أم هل خفي عليه ما رواه أبو هريرة وأبو ذرّ وغيرهم في التيمّم؟
وكذلك ما وصل إلينا من أخبار المحافظة على الصلاة وأنّها لا تترك بحال؟
كلّ هذه النصوص تحكم بخطأ ما ذهب إليه الخليفة، وأنّه لم يكن أعرف من غيره بالأحكام الشرعيّة كما ادّعى ذلك لنفسه متأخّراً، كما أنّه لم يختصّ بعقليّة متميّزة عن غيره كما ادّعته الدكتورة نادية العمرىّ وغيرها.
مع العلم بأنّ رأي الخليفة عمر بن الخطّاب لم يقتصر على الفاقد للماء حتّى يمكن القول بالاستثناء وقبول ما عَلَّل به الآخرون، بل تطور الأمر وجاوز الحد، إذ صار الخليفة يؤكّد على لزوم اتّباع آرائه وإن حصل بينها الاختلاف في الواقعة الواحدة.
فعن الحكم بن مسعود الثقفىّ أنّه قال:
شهدتُ عمر بن الخطّاب(رضي الله عنه) أشرك الإخوة من الأب والأمّ مع الإخوة من الأمّ في الثلث.
فقال له رجل: قضيت في هذا عامَ أوّل بغير هذا!
قال: كيف قضيت؟
قال: جعلته للإخوة من الأمّ ولم تجعل للإخوة من الأب والأمّ شيئاً.
قال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا(2).
وفي لفظ آخر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم(3).
فهذه النصوص تؤكّد على أنّ الخليفة يجدُّ في رسم أُصول فقهه واعتبارها
____________
1- تاريخ بغداد 8: 373، كنز العمّال 9: 598، ح 27582، عن مسند أسلع بن الأسقع.
2- السنن الكبرى 6: 255، باب المشركة، ح 12247، 10: 120، باب من أجتهد من الحكام.
3- سنن الدارقطني 4: 88، كتاب الفرائض والسير، ح 66، السنن الكبرى للبيهقي 6: 255، باب المشركة ح 12249.
قال الدكتور مدكور: وأيّاً ما كان فمن الثابت أنّه لا يوجد حكم تشريعىّ في هذا العهد [أي عهد الرسالة ]إلاّ ومصدره الوحي، ولم يقُل أحد غير ذلك سوى من أجازوا للرسول الاجتهاد(1).
ثمّ نَقَلَ عن المدخل إلى علم أُصول الفقه، للدواليبىّ: أنّ الرسول قد جعل الاجتهاد أصلاً ثالثاً للأحكام في عصره(2)، ثمّ نفى الدكتور سلاّم هذا الرأي، وذهب إلى عدم كونه مصدراً للتشريع في عهده (صلى الله عليه وآله) (3).
نعم، علّل أتباع مدرسة الخلافة وأنصارها، ما ذهب إليه الخليفة عمر بن الخطّاب من اجتهادات تخالف القرآن والسنّة المطهّرة، وذكروا وجوهاً في ذلك، منها ما قاله الدكتور سلاّم: (.... ولم ينهض عنده [أي المستشكل القادح ]حجّة لقادح خفىّ رآه فيه [أي عند عمر ]حتّى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحلّ وَهَمُ القادح فأخذا به)(4) وغيرها من وجوه التعليل التي ذكرها المؤرّخون والفقهاء.
إنّ دعوة الخليفة المسلمين إلى اتّباع قوله، كانت حاجة سياسيّة فرضها الواقع الاجتماعىّ عليه، وكذا منعه للتدوين وللتحديث; إذ لم يصدر نصّ شرعىّ عن رسول الله فيه، لأنّه لو ثبت ذلك عنه (صلى الله عليه وآله) لذكَّر الخليفة عمر بن الخطّاب المسلمين به واستعان بقوله (صلى الله عليه وآله) ـ في منعه للتحديث والتدوين ـ ولم ينسب المنع لنفسه وحده
____________
1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 356.
2- مناهج الاجتهاد في الإسلام عن علم أُصول الفقه للدواليبىّ: 11.
3- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 356.
4- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 154.
إنّ الظروف هي التي ألزمت الخليفة أن يقول بالرأي وإن خالف النصّ، انطلاقاً من الخلفيّات التي ذكرنا بعضها، وعلى ذلك يمكننا أن نعدّ مواقفه السابقة مع رسول الله من هذا الباب، إذ كان في الجاهليّة على شي من ذلك، فكان يريد تطبيق ممارسة صلاحيّاته ـ التي يرتأيها لنفسه ـ بأوسع نطاق في الإسلام ومع رسول الله، ولكنّ الفرق بين العصرين واضح بيّن.
نعم، إنّ البعض قد نفى أن يكون اجتهاد الخليفة من هذا القبيل، حيث إنّه كان من الذين قد تعبّدوا بسنّة الرسول، ثمّ مثّلوا لذلك ببعض النصوص، كقوله وهو واقف على الركن: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبلك ما قبلتك ثم دنا فقبله(1).
وقال يعلى بن أُميّة: طُفت مع عمر بن الخطّاب، فلمّا كنت عند الركن الذي يلي الباب ممّا يلي الحجر، أخذت بيده ليستلم، فقال: أما طُفتَ مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟
قلت: بلى.
قال: فهل رأيته(صلى الله عليه وآله) يستلمه؟
قلت: لا.
قال: فانفذ عندك فإنّ لك في رسول الله أُسوة حسنة(2).
لكنّ مثل هذه النصوص لا تفي بالمدّعى بعدما عرفت عن حجم الاجتهاد فكراً وتطبيقاً عند الخليفة عمر(3)، فإذا لحظت هذا وأقواله في ضرورة التمسّك
____________
1- مسند أحمد 1: 46، ح 325، مسند ابن الجعد 1: 316، ح 2152، السنن الكبرى للنسائي 2: 400، ح 3918، مسند الشاميين 2: 395، ح 1567، شعب الايمان 3: 451، ح 4040، فيض القدير 3: 409.
2- مسند أحمد 1: 37، ح 253، و1: 45، ح 313، أخبار مكة 1: 150، ح 184، الأحاديث المختارة 1: 418، ح 297.
3- هذا على فرض تسليم دلالة مفردة الحجر على التعبّد تنزّلاً، وإن كان الواقع يدلّ على أنّ مفردة تقبيل الحجر هي أيضاً من الأدلّة الدالّة على جهل عمر بالأحكام، لأن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال له: أمّا انّ الحجر ينفع، وقال له ما مفاده أنّه يشهد يوم القيامة لمن وافاه واستلمه، هذا مع ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) من أنّ الحجر الأسود من أحجار الجنة، فتقبيله ارتياح إلى الجنّة وآثارها، وما أخبر به (صلى الله عليه وآله) من أن الحجر يمين الله في الأرض، يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه، وأنّ من لم يدرك بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ استلم الحجر فقد بايع الله ورسوله. شرح العمدة 3: 436، شرح فتح القدير 2: 449، فتح الباري 3: 463، عون المعبود 5: 229، الباب 48، مصنف عبد الرزاق 5: 39، ح 8920، وانظر عمدة القاري 9: 240، وإرشاد الساري 3: 190، ونصب الراية 3: 116، وسبل الهدى والرشاد 1: 176 كذلك.
لأنّ استمرار ظاهرة التخطئة عند المسلمين تؤدّي لا محالة إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الأخرى، وهذا يعني خروج المسلمين عمّا اعتادوا عليه في عهد رسول الله من الأخذ عن شخص واحد والخدش في مكانته الروحيّة، ونظراً للمصلحة العامّة ـ كما يقولون ـ ذهبوا إلى القول بالمصلحة وحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة، وخصوصاً اجتهادات الشيخين; لأنّهم قد عرفوا ملاكات الأحكام وروح التشريع، كما طرحها المبرّرون لآراء واجتهادات الشيخين ـ زاعمين أن اجتهادات أمثال هؤلاء جديرة بالامتثال ـ ثمّ رووا أحاديث عن رسول الله في ذلك.
ثمّ إنّ المسلمين كانوا قد عرفوا أنّ الأحكام المُستجدّة يلزم أن يستنبطوها من النصوص الشرعيّة وما جاء عن رسول الله، ولا يجوز لأحد القول فيها بالرأي والاجتهاد، وحيث إنّ الخليفة لم يحفظ جميع تلك النصوص الصادرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو لا يعرف تفسيرها، فتراه يشرّع القياس ليكون المبرّر لما يذهب إليه
وبذلك صار الاجتهاد أمراً مألوفاً عند المسلمين ولا يختصّ بالخليفة لأنّه قد عمّ جميع الصحابة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ البعض منهم: كان يفتي طبق الرأي والاجتهاد، والآخر: طبق النصّ ولا يرضى بالتحديث إلاّ عن كتاب الله وسنّة رسوله، فإن توصّل هؤلاء إلى الحلّ المراد كان ذلك في إطار الاستنباط الصحيح المتين من الكتاب والسنّة بمعنى سلوك السُّبُل الكفيلة بالدلالة على ما أراده الله ورسوله، وهذا ليس من الرأي بشي.
بلى، إنّها كانت خطوة سياسيّة اتّخذها لكي لا يجرؤ أحد على مخالفة فتاواه، بل ليسلّم الجميع لما يذهب إليه.
عن أبي موسى الأشعرىّ: أنّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رُويدك ببعض فُتياك، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدك، حتّى لقيه بعد فسأله.
فقال عمر: قد علمت أنّ النبىّ قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم(1).
إنّ هذا النصّ وأمثاله ممّا يؤكّد فكرة خضوع الأحكام الشرعيّة لرأي الخليفة، إذ ترى أبا موسى الأشعري ـ وهو من كبار الصحابة ـ لا يمكنه أن يفتي بالمتعة; لأنّه لا يدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك! بل يجب عليه التروّي حتّى يأتي أمر الخليفة وقراره الأخير فيه!!
وقد أنكر عمر بن الخطّاب على البعض لإفتائه من عند نفسه بقوله: كيف تفتي الناس ولست أمير؟ وَلِّ حارَّها مَن توَلّى قارّها(2)
____________
1- صحيح مسلم 2: 896، باب في نسخ التحلل من الاحرام، ح 1222، السنن الكبرى للبيهقي 2: 348، ح 3715، مسند البزار 1: 346، ح 226، فتح الباري 3: 418، سنن ابن ماجة 2: 992، ح 2979، مسند أحمد 1: 50 ح 351.
2- الجامع لمعمر بن راشد 11: 329، مصنف عبد الرزاق 8: 301، باب هل يقضي الرجل بين الرجلين ولم يول، ح 15293، سير أعلام النبلاء 2: 495، 4: 612.
فسؤال الصحابة الخليفة عن الحكم الشرعىّ وبالعكس، يعني طلب الجميع الوقوف على ما حكم به الله ورسوله، فلو كان اجتهاد الخليفة عمر بن الخطّاب عندهم حجّة، لأخذوا به ولَما ذكّروه بما قاله الرسول(صلى الله عليه وآله) وما فعله، ولَمَا تراجع هو عمّا أفتى به في كثير من المواطن! وهذا دليل على أن سيرة الشيخين لم تكن حجّة عند المسلمين في الصدر الإسلامىّ الأوّل ـ وعلى التحديد قبل تأسيس الشورى ـ حيث وقفت على تخطئة الصحابة لعمر، وتخطئة الواحد منهم للآخر.
فلو صحّ ما نُسب إلى رسول الله من أنّه أكّد على لزوم اتّباع سنّة الشيخين بقوله: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر..)، فَلِم نرى الصحابة لا يأخذون بأمر الرسول حيث خالفوا رأي الشيخين من بعده؟
قال الدكتور ديب البغا، وهو بصدد بيان أدلّة النافين لحجّيّة مذهب الصحابىّ: (...أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كلّ واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر، فلم ينكر أبو بكر وعمر(2) رضي الله عنهما على مخالفيهما بالاجتهاد، بل أوجبوا على كلّ مجتهد في مسائل الاجتهاد أن يتّبع اجتهاد نفسه، ولو كان مذهب الصحابىّ حجّة
____________
1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 349.
2- بل أنكر عمر ـ بعد أن أعلن نفسه مرجعاً وحيداً لا في بدايات حكومته ـ على الكثير منهم وهدّدهم وعاقب كما مرّ، ويأتيك أكثر من ذلك.
إنّ عامة الناس كانوا يريدون الوقوف على سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا سنّة الشيخين، والخليفةُ ـ كما عرفت ـ لا يعرفها جميعاً، ومن هنا بدأ يواجه مشكلة جدّيّة ينبغي له أن يضع الحلّ لها، لأنّ المحدّثين من الصحابة وبنقلهم الأحاديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبُعده عن الشريعة، وإنّ هذه الظاهرة التوعوية ـ بطبيعة الحال وحسب نظر الخليفة ـ ستمسُّ كيان الخلافة والدولة الإسلاميّة الفتيّة، وتؤدّي إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الأخرى، وهو ممّا لا يخدم الوضع العامّ ولا قرار الخليفة.
فلابدّ له والحال هذه من رسم خطّة واتّخاذ نهج للخروج ممّا هو فيه، فذهب أوّلاً إلى القول بحجّيّة الرأي والقياس، بعد أن كان معارضاً لهما في ظاهر الأمر; لأنّه رأى فيهما ما يطيّب النفس ويُقنع السائل. وقد وقفت على نصوص للصحابة يتّخذون فيها التمثيل والتشبيه أُسلوباً لإقناع عمر بن الخطّاب وفقاً لرأيه وفهمه، منها: ما قاله أبو عبيدة بن الجرّاح للخليفة في قتل المسلم بالذمّيّ: أرأيت لو قتل عبداً له أكنت قاتله؟! فصمت عمر، أو تمثيل زيد بن ثابت في الإرث بالشجرة، وغيرها.
فالقياس والتمثيل هو المنفذ العقلىّ الذي اتَّخذه البعض نهجاً في معرفة الأحكام، والصحابة قد اتَّخذوه لإقناع الخليفة عمر، واتّخذه الخليفة عمر أيضاً لإِقناع الناس برأيه مركّزاً على القياس بشكل خاصّ; فجاء في كتاب عمر بن الخطّاب إلى شريح:
إن جاءك شي في كتاب الله فأقض به ولا يلتفتنك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يتكلم فيه أحد من
____________
1- أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامىّ، للدكتور مصطفى ديب البغا: 347.
وفي كتاب الخليفة عمر لأبي موسى الأشعرىّ:
فاعرف الأشباه والأمثال ثمّ قس الأمور عند ذلك فأعمِد إلى احبها عند الله وأشبهها بالحقّ (2).
هذا وقد شكّ ابن حزم في صدور هذه الرسالة من عمر إلى واليه أبي موسى الأشعرىّ، لكنّه قَبِل صدور الرسالة لشريح وإن كان له فيها بعض الكلام(3).
قالت الدكتورة نادية شريف العمرىّ: وقد استعمل عمر بن الخطّاب مصطلح القياس في رسالته إلى أبي موسى الأشعرىّ، إلاّ أنّ تلك الاصطلاحات والقواعد لم تكن شائعة بمسمّياتها تلك(4).
وهذا كلام صحيح، إذ إنَّ القياس بمفهومه الاصطلاحىّ لم يظهر إلاّ في زمان متأخّر عن الخلافة الراشدة، لكنَّ بذوره وجذوره الأوّليّة كانت قد ظهرت نتائجها بشكل واضح عند الخليفتين عموماً وعند الثاني منهما بشكل خاصّ، وذلك ما لا يستطيع إنكاره إلاّ مكابر، فسواء صحّ استعماله لكلمة القياس أم لم يصحّ، فإنَّ الثابت أنّه استفاد وعمل وطبّق القياس وغيره في فقهه.
والذي أشكلناه على منهجيّة الشيخين ومن حذا حذوهما من الصحابة في
____________
1- سنن الدارمي 1: 71، باب الفتيا وما فيه من الشدة، ح 167، مصنف ابن أبي شيبة 4: 543، باب في القاضي ما ينبغي أن يبدأ به من قضائه، ح 22990، السنن الكبرى للبيهقي 10: 115.
2- سنن الدارقطنىّ 4: 206 ـ 207، باب كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، ح 15 وح 16، السنن الكبرى للبيهقي 10: 150، شرح النهج 12: 91.
3- انظر مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجىّ، للدكتور تركي: 398 عن الإحكام 7: 443.
4- اجتهاد الرسول، للدكتورة نادية: 326.
وهناك من عيون الصحابة من لم يكتف بالمخالفة والتغليط والتصحيح في مورد أو أكثر، بل أطلقوا قاعدة عامّة نصَّ عليها الكتاب وجاءت بها سُنّة النبىّ، مفادها عدم جواز إعمال الرأي في الأحكام، لأنّ الإتيان بحكم جديد لم يُسْتَقَ من القرآن والسنّة يعني نقص الشريعة وعدم إبلاغ النبىّ(صلى الله عليه وآله) للرسالة، وهذا ما لا يقول به مسلم ويستلزم منه القول بمعرفة الصحابة حكماً عامّاً خفي على المشرّع وجهه، وهذا يعني كذلك اختصاص بعضهم بطائفة من الأحكام أخْفَوها عن الآخرين، ومعناه: أن النبىّ(صلى الله عليه وآله) لم يبلِّغها للآخرين ـ والعياذ بالله ـ أو أنّ بعض الصحابة قد وقف على وجه تشريع الحكم وغايته من قبل الله تعالى، في حين أن رسول الله لم يبيّنها لهم وهو المبيّن لأحكام الله.
إنّ القول بمعرفة الصحابة لغايات الأحكام ومصالحها ومفاسدها المبتناة عليها، كانت من النقاط التي رُسمت لتصحيح الرأي والاجتهاد.
لأنّا نعلم أنّ العقول الناقصة من الرجال لا تستطيع الإحاطة بجميع مصالح ومفاسد الأحكام، ومن هنا لم يجعل سبحانه وتعالى لأحد حقّ الجعل والتشريع، واختصّ ذلك بذاته المقدّسة، لأنّه العالم المحيط بالمصالح والمفاسد.
إذاً لم يبق إلاّ أن يقال: إنّ الشريعة المحمّديّة متكاملة الأحكام، دقيقة الإحكام، ليس فيها حكم إلاّ وقد استبان بنحو من أنحاء الدلالة التي أرشد إليها النبىّ مَنْ اختصّه بالعلم، فكان على الراسخين في العلم أن يُبَيّنوه للناس ويستنبطوه من الكتاب والسنّة وفق ما أراده الله، لا بما اعتقدوا فيه من المصالح وأرادته العقول غير الكاملة.
جاء عن علىّ بن أبي طالب(عليه السلام): ما من شي إلاّ وعلمه في القرآن، ولكنّ رأي الرجال يعجز عنه(1).
وعن عبد الله بن مسعود: ما من شي إلاّ [بُيِّنَ] لنا في القرآن حكمه ولكنّ فهمنا يقصر عن إدراكه، فلذلك قال تعالى {لِتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم}(2).
إنّ كلامَي علىّ بن أبي طالب وابن مسعود صريحا الدلالة على أن الأحكام موجودة في كتاب الله وأنّ رسوله(صلى الله عليه وآله) مكلّف بتبيين ذلك للناس، وقد أمر سبحانه المؤمنين بالرجوع إليه(صلى الله عليه وآله) ، بقوله { فإنْ تنازعتم في شي فُردّوه إلى الله والرسول }(3).
نعم، إنّ الآية تؤكّد بصراحة ووضوح أن حكم كلّ ما تنازع فيه المؤمنون موجود في كتاب ربّ العالمين وسنّة سيّد المرسلين، فلو لم يكن كذلك لما أمر سبحانه الناس بالردّ إليهما، إذ من الممتنع عقلاً أن يأمر الله بالردّ عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع!
بَيْدَ أنّنا لا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه إسماعيل أدهم، واحمد توفيق شوقي، وغيرهما من الداعين إلى الاقتصار على القرآن ومنكري السنّة الآمرين بلزوم
____________
1- انظر حجّيّة السنّة: 329 عن الحجّة للمقدسىّ وهو في ينابيع المودة للقندوزي 3: 218 وفيه: عقول الرجال تعجز عنه، وفي الكافي 1: 60 ح6 عن الصادق (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال.
2- حجّيّة السنّة: 329 عن ابن أبي حاتم، والآية: 44 من سورة النحل، وانظر تفسير الطبري 14: 162، تفسير ابن كثير 2: 583.
3- النساء: 59.
بل نريد التنويه إلى أنّ الصحابىّ الواعي الذي عايش النبىّ(صلى الله عليه وآله) يمكنه أن يقف على حكم الله في كتابه ويهتدي إلى الصواب فيه، وإذا أعياه رجع إلى السنّة، إذا كان ملمَّا بها وبحزئيّاتها، وليس هناك حكم لا يمكن استنباطه من الكتاب والسنّة حتّى يصل الأمر إلى القياس والقول بحجّيّة الرأي.
إنّ عدم وقوف الصحابىّ على الدليل ليس دليلاً على العدم، إذ يمكن وجود الحكم المتنازع فيه عند الآخرين، وقد وقفت على نماذج من ذلك ورجوع الخليفة وغيره إليهم لينقلوا له سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فكيف يقول الخليفة عمر: (ولم يسنّ رسول الله فاقض بما أجمع عليه الناس)؟!
وهل كلّ ما لا نعرفه من حكم الله ورسوله هو ممّا لم يسنّ، حتّى يصحّ القول: فإن شئت أن تجتهد برأيك فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر؟!
ألم يكن ذلك هو الرأي المنهىّ عنه في الروايات؟
أما خالف الخليفة بقوله هذا ما قاله في نصّ آخر:
أيّها الناس! اتّهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني أرُدُّ أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) برأيي اجتهاداً فوالله ما آلُو عن الحقّ، وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل مكّة فقال: (اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم) فقالوا: ترانا قد صدّقناك بما تقول؟ ولكنَّك تكتب (باسمك اللّهمّ)، فرضي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأبيت، حتّى قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): (تراني أرضى وتأبى أنت) قال: فرضيت(1).
ألا ترى أن يكون القائل بالرأي هو ممّن تنقصه المعرفة بالسنّة، لقول عمر: (إياكم واصحاب الرأي فإنهم اعداء السنن أعيتهم الأحاديث ان يحفظوها فقالوا
____________
1- المعجم الكبير للطبرانىّ 1: 72، ح 82، المدخل إلى السنن الكبرى 1: 192، ح 217، وانظر فتح الباري 13: 289.
ما يعني هذا التهافت بين أقوال عمر بن الخطاب؟ فتارة نراه يحمي الرأي ويشرّعه أمام نصّ رسول الله وكلامه ويقف أمام إتيان الصحابة بالدواة إليه(صلى الله عليه وآله) ويقول: إنّه ليهجر، وأُخرى نسمعه يقول بما مرّ أعلاه؟!
أتكون هذه النصوص معبّرة عن مرحلتين مرّ بهما الخليفة، فتارة يتّخذ الرأي وثانية يخالفه؟
وماذا سيفعل القائس ـ على رأي عمر ـ إذا اشتبهت عليه الوجوه ولا يدري أيّها أحبّ إلى الله.
ولو صحّ القياس في شريعة السماء فلِمَ لا يوجب الشرع جلد القاذف بالكفر دون القاذف بالزنا؟!
ولماذا نراهم يفرّقون بين حكم خروج المني ودم الحيض في إعادة الصلاة، وكلاهما ممّا يُوجَبُ الغسل فيه، وكذا تفريقهم بين المذي والبول والمني في الغسل ومخرجها واحد؟!
وحرّموا النظر إلى شعر المرأة وأباحوا النظر إلى وجهها، وسوّوا بين قاتل الصيد عمداً وخطأً، وفرّقوا بينهما في قاتل النفس(2).
ألا يكون القياس مبتنياً على الظنّ، والشارع قد نهى عن اتّباعه بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ}؟!(3) وقوله عزّ وجلّ: {إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً}(4).
____________
1- سنن الدارقطني 4: 146، كتاب النوادر، ح 12، اعتقاد أهل السنة 1: 123، ح 201، فتح الباري 13: 289، المدخل إلى السنن الكبرى 1: 190، ح 213.
2- مناظرات في الشريعة الإسلاميّة بين ابن حزم والباجىّ: 416 عن الأحكام لابن حزم.
3- الإسراء: 36.
4- النجم: 28.
قال الوافي المهدي: (وقد استعمل الصحابة (رضي الله عنهم) القياس، فقد قاسوا خلافة أبي بكر لرسول الله بعد موته على إنابته في الصلاة حين مرض الرسول مرضه الأخير، قائلين: (رضيه رسول الله لأمر ديننا، أفلا يرضاه لأمر دُنيانا)؟! وقد قاس أبو بكر الزكاة على الصلاة وقال: لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، وقاس أبو بكر كذلك العهد على العقد حينما عهد إلى عمر بالخلافة من بعده...)(1).
إن التفصيل في مثل هذه الأمور يستدعي مزيداً من الوقوف عندها، لكنّا نكتفي بهذا القدر ليكون القارىَ على صورة من الاتّجاهات الفكريّة السائدة في الصدر الإسلامىّ الأوّل، وليتعرّف على جذور بعض الأصول عند النهجين.
نظرة في الموضوع
إنّ الإمام الصادق بيّن سبب لجوء الشيخين ـ ومن حذا حذوهما ـ إلى الرأي والقياس، ووردت عنه عدّة روايات في هذا السياق، منها:
ما حكاه القاضي النعمان محمّد بن منصور التميمىّ المغربىّ ـ قاضي مصر:
إنّ سائلاً سأل الإمام الصادق فقال: يا ابن رسول الله، من أين اختلفت هذه الأمّة فيما اختلفت فيه من القضايا والأحكام [من الإحلال والإحرام] ودينهم واحد، ونبيّهم واحد؟
فقال(عليه السلام): هل علمت أنّهم اختلفوا في ذلك أيّام حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟
فقال: لا، وكيف يختلفون وهم يردّون إليه ما جهلوه واختلفوا فيه؟!
فقال: وكذلك، لو أقاموا فيه بعده مَن أمَرهم بالأخذ عنه لم يختلفوا، ولكنَّهم أقاموا
____________
1- الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: 63.
وجاء في تفسير العيّاشىّ، والخبر طويل نقتطف منه هذا المقطع: فظنّ هؤلاء الذي يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الامة إليه وصح لهم عن رسول الله وعلموه ولفظوه.
وليس كلّ علم رسول الله عَلِموُه، ولا صار إليهم عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولا عرفوه.
وذلك أنّ الشي من الحلال والحرام والأحكام، يَرِدُ عليهم فيسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ويستحيُون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا، فيطلبوا العلم من معدنه. فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله، وتركوا الآثار ودانوا الله بالبدع، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (كلّ بدعة ضلالة)، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي من دين الله فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد...(2).
وأخرج القاضي نعمان بسنده عن محمّد بن قيس، عن أبيه قال: كنّا عند الأعمش فتذاكرنا الاختلاف، فقال: أنا أعلم من أين وقع الاختلاف.
قلت: من أين وقع؟
قال: ليس هذا موضع ذكر ذلك.
قال: فأتيته بعد ذلك فخلوت به، فقلت: ذكرنا الاختلاف الواقع، وذكرت أنّك
____________
1- شرح الأخبار، للقاضي النعمان المغربىّ 1: 90.
2- تفسير العيّاشىّ 2: 331 ـ 332 وعنه في وسائل الشيعة 27: 61، ح 33199، والبرهان 2: 476، ح 6، وبحار الأنوار 13: 304، الباب العاشر، ح 31، وفي كتاب (اختلاف أُصول المذهب) للقاضي النعمان المغربىّ ـ طبعة دار الأندلس / بيروت 1973 مـ: (... وقد سئل أبو عبد الله جعفر بن محمّد عن علّة اختلاف الناس بعد رسول الله وكيف يختلفون بعد رسول الله...).
قال: نعم، وَلىَ أمر هذه الأمة مَنْ لم يكن عنده علم، فَسُئل فسأل الناس فاختلفوا(1).
الصحابة وأخذهم عن الرسول(صلى الله عليه وآله)
وقد أشار ابن حزم وغيره من الأعلام إلى أنّ الحياة وضنك العيش كانا لا يسمحان للصحابة بالاستزادة من علم الرسول، فقال:
(وقد علم كلّ أحد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالَي رسول الله بالمدينة مُجتمعين، وكانوا ذَوي معايشَ يطلبونها، وفي ضنك من القُوت شديد ـ قد جاء ذلك منصوصاً ـ وأنّ النبىّ وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم فكانوا من متحرّف في الأسواق، ومن هو قائم على نخله، ويحضر رسول الله في كلّ وقت منهم الطائفة، إذا وجدوا أدنى فراغ ممّا هم بسبيله. هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد ذكر ذلك أبو هريرة، فقال: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنتُ امرءاً مسكيناً أصحب رسول الله على مل بطني(2)، وقد أقرّ بذلك عمر فقال: فأتَني مثل هذا من حديث رسول الله، ألهاني الصَّفق في الأسواق...).
وجاء عنه أنّه كان يتناوب النُّزول إلى رسول الله للاستزادة منه مع أخ له
____________
1- شرح الأخبار للقاضي للنعمان المغربي 1: 196 وفي كتاب سليم بن قيس 2: 105 ما يقارب هذا.
2- صحيح البخاري 1: 55، باب حفظ العلم، ح 118، 2: 827، باب ما جاء في الغرس، ح 2223، واللفظ عنه، صحيح مسلم 4: 1939، باب فضائل ابو هريرة، ح 2492، مسند أحمد 2: 240، ح 7273.
وبهذا عرفت أنّ النصوص وضّحت أمراً آخر غير ما هو في مخيلتنا، وهو أنّ الشيخين كانا يهتّمان بأمر التجارة أكثر من الاستزادة من علم الرسول، وذلك ما نقله أبو هريرة في الحديث السابق، وفي قبال ذلك نرى وجود صحابة قد دعا لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالعلم والفهم كقوله لابن مسعود: إنَّك غلام مُعَلَّم(2)، ودعائه لابن عبّاس بقوله: اللّهمّ فقّهه في الدين(3)، وهكذا رهط آخرون من الصحابة، على أنّ هؤلاء الممدوحين المخصوصين بمقدار من العلوم لم يكن عند أحد منهم سوى علي بن أبي طالب العلم بكل القرآن والسنة الشريفة، فَقَد نصَّ في أكثر من مرّة على أنّه عرف جميع علم الرسول واختصّ به، وأنّه كان يخلو برسول الله في اليوم مرّتين صباحاً ومساء وكان يُناجيه(4)، حتّى جاء عنه: سَلُوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم بِلَيل نَزَلت أم بنهار، في سهل أم في جبل (5).
ولتأكيد الموضوع خُذْ نصوصاً أُخرى:
أخرج البخارىّ، عن عُبَيد بن عُمَير: أنّ أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً، فكأنّه وجده مشغولاً، فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس ـ يعني به
____________
1- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2: 245.
2- صحيح ابن حبان 14: 433، ح 6504، 15: 536، ح 7061، مصنف ابن أبي شيبة 6: 327، ح 31801.
3- صحيح البخاري 1: 66، باب وضع الماء ثم الخلاء، ح 143، صحيح مسلم 4: 1927، باب فضائل عبد الله بن عباسن ح 2477، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 615، ح 6280.
4- تاريخ مدينة دمشق 42: 386، شواهد التنزيل 1: 48.
5- تفسير الصنعاني 3: 241، الطبقات الكبرى 2: 338، تاريخ دمشق 42: 398، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى 1: 83، الصواعق المحرقة 2: 375، فتح الملك العلي: 75، وغيرها من المصادر الاخرى.