ألا يعني موقف حنظلة (غسيل الملائكة) أنّه كان من أتباع التعبُّد المحض، وأنّ الآخرين من أتباع الاجتهاد والرأي والمصلحة؟
وممّا يخطر بالبال: أنّ النبىّ وبتأكيده على بعض المفردات كان يريد امتحان رجال معنيين من أُمّته، فما قصّة الرجل المتنسّك ذي الثديّة، وطلب تدوين كتاب عند موته (صلى الله عليه وآله) وتأمير أُسامة بن زيد ـ وهو شابّ لم يتجاوز الثامنة عشرة ـ على رجال أمثال أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، إلاّ نقاط جديرة بالوقوف عندها.
ونحن أطلقنا على الآخرين اسم الاجتهاد والمصلحة، نظراً إلى استخدامهم تلك العبارات في تبرير مخالفاتهم بها، فإن قيل لهم: لِمَ تخلّف فلان عن الجهاد؟ قالوا: تعرَّف المصلحة ولأجلها تخلَّف، أو تأوَّل فأخطأ، أو اجتهد، ولكلّ مجتهد إن أصاب أجران وإن أخطا أجر واحد و...
ويبدو لنا أن غالب المسائل المطروحة سابقاً كانت بمثابة الامتحان الإلهىّ لهؤلاء الصحابة ولتمييز المؤمن المتعبّد من غيره، لأنّ الثابت في الشريعة هو لزوم إطاعة أوامر الرسول والانتهاء عن نواهيه، وليس للمؤمنين الخِيَرة في أمرهم، ولم يختصّ الامتثال ولزوم الطاعة فيما صدر بالتبليغ والأحكام الشرعيّة حسب، بل هو حكم مطلق عامّ شامل; فإنّ حكم الآية بل الآيات النازلة في ذلك مطلق وليس فيه
____________
1- صحيح ابن حبان 4: 15، ح 7025، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 225، ح 4917، قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، السنن الكبرى للبيهقي الكبرى 4: 15، باب المجنب يستشهد في المعركة، ح 6605 تحفة المحتاج 1: 602، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة 1: 310، الترجمة رقم 1080 لحنظلة بن ابي عمر، السيرة الحلبية 2: 525، تاريخ الطبري 2: 69.
وعليه فمن المحتمل القريب أن تكون رزيّة يوم الخميس بعد طلب النبىّ (صلى الله عليه وآله) الكتف والدواة وامتناع عمر من جلبهما للنبىّ (صلى الله عليه وآله) ثمّ رميه بالهجر إنّما كان ـ مضافاً إلى هداية الأمة التي هي مضمون الكتاب ـ لأجل أن يتعرّف الآخرون على موقف هؤلاء الصحابة من رسول الله، وكذا الحال بالنسبة إلى تأميره أُسامة بن زيد وهو ابن ثمان عشرة سنة على رجال كبار السن أمثال أبي بكر وعمر، فإنّها جاءت لمعرفة المطيع والمتخلّف!
فجاء عـنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (أيّها النـاس، ما مقالةٌ بلغتني عن بعضـكم في تأمـيري أُسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري أُسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبل)(2).
فاتَّضح جليَّاً وجود اتّجاهين في عصر الرسول، أحدهما يُشَرِّع المصلحة ويقول بالرأي قبال نصّ الرسول، ولا يتعبَّد بقوله بل يعترض على فعله (صلى الله عليه وآله) ويتعرّف المصلحة مع وجود النصّ، كما رأيت في كثير من القضايا التي ذكرناها.
وهناك رجال يتعبّدون بقوله (صلى الله عليه وآله) ، ويرتضون المبيت على فراشه ليدرؤوا بأنفسهم الخطر عن رسول الله! وقد تبيّن أنّ الشيخين كانا من أتباع نهج الاجتهاد والرأي.
____________
1- الأحزاب: 36.
2- صحيح البخاري 4: 1551، باب غزوة زيد بن حارثة، ح 4004، صحيح مسلم 4: 1884، باب فضائل زيد بن حارثة واسامة بن زيد، ح 2426، مسند أحمد 2: 20، ح 4701.
تحليلٌ واستنتاج
إذا اتّضح ذلك نقول: إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد حَدَّد سبب نهيه عن التدوين ـ النابع عن عدم التعبد المحض ـ بأمرين:
أحدهما: التأثّر بأهل الكتاب.
والثاني: الخوف من الأخذ بأقوال الرسول وترك القرآن.
لكنّ ابن حزم استبعد أن يكون نهي عمر قد تعلَّق بالسُّنَّة النبويّة، وحمَلَ نهيه على خصوص الأخبار عمَّن سلف من الأمم السابقة.
فقال:...وإنّما معنى نهي عمر (رضي الله عنه) من الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو صحّ فهو بيّن في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة(1)، وإنّما نهى عن الحديث بالأخبار عمَّن سلف من الأمم وعمّا أشبه.
وأمّا بالسنن عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) فإنّ النهي عن ذلك هو مجرّدٌ، وهذا ما لا يَحِلُّ لمسلم أن يظنّه بِمَنْ دون عمر من عامّة المسلمين، فكيف بعمر (رضي الله عنه). ودليل ما قلنا: إنّ عمر قد حدّث بحديث كثير عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، فإن كان الحديث عنه (عليه السلام) مكروهاً، فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحلّ لمسلم أن يظنّ بعمر أنّه نهى عن شي وفعله...(2)
واستبعد آخرون منهم الدكتور محمّد عجاج الخطيب ـ تبعاً لابن حزم ـ أن يكون عمر بن الخطّاب قد منع الصحابة من التحديث، أو أنّه سجن ابن مسعود وغيره، لعدم قبول العقل صدور ذلك من خليفة كعمر بن الخطّاب!(3)
لكنّ الواقف على مُجريات الأحداث في الصدر الأوّل يعرف سُقم كلام ابن حزم
____________
1- مفاد الحديث: أنّ عمر أرسل قرظة بن كعب مع مجموعة من الصحابة وفداً إلى الكوفة، فأمرهم بالإقلال من الحديث، فقال لهم: أقلّوا الرواية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأنا شريككم.
2- الإحكام في أُصول الأحكام 2: 266، وقد ذهب الدكتور امتياز أحمد في دلائل التوثيق المبكر: 230 إلى صحة أخبار الحبس.
3- السنة قبل التدوين: 106 ـ 107.
وأمرُه قُرْظة وأصحابه بالإقلال من الرواية عن النبىّ لا يخلو من وجهين:
الأوّل: أن يكون الخليفة عمر بن الخطّاب يتّهمهم جميعاً بالكذب على الرسول.
الثاني: أن يكون الخليفة قد أمر بكتمان ما أنزل الله على لسان نبيّه.
وهذان الوجهان لا يلتزم بهما، ولا بواحد منهما ابن حزم وأتباعه، وإن كنّا نميل إلى الأوّل منهما ـ مع ضميمة شي آخر معه ـ بقرينة اتّهام عمر لعمّاله ومُشاطرته أموالهم، وبملاحظة سيرته; من شدّته على الصحابة وضربه إيّاهم، فمُجمل سيرة عمر مع الصحابة تدلّ بوضوح على أنّه كان لا يثقُ بالصحابة وأنّه كان يجابههم بأنواع الكلام اللاذع، وكان يظهر معايبهم على ملأ من المسلمين.
وعلى كلِّ حال، فإنَّ ابن حزم ومن جرّ جرّه لا يرتضي هذين الوجهين، لذلك اضطرّوا إلى حمل نهي عمر على النهي عن التحديث بأخبار الأمم السالفة، وهذا حَمْلٌ تَبَرُعىّ لم يدلّ عليه دليل من روايات منعه; لأنّها جميعاً مطلقة، ولأنّ سيرته في المنع أعمّ من هذا التخصيص، ولأنّ قسوته بلغت حدّاً لا يفرّق بين التحديث بالسنّة أو بأخبار الأمم، حتّى أنّه منع عمّاراً في تحديثه بواقعة قطعيّة وقعت له في زمن النبىّ ـ التيمّم ـ كان عمر نفسه شاهِدَها.
وعليه فالخبر لا يمتّ بصلة إلى ما قيل عن الأمم السالفة إلاّ بنحوِ عناية، وهي أحدى البواعث التي نذهب إلى أنّها أثّرت في منع الخليفة عمر بن الخطّاب عن
فقال لي رسول الله: ما هذا في يدك يا عمر؟
قلت: يا رسول الله، كتاب انتسخته لنزداد به علماً إلى علمنا.
فغضب رسول الله حتّى احمرّت وجنتاه، ثمّ نودي بـ (الصلاة جامعة)، فقالت الأنصار: أُغضِبَ نبيّكم! السِّلاح السِّلاح، فجاؤوا حتّى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال(صلى الله عليه وآله): يا أُيها الناس! إنّي قد أُوتيت جوامع الكَلِم وخواتيمه، واخْتُصِرَ لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة، فلا تَتَهوَّكوا(1) ولا يغرّنكم المُتَهَوِّكون.
قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً، ثمّ نَزَل رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2).
وفي آخر عن عبد الله بن ثابت، قال: جاء عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله! إنّي مررت بأخ لي من يهود، فكتب لي جوامع من التوراة، قال: أفلا أعرضها
____________
1- التهوّك: التحيّر، أو التردد والسقوط وقول النبي (امتهوكون انتم في الإسلام...) أي: أمتحيرون أنتم في الإسلام. انظر العين 4: 64، الصحاح مادة (هوك)، غريب الحديث لابن سلام 3: 29 وعنهم في لسان العرب 10: 508، مادة (هوك).
2- تقييد العلم: 52.
فتغيّر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال عبد الله [بن ثابت]: مَسَخ الله عقلك! ألا ترى ما بوجه رسول الله؟!
فقال عمر: رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً(1).
وقد ثبت أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب وقع منه الاختلاط باليهود، وأنّه كَتَب من كتبهم، وأنّه كان يقرأ ويكتب، فأحبّ ما ورد عنهم، ولم يكن قرأه ليردّ عليه أو يُفنّده، وإنّما قرأه معجَباً به وليزداد علماً إلى علمه، لذلك غَضب رسول الله هذا الغضب الشديد، لأنّه (صلى الله عليه وآله) كان قد حذّر من اليهود، وبَيَّنَ القرآن الكريم في أكثر من سورة مَكرهم وخداعهم، منها قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهودَ والنصارى أولياء بعضُهم أولياءُ بعض ومن يَتَولّهم منكم فإنّهُ منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(2).
وقوله تعالى: {لَتجدَنّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود...}(3).
فكأنّ الخليفة عمر ـ بعد هذه الواقعة ـ حدثت في داخله هزّة عنيفة وردّة فعل سلبيّة، جعلته يتّخذ تلك المواقف القاسية من المحدّثين والمدوّنين، فيحبس هذا ويضرب ذاك، وتراه يؤكّد في منعه (أُمنية كأُمنية أهل الكتاب)، وغيرها.
ويؤكّد هذا ما جاء في أوّل خبر خالد بن عُرفطة، آنف الذكر، قال: كنت جالساً عند عمر إذ أُتي برجل من عبد قيس، مسكنه بالسُّوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدىّ؟ قال: نعم.
قال: وأنت النازل بالسوس؟
____________
1- المصنّف لعبد الرزّاق 6: 113، ح 10164، 10: 313، ح 19213، ومجمع الزوائد 1: 174 وفيه: يا رسول الله! جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق، فتغيّر وجه رسول الله...
2- المائدة: 51.
3- المائدة: 82.
فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟!
فقال له عمر: اجلس، فجلس فقرأ عليه. {بسم الله الرحمن الرحيم الر، تلك آياتُ الكتاب المبين * إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون * نحن نقصّ عليك أحسن القصص} إلى {لَمِن الغافلين}(1) فقرأها عليه ثلاثاً، وضربه ثلاثاً.
فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟!
فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال؟
قال: مُرْني بأمرك أتّبِعْه؟
قال: انطلقْ فامْحُه بالحميم والصوف الأبيض، ثمّ لا تقرأه ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنّك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس لأنهكنّك عقوبة. ثمّ قال: اجلس، فجلس بين يديه، وعند ذلك نقل له قصّته المارّة مع رسول الله، فقال: انطلقتُ أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب... إلى آخره(2).
والواقع أنّ المنع في هذه الرواية ـ إن لم يكن الناسخ يريد بيان بطلان المنتسخ أو الإجابة عليه ـ جيّد وصحيح، وهو الأسلوب الصحيح لو اقتُصر عليه، لكنّ المأسوف له أنّ التدوين قد لحقه من الاجتهاد والرأي شي غير قليل من التدخّل الذي أربك مسيرته ومحتواه.
وقد حدَثت مثل هذه الردّة السلبيّة عند أُسامة بن زيد حين قتل امرءاً مسلماً، لأنّه ظنّ أنّه أسلم خوفاً من السيف، فرجَع أُسامة وقد نَزَل قوله تعالى {ولا تقولوا لِمَنْ ألقى إليكم السلام لستَ مُؤمناً تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا..}؟(3) فصار أُسامه
____________
1- يوسف: 1 ـ 3.
2- تفسير ابن كثير 2: 468، الاحاديث المختارة 1: 216، ح 115.
3- النساء: 94.
فإذا جَمَعْتَ هذا مع اتّهامه الصحابة بالخيانة والكذب، وتهديده وسجنه جماعة من المحدّثين، وضربه آخرين..
إذا جمعت هاتين المقدّمتين عرفت سرّ إباحة الخليفة عمر التَّحديث لنفسه ومنعه الآخرين منه. فهو يرى لنفسه الأهليّة الكاملة والحقّ المطلق في ذلك لأنّه خليفة، ولا يرى ذلك للآخرين لأنّهم موضع للشَّكّ وعدم الاطمئنان، أو أنّهم معرّضون للخطأ والزلل.
على أنّ السيرة العملية لعمر بن الخطاب تكذّب ابن حزم في تعليله، لأنا نرى عمر كان مولعاً بأخبار أهل الكتاب، ومن أسلموا من اليهود وظلّت عندهم التوراة، وخصوصاً كعبَ الأحبار، فإنّه أتى عمر بن الخطاب بكتاب قد تشرّمت نواحيه فيه التوراة فاستأذنه أن يقرأه(1)، فأجازه عمر أن يقرأه آناء الليل والنهار(2)، فلم يأمره بمحوه ولا حرقه ولا ردعه عن ذلك.
ولما فتح بيت المقدس، قال له كعب: إنّه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسـمائة سنة، فقال: أبشري اورى شـلم عليك عليك الفاروق ينقّـيك ممّا
____________
1- ومعنى النص أن كعباً أتى عمر بعد اسلامه وأيام خلافة عمر.
2- انظر غريب الحديث لابن سلام 4: 262، وغريب الحديث للحربي 3: 95، والنهاية الأثيرية 2: 468.
وفي رواية أنه قال له: انه مكتوب في التوراة أن هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها مفتوحة على رجُلٌ من الصالحين، فحمد الله على ذلك(2).
وقال كعب لعمر: انا لنجدُ (ويل لملك الأرض من ملك السماء) فقال عمر: (إلاّ من حاسب نفسه)، فقال كعب: والذي نفسي بيده إنّها في التوراة لتابعتها، فكبّر عمر ثم خرّ ساجداً(3).
وأدّعى رجلٌ غاب اربعة أيام في القَلْت(4) أنّه دخل الجنة، قال: فدعا عمرُ كعبَ الأحبار وقال: أتجد في كتبكم أنّ رجلاً من أمتنا يدخل الجنة ثم يخرج؟ قال: نعم وإن كان في القوم أنبأتك به، فقال عمر: هو في القوم، فتأملهم كعب فقال: هذا هو(5).
وأرسل عمر إلى كعب فقال له: يا كعب كيف تجد نعتي، قال: أجد نعتك قرن من حديد، قال: ثم مه؟ قال: ثم يكون من بعدك خليفة تقتله فئة ظالمة، قال: ثم مه؟ قال: ثم يكون البلاء(6).
وظل يستشير كعباً في أخطر أمر من الامور وهو الخلافة، فسأله عن خلافة علي قائلاً له: فما تقول في عَلىّ أشِرْ عَلَيَّ برأيك: فقال كعب: أمّا طريق الرأي فإنّه لا يصلح، إنّه رجل متين الدين لا يغض على عورة ولا يحلم عن زلة ولا يعمل
____________
1- انظر تاريخ الطبري 4: 160.
2- انظر تاريخ دمشق 50: 162.
3- كنز العمال 12: 575، ح 35797.
4- القَلْْت: نقرة في الجبل تمسك الماء.
5- انظر معجم البلدان 4: 386.
6- المعجم الكبير 1: 84، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 65 قائلاً "رواه الطبراني ورجاله ثقات".
وجاء كعب إلى عمر ليُنبِئَه عبر التوراة بمقتله، فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنّك ميـت في ثلاثة أيّام، قال: وما يدريـك؟ قال: أجـده في كتاب الله التـوراة(2).
هذا كلّه، يضاف إليه أنّ البخاري روى ما يفنّد التعليل المطروح، حيث روى جواز التحديث عن بني إسرائيل، فقد روى عن أبي هريرة أنّه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبونهم وقولوا{ آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما انزل إليكم... }(3) الآية.
وقال ابن كثير: إنّ كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب بأشياء من علوم أهل الكتاب فيستمع له عمر تأليفاً له وتعجّباً مما عنده... فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا، ولما جاء الإذن في التحديث عن بني إسرائيل، لكن كثيراً ما يقع مما يرو يه غلط كبير وخطأ كثـير(4).
فلم يبق عذر لابن حزم في التمحُّل واختلاق الأعذار وتوجيه ما وقع فيه الخليفة عمر بن الخطّاب.
وقد بيّنا وجه ما وقع فيه الخليفة للباحثين، مع أنّنا لسنا بمسؤولين عن تهافت الخليفة واختلاف فعله مع قوله بعد ثبوت ذلك عنه بلا خلاف.
____________
1- شرح النهج 12: 81.
2- تاريخ الطبري 3: 264.
3- صحيح البخاري 8: 160.
4- البداية والنهاية 1: 19.
تبريران آخران
هذا وقد حمل بعضهم نهي عمر عن التحديث والتدوين بقوله:
فهو إذ يطلب الإقلال من الرواية، فإنَّما يطلبُه من باب الاحتياط لحفظ السُّنن والتَّرهيب في الرواية.
وأمّا مَنْ كان يتقن ما يحدَّثُ به، ويعرف فقهه وحكمه فلا يتناوله أمر عمر؟(1).
إنّ اللبيب ليعجب من مثل هذه الأقوال، لأنَّ الاحتياط هنا لا مورد له، إذ المحدِّث إن كان ثقة صدوقاً فلا معنى لمنعه عن التحديث ولا معنى للاحتياط، خاصّة وأنَّ بعض هؤلاء المنهيين من التَّحديث قد ورد فيهم نصّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يدلّ على جلالة قدرهم وصدق قولهم.
إنّ الاحتياط كلّ الاحتياط هو أن يحثّ الخليفة أمثال هؤلاء على التحديث وتناقل كلّ ما سمعوه وتلقَّوه عن النبىّ(صلى الله عليه وآله) ، لكي لا تبقى بعض سنّة النبىّ مجهولة للناس، ولكي لا يبقى المسلمون في دوّامة من الجهل بالأحكام.
وأمّا الاحتياط بمعنى احتمال خطأ الراوي أو سهوه أو نسيانه أو... فهذا وارد في كلام الخليفة نفسه، ولا يمكنه إلزام الآخرين دون إلزام نفسه به.
ولا نكاد نقضي العجب ممّن زعم أنّ نهي الخليفة لا يتناول مَن تيقّن ما يحدِّثُ به ويعرف فقهه وحكمه، مع أنّه قد سجن أبا ذرّ وابن مسعود وأبا مسعود الأنصارىّ وأبا الدرداء، ونهى عمّاراً وأبا موسى الأشعري وأمثالهم مع كون أغلبهم من عيون الصحابة والرعيل الأوّل في الإسلام.
وأبعد شي يقال هنا: هو أنّ النهي والحبس والضرب والمنع لا يتناغم ولا يتلاءم مع نفسيّة عمر، باعتباره خليفة وصحابيّاً كبيراً، فلا بُدّ أن نَرْبأ به عن ارتكاب مثل تلك الأعمال.
إلاّ أنّ الواقع الذي لا يمكن دفعه هو أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان معروفاً منذ
____________
1- السنّة قبل التدوين: 105.
وقد نقل لنا المؤرّخون صوراً متعدّدة من أُسلوب الخليفة، حتّى جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد أنّه كان في أخلاق عمر وألفاظه جفاءً وعنجهيّةً ظاهرة(7). وأنّه كان شديد الغلظَة، وَعْر الجانب، خشَن الملمس، دائم العبوس، وكان يعتقد أنّ ذلك هو الفضيلة، وأنّ خلافه نقص(8).
فلا غرابة ولا بِدْع إذا اتَّخذ الخليفة ذلك الموقف الصارم المتشدّد من مخالفيه في التحديث، خصوصاً بعد ردعه من قِبل النبىّ لاستنساخه كتب اليهود، كلّ ذلك مع لحاظ الروح القبليّة التي كانت طافحةً عليه، مضافاً إلى مساس هذا التحديث بأصل مشروعيّة خلافته.
____________
1- مصنف ابن أبي شيبة 3: 171، ح 1352، حياة الحيوان للدميري 1: 71.
2- سنن سعيد بن منصور 5: 132، باب تفسير سورة الأعراف، ح 942، مصنف ابن أبي شيبة 6: 358، ح 32013، 7: 434، ح 37056، السنة للخلال 1: 275، ح 337.
3- تاريخ الطبري 2: 270، شرح النهج 1: 181، 12: 75، مآثر الانافة 3: 339، وفيات الاعيان 3: 14 الترجمة رقم 317.
4- مصنف ابن أبي شيبة 5: 294، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 1: 193، ح 374، تذكرة الحفاظ 1: 7، تاريخ دمشق 40: 501، معتصر المختصر 2: 380.
5- مسائل الامام أحمد 1: 489، الطبقات الكبرى 3: 285، 2: 609، الاستيعاب 1: 326، الاصابة 6: 485 الترجمة رقم 8845 و6: 182 الترجمة 8142، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة 1: 264، تاريخ دمشق 62: 27، تذكرة الحفاظ 2: 609، غريب الحديث لابن قتيبة 2: 544، 545، باب حديث عروة بن الزبير، اعتقاد أهل السنة 4: 635، ح 1138، الاكمال لابن ماكولا 6: 208، تاريخ دمشق 23: 408، 59: 361، تصحيفات المحدثين 2: 896، السنن الكبرى للبيهقي 3: 231، ح 1586، فتح الباري 7: 4، التمهيد لابن عبد البر 9: 89، الاصابة 2: 521، الترجمة 2754.
6- الطبقات الكبرى 3: 274، مصنف ابن أبي شيبة 6: 56، ح 29511، 7: 256، ح 35835، صفوة الصفوة 1: 280.
7- شرح النهج 1: 183.
8- شرح النهج 6: 327.
ويلحظ هذا النفس واضحاً عند عمر بن الخطّاب حين أرسل وفداً من الأنصار إلى الكوفة، وشيّعهم إلى موضع قرب المدينة، فقال لهم: أتدرون لِمَ شيّعتكم أو مشيت معكم؟
فقالوا: نعم، لحقّ صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحقّ الأنصار.
قال عمر: لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكم به... فأقلّوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا شريككم(2).
فهو يمنعهم أو يحدّ من تحديثهم لأنّهم من الأنصار; أتباع التعبّد الذين يروون ما لا يعجب الخليفة ولا يحبّ انتشاره بين المسلمين لئلاّ يظهر عجزه العلمىّ(3).
إنّ المبرّرات المختلقة التي قيلت أو قد تُقال في الدفاع عن الخليفة لا نراها تصمد أمام النقد ولا تقوم أمام التحقيق العلمىّ كما أثبتنا ذلك.
____________
1- تاريخ الطبري 2: 679 باب ذكر بعض سير عثمان بن عفان.
2- الطبقات الكبرى 6: 7، سنن الدارمىّ 1: 97، ح 279، جامع بيان العلم 2: 120، تذكرة الحفّاظ 1: 7، كنز العمّال 2: 284، ح 4017 وغيرها.
3- وقد اثبتنا في كتابنا (وضوء النبي) بأن قرظة كان يتوضأ الوضوء الثنائي المسحي ولا يرتضي غسل القدمين وإنه حسب ما حكاه المجلسي في البحار 32: 354 عن كتاب (الكافية في إبطال توبة الخاطئة) كان من شيعة علي، فعن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر أن امير المؤمنين لما دنا إلى الكوفة مقبلاً من البصرة خرج الناس مع قرظة بن كعب يتلقونه فلقوه دون نهر النضر بن زياد فدنوا منه يهنونه بالفتح وإنّه ليمسح العرق عن جبهته فقال له قرظة بن كعب: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي أعزّ وليك وأذل عدوك ونصرك على القوم الباغين الطاغين الظالمين إلى آخر الخبر.
ونرى أيضاً أنَّ ثمّة عوامل أُخرى ـ ستأتي ـ هي التي جعلت الخليفة يمنع التدوين والتحديث، ويوسّع دائرة الاجتهاد والرأي وتعرّف المصلحة، وما شابهها من أدلّة كانت مرتسمة في ذهن طائفة من الصحابة منذ زمن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطّاب. والخليفة بتأكيده على تلك الأسس جدَّ في ترسيخ هذه الفكرة.
خلاصة ما تقدم في المحور الأول:
1 ـ إنّ الصحابة كانوا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) على نهجين، بعضهم على نهج التعبد المحض، والبعض الآخر على نهج الاجتهاد بالرأي.
2 ـ إنّ أبا بكر وعمر كانا من أتباع النهج الثاني.
3 ـ إنّ عمر بن الخطاب خطى خطوات كبيرة في ترسية قواعد ما ذهب إليه أيّام حكومته.
4 ـ إنّ من عوامل منع عمر بن الخطاب من التحديث والكتابة والتدوين هو ردّة الفعل السلبية التي مُني بها من جراء استنساخه كتب اليهود.
5 ـ إنّ ما علل به ابن حزم منع عمر من التحديث والكتابة والتدوين لا يصمد أمام الواقع، لأنّ النهي كان عامّاً مطلقاً، بل تكذبه سيرة عمر مع الكتابيين وكعب الأحبار حتى في زمن استخلافه. وكذلك ما قيل في التبريرَين الآخَرَين من دعوى الاحتياط أو عدم ملائمة المنع لنفسية عمر بن الخطاب.