا كتاب من الله سبق} في علمه الأزلىّ بأن يمنعكم من أخذ العير وأسر أصحابه لأسرتم القوم وأخَذْتُم عيرهم، ولو فعلتم ذلك {لَمَسّكم فيما أخَذْتُم}قبل أن تثخنوا في الأرض {عذاب عظيم}(1) هذا معنى الآية الكريمة وحاشا الله أن يريد منها ما ذكره أُولئك الجهلاء(2).

وقال كذلك: ولهم في أُحُد حالات تشهد بما قلناه، وذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد استقبل المدينة في هذه الغزوة وترك أُحداً خلف ظهره وجعل الرُّماة وراءه، وكانوا خمسين رجلاً أمَّرَ عليهم عبد الله بن جبير; وقال له ـ فيما نَصَّ عليه المُؤِّرخون والمُحدِّثون كافّة ـ: انضح عنّا الخيل بالنَّبل لا يأتونا من خلفنا واثبتْ مكانك إن كانت لنا أو علينا.

وحضّهم على ذلك بما لا مزيد عليه وشدّد عليهم الأمر في طاعة أميرهم عبد الله بن جبير، لكنّهم واأسفاه لم يتعبّدوا يؤمئذ بأوامره ونواهيه (صلى الله عليه وآله) ترجيحاً لآرائهم عليها، وذلك حيث حمي الوطيس واشتدّ بأس المسلمين على فيالق المشركين وعلى أصحاب لوائهم، فقتلهم أمير المؤمنين واحداً بعد واحد، وبقي لواؤهم مطروحاً على الأرض لا يدنو منه أحد، فانكشف الكفّار حينئذ عن المسلمين هاربين على غير انتظام، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن، فلمّا نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبّوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلّهم الذي أُمروا أن لا يفارقوه، فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير; عنه فلم ينتهوا، وقالوا: ما مقامنا ها هنا وقد انهزم المشركون؟! فقال عبد الله: والله لا اُجاوز أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وثبت

____________

1- الأنفال: 67 ـ 68.

2- الفصول المهمّة: 113.


الصفحة 120
مكانه مع أقلّ من عشرة، فنظر خالد بن الوليد المخزومىّ إلى قلّة مَن في الجبل من الرُّماة فكرّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم ومَثَّلوا بعبد الله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه وهجموا على المسلمين وهم غافلون وتنادوا بشعارهم يا للعزّى يا لهبل!... إلى آخر أخبار واقعة أُحد(1).

ومن الطريف هنا أن أُشير إلى نكتة قال بها أنصار مدرسة (اجتهاد النبىّ) و(اجتهاد الصحابة)، وهي: إنَّ للمجتهد أجرين إن أصاب الواقع، وأجراً إن أخطأ، فإنّهم ومع قولهم بهذا يذهبون إلى أنّ الله عاتب رسوله لأخذ الفداء على أسرى بدر، فإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اجتهد في هذه المسألة ـ حسب زعمهم ـ وأنّ المجتهد مأجور، فما معنى بكائه (صلى الله عليه وآله) وقرب العذاب منه وقوله (صلى الله عليه وآله) (إنّ العذاب قَرُبَ نُزوله، ولو نزل لَما نَجا منه إلاّ عمر).(2)

بهذا فقد عرفنا: أنّ من بين الصحابة من كان يعتدّ برأيه قبال قول النبىّ وفعله، فيسعى جادّاً لتصحيح فعل النبىّ! مُذكِّراً إيّاه (صلى الله عليه وآله) بخطِئهِ وأنّ ما فعله يخالف شريعة السماء، والعياذ بالله!

وهناك ـ في الاتّجاه المقابل ـ جماعة آخرون من الصحابة يعتقدون بلزوم امتثال أوامر الرسول وعدم جواز مخالفة قول النبىّ وفعله وتقريره لاعتقادهم بقوله تعالى {ما كان لهم الخيرة....}(3).

وفي الذكر الحكيم الكثير من الآيات التي توضّح هذا المعنى، منها قوله تعالى: {إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإِذا كانوا معه على أمر جامع لم

____________

1- الفصول المهمّة: 116.

2- المستصفى للغزالي: 170 و347، الإحكام للامدي 4: 173 و221، المبسوط للسرخسي 5: 475، شرح فتح القدير 5: 475، وغيرها من المصادر.

3- القصص: 68.


الصفحة 121
يذهبوا حتّى يستأذنوه إنّ الذين يستأذنونَكَ أُولئك الذين يؤمنون بالله}(1).

وقوله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِما يُحييكم، واعلموا أنّ الله يَحُول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون * واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب}(2).

وعن الزبير بن العوّام في تفسير قوله {واتّقوا فتنة}:... ونحن مع رسول الله وما ظننّا أنّا خُصصنا بها خاصّة(3).

وعنه أيضاً: لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيّون بها(4).

وقال السدّيّ: نَزَلت في أهل بدر خاصّة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا(5).

ومن تلك الأمور التي عدّت من المصلحة وتَعَرَّفها الخليفة عمر بن الخطّاب وهو بحضرة الرسول هو ما وقع عند موته (صلى الله عليه وآله) وقوله (صلى الله عليه وآله): ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً، فقال عمر: إنّ الرجل ليهجر، حسبنا كتاب الله(6).

وأودّ هنا أن أُلفت نظر القارئ إلى نكتة في هذه المسألة وهي: أنّ طلب الدواة والكتف من أجل الكتابة كانت بأمر من النبىّ (صلى الله عليه وآله) لئلاّ تضلّ أُمّته من بعده. وقد رأيت مخالفة عمر له (صلى الله عليه وآله) ، وذلك تماماً بعكس ما حدث عند موت أبي بكر، فإنّ أبا بكر أراد عند موته أن يوصي، فذكر بعض الكلمات فأُغمي عليه، فأضاف عثمان بن عفّان اسم عمر كخليفة لأبي بكر، ولمّا أفاق أبو بكر أمضى ما كتبه عثمان(7). فتثبيت

____________

1- النور: 62.

2- الأنفال: 24 ـ 25.

3- تفسير ابن كثير 2: 488 ـ 489.

4- تفسير ابن كثير 2: 300.

5- تفسير ابن كثير 2: 300.

6- صحيح مسلم 3: 1259، ح 1637، مسند أبي عوانة 3: 478، ح 5762.

7- انظر تاريخ الطبري 2: 353، مآثر الإنافة 1: 49، المنتظم لابن الجوزي 4: 126.


الصفحة 122
اسم عمر هنا لم يَعدّوه هجراً، وأمّا تدوين رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً، كي لا تضلّ أُمّته بعده فهو حسب زعمهم الهجر؟!!

أتسائَلُ: لماذا لا يُرمى أبو بكر بالهجر ورُمي به الرسول؟! في حين كانت حالة أبي بكر لدى احتضاره أشدّ من حالة النبىّ (صلى الله عليه وآله)؟! وكيف بهم يأخذون بكلام عمر في تسمية أعضاء مجلس الشورى وهو مريض، ولا يأخذون بكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى؟!

ولِمَ انقسموا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم ينقسموا بين يدي عمر؟ ولماذا لا نسمع أحداً يقول عن الفاروق إنّه قد هَجَرَ في فعله وقراره، مع لحاظ الفارق بين منزلة عمر ومنزلة النبىّ؟!

ألم يكن من حقّ كلّ مسلم أن يوصي، فَلِمَ وقف عمر بن الخطّاب أمام وصيّة رسول ربّ العالمين إذاً؟ فهل هو ـ والعياذ بالله ـ أقلّ شأناً من أىّ مسلم عادىّ؟!

إن كان رسول الله لم يوصِ وترك الأمّة لتنتخب قائدها، فلِمَ يُعَيِّن أبو بكر من يَخْلفهُ في الأمر؟ أليس هذا الفعل هو مخالفة لسنّة رسول الله؟!

وهل تصدّق أن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ترك امّته سدى مع أنّه (صلى الله عليه وآله) هو الذي أخبرها بسيرة الأنبياء السالفين في تركهم الأوصياء من بعدهم ليحفظوا أممهم وشرائعهم من الإنحراف والتبديل؟!

إن سيرة الأنبياء السالفين تدل على لزوم الوصاية، وسيرة نبينا الأكرم لم تنفك عن ذلك، إذ ما كان النبي (صلى الله عليه وآله) يترك المدينة المنورة إلاّ ويخلّف عليها من يقوم مقامه فيها(1)، كما أنّ نبي الله موسى (عليه السلام) لم يذهب لميقات ربّه إلاّ وترك عليهم أخاه

____________

1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 2: 367، ح 3294، قال الحاكم: الحديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.


الصفحة 123
هارون(1)، فهل من المعقول بعد هذا أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله) اُمّته هملاً ودون راع؟! خصوصاً إذا لاحظت التصريحات القائلة بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب في ذلك الكتاب أمر الخلافة من بعده لكي لا يقع فيها الاختلاف(2).

ومما تقدم ويأتي يستبين لك أنّ الشيخين لم يكونا من المتعبّدين بكلّ ما قاله الرسول، بل كانا يتعرّفان المصلحة وهم بحضرته، وأنّ الروحية القبلية القريشية كانت وراء تشديد هذه الامور.

وقد اصطلحنا خلال بحثنا هذا على نهجِ كلِّ من أخذ بقول الرسول وامتثل أمره دون نهج الشاكّ السائل عن العلّة والمصلحة فيه اسم (التعبّد المحض).

وأمّا نهج الذين كانوا يعتدّون بآرائهم ويرون لأنفسهم حقّ التدخّل في الأحكام فقد أطلقنا عليه اسم: (الاجتهاد والرأي)(3).

وكان كلا الاتّجاهين قائماً في عهد الرسول ثمّ من بعده، فلو أخذنا حكم صيام الدهر مثلاً، لرأينا البعض من الصحابة يصومه غير مُبال بتكرار النهي عن النبىّ فيه، وقوله (من صام أوّل الشهر ووسطه وآخره كأنَّما صام الدهر)(4).

نعم، إنّ من بين الصحابة من كان يصوم الأيّام الثلاثة في كلّ شهر امتثالاً لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) كي يحصل على فضيلة صيام الدهر، ومنهم من كان يصومها في جميع الأيّام مع سماعه نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك.

____________

1- صحيح البخاري 4: 1652، ح 4154، صحيح مسلم 4: 1871، ح 2404، سنن الترمذي 5: 638، 3724.

2- صحيح البخاري 1: 54، ح 114، 3: 1111، 2888 و1155، ح 2997، 4: 1612، ح 4168، 5: 2146، ح 4168، 6: 2680، ح 6932، صحيح مسلم 3: 1257، ح 1637، 3: 1259، ح 1638، شرح النووي على مسلم 11: 89، الديباج على مسلم للسيوطي 4: 330.

3- للمزيد انظر كتابنا تاريخ الحديث النبوي، المؤثرات في عهد أبي بكر.

4- صحيح البخاري 2: 697، باب حق الجسم في الصوم، ح 1874، وصحيح مسلم 2: 812، باب النهي عن صوم الدهر، ح 1159، صحيح ابن حبان 2: 65، باب ذكر الامر للمرء بأتيان الطاعات على رفق، ح 352.


الصفحة 124
وكذا الحال بالنسبة إلى نحر الإبل وأكل لحومها يوم تبوك، فمع إجازة النبىّ لنحرها برز هناك من الصحابة من أنكر نحرها(1).

ومثله الحال بالنسبة إلى غزوة أُحد، فالنبىّ (صلى الله عليه وآله) لمّا هجم عليه خمسة من المشركين، فأصاب أحدهم جبهته، وكسر آخر رباعيّته، وفَكَمَ ثالث وَجْنَتَهُ. إلخ، لم يرتضِ النبىّ (صلى الله عليه وآله) إعلام المشركين بأنّه حىّ لم يمت كي لا يعاودوا الكرّة على المسلمين، فلمّا عرف كعب بن مالك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حىّ نادى: يا معشر المسلمين! أبشروا هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يُقتل، فأشار إليه النبىّ (صلى الله عليه وآله) أن أنْصِت، مخافة أن يسمعه العدوّ فيثب عليه، فسكت الرجل.

ثمّ أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: أفي القوم محمّد؟

فقال رسول الله: لا تجيبوه، مرتين ـ مخافة أن يعرف أنّه حىّ فيشدَّ عليه بمن معه من أعداء الله ورسوله ـ.

ثمّ نادى: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمّداً؟

فقال عمر: اللّهمّ لا، وإنّه والله لَيسمع كلامك الآن.

فقال أبو سفيان: أنت أصدق من ابن قصيئة وأبر(2).

نعم، أجاب عمر أبا سفيان مع تأكيد الرسول على عدم إجابته ونهيه عنه، وما كان فعل عمر إلاّ لكونه تأوّل فأخطأ!

وكذا الحال بالنسبة إلى قسمة قسمها رسول الله من الصدقات، فأتاه عمر قائلاً: يارسول الله! لَغير هؤلاء أحقّ منهم; أهل الصفة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّكم

____________

1- صحيح مسلم 1: 56، باب الدليل على من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح 27، مسند أحمد 3: 11، ح 11095، مسند أبي عوانة 1: 7، مسند أبي يعلى 2: 412، ح 1199.

2- سيرة ابن اسحاق 3: 513، تاريخ الطبري 2: 71، ثقات ابن حبان 1: 232، الإكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله 2: 80.


الصفحة 125
تخيروني بين أن تسألوني بالفحش، وبين أن تبخلوني ولست بباخل(1).

وفي البخارىّ: قال عبد الله: قَسَمَ النبىُّ قسمةً كبعض ما كان يقسم، فقال رجل من الأنصار: والله إنّها لقسمة ما أُريدَ بها وجه الله. قلت: أمّا لأقولن للنبىّ، فأتيته وهو في أصحابه فساررته، فشقّ ذلك على النبىّ وتغيّر وجهه وغضب حتّى وددت أنّي لم أكن أخبرته، ثمّ قال: قد أُوذي موسى (عليه السلام) بأكثر من ذلك فصبر؟!(2)

وعن طلحة وصحابي آخر ـ هو عثمان على التحقيق برواية السدي ـ أنّهما قالا: أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولاننكح نساءه إذا مات؟! لو مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام(3). وبمثل قول طلحة في نص آخر (لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة)(4)

وكان طلحة يريد عائشة، وعثمان يريد أُمّ سلمة، وكانا يريدان بفعلهما إيذاء الرسول، فأنزل سبحانه قوله: {ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولاأن تَنكِحُوا أزواجَه مِن بعدِه أبداً إنّ ذلك كان عند الله عظيما}(5). وقوله تعالى: {إن تُبدوا شيئاً أو تخفوه فإنّ الله كان بكل شي عليما...}(6). وقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله

____________

1- صحيح مسلم 2: 730، باب اعطاء من سئل بفحش وغلظة، ح 1056، ومثله في مسند أحمد 1: 20، ح 127 و1: 35، ح 234، معجم الصحابة لابن قانع 1: 286.

2- صحيح البخاري 5: 2263، كتاب الآداب، باب الصبر على الاذى، ح 5749، الادب المفرد 1: 141، باب الصبر على الاذى، ح 389، مسند أحمد 1: 411، ح 3902 و441، ح 4204.

3- تفسير القرطبي 14: 229، روح المعاني 22: 74، وقد زاد قائلاً: ورأيت بعض الاجلة أن طلحة الذي قال ما قال.

4- تفسير الرازي 25: 225، تفسير القرطبي 14: 229، تفسير ابن كثير 3: 506، الدر المنثور 6: 639، تفسير البغوي 3: 541، معاني القرآن للنحاس 5: 373، روح المعاني 22: 73، غاية السؤل في سيرة الرسول: 223، السيرة الحلبية 1: 448، طبقات ابن سعد 8: 201، زاد المسير 6: 416، غوامض الاسماء المهمة لابن بشكوال 2: 712، وروى السدي بان عثمان قال هذه المقولة كذلك (انظر دلائل الصدق 3: 337 ـ 339 الطبعة القديمة).

5- الأحزاب: 53.

6- الأحزاب: 54.


الصفحة 126
ورسوله لَعَنهم اللهُ في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً}(1). وقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وازواجه امهاتهم}(2).

ومن تلك النصوص الكثيرة ما أخرجه البخارىّ في كتاب الآداب: أنّ النبىّ رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس، فبلغ النبىّ فغضب ثمّ قال: ما بال أقوام يتنزّهون عن الشي أصنعه، فوالله إنّي لأعلمُهم وأشدُّهم خشية(3).

وبهذا فقد عرفنا أنّ القرآن قد صرّح بوجود رجال من الصحابة يَلْمِزُونَهُ في الصدقات(4)، وبينهم من إذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها وتركوه (صلى الله عليه وآله) قائماً(5)، ومنهم من يؤذي الرسول،(6) ومنهم من يتخلّف عن الجهاد(7)، ويرفع صوته على صوت الرسول ولا يمتثل أمره(8) و... ومنهم من رمى فراش الرسول بالإفك(9)، ومنهم من توطئوا على اغتيال رسول الله ليلة العقبة(10).

ومنهم مؤمنون يتّبعونه على أمر جامع، مطيعين لأوامره منتهين عن نواهيه، غير

____________

1- الأحزاب: 57.

2- الأحزاب: 6.

3- صحيح البخارىّ 5: 2263، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعقاب، ح 5750، 6: 2662، باب ما يكره من التعمق والتنازع بالعلم...، ح 6769، معتصر المختصر لابي المحاسن 1 97.

4- التوبة: 58.

5- الجمعة: 11.

6- الأحزاب: 53 ـ 57.

7- التوبة: 38 ـ 86.

8- الحجرات: 1 ـ 2، وانظر صحيح البخاري 4: 1587، باب وفد بني تميم، ح 4109، 6: 2662، باب ما يكره من التعمق والتنازع بالعلم...، ح 6872.

9- النور: 11.

10- التوبة: 74، وانظر شرح النووي على مسلم 17: 12، المعجم الاوسط 4: 146، ح 3831، 8: 102، ح 8100، الاحاديث المختارة 8: 221، ح 260 وقال اسناده صحيح، مجمع الزوائد 1: 109، باب منه في المنافقين، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات، البداية والنهاية 5: 20، وقد رواه مسلم مختصراً في صحيحه 4: 124، باب صفات المنافقين، ح 2778 وح 2779، السنن الكبرى للبيهقي 8: 198، باب ما يحرم به الدم من الاسلام، مسند أحمد 4: 319، مسند البغوي 2: 307.