قال: لِمَ؟
قلت: لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد رأى مكانه، وأبو بكر، وهما أحوج منك إلى المال فلم يُخرجاه.
فقام فخرج(1).
9 ـ عبد الله بن عبّاس:
عن نافع بن جبير: أن ابن عبّاس أخبره قال: إنّي لَصاحب المرأة التي أُتي بها عمر وضعت لستّة أشهر، فأنْكر الناس ذلك، فقلت لعمر: لِمَّ تظلم؟
قال: كيف؟
قلت: اقرأ: {وحملُه وفِصاله ثلاثون شهراً}(2)، {والوالداتُ يُرضعْنَ أولادَهُنّ حَوْلَين كامِلَين}(3).
كم الحَوْل؟
قال: سنة.
قلت: كم السنة؟
قال: اثني عشر شهراً.
قلت: فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخِّرُ الله من الحمل ما شاء،
____________
1- سنن أبي داود 2: 215، باب مال الكعبة، ح 2031، سنن ابن ماجة 2: 1040، باب مال الكعبة، ح 3116، المعجم الكبير 7: 300، 7195، فتح الباري 3: 456 وانظر صحيح البخاري 2: 578، باب كسوة الكعبة، ح 1517، 6: 2655، باب الإقتداء بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ح 6847، السنن الكبرى للبيهقي 5: 159، باب ما جاء في مال الكعبة وكسوتها، ح 9511، مصنف ابن أبي شيبة 6: 466، باب ما قالوا في قسمة ما يفتح من الارض، ح 32976، مسند أحمد 3: 410.
2- الأحقاف: 15.
3- البقرة: 233.
10 ـ علىّ بن أبي طالب:
أـ عن ابن عبّاس، قال: أُتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أُناساً، فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها على علي(رضي الله عنه) فقال: ما شأن هذه؟
قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم!
فقال: ارجعوا بها.
ثمّ أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمت أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبىّ حتّى يبلغ، والنائم حتّى يستيقط، والمعتوه حتّى يبرأ؟! وإنّ هذه معتوهة بني فلان، لعلّ الذي أتاها أتاها وهي في بلائها، فخلّى سبيلها، وجعل عمر يكبِّر(2).
ب ـ أُتي عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلّقت بشابّ من الأنصار، وكانت تهواه، فلمّا لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة فألقت صُفرتها، وصبّت البياض على ثوبها وبين فخذيها، ثمّ جاءت إلى عمر صارخة، فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله!
فسأل عمر النساء فقلن له: إنّ ببدنها وثوبها أثر المنىّ، فهمّ بعقوبة الشابّ، فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين! تثبّت في أمري فوالله ما أتيت فاحشة وما هممت بها، فلقد راودتْني عن نفسي فاعتصمت.
فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما؟
____________
1- مصنف عبد الرزاق 7: 352، باب التي تضع لستة اشهر، ح 13449 الدرّ المنثور 7: 442، فتح القدير 5: 19.
2- سنن أبي داود 4: 140، باب في المجنون يسرق او يصيب، ح 4402، 4399، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 2: 68، ح 2351، السنن الكبرى للبيهقي 4: 269، 8: 264، سنن الدارقطني 3: 138، ح 173، السنن الكبرى للنسائي 4: 324، ح 7347.
11 ـ عبد الرحمن بن عوف:
أـ عن ابن عبّاس، أنّه قال له عمر: يا غلام! هل سمعت من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو من أحد من الصحابة إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟
قال: فبينما هو كذلك، إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف.
فقال: فيم أنتما؟
فقال عمر: سألت هذا الغلام: هل سمعت من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو أحد من أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ قال عبد الرحمن: سمعت من رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: إذا شكّ أحدكم... إلى آخر الحديث(2).
ب ـ عن قتادة، قال: سئل عمر بن الخطّاب عن رجل طَلَّقَ امرأته في الجاهليّة تطليقتين وفي الإسلام تطليقة.
قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال عبد الرحمن: لكنّي آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشي(3).
12 ـ وامرأة خطَّأتهُ فيما ذهب إليه من عدم جواز الغلاء في المهور(4).
كانت هذه نصوص نقلناها عن أكثر من عشرة من الصحابة والتابعين، من بينهم كبار الصحابة، أمثال.
____________
1- الطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة: 70، كما في الغدير 6: 126، عنه.
2- مسند أحمد 1: 190، ح 1655، الأحاديث المختارة 3: 97 ـ 98، ح 899.
3- المصنف لعبد الرزاق 7: 181، ح 16289.
4- تفسير الكشّاف 1: 258، تفسير القرآن العظيم 1: 467، تفسير القرطبي 5: 99، الدرّ المنثور 2: 466.
2 ـ زيد بن ثابت.
3 ـ أبو عبيدة بن الجرّاح.
4 ـ حذيفة بن اليمان.
5 ـ عبد الله بن مسعود.
6 ـ أُبىّ بن كعب.
7 ـ الضحّاك بن سفيان الكلابىّ.
8 ـ شيبة بن عثمان.
9 ـ عبد الله بن عبّاس.
10 ـ علىّ بن أبي طالب.
11 ـ عبد الرحمن بن عوف.
12 ـ امرأة من نساء المسلمين.
وفي ما تقدّم صراحة في أنَّ المنهج الصحيح هو الانصياع لما حكم به الله ورسوله وأنَّه لابدَّ للخليفة من الرجوع إلى الكتاب والسنّة في تبيين الأحكام، وهذه الحالة كانت مستقرّة في نفوس الصحابة لما رأيت من تصحيحهم للخليفة مستدلّين تارة بالقرآن العزيز وأُخرى بالسنّة المطهّرة. وهذه الوقائع تؤكّد أنّ الخليفة لا يدّعي أنّه قد اختصّ بمعرفة الأحكام جميعاً أو (أنّه كان يتفرّد بتكوين عقلىّ خاصّ به، وبلغ من النضج حدّ العبقريّة بدليل موافقات الوحي له، وشهادة رسول الله بأنّ الحقّ يدور مع عمر حيث دار)(1).
أو أنّه حمل جميع علم رسول الله دون غيره، بل انّ انصياعه لقول الصحابة وقبوله ما استدلوا به عليه من الذكر الحكيم والسنة المطهرة يؤكد عدم اختلافه معهم
____________
1- اجتهاد الرسول، للدكتورة نادية العمرىّ: 299.
والذي نخلص إليه من مجموع النصوص السابقة ثلاثة أمور:
1 ـ أنّ عمر لم يحط علماً بسنة الرسول(صلى الله عليه وآله) فضلاً عن القرآن، ولم يخضع الصحابة لآرائه.
2 ـ أنّ القرآن والسنة هما ينبوعا الشريعة الإسلامية، ولا يقوم مقامهما شي آخر بنظر الصحابة حتى عمر.
3 ـ إنّ ما ينتزع من هذه النصوص أنّ عمر كان على أعتاب الدخول في أشدّ الحرج; إذ ليس بالأمر الهين على حاكم الدولة الإسلامية المطلق أن يقر باحتياجه العلمي على الدوام، خصوصاً وأنّ الكثير من أولئك الذين لا يستغني عمر عن احاطتهم بالسنة وبالقرآن متقاطعون معه في المبدأ وفي الفكر وفي القيم...، وإن مجموع البحوث اللاحقة ستبين هذاالأمر بوضوح أكثر.
امتداد النهجين بعد الرسول(صلى الله عليه وآله)
(الأزمة والحل)
من الطبيعىّ أنّ استمرار ظاهرة تخطئة الخليفة ممّا يؤدّي إلى تضعيف مركزه ويقلّل من مكانته الاجتماعيّة عند المسلمين، وسيؤثّر مآلاً على قوام الخلافة الإسلاميّة، لأنَّ الخليفة قد رأى الصحابة ـ وخصوصاً المحدّثين منهم ـ قد جدّوا في تخطئته مرّة بعد مرّة، وأنّ المواقف المخطِّئة في بعض الأحيان، والمشكّكة في أحيان أُخرى لو كتب لها أن تستمرّ لأسفرت عن تجرّؤ الصحابة على الوقوف أمام شخصيّة الخليفة نفسه.
فكان من المحتّم عليه ـ والحالة هذه ـ أن يطرح نهجاً جديداً يتلافى معه ظاهرة التخطئة والتصحيح التي يقوم بها الصحابة، ويغلق أمامها المنافذ، ليتكوّن عنده من بعدُ المبرّر لأعماله، والمصحِّح لاجتهاداته، إذ إنّ مقايسة فتاوى الخليفة بما في القرآن وأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ بيان وجوه الخلاف بينهما وبين أُصول التشريع سيسوق الناس للتعريض به، والوقوف أمام آرائه وما يشرِّعه من رأي، وهو يعني تضعيف مكانته عندهم، ويجعله في موضع المستسلم لقبول ما سيطرحه المخالفون له، فرأى من الضرورة تقوية ما كان يذهب إليه من تعرّف المصلحة على عهد الرسول، وتقوية فكرة الاجتهاد وتعميمها للصحابة، كي يُعذر في فتاواه، ومن هنا ظهرت رؤيتان عند الخليفة، ومن ثمّ عند بعض المسلمين.
الثانية: القول بحجّيّة اجتهاد الصحابىّ.
وستقف لاحقاً على السير التاريخىّ لهاتين الرؤيتين ومدى قربهما أو بعدهما عن الواقع. وقبل ذلك ننقل كلام الإمام محمّد عبده عن المصلحة عند الصحابة وأنّهم (كانوا إذا رأوا المصلحة في شي يحكمون به وإن خالف السنّة، كأنّهم يرون أنّ الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة لا بجزئيّات الأحكام وفروعها)(1).
وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف: وكانوا إذا لم يجدوا نصّاً في القرآن أو السنّة يدلُّ على حكم ما عرض لهم من الوقائع استنبطوا حكمه، وكانوا في اجتهادهم يعتمدون على مَلَكتهم التشريعيّة التي تكوّنت لهم من مشافهة الرسول، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامّة.
فتارة كانوا يقيسون ما لا نصّ فيه على ما فيه نصّ، وتارة كانوا يشرِّعون ما تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة ولم يتقيَّدوا بقيد في المصلحة الواجب مراعاتها، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نصَّ فيه فسيحاً مجاله، وفيه متّسعٌ لحاجات الناس ومصالحهم(2).
وممّا يدلّ على صحّة قول عبده وخلاّف هو فتاوى عمر نفسه والتي مرّ قسم منها، والقارئ يعرف مدى نسبة اجتهاد الخليفة التي اصطدمت مع واقع التشريع.
فلا غرو أن تكون هذه المواقف المخطِّئة للخليفة من قبل الصحابة عاملاً آخر من عوامل منع عمر بن الخطّاب من التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته.
وعلى كلّ حال، فإنَّ المحصّل الذي لا ريب فيه هو امتداد الاتّجاهين في الشريعة
____________
1- تفسير المنار 4: 31 لمحمّد رشيد رضا.
2- خلاصة تاريخ التشريع الإسلامىّ: 40.
الأوّل: يأخذ بالنصوص ويتعبّد بها، والذي سمّيناه (التعبُّد المحض).
والثاني: يأخذ بقول الرجال ويذهب إلى حجّيّة اجتهادات الصحابة المدركين لروح التشريع كما يقال، حتّى توسّعت خطواتهم ولم تقف عند حدود بعد وفاة النبىّ الذي كان يكبح من جماح هذا الاتّجاه. ولم تختصّ اجتهاداتهم فيما لانصّ فيه بل تعدّتها إلى ما فيه نصّ صريح، وقد سمّينا هذا النهج نهج (الاجتهاد والرأي).
قال الدكتور محمّد سلاّم مدكور:... وهكذا من تتبّع تصرّفات الصحابة وعلى رأسهم الخليفة عمر الذي طالما بدّل بعض الأحكام إلى ما يرى أنّه مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيراً يتّفق مع المصلحة، وقد درج التابعون على ذلك فأفتَوا بجواز تسعير السلع مع نهي الرسول عن ذلك، وقالوا: إنّ الناس قد فَجَروا بما أصابهم من الجشع(1).
وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف:... (في عهد الصحابة) لما تعدّد رجال التشريع منهم، وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة، وإنّ هذا الاختلاف كان لابُدّ أن يقع بينهم، لأنّ فهم المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر، ولأنّ السنّة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء، وربّما وقف بعضهم على ما لا يقف عليه الآخر، لأنّ المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع، فلهذه الأسباب اختلفت فتاواهم وأحكامهم في بعض الوقائع والقضايا.
ولمّا آلت السلطة التشريعيّة في القرن الثاني الهجرىّ إلى طبقة الأئمّة المجتهدين اتّسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع، ولم تقف أسباب اختلافهم عند
____________
1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 303.
وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط، بل كان (الاختلاف أيضاً في أُسس التشريع وخُططه، وصار لكلّ فريق منهم مذهب خاصّ يتكوّن من أحكام فرعيّة استنبطت بخطّة تشريعيّة خاصّة)(1).
وهذا يدلّ على أنّ تعدّد مراكز الإفتاء قد أدّى ويؤدّي إلى الاختلاف في الرأي والاجتهاد، وقد يكون هذا الاختلاف عند الصحابة، فيما بينهم، أو بينهم وبين الخليفة.
وقد وضَّح الدكتور مدكور هذه الحقيقة بعبارة أُخرى فقال:... واجتهاد الصحابة لم يقف عند القياس وإنَّما شمل كلّ وجوه الرأي; عمدتهم في ذلك البديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع، مع وعي كامل للأساس العقلىّ الذي يقوم عليه الرأي، والدور الذي يؤدّيه في إظهار الأحكام الشرعيّة، فاجتهدوا وهم على بيّنة من أمرهم.
وكانت اجتهاداتهم متنوّعة، فمنها ما يعتمد على القياس، ومنها ما يعتمد على المصلحة، وهكذا بالنسبة للمصادر العقليّة التي عرفت فيما بعد بأسماء اصطلاحيّة.
ثمّ يقول:... ومن الطبيعىّ أنّ الاجتهاد بالرأي يترتّب عليه اختلاف وجهة النظر، والتفاوت في الفتاوى والأحكام، ولمّا تفرّق الفقهاء مع هذا في الأقاليم كانوا نواة الاتّجاهات المختلفة التي نشأت عنها مدرسة الحديث ومدرسة الرأي(2).
وقال الدكتور ديب البغا في معرض بيانه لوجوه أدلّة النافين لحجّيّة قول الصحابىّ:
____________
1- خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، لخلاّف: 72.
2- مناهج الاجتهاد في الاسلام: 79 ـ 80.
فالذهاب إلى مشروعيّة الاجتهاد، يعني شرعيّة تعدّد الآراء، وكذا اختلافها!!
فعمر بن الخطّاب حينما رأى ضرورة استخدام الاجتهاد كمنطلق ومبرّر في فهم الشريعة، كان عليه أن يسمح للآخرين بالإفتاء كذلك، حتّى يصحّ اجتهاده، وكي يجد في كلام الآخرين ما يؤيّد كلامه ويفسّره، أو أن يُحترم رأيه ويسكت عنه على أقلّ تقدير.
إنّ أمره قرظةَ بالإقلال من الحديث ثمّ تجويز الاجتهاد للصحابة، ممّا يبرهن على أنّ الخليفة كان يريد نقل مدار التشريع وتعديته من النصوص الشرعيّة إلى الأخذ بآراء الرجال، وقد أشار بعض الصحابة إلى خطأ هذه الفكرة وإلى أنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، فجاء عن الإمام علىّ: أنّك لملبوس عليك، إنَّ الحقّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله(2).
فالخليفة ـ وبتوسيع وتحكيم دائرة الاجتهاد ـ كان يريد أن يعطي لنفسه مكانة في التشريع، من خلال السماح بالاجتهاد لغيره.
قال الملا علي القاري في شرح الشفا بعد أن شرح حديث (إئتوني بكتاب): والحاصل أنّه [أي عمر] رضي الله تعالى عنه كان في حزب يقولون: لا احتياج إلى الكتابة، والله أعلم(3).
____________
1- أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامىّ، للدكتور مصطفى ديب البغا: 247.
2- تاريخ اليعقوبي 2: 210، فيض القدير 1: 22، 4: 17، أبجد العلوم 1: 126.
3- نسيم الرياض للقاضي عياض وبهامشه شرح الشفا للملا علي القاري 4: 280.
فالمدبّر السياسىّ في عهد الخلافة الراشدة ليعلم أنّه لا يمكنه أن يطبّق ما يريده لو جرّد عن الدور التشريعىّ، وممّا لا محيص عنه أن يجعل الحقّ لنفسه أكثر من غيره، لأنّه الأجدر بمزاولة التشريع لكونه متصدّياً لمنصب الخلافة.
وقد تدرّج الخليفة وانفرد بسلّم الفتيا فعلاً، فصار بعد برهة من الزمان يطلق العنان لنفسه فقط في الإفتاء بالرأي والاجتهاد وتعرّف المصلحة ويحكرهُ على نفسه ويحظره على باقي المسلمين أو يحدّ منه، أو يجعل رأيه ونظره هو الراجح المطلق أو الأرجح الذي لا يُجارى.
من هنا انطلقَ ليحدّد معالم ما رسمه في الاجتهاد سابقاً كي يجعل النصيب الأوفر له، فتراه يجيب عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحداً من الصحابة ولم يرتضِ قبول رأي آخر يعارض رأيه، وصار داعياً إلى اتّباع رأيه وسيرته بعد أن كان سائلاً وباحثاً عن سنّة رسول الله، وأصرَّ على الأخذ برأيه وإن خالف سنّة رسول الله والذكر الحكيم; لأنّه أعلم منهم بأحكام الله وسنّة رسوله ـ على حدّ قوله لمن جمعهم من الصحابة ـ فقال لهم: (لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم)(2).
وفوق ذلك أنَّ الخليفة لم يكتفِ بهذا المقدار، بل تراه لا يسمح لعمار بن ياسر وغيره من الصحابة أن يذكّروه بما فعله أيّام رسول الله(صلى الله عليه وآله).
أخرج مسلم: أن رجلاً أتى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم اجد ماء.
____________
1- نسيم الرياض 4: 278.
2- تاريخ دمشق 40: 500، كنز العمّال 10: 293، ح 29479 عن كر.
فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما انت فلم تصل واما أنا فتمعكت في التراب وصليت فقال النبي(صلى الله عليه وآله): إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك.
فقال عمر: إتق الله يا عمار.
قال: إن شئت لم احدث به(1).
وفي رواية أُخرى: كنّا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء!
فقال عمر: أمّا أنا فلم أكن لأصلّي حتّى أجد الماء.
فقال عمّار: يا أمير المؤمنين! تذكر حيث كنّا بمكان كذا، ونحن نرعى الإبل، فتعلم أنّا أجنبنا؟
قال: نعم.
قال: فإنّي تمرّغت في التراب، فأتيت النبىّ(صلى الله عليه وآله) فحدّثته فضحك وقال: كان الصعيد كافيك، وضرب بكفّيه الأرض ثمّ نفخ فيهما ثمّ مسح بهما وجهه وبعض ذراعيه.
قال: اتَّقِ الله يا عمّار.
قال: يا أمير المؤمنين! إن شئت لم أذكره ما عشت، أو ما حييت.
قال: كلاّ والله، ولكن نولِّيك من ذلك ما تولَّيت(2).
____________
1- صحيح مسلم 1: 280، باب التيمم، ح 368، المنتقى لابن الجارود 1: 41، ح 125، وفي المسند للشاشي 2: 425، ح 1028 مثله، المسند المستخرج على صحيح مسلم 1: 404، ح 812، سنن النسائي 1: 165، ح 312، 1: 170، ح 319، سنن ابن ماجة 1: 188، ح 569.
2- مسند أحمد 4: 319، سنن أبي داود 1: 88، ح 322، سنن النسائىّ(المجتبى) 1: 168، وسننه الكبرى 1: 133، ح 302، التمهيد لابن عبد البر 19: 273، تفسير الطبري 5: 113.
قال العينىّ: فيه [يعني الحديث ]أنّ عمر(رضي الله عنه) لم يكن يرى للجنب التيمّم; لقول عمّار له: فأمّا أنت فلم تصلِّ!
وقال: إنّه جعل آية التيمّم مختصّة بالحدث الأصغر، وأدّى اجتهاده إلى أنّ الجنب لا يتيمّم(1).
قال ابن حجر: هذا مذهب مشهور عن عمر(2).
وأخرج البخارىّ، عن الأعمش، عن شقيق، قال:
كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى الأشعرىّ، فقال له أبو موسى: لو أنّ رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمّم ويصلّي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: {فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّباً}؟!(3)
فقال عبد الله: لو رخّص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا الصعيد.
قلت: وإنّما كرهتم هذا لذا؟
قال: نعم.
فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمّار لعمر؟! بعثني رسول الله... الخبر(4).
النصوص السابقة أكّدت على أنّ الخليفة كان وراء هذا الحكم الشرعىّ وغيره من الأحكام، وأنت ترى مخالفته الواضحة لما نزل به القرآن وبَيَّنَهُ رسول الله، ولذلك
____________
1- عمدة القاري 4: 19.
2- فتح الباري 1: 443، ح 331.
3- المائدة: 6.
4- صحيح البخاري 1: 133، باب التيمم، ح 340، صحيح مسلم 1: 280، باب التيمم، ح 368، سنن ابي داود 1: 87، ح 321، مسند أحمد 4: 264، سنن الدارقطني 1: 179، ح 15.
فلو صحَّ هذا الفرض لما صحَّ للخليفة عمر أن يلزم عمّاراً بالسكوت ويواجهه بلهجة فيها شي من العنف والتهديد، إذ حسب هذا القول يقتضي أن يكون عمّار قد عرف الحكم الشرعىّ من النصّ ومن روح التشريع مضافاً إلى ما سمعه من النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، ولا يجوز للخليفة بعد هذا الاعتراض عليه، بل يلزمه احترام رأيه كصحابىّ يدرك روح التشريع.
ونفس الأمر يقال عن الصحابة: فلو جاز اجتهاد الجميع، لما صحّ لعمّار أن ينكر على الخليفة عمر ذلك، وكذا أبو موسى الأشعرىّ وغيرهما من الصحابة الذين لم يوافقوا الخليفة في الفتوى.
وليتني أعرف: هل خفي على الخليفة عمر ما رواه الصحابىّ الجليل عمران بن الحصين:
أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَلِّ في القوم، فقال(صلى الله عليه وآله): يافلان! ما منعك أن تصلّي في القوم؟
فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة، ولا ماء.
فقال(صلى الله عليه وآله): عليك بالصعيد، فإنّه يكفيك(1).
وقوله(صلى الله عليه وآله) في مورد آخر: عليك بالتراب(2).
____________
1- صحيح البخارىّ 1: 134، باب التيمم، ح 341، سنن الدارمي 1: 207، ح 743، سنن الدارقطني 1: 202، باب الوضوء والتيمم من آنية المشركين، ح 3، سنن النسائي 1: 171، باب التيمم بالصعيد، ح 321، تيسير الوصول 3: 115.
2- مسند أحمد 2: 278، ح 7733، 2: 352، ح 8611، السنن الكبرى للبيهقي 1: 216، باب ما روي في الحائض والنفساء..، ح 979.