الصفحة 184
أبا موسى ـ؟ ائذنوا له، فدعي له فقال: ما حَمَلك على ما صنعت؟

قال: إنّا كنّا نؤمر بهذا.

قال: لَتُقِيمَنّ على هذا بيِّنةً أو لأفعلنّ ـ وفي لفظ آخر: لأوجِعَنّ ظهرَك وبطنك ـ فخرج، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلاّ أصغرنا.

فقام أبو سعيد: فقال: كنّا نُؤمر بهذا.

فقال عمر: خفي علىّ هذا من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ألهاني عنه الصَّفق بالأسواق(1).

وعلَّق النووىّ على كلام أبي سعيد بقوله: فمعناه أنّ هذا الحديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتّى أنّ أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله.(صلى الله عليه وآله) (2)

وقد أنزل سُبحانه آيات في ذلك منها قوله تعالى: {فَلا تَدْخُلُوها حتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}(3) و{إلاّ أن يُؤْذَنَ لكُم}(4).

والاستئذان قبل أنْ يكون أمراً إلهيّاً فهو خُلُق إنسانىّ.

وليتني أعرف سبب تهديد أبي موسى بالضرب، وهل التثبُّت في الحديث يستوجب ذلك؟

فلو لم يشهد أبو سعيد الخدرىّ بنهي النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، وأنّه لم يدخل عليه إلاّ بعد الاستئذان، فماذا كان يفعل بأبي موسى؟!

ألا يشكّك هذا الموقف من الخليفة، فيما قيل عن عدالة الصحابة؟

____________

1- صحيح البخاري 6:2676، باب الحجة على من قال...، ح 6920، صحيح مسلم 3: 1694، باب الاستئذان، ح 2153، والنص عنه، مسند أحمد 4: 400، 403، سنن ابن ماجة 2: 1221، باب الاستئذان، ح 3706، مصنف ابن أبي شيبة 5: 268، ح 25968.

2- شرح النووي على صحيح مسلم 14: 131، عون المعبود 14: 57، عنه.

3- النور: 28.

4- الأحزاب: 53.


الصفحة 185
فلو كان أبو موسى صحابيّاً عدلاً، فما معنى التثبُّت؟

ولماذا لا يتأَنَّى الخليفة في إصدار أحكامه على الصحابة ولا يتثبَّت فيما يقول؟

ولو تَنَزَّلنْا وقبلنا أنّ الخليفة كان يريد التثبُّت في هذا الخبر، فأىّ معنىً للخبر الآتي؟!

نقل الدواليبىّ في المدخل إلى علم أُصول الفقه، عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم في كتاب (الأموال) فقال: (أتى أعرابىّ عمرَ، فقال: يا أمير المؤمنين! بلادنا قاتَلْنا عليها في الجاهليّة وأسلمنا عليها في الإسلام، علامَ تحميها؟

قال: فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كربه أمر فَتَل شاربه ونفخ(1)، فلمّا رأى الأعرابىّ ما به جعل يردّد ذلك عليه.

فقال ـ عمر متمسكّاً في ذلك بفكرة المصلحة وحدها، من غير بحث عن سند من نصّ قرآنىّ أو سُنّة نبويّة ـ: (المال مال الله والعباد عباد الله، واللهِ لولا ما أحمل عليه في سبيل الله...)(2).

وأخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس والبيهقىّ في السُّنن والقُرطبىّ في تفسيره عن بجالة: أنّ عمر بن الخطّاب مرّ بغلام وهو يقرأ في المصحف: (النبىُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمّهاتهم، وهو أب لهم).

فقال: يا غلام حُكَّها!

____________

1- انظر خبر أبو عبيد في الطبقات الكبرى 3: 326، المغني 5: 338، وقد نقله بنفس اللفظ، وفتح الباري 6: 177، تاريخ المدينة المنورة 3: 839، مواهب الجليل 6: 10، وجاء في العلل ومعرفة الرجال لاحمد 2: 73 بسنده (عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير: إن عمر بن الخطاب كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ)، وعنه في المعجم الكبير 1: 66، وانظر الاحاد والمثاني 1: 100، فتح الباري 10: 348 ـ 349.

2- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة للوافي المهدي: 74 عن المدخل إلى علم أُصول الفقه: 100 وهو في المهذب 1: 427، فصل لا يجوز لأحد أن يحمى مواتاً ليمنع الأحياء، المغني 5: 338، فصل في الحِمى.


الصفحة 186
فقال: هذا مصحف اُبىّ.

فَذَهَبَ إليه فسأله.

فقال له اُبىّ: إنّه كان يُلهيني القرآن، ويُلهيك الصَّـفْق بالأسواق، وأغلظ لعـمر(1).

وفي الدر المنثور: قرأ اُبىّ بن كعب (ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنّه كان فاحشةً ومَقْتاً وساءَ سبيلا، إلاّ من تاب فإنّ الله كان غفوراً رحيما)، فذُكِر لعمر فأتاه، فسأله فقال: أخذتُها من فِي رسول الله، وليس لك عمل إلاّ الصَّفْق بالبقيع(2).

وفي نصّ ثالث: أنّ عمر سمع رجلاً يقرأ بالواو، فقال: مَنْ أقرأك؟

قال: اُبىّ.

فدعاه، فقال اُبىّ: أقْرَأنِيه رسولُ الله، وإنّك لتَبيعُ القرظ بالبقيع.

فقال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا(3).

وعن إبي إدريس الخولانىّ، عن اُبي بن كعب (رضي الله عنه) إنه كان يقرأ: (إذ جَعَل الذين كفروا في قُلوبِهمُ الحَميّةَ حميّة الجاهليّة، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام، فأنزلَ اللهُ سكِينَتَهُ على رسولهِ) فبلغ ذلك عمر، فاشتدّ عليه، فبعث إليه، وهو يهنأ ناقة له، فدخل عليه، فدعا ناساً من أصحابه، فيهم: زيد بن ثابت، فقال: من يقرأ منكم سورة الفتح؟

فقرأ زيد على قراءتنا اليوم، فغلّظ له عمر.

فقال اُبىّ: أأتكلم؟

____________

1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 2: 450، ح 2556، مختصراً وفيه: وهو أب لهم وأزواجه اُمهاتهم. انتهى، وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، السنن الكبرى للبيهقي 7: 69، ح 13197، تفسير القرطبي 14: 126، واللفظ له.

2- الدر المنثور 5: 280، قال: أخرجه أبو يعلى وابن مردويه عن أبي بن كعب، وكنز العمال 2: 568، ح 4744، عن ابن مردويه، فتح القدير للشوكاني 3: 225.

3- انظر تفسير القرطبي 18: 102، الدر المنثور 4: 269.


الصفحة 187
قال: تكلّم.

قال: لقد علمتَ أنّي كنت أدخل على النبىّ(صلى الله عليه وآله) ويُقرئني وأنتم بالباب، فإن أحببت أن أقرئ الناس على ما أقرأني قرأتُ، وإلاّ لم أقرأ حرفاً ما حييت!

قال: بل أقْرِئِ الناس(1).

وفي لفظ آخر: قال أُبىّ: واللهِ يا عمر إنّك لتعلم أنّي كنت أحضر وتَغيبون، وأُدعى وتُحْجَبون ويُصنع بي، واللهِ لئن أحببتَ لألزمنّ بيتي، فلا أُحدّث أحداً بشي(2).

قد يتصوّر القارىُ ـ عند وقوفه على الأخبار السابقة ـ أنّ أُبىّ بن كعب هو ممَّن يقول بتحريف القرآن، لأنّ قراءته تخالف قراءتنا اليوم، وأنّ عمر بن الخطّاب جاء لِيُصَحِّح له قراءته، لكنّ حقيقة الأمر ليست كذلك، حيث جاء في صحيح البخارىّ، كتاب (فضائل الصحابة)، باب مناقب أُبىّ بن كعب، أنَّ النبىّ قرأ عليه القرآن، فعن أنس بن مالك قال: قال النبىّ لأبىّ: إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا...} قال: وسمّاني؟ قال: نعم، فبكى(3).

وإنّ توضيحنا لأمثال هذه النماذج قد يخرجنا عمّا نريد من الاستشهاد به وهو: أنّ علم الخليفة لم يكن كما حاول البعض تصويره، إذ كان يقضي أغلب أوقاته في السوق والبقيع، ولم يختصّ بالنبىّ، بل كان يتناوب النُّزول إليه (صلى الله عليه وآله) يوماً فيوماً، وثبت عنه القول: (وكان يلهيني الصَّفق بالأسواق) أو قول أُبىّ له (وكان يُلهيك

____________

1- المستدرك على الصحيحين 2: 245، ح 2891، قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الدر المنثور 7: 535، كنز العمال 2: 568، ح 4745، عن (ن وابن أبي داود في المصاحف) وروى ابن خزيمة بعضه.

2- كنز العمال 2: 595، ح 4816، عن (ابن أبي داود).

3- صحيح البخاري 3: 1385، باب مناقب اُبي بن كعب، ح 3598، و4: 1896، باب تفسير سورة إنا أنزلناه في ليلة القدر، ح 4676، صحيح مسلم 1: 550، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل، ح 799، سنن الترمذي 5: 665، ح 3792، مسند أحمد 3: 130، 5: 122.


الصفحة 188
الصَّفق في الأسواق)، وفي ثالث (إنّك تَبِيع القَرَظَ بالبقيع).

إنّ التصريح بهذا الرأي لا يعني الإزراء بالخليفة، بل هو تبيان للحالة التي كان يعيشها الخليفة والمسلمون في الصدر الأوَّل بعيداً عمّا رُسِمَ لهم متأخِّراً من هالة، والكلام عن أُبىّ وقراءته، له مجال آخَر.

إنَّ ما قِيل عن الخليفة من حنكة في فتوحاته ولياقاته العسكريّة شي، وبيان دوره في منع تدوين حديث رسول الله وأمره بحرق المدوّنات شي آخر(1).

ونحن في الوقت الذي لا نتناسى الفتوحات الإسلاميّة، لا نرتضي ما أصدره من أوامر في الإقلال من الحديث أو منع تدوينه!

نعم، قد خلط الكثير من الأعلام بين هاتين الناحيتين، فإنّك إذا اعترضت على دوره في الإفتاء أجابوك بفتوحاته، إنّ هذا ليدلُّ على تفكير غائم تنقصه الدقّة والتمييز.

إنّ اللياقة الشخصيّة في الإدارة العسكريّة، لا تعني بالضرورة القُدرة على امتلاك ناصية الإفتاء.

والدفاع عن حياض الدولة وتوسيع رقعة الخلافة، هي ممّا يطلبه الخليفة وممّا يعود عليه بالنَّفع كما يعود على المسلمين ولا علاقة لهذا بالتكوين الثقافىّ للشخصيّة، فقد أطبق التاريخ على سموّ ورفعة موقف المعتصم حين استغاثت باسمه امرأة من المسلمين، لكنّ ذلك لم يمنع التاريخ من أن يشهد بأنّ المعتصم كان قليل الثقافة لا يملك رصيداً من العلم والفقه.

إلى هنا برزت أسماء آخرين من الذين خالفوا فقه عمر وآرائه في الصدر الأوّل الإسلامىّ، هم:

13 ـ عمّار بن ياسر.

____________

1- انظر تاريخ التمدّن الإسلامىّ لجرجي زيدان ـ (حرق مكتبة الإسكندريّة).


الصفحة 189

14 ـ أبو سعيد الخدرىّ والأنصار.

15 ـ عبدالله بن قيس = أبو موسى الاشعري.

مناقشة بعض اجتهادات الخليفة


الاولى: حق المؤلفة قلوبهم

قال الأستاذ خالد محمّد خالد:

لقد ترك عمر بن الخطّاب النصوص الدينيّة المقدّسة من القرآن والسنّة عندما دَعَتْه المصلحة لذلك، فبينما يقسِّم القرآن للمؤلّفة قلوبهم حظّاً في الزكاة ويؤدّيه الرسول ويلتزمه أبو بكر، يأتي عمر فيقول (إنّا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

وبينا يُجيز الرسول وأبو بكر بيع أمّهات الأولاد، يأتي عمر فيحرّم بيعهن، وبينا الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنّة والإجماع، جاء عمر فترك السنّة وحطّم الإجماع(1).

قال ابن قُدامة: ولنا كتاب الله وسنّة رسوله; فإنّ الله تعالى سمّى المؤلّفة في الأصناف الذين سمّى الصدقة لهم، والنبىّ (صلى الله عليه وآله) قال: (إنّ الله تعالى حكم فيها، فجزّأها ثمانية أجزاء). وكان النبىّ (صلى الله عليه وآله) يعطي المؤلّفة كثيراً في أخبار مشهورة، ولم يَزَل كذلك حتّى مات.

ولا يجوز ترك كتاب الله وسنّة رسوله إلاّ بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثمّ إنّ النسخ إنّما يكون في حياة النبىّ(صلى الله عليه وآله) ; لأنّ النسخ إنّما يكون بنصّ، ولا يكون النصّ بعد موت النبىّ(صلى الله عليه وآله) وانقراض زمن الوحي، ثمّ إنّ القرآن لا يُنسخ إلاّ بقرآن، وليس

____________

1- الديمقراطيّة أبداً: 155 ـ طبعة المطبعة العموميّة بدمشق.


الصفحة 190
في القرآن نسخ كذلك ولا في السنّة، فكيف يترك الكتاب والسنّة بمجرّد الآراء والتحكّم؟ أو بقول صحابي أو غيره على أنه قول الصحابي في حجة يترك بها قياس فكيف يتركون به الكتاب والسنّة؟(1)

وقال صاحب المنار: إنّنا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردّهم عن دينهم يخصّصون من أموال دولهم سهماً للمؤلّفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلّفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومُشاقّة الدول الإسلاميّة والوحدة الإسلاميّة، أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟!

إن منطق عمر بن الخطّاب ليوحي بأنّ سهم المؤلّفة قلوبهم يُعطى لهم كرشوة على الإسلام، أو هو بعبارة أُخرى معنى آخر لمنطق المبشِّرين الذين ينطلقون من سياسة إعطاء الغذاء والدواء للناس كي يعتنقوا النصرانيّة، غافلاً عن أنَّ النبىّ لا يريد بعمله هذا دعوتهم إلى الإسلام بالمال، بل يريد أن يهيّئَ قلوبهم ليستقبلوا منه الدعوة، وأن يؤمنوا إيمان قلب وعقيدة، فهو(صلى الله عليه وآله) يتألّفهم مرّة بوضعهم على رأس سَرِيّة من السرايا. وأُخرى يتألّفهم بمشاورتهم في بعض الأمور، وثالثة يتألّفهم بالمال، وهكذا.

ولم تختصّ هذه المسألة بضعف الإسلام وعزّته، بل إنّه (صلى الله عليه وآله) كان يريد أن يُهيّئهم كي يقبلوا الإسلام قبولَ إيمان وعقيدة لا لقلقة لسان.

وهنا أتساءل: لو صحّ تعليل الخليفة في سهم المؤلّفة قلوبُهم، وأنّ الإسلام قد قوي فلا حاجة إليهم إذَنْ، فما معنى ما نقله الدكتور محمّد عجاج الخطيب عن مسند أحمد في النصّ الآتي:

كان رسول الله قد أمر الصحابة ومن معه يوم الفتح بأن يكشفوا عن مناكبهم ويُهرولوا في الطواف، ليرى المشركون قوّتهم وجَلَدهم، وقوّة دولة الإسلام، ورأى

____________

1- المغني، لابن قدامة 2: 280.


الصفحة 191
عمر أنّ هذا الأمر قد ذهبت عِلّته، ولكنّه قال: فيم الرَّمَلان الآن والكشف عن المناكب، وقد آطَّأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله؟!

ومع ذلك لا ندع شيئاً كنّا نفعله على عهد رسول الله(1).

فالخليفة إمّا من المتعبّدين ـ كما يوحي هذا النصّ ـ وإمّا من المجتهدين الذين قد تعرّفوا المصالح كما ثبت ذلك عنه، فلو كان من المتعبّدين فلِمَ لايأخذ بفعل الرسول في سهم المؤلّفة قلوبهم؟! وإن كان من المجتهدين، فما الذي يرجّح في اجتهاده هذا على ذاك؟!

المسألة الثانية: الطلاق ثلاثاً

هذا، وقد أفردت الدكتورة نادية العمرىّ للطلاق ثلاثاً بحثاً في (أمثلة من اختلافهم في الاجتهاد بالرأي) من كتابها (اجتهاد الرسول)، فقالت:

(الأصل في الطلاق أن يكون متفرّقاً، مرّة بعد مرّة، قال الله تعالى: {الطلاقُ مرّتان فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان}(2) والحكمة في تفريق الطلقات أن يكون للزوج فرصة يراجع فيها نفسه في أمر هذه العلاقة التي يحرص الشارع على استمرارها، وبعد المرّتين يقول الله تعالى {فإنْ طلّقها، فلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيْرَهُ}(3).

هذا هو الطلاق كما شرّعه الله في القرآن، مفرَّقاً واحدة بعد واحدة، لكن ما الحكم إذا ضيّع الزوج على نفسه هذه الفرصة المتكرّرة، وتعجّل الفراق النهائىّ، فجمع الثلاث في لفظ واحد.

____________

1- السنّة قبل التدوين: 86 عن مسند أحمد 1: 45، ح 317 بإسناد صحيح، وعنه في سنن أبي داود 2: 178، ح 1887.

2- البقرة: 229.

3- البقرة: 230.


الصفحة 192
إنّنا لا نجد في القرآن الكريم كلاماً عن جمع الثلاث في لفظ واحد أو مجلس واحد، لكنّا نجد في السنّة أنّ ركانة بن عبد يزيد طلّق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله الرسول: كيف طلّقتها؟

قال: ثلاثاً.

قال (صلى الله عليه وآله): في مجلس واحد؟

قال: نعم.

قال الرسول: فإنّما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت، فرجَعَها(1).

ولكنّ الناس في عهد عمر بن الخطّاب استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم...)(2).

إلى أن تقول.

(ولكن هل أفتى العلماء بمقتضى ما فعله عمر(رضي الله عنه) على مرّ العصور؟ وافق كثير من العلماء عمر(رضي الله عنه) وخالفه آخرون(3).

وأعتقد أنّ مصالح الناس هي الحكم في ذلك، فإذا رأى أُولو الأمر ـ كما رأى عمر ـ أنّ إمضاءها ثلاثاً يحقّق المصلحة أمضَوها، وإن رأوا المصلحة العامّة في إيقاعها واحدة فهي واحدة كما كانت حتّى سنتين من خلافة عمر.

ولذا ذهب ابن القيّم: إلى أنّ إيقاعها واحدة في العصور المتأخّرة أكثر مراعاة للمصلحة، وقطعٌ لذريعةِ فساد اجتماعىّ وهو انتشار التحلّل حين كان يفُتى بوقوعها ثلاثاً، فيلجأ الزوجان إلى ما كان عليه في زمن النبىّ(صلى الله عليه وآله) وخليفته من الإفتاء بما

____________

1- مسند أحمد 1: 265، ح 2387، السنن الكبرى للبيهقي 7: 339، ح 14764، بداية المجتهد 2: 50، أعلام الموقّعين 3: 32، نيل الأوطار 7: 17.

2- اجتهاد الرسول: 240.

3- انظر تفسير القرطبىّ 3: 129.


الصفحة 193
يعطّل سوق التحليل أو يقلّلها أو يخفّف شرّها(1).

ويقارن ابن القيّم بين العصور المختلفة واختلاف المصلحة باختلاف ظروف الناس، فيقول: إنّ الثلاث مجموعةً على عهد رسول الله وأبي بكر كانت تقع واحدة، وكان التحليل محرّماً وممنوعاً منه، ثمّ صارت في بقيّة خلافة عمر ثلاثاً، والتحليل ممنوع منه، ثمّ صار التحليل كثيراً منتشراً ومشهوراً، والثلاث ثلاث. فالعقوبةُ إذا ترَكَت مفسدةً أكثر من الفعل المعاقب عليه وجب تركها)(2).

وقد أثّر اجتهاد الخليفة عمر بن الخطّاب في فقه المسلمين لا محالة.

فذهبت المالكيّة والحنابلة إلى أنّ فاعل هذا [أي الطلاق ثلاثاً] آثم يفوّت الغرض الذي من أجله شرّع التعدّد، ويرى الشافعىّ وابن حزم أنّ ذلك خلاف الأولى وليس محظوراً لعموم النصّ، ويرى الحنفيّة أنّه طلاق بدْعىّ إذا كان بلفظ واحد أو بألفاظ متفرّقة في طُهر واحد(3).

وقال الدكتور مصطفى البغا، بعد نقله رأي عمر في الطلاق: فهذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان، وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك(4).

والآن أتساءل: كيف يعرف عمر المصلحة ويقف على روح التشريع في المؤلّفة قلوبهم، وقد وقفتَ على أجوبة ابني قدامة وصاحب المنار له؟!

وهل يصحّ أن يعرف الخليفة المصلحة ولا يعرفها النبىّ وأبو بكر؟!

أم هل يعقل جهلهما بالمصالح، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ النبىّ متّصل بالوحي؟!

____________

1- أعلام الموقّعين 3: 48.

2- اجتهاد الرسول: 242.

3- مناهج الاجتهاد الإسلام للدكتور مدكور: 177.

4- أثر الأدلّة المختلف فيها في الفقه الإسلامىّ: 277 وقال بها أغلب علماء أهل السنّة قديماً وحديثاً.


الصفحة 194
وإذا سمح للبشر ـ غير المعصوم ـ الإفتاء بتغيّر الزمان والمكان فإلى أين ستصل فتاواه؟!

نعم إننا لا ننفي تغيّر بعض الأحكام الجزئيّة إذا زاحم أمراً آخر أهمَّ منه.

وكذا لا ننكر ـ بنحو الإطلاق ـ تبدّل الأحكام لتبدّل موضوعاتها، لكنّ سؤالنا: كيف يمكن الاطمئنان بقول من يدّعي أنّ هذا الحكم قد تغيّر لتبدلّ موضوعه، مع علمنا بأنَّ مبادىَ الأحكام وغاياتها من عند الله ولا يعرفها إلاّ المعصوم؟

بلى؟ لو عرَّفَنا المعصوم تبدّل موضوع حكم، فلا محيص عن الأخذ به باعتباره صادراً عن الله وما المعصوم إلاّ مبلّغ مأمون، وأمّا احتمالنا ذلك عن طريق الحدس والتخمين والظن الذي لا يغني من الحق شيئاً فلا يوجب الاطمئنان، وكذا الحال بالنسبة إلى اعتبار العلّة في الأحكام، فإنّها في الغالب حكمة وليست بعلّة تامّة، فمثلاً قولنا في تحريم الزنا إنّه جاء لأجل عدم اختلاط المياه، فهذا القول ليس بعلّة الحكم فيه بل هو الحكمة فيه، والحكمة في العدّة، هي عدم اختلاط المياه كذلك، وقد وردت هذه في روايات كثيرة، ولكن ماذا نقول: لو رُفع رحم المرأة بعمليّة جراحيّة، أو علمنا يقيناً أنّها عقيم، هل يجب عليها الاعتداد أم لا؟!

نعم يجب ذلك، لأنَّ الله فرض ذلك لمصلحة ملحوظة في اللوح المحفوظ لم يطّلع عليها البشر، فمن المجازفة والتساهل بأحكام الله القول بعدم لزوم العدّة، بدليل أنّ العلّة المتخيّلة ـ وهي عدم اختلاط المياه ـ قد انقضت في الفرض المذكور.

ولا يفوتنا القول بوجود علل منصوصة في التشريع ـ ولكنها قليلة جداً ـ; كالإسكار في الخمر مثلاً، فمتى وُجِدَتْ فيه علّة الإسكار حرم ومتى ارتفعت حلّ، فكُلّ ما أسكر قليله فكثيره حرام، لكن أين هذا ممّا كان يقدم عليه الشيخان، من إطلاق أحكام ليس لها وجود أو نراها تتعارض مع أحكام موجودة ثابتة في الذكر الحكيم، فنراه يضيّق دائرة حكم أو يوسّعه في حين آخر بتصوّر وجود مصلحة في

الصفحة 195
جعل الحكم الفلاني أو مفسدة في إلغاء الحكم الفلاني، في حين نعلم أنّ هذا لا يمكن أن يصدر إلاّ ممّن له إحاطة تامّة بكلّ مبادىِ الأحكام وغاياتها ومن اختصّه الله بعلمه، والخليفة لم يختصّ بذلك كما عرفت، وإنّه بتشريعه الطلاق ثلاثاً أو رفعه سهم المؤلّفة قلوبهم أو المنع من المتعة، كان يريد منعها إلى الأبد لما رأى فيها المصلحة الوقتيّة، ولم يكن منعه وقتيّاً ليقال إنّه بالعنوان الثانوىّ وإنّ ذلك من صلاحيّات الخليفة.

ولو سلّمنا أنّ الأحكام تتغيّر بتغيّر المصالح.. فأين المصلحة في مثل هذه الأحكام؟ ومن هو الذي يحدّدها؟ وهل جاءت الأحكام طبق الهوى والرأي، أم طبق التعبّد والدليل؟ فلو كان فيه نصّ ودليل، فما هو هذا النصّ والدليل؟

قال الشيخ خلاّف في (علم أُصول الفقه) عند ذكره شروط المصالح المرسلة، وهي ثلاث:

أوّلها: أن تكون مصلحة حقيقيّة وليست مصلحة وهميّة، والمراد بهذا أن يتحقّق من أنّ تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، وأمّا مجرّد توهُّم أنّ التشريع يجلب نفعاً من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر فهذا بناء على مصلحة وهميّة.

ثانيها: أن تكون مصلحة عامّة وليست مصلحة شخصيّة. والمراد بهذا أن يتحقّق من أنّ تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعاً لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضرراً عنهم، وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم، فلا يشرّع الحكم لأنّه يحقّق مصلحة خاصّة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم، فلابد من أن تكون لمنفعة جمهور الناس.

ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكماً أو مبدأً ثبت بالنصّ أو الإجماع(1).

____________

1- علم أُصول الفقه، لعبد الوهّاب خلاّف: 86 ـ 89.


الصفحة 196
بعد هذا نقول: هل ما قاله عمر كان يجلب النفع لأكبر عدد من الناس أو يدفع الضرر عنهم، مع معرفتنا بملابسات الحياة ومشاكلها ومافيها من ضغوط توفّر إمكان تخطّي المرء ما كان يألفه؟

فلو ضيّع الزوج على نفسه هذه الفرصة المذكورة، وتعجّل الفراق النهائىّ، فجمع الثلاث بلفظ واحد ـ حسب قول الدكتورة نادية ـ فهل يجب عليه أن يرضخ لحكم عمر وتَبِين زوجته منه؟ مع أنّا قد عرفنا بأنَّ الدكتورة قد صرّحت:

بأنّ الحكمة في تفريق الطلقات إنّما هو من أجل أن يراجع الزوج نفسه، وقولها: هذا هو الطلاق كما شرّعه الله في القرآن، مفرّقاً واحدة بعد واحدة(1).

لكن ماذا نقول للذين يعلمون بأنّ الحكمة في تفريق الطلقات وأنّه من أجل أن يراجع الزوج نفسه، ثمّ يقولون إنّ الطلاق ثلاثاً قد صدر عن مصلحة؟! إنّه التعصّب ولا ريب، إذ كيف يمكن أن تُجعل الحكمة في التفريق وتذهب في الوقت نفسه إلى أنّ ما قاله الخليفة عمر بن الخطّاب جاء عن مصلحة؟!

نعم، إنّها قالت بهذا القول وهي تعلم أنّ الحكم قد رجع إلى عمر، لا إلى القرآن ولا إلى السنّة. وان العقوبة ستشمل الزوجة والاطفال الابرياء الذين لا ذنب لهم ولا تقصير على الازواج وحدهم.

وبعد هذا هل يمكن لأحد أن يقول: إنّ حكم الخليفة مستقىً من القرآن؟! أو إنّ تشريعه لم يخالف النصّ بعد أن عرفنا أنّ المصلحة التي ارتضاها الخليفة قد خالفت القرآن؟!

إنّ كلمة (ثلاثاً) لا توجب البينونة; لتخالفها مع الشرع والعقل، وهي بمنزلة القول: إنّ كلمة (خمساً) أو (سبعاً) بعد (الله أكبر) تكفي في صلاة العيدَين دون أدائها على التعاقب!!!

____________

1- اجتهاد الرسول: 240.


الصفحة 197
وكذا القول (سبحان الله، مائة مرّة): إنّها تمنح قائلها ثواب تكرارها مائة مرة؟

ومثله القول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله، مرّتين) تكفي عن ترديدها في الأذان مرّتين!

وكذا رمي الحصيات السبع مرّة واحدة إنّها تكفي في رمي الجمرات!

ومثله الشهادات الأربع في اللعان. وهكذا، حتّى ينجرّ الأمر إلى سائر الأحكام.

وقد صرّح أكثر من واحد من الأعلام بأنّ الطلاق مرّتان يقتضي التفريق، قال الجصّاص في شرحه للآية: (الطلاق مرّتان)، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنّه لو طلّق اثنين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، وكذلك لو دفع إلى رجل آخر درهمين لم يَجُز أن يقال: أعطاه مرّتين حتّى يفرّق الدفع، فحينئذ يُطلق عليه.

وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرّة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكره للمرّتين إنّما هو أمرٌ بإيقاعه مرّتين ونهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة(1).

نعم، قد أثّر فقه الخليفة في الأحكام، والكلّ يعرف أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب جعل الحكم تابعاً للمصلحة التي يرتأيها ويتصوّرها أو يصوّرها على أنّها علّة تامّة يكون الحكم تابعاً لها ومرتّباً عليها، فتراه يغيّر الحكم تبعاً لتغيّر ما يراه مناسباً من المصالح دون المصالح الواقعيّة التي لا يحيط بها إلاّ الله.

قال الدكتور مصطفى البغا عند ذكره لأدلّة الاستصلاح: إنّ الصحابة (شرّعوا لهذه الحوادث من الأحكام ما رأوا أنّ فيه تحقيق المصلحة ممّا يجلب النفع أو يدفع الضرر، حسبما أدركته عقولهم، واعتبروا ذلك كافياً لبناء الأحكام والتشريع،

____________

1- أحكام القرآن للجصّاص 2: 73.


الصفحة 198
وحوادثهم في ذلك كثيرة ومشهورة)(1).

وقال الوافي المهدي: لمّا توالت الفتوحات الإسلاميّة في عصر الخلفاء، وعلى الأخصّ في عهد عمر، وخضع لنفوذهم أُمم شتّى لها حضارات مختلفة، ممّا جعلهم يواجهون مشاكل معقّدة لا عهد لهم بها من قبل، سواء في الناحية العسكريّة أو الماليّة، أو الأحوال الشخصيّة، أو الجنائيّة وغيرها، وهذا ممّا جعلهم يلجؤون إلى استعمال القياس حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة. وكانت طريقتهم في الاجتهاد اللجوء إلى كتاب الله، ثمّ إن لم يجدوا فيه نصّاً التجأوا إلى السنّة النبويّة، فإن لم يحضرهم شي ممّا أُثِر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استشاروا حفّاظ الصحابة، هل يحفظون في القضيّة النازلة بهم شيئاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فإن لم يوجد لجأُوا إلى الرأي، وسيأتي أنّ عمر كان يسأل: هل ثبت شي في القضيّة النازلة بهم عن أبي بكر؟(2).

والرأي الذي استعملوه ينتظم فيه القياس والاستحسان، والمصلحة المرسلة وسدّ الذرائع. وفي هذا العصر ظهر مصدر جديد من مصادر التشريع الإسلامىّ لم يُعرف في العهد التأسيسىّ للتشريع، ألا وهو الإجماع، فإنّ أبا بكر كان يشرّع فيما لا نصّ فيه من كتاب ولا سنّة عن طريق جمعيّة تشريعيّة، وكذلك الأمر بالنسبة لأوّل خلافة عمر. وكان ما يصدر عن تلك الجمعيّة التشريعيّة من أحكام يعتبر صادراً عنهم جميعاً(3).

____________

1- أثر الأدلّة المختلف فيها للدكتور البغا: 54.

2- بل كان يقرنه برسول الله (صلى الله عليه وآله) في كونه من مصادر التشريع فيقول لمن نهاه عن أخذ أموال الكعبة محتجاً عليه بفعل النبي وأبي بكر: هما المرآن يقتدى بهما (انظر صحيح البخاري 6: 2655، ح 6847، مسند أحمد 3: 410، احاديث شيبة بن عثمان العبدي، أسد الغابة 3: 8 ترجمة شيبة بن عثمان العبدري). ويبدو أن عمر بن الخطاب أول من أعطى قيمةً لرأي الخليفة أبي بكر بعد موته، واتخذها كخطوة أولى لإعطاء قيمة لآراء عمر بعد موته أيضا، ومن هذه الخطوة وأشباهها وُلِّدت سيرة الشيخين التي استعيض بها من بعد عن سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي منعها عمر.

3- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة للوافي المهدي: 46.