الصفحة 141

المحور الثاني

الثابت عند المسلمين هو لزوم امتلاك الخليفة قدرتين:

1 ـ قدرته السياسيّة وحنكته في إدارة شؤون الأمّة في الحرب والسلم، وبراعته في تحصين ثغور المسلمين، ومجاهدته أعداءَ الدين حتّى يرضخوا للدعوة الإسلاميّة وأحكامها، وما إليها من أُمور الدولة، كجباية الفي، والصدقات، وتقدير العطاء، والخراج، وسدّ عوز المحتاجين، وسواها من مستلزمات الإدارة وشؤون الدولة.

2 ـ قدرته العلميّة للتصدّي لأمر الإفتاء بما نزل به القرآن، وجاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) ، إذ إنّ الناس قد ألِفوا في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) أخذ الأحكام عنه(صلى الله عليه وآله) والرجوع إليه فيما يستجدّ من قضايا الحياة، أمّا اليوم ـ وبعد غياب الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) ـ فإنّهم يرجعون إلى الخليفة، ليقفوا على الأحكام الشرعيّة والأمور المستجدّة عندهم، وليقف من بَعُد عن النبىّ(صلى الله عليه وآله) على تفاصيل الأحكام، لأنّ الكثير منهم لم يتوطّن مكّة والمدينة، وكذلك ليأخذ التابعون ـ الذين لم يرَوا النبىّ ـ معالم الدِّين من الصحابة، كلُّ أُولئك كانوا بحاجة إلى أخذ الأحكام من الخليفة بالدرجة الأولى ومن يحيط به بالدرجة الثانية، مع لحاظ الفارق بين الخليفة والنبىّ(صلى الله عليه وآله).

إذ عامة الناس كانوا ينظرون إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) على أنّه مشرّع {ما يَنْطِقُ عن الهوى} فحكمه (صلى الله عليه وآله) يكون نافذاً عندهم، لا تجوز مخالفته ولا التردّد فيه; لأنّه صدر عن الوحي.


الصفحة 142
وأمّا الخليفة اليوم فليست له هذه السمة التي كانت للنبىّ(صلى الله عليه وآله) ولم يعطوه دوراً تشريعيّاً في الأحكام(1)، بل كانوا ينظرون إليه كمحدِّث عن الرَّسول لا غير.

وقد أدرك أبو بكر وعمر هذه الحقيقة، فأخذوا في بداية الأمر ينقلون حكم الشرع من خلال القرآن الحكيم أو السنّة المطهَّرة.

وحين يخفى عليهم أمرٌ ما، يخرجون إلى وجوه الصحابة يستفتونهم ويسألونهم عمّا قضى به رسول الله(صلى الله عليه وآله) في مثل هذا الأمر، ليقفوا وليوقفوا السائل على حكم الله ورسوله.

أ ـ روى ميمون بن مهران قال: (ثم كان أبو بكر إذا ورد عليه خصم نظرَ في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي(صلى الله عليه وآله) فيه سنة فإن علمها قضي بها وان لم يعلم خرج فسئل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم أجد في ذلك شيئاً فهل تعلمون أن نبي الله(صلى الله عليه وآله) قضي في ذلك بقضاء فربما قام اليه الرهط فقالوا نعم قضى فيه بكذا وكذا فيأخذ بقضاء رسول الله(صلى الله عليه وآله)... إلى أن قال وإن اعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رايهم على الامر قضى به)(2).

ب ـ أخرج مالك، وأبو داود، وابن ماجة والدارمىّ وغيرهم: (أنّ جدّة جاءت إلى الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالكِ في كتاب الله شي، وما علمتُ لك في سنّة رسول الله شيئاً، فارجعي حتّى أسأل الناس؟

فسأل الناس، فقال المغيرة: حَضَرت رسول الله(صلى الله عليه وآله) أعطاها السدس.

فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟

____________

1- انظر الإحكام في أُصول الأحكام 1: 11، ومناهج الاجتهاد للدكتور مدكور. مثلاً.

2- السنن الكبرى للبيهقي 10: 114، وانظر أعلام الموقّعين لابن قيّم الجوزيّة 1: 62.


الصفحة 143
فقام محمّد بن مسلمة الأنصارىّ، فقال مثل ما قاله المغيرة.

فأنفذه لها أبو بكر الصدّيق)(1).

وقد كانت سيرة عمر مثل سيرة أبي بكر، فكان يسأل الصحابة عمّا لا يعرفه ليستثبته منهم كي يثبّته.

ج ـ روى البيهقىّ بسنده عن السلمىّ، قال: (أُتي عمر بن الخطّاب بامرأة جَهِدها العطش، فمرّت على راع فاستسقت، فأبى أن يسقيها إلاّ أن تمكّنه من نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها.

فقال علي (رضي الله عنه): هذه مضطرّة، أرى أنْ تخلّي سبيلها، ففعل)(2).

د ـ سأل عمرُ بن الخطّاب أبا واقد الليثىّ: عمّا كان يقرؤه رسول الله في صلاة العيدين؟

فقال: بـ(قاف) و(اقتربت)(3).

هـ ـ أخرج الحاكم عن سعيد بن المسيّب: (أنّ عمر بن الخطّاب أتى على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يَلبِسوا إيمانَهم بُِظلْم}(4) فأتى أُبىّ بن كعب فسأله: أيّنا لم يظلم؟

فقال له: يا أمير المؤمنين إنّما ذاك الشرك، أما سمعت قول لقمان لابنه: {يا بنىّ لا تُشرك بالله إنّ الشِّرك لظلم عظيم}(5).

____________

1- الموطّأ 2: 513، ح 4، سنن أبي داود 3: 121، ح 2894، سنن ابن ماجة 2: 909، ح 2724، وسنن الدارمىّ 2: 359 بتفاوت يسير.

2- السنن الكبرى للبيهقىّ 8: 236، وذخائر العقبى: 81، والطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة 1: 80.

3- الموطّأ 1: 180، ح 8، صحيح مسلم 2: 607، ح 891، سنن أبي داود 1: 300 /ح 1154، سنن الترمذىّ 2: 413، ح 533، السنن الكبرى للبيهقي 6: 475، ح 11551، وسنن ابن ماجة 1: 408، ح 1282، وسنن النسائىّ 3: 183، ح 1567.

4- الأنعام: 82.

5- المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 345، ح 5330، وانظر تفسير الطبري 7: 257. والآية: 13 من سورة لقمان.


الصفحة 144
وـ (أُتي برجل من المهاجرين الأوّلين وقد كان شرب، فأمر به أن يُجلد فقال: لِمَ تجلدني، بيني وبينك كتاب الله عزّ وجلّ.

فقال عمر: في أىّ كتاب الله تجدُ أنّي لا أجلدك؟

فقال: إنّ الله تعالى يقول في كتابه {لَيْسَ على الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات جُناحٌ فيما طَعِمُوا...}(1) الآية، فأنا من الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا ثمّ اتّقوا وأحسَنوا، شهدتُ مع رسول الله بدراً والحُديبيّة والخندق والمشاهد.

فقال عمر: ألا تردّون عليه ما يقول؟

فقال ابن عبّاس: إنّ هذه الآيات أُنزلت عُذراً للماضين، وحجّةً للباقين; لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: {يا أيُّها الذين آمنوا إنَّما الخمرُ والَمْيسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ من عَمِلِ الشيطان}(2) ثمّ قرأ حتّى أنفذ الآية الأخرى: {إذا ما اتَّقَوا وآمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتَّقَوْا وآمَنوا ثُمِّ اتَّقوا وأحْسَنوا}(3) فإنَّ الله عزّ وجلّ قد نَهى أن يُشرب الخمر.

فقال عمر: صدقت، فماذا ترون؟

فقال علىٌّ (رضي الله عنه): نرى أنّه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدةً. فأمر عمر فَجُلِدَ ثمانين)(4).

اتّضح لنا من خلال هذه النصوص وغيرها ـ ممّا تركنا سرده مخافة الإطالة ـ أنّ الشيخين لم يدّعيا في بادىَ الأمر أنّهما يعرفان جميع الأحكام الصادرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، أو أنَّهما قد اختصّا بأحاديثه(صلى الله عليه وآله) دون غيرهما، إنّما مَثَلهم مَثَل كثير من

____________

1- المائدة: 93.

2- المائدة: 90.

3- المائدة: 93.

4- سنن الدارقطني 3: 166، ح 245، المستدرك على الصحيحين 4: 417، ح 8132، وقد صحّحه الحاكم، وكذا الذهبىّ في تلخيصه، السنن الكبرى للبيهقي 8: 320، سنن النسائي الكبرى 3: 252، ح 5288.


الصفحة 145
الصحابة الذين خَفِيت عليهم الكثير من مسائل التشريع.

وأمّا ما بُولغ فيه من إحاطتهم بجميع الأحكام والعلوم وأنّهما كانا أخصّ من غيرهما بالرسول (صلى الله عليه وآله) فقد صدر عن موقف عاطفىّ متطرِّف، بعيد عن الواقع التاريخىّ. وذلك لأنّ أغلب المنقولات في هذا السياق عرضةٌ للشكّ والتّرديد، ومن هذه النقول ما نسب فيها إلى علىّ بن أبي طالب أنّه قال: كنّا نتحدّث أنّ مَلَكاً ينطق على لسان عمر!(1)

ومنها: ما روي عن ابن مسعود أنّه قال: لو وُضِعَ علم عمر في كفّة ميزان وعلم أحياء أهل الأرض في الكفّة الاخرى لَرَجَحَ علم عمر!(2)

ومنها ما نُسب إلى رسول الله أنّه قال: لو كان نبىّ بعدي لكان عمر بن الخطّاب!(3)

أو: قد كان فيما مضى قبلكم من الامم محدَّثون وإنه إن كان في امتي هذه منهم فأنه عمر بن الخطاب!(4)

____________

1- تاريخ واسط 1: 167، كتاب من حديث خثيمة 1: 42، حلية الأولياء لأبي نعيم 1: 42، الرياض النضرة 1: 376، وقد رواه الطبري في المعجم الاوسط 7: 18، ح 6726 من طريق ابي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: وإنه لم يبعث نبياً إلا كان في امته محدث وإن يكن في امتي منهم أحداً فهو عمر قالوا: يا رسول الله كيف محدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 69، باب منزلة عمر ثم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) قال: وفيه ابو سعد خادم الحسن البصري ولم اعرفه وبقية رجاله ثقات.

2- المدخل إلى السنن الكبرى 1: 126، ح 70، التمهيد لابن عبد البر 3: 198، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 92، ح 4497، تهذيب الكمال 21: 325، ترجمة رقم 4225 لعمر بن الخطاب، اعلام الموقعين 1: 16، 2: 272، وانظر مقدمة فقه عبد الله بن مسعود للدكتور رواس قلعه جي.

3- سنن الترمذي 5: 619، ح 3686، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 92، ح 4495، مسند أحمد 4: 154، فتح الباري 7: 51.

4- صحيح البخاري 3: 1279، ح 3282، 3: 1349، ح 3486، صحيح مسلم 4: 1864، ح 2398 وفيه: قال ابن وهب تفسير محدَّثون هو ملهمون، المستدرك على الصحيحين 3: 92، ح 4499، سنن الترمذي 5: 622، ح 3693 وفيه قال سفيان بن عيينة: محدَّثون، يعني مفهمون، السنن الكبرى للنسائي 5: 39، ح 8119.


الصفحة 146
وما سواها الكثير من المبالغات التي كانت وراءها شتّى الدوافع والأسباب.

ومن بيّنات المسائل ـ في هذا الصدد ـ أنّ الشيخين لو كانا قد اختصّا بشي لبادرا إلى بيان الأحكام، ولما سألا الصحابة عمّا خفي عليهما، ولما حدث الاختلاف بين منقولاتهما وآرائهما، ولما رجعا عن فتاواهما إزاء نقولات وآراء الصحابة الآخرين، ولما وصل الأمر بالخليفة عمر بن الخطّاب أن يقول (كلّ الناس أعلم من عمر)(1) وفي آخر: (حتّى ربّات الحجال)(2).

إذاً كان التعبّد بحكم الله ورسوله هو الضابط في معرفة الأحكام في الصدر الأوّل، والجميع كانوا يعرفون ذلك ولم يَخْفَ هذا على أحد في تلك الفترة من تاريخ الإسلام، ولم يكن للشيخين ولا لغيرهما حقّ الاجتهاد قبال النصّ. وإن كانا قد تخطَّيا في بعض الأمور أوامر الرسول(صلى الله عليه وآله) واجتهدا قبال النصّ.

ونحن نعلم بالضرورة (إنّه(عليه السلام) كان يفتي بالفتيا ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط وإن الحجة أنما قامت على سائر من لم يحضره(عليه السلام) بنقل من حضره وهم واحد واثنان وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم التواطؤ)(3).

وأضاف ابن حزم بعد قوله السابق: ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتأوَّل فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرُّون ويعترفون بأنّهم لم يَبْلُغْهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم(4).

____________

1- تفسير الكشاف 1: 258، شرح النهج 1: 182، تفسير القرطبي 14، 277، الدرّ المنثور 6: 682، الإحكام في أُصول الأحكام 2: 253، تفسير النسفي 1: 213.

2- شرح نهج البلاغة: 1: 182.

3- الإحكام في أُصول الأحكام 1: 108.

4- الإحكام في أُصول الأحكام 2: 151، والحديث ايضاً في صحيح مسلم 4: 1940، ح 2492، وكذا هو في دلائل النبوة للاصبهاني 1: 86، ح 78، وسير أعلام النبلاء 2: 595.


الصفحة 147
ومن هنا يتجلّى أنّ رسم صورة للخليفة تَهَبُه تلك المنزلة الخاصّة في علوّها وغلوّها إنَّما هي نتاج عاطفة مغالية لا يرتضيها الخليفة نفسه، ويبرأ منها، وإليك نصوص بعض الصحابة التي تزيد الأمر جلاءً.

بعض الصحابة والخليفة الثاني

1ـ معاذ بن جبل:

أـ جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب، فقال: يا أمير المؤمنين! إني غِبْتُ عن امرأتي سنتين، فجئت وهي حبلى.

فشاور عمر الناس في رجمها.

فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إنْ كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتّى تضع.

فتركها، فولدت غلاماً قد خرجت ثناياه، فعرف الرجل الشبه فيه.

فقال: ابني وربّ الكعبة.

فقال عمر: عجزت النساء أن يلِدْن مثل معاذ، لو لا معاذ لهلك عمر(1).

ب ـ إنّ رجلاً مسلماً شجّ رجلاً من أهل الذِّمّة، فهمّ عمر بن الخطّاب أن يقيده.

قال معاذ بن جبل: قد علمت أن ليس ذلك له، وأُثر ذلك عن النبىّ(صلى الله عليه وآله) ، فأعطاهُ عمر بن الخطّاب في شجّته ديناراً، فرضي به(2).

2 ـ زيد بن ثابت:

أـ عن مجاهد قال: قدم عمر بن الخطّاب الشام، فوجد رجلاً من المسلمين قتل

____________

1- سنن الدارقطني 3: 322، ح 281، السنن الكبرى للبيهقي 7: 443، ح 15335، مصنف عبد الرزاق 7: 354، ح 13454، مصنف ابن أبي شيبة 5: 543، ح 28812، سير أعلام النبلاء 1: 452، تهذيب الكمال 28: 111، وانظر الاصابة 6: 137.

2- مصنف عبد الرزاق 10: 100، ح 18511، كنز العمال 15: 97، ح 40243، عنه.


الصفحة 148
رجلاً من أهل الذِّمّة، فهمّ أن يقيده، فقال له زيد بن ثابت: أتقيدُ عبدك من أخيك؟!

فجعله عمر دية(1).

ب ـ عن مكحول: أنّ عبادة بن الصامت دعا نبطيّاً يمسكُ له دابّته عند بيت المقدس، فأبى، فضربه فشجّه، فاستعدى عليه عمر بن الخطّاب فقال له: ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟

فقال: يا أمير المؤمنين! أمرته أن يمسك دابّتي فأبى، وأنا رجل فىَّ حدّة فضربته.

فقال: اجلس للقصاص.

فقال زيد بن ثابت: أتُقيدُ عبدكَ من أخيك؟!

فترك عمر عنه القَوَد، وقضى عليه بالدية(2).

ج ـ عن زيد بن ثابت: أنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً، فأذن له ورأسه في يد جارية له تُرَجِّلَُهُ، فنزع رأسه.

فقال له عمر: دعها ترجّلك.

فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلىّ جئتك.

فقال عمر: إنَّما الحاجة لي، إنّي جئتك لتنظر في أمر الجَدّ.

فقال زيد: لا، والله ما يقولُ فيه.

فقال عمر: ليس هو بوحي حتّى نزيد فيه وننقص منه، إنّما هو شي نراه، فإن رأيته وافقني تبعته، وإلاّ لم يكن عليك فيه شي.

فأبى زيد، فخرج مغضباً، قال: قد جئتك وأنا أظنّك ستفرغ من حاجتي.

ثمّ أتاه مرّة أُخرى في الساعة التي أتاه في المرّة الأولى، فلم يزل به حتّى قال:

____________

1- مصنف عبد الرزاق 10: 100، ح 18509، وكنز العمال 15: 97، ح 40242، عنه.

2- السنن الكبرى 8: 32، تذكرة الحفاظ 1: 31، الترجمة رقم 66 لزيد بن ثابت، كنز العمّال 15: 94، ح 40232.


الصفحة 149
فسأكتب لك فيه، فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلاً: إنَّما مَثَله مثل شجرة نبتت على ساق واحد فخرج فيها غُصن، ثمّ خرج في الغُصن غُصن آخر، فالساق يسقي الغُصن، فإن قطع الغصن الأوّل رجع الماء إلى الغصن ـ يعني الثاني ـ وإنْ قطعت الثاني رجع الماء إلى الأوّل.

فأتى به فخطب الناس عمر، ثمّ قرأ قطعة القتب عليهم، ثمّ قال: إنّ زيد بن ثابت قد قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته.

قال: وكان أوّل جدّ كان، فأراد أن يأخذ المال كلّه مال ابن ابنه دون إخوته، فقسّمه بعد ذلك عمر بن الخطّاب(1).

3 ـ أبو عبيدة بن الجرّاح:

عن عمر بن عبد العزيز: إنّ رجلاً من أهل الذمّة قُتِلَ بالشام عمداً، وعمر بن الخطّاب إذ ذاك بالشام، فلمّا بلغه ذلك، قال عمر: قد وقعتم بأهل الذمّة؟! لأقتلنّه به!

فقال أبو عبيدة بن الجرّاح: ليس ذلك لك.

فصلّى، ثمّ دعا أبا عبيدة فقال: لمَ زعمت لا أقتله به؟

فقال أبو عبيدة: أرأيت لو قتل عبداً له، أكنت قاتله به؟!

فصمت عمر، ثمّ قضى عليه بألف دينار مغلّظاً عليه(2).

4 ـ حُذيفة بن اليمان:

عن حذيفة بن اليمان: إنّه لقي عمر بن الخطّاب، فقال له عمر: كيف أصبحت يابن اليمان؟

فقال: كيف تريدني أُصبحُ؟! أصبحت والله أكره الحقّ، وأُحبّ الفتنة، وأشهد بما

____________

1- سنن الدارقطني 4: 93، ح 80، السنن الكبرى للبيهقي 6: 247 ح 12208، فتح الباري 12: 21.

2- السنن الكبرى للبيهقي 8: 32، كنز العمّال 15: 14، ح 40234.


الصفحة 150
لم أرَه، وأحفظ غير المخلوق، وأُصلّي على غير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.

فغضب عمر لقوله وانصرف من فوره، وقد أعجله أمر، وعزم على أذى حذيفة بقوله ذلك، فبينا هو في الطريق إذ مرّ بعلىّ بن أبي طالب، فرأى الغضب في وجهه فقال:

ما أغضبك يا عمر؟

فقال: لقيت حذيفة بن اليمان، فسألته: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أكرهُ الحقّ؟

فقال: صدق، يكره الموت وهو حقُّ.

فقال، يقول: وأُحبُّ الفتنة!

قال: صدق، يُحبّ المال، والولد، وقد قال الله تعالى {إنّما أموالُكم وأولادكم فتنة}(1).

فقال: يا علىّ! يقول: وأشهدُ بما لم أره؟!

فقال: صدق، يشهد لله بالوحدانيّة، والموت، والبعث، والقيامة، والجنّة، والنار، والصِّراط، ولم يرَ ذلك كلّه.

فقال: يا علىّ! وقد قال: إنّي أحفظ غير المخلوق!

قال: صدق، يحفظ كتاب الله تعالى; القرآن، وهو غير مخلوق.

قال: ويقول: أُصلّي على غير وضوء.

قال: صدق، يُصلّي على ابن عمّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) على غير وضوء، والصلاة عليه جائزة.

فقال: يا أبا الحسن! قد قال أكبرَ من ذلك.

____________

1- التغابن: 15، الأنفال: 28.


الصفحة 151
فقال: وما هو؟

قال: قال إنّ لي في الأرض ما ليس لله في السماء!

قال: صدق، له زوجة وولد، وتعالى الله عن الزوجة والولد.

قال عمر: كاد يهلكُ ابن الخطّاب، لولا علىّ بن أبي طالب(1).

5 ـ عبد الله بن مسعود:

عن إبراهيم النخعىّ: أنّ عمر بن الخطّاب أفتى برجل قد قَتل عمداً، فأمر بقتله، فعفا بعض الأولياء، فأمر بقتله.

فقال ابن مسعود: كانت النفس لهم، فلمّا عفا هذا أحيى النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقَّه حتّى يأخذ غيره. قال: فما ترى؟

قال: أرى أنْ تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصّة الذي عفا، قال عمر: وأنا أرى ذلك(2).

6 ـ أُبىّ بن كعب:

عن الحسن: قال عمر بن الخطّاب: لو أخذنا ما في البيت ـ يعني الكعبة ـ فقسمناه.

فقال له أُبىّ بن كعب: والله، ما ذاك لك.

فقال عمر: ولِمَ؟!

قال: لان الله قد بيّن موضع كلّ مال [وقد] تركها رسول الله(صلى الله عليه وآله).

قال عمر: صدقت(3).

____________

1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكىّ: 35، وكفاية الطالب للكنجىّ الشافعىّ: 218 ـ 219.

2- الاُمّ للشافعىّ 7: 329، السنن الكبرى للبيهقي 8: 60، الحجة للشيباني 4: 385، وله قضيّة أُخرى راجع كنز العمّال 11: 33، ح 30513، وعن ابن القيّم في إعلام الموقعين 2: 237 إنَّ ابن مسعود خالف عمر في أكثر من مائة قضيّة.

3- مصنف عبد الرزاق 5: 88، ح 9084، وانظر كنز العمال 14: 100، ح 38052، عن (عب والأزرق في أخبار مكة) بلفظ آخر.


الصفحة 152
ذكر ابن قيّم الجوزيّة: أنّ عمر أراد أنْ يأخذ مال الكعبة، وقال: الكعبة غنيّة عن ذلك المال. وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول(1)، وأراد أن ينهى عن متعة الحجّ.

فقال أُبىّ بن كعب: قد رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأصحابه هذا المال به وبأصحابه الحاجة إليه فلم يأخذه، وأنت فلا تأخذه.

وقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأصحابه يلبسون الثياب اليمانيّة، فلم يَنْهَ عنها، وقد علم أنّها تُصبغ بالبول.

وقد تمتّعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يَنه عنها، ولم يُنزل الله تعالى فيها نهياً(2).

7 ـ الضَّحّاك بن سفيان الكلابىّ:

عن سعيد بن المُسيّب: أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول (الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً).

حتّى أخْبَرَه الضحّاك بن سفيان أنّ النبىّ(صلى الله عليه وآله) كتب إليه أن يُورِّث امرأة أشيم الضبابىّ من ديته، فرجع إليه عمر(3).

8 ـ شَيْبة بن عثمان:

عن شقيق، عن شيبة بن عثمان، قال: قعَد عمر بن الخطّاب في مقعدك الذي أنت فيه، فقال: لا أخرج حتّى أُقسم مال الكعبة.

قال: قلت: ما أنت بفاعل!

قال: بلى لأفعلنَّ!

____________

1- المراد بالبول هو بول الإبل لا بول الإنسان.

2- زاد المعاد، لابن قيم الجوزيّة 2: 208.

3- الام للشافعي 6: 88، باب ميراث الدية، سنن أبي داود 3: 129، باب في المرأة ترث من دية زوجها، ح 2927، سنن الترمذي 4: 27، باب ما جاء في المرأة هل ترث من دية زوجها، ح 1415، 4: 425، ح 2110، سنن ابن ماجة 2: 883، باب الميراث من الدية، ح 2642، السنن الكبرى للنسائي 4: 78، ح 6363، 6364.