الصفحة 199
وقال: (وخلاصة القول أنّ الصحابة كانوا يرجعون إلى الرسول في الأغلب الأعمّ، حينما كان على قيد الحياة. أمّا حينما التحق بالرفيق الأعلى فقد أصبح هذا المرجع مفقوداً، وهذا ما جعل اجتهادهم بعد موته(صلى الله عليه وآله) يدخل في مرحلة أعظم وطور أخطر.

قال الأستاذ مصطفى الزرقاء: فشأنهم في حياة الرسول استماع واتّباع واستفتاء منه فيما يشكل عليهم. وبتعبير آخر: اعتماد على الرسول في الفهم والتوجيه في كلّ شي.

أمّا بعد وفاته(صلى الله عليه وآله) فقد انتقلوا فجأة من طور الاعتماد إلى طور الاجتهاد; لزوال ذلك المرجع، وحلول مخلّفاته الدستوريّة ـ القرآن والسنّة ـ محلّ بياناته الشفهية، فتولّدت من ذلك الحين ضرورة إلى الاجتهاد لامناص منها تجاه طوارىِ الحوادث، ولا حدود ولا أمد كان لها)(1).

فالاجتهاد هو الغطاء الذي احتمى به السلف، وكان في نفس الوقت المبرّر للخلف عمّا فعله السلف! ولو راجعت أبواب المصالح المرسلة لرأيتها دوّنت كي تصحّح أفعال الصحابة، فقد حملوا عهد أبي بكر لعمر بالخلافة ـ مع قولهم بأنّ النبىّ لم يخلّف ـ على أنّه جاء لمصلحة المسلمين والحفاظ على وحدة كلمتهم(2). وكذا الحال بالنسبة إلى حرق عثمان المصاحف، فقالوا: إنّها جاءت لجمع الناس على مصحف واحد(3); درءاً للاختلاف، ومثله الكثير.

إنّ القول بالمصالح المرسلة إنّما كان ـ إذن ـ لتصحيح أفعال وفتاوى الصحابة

____________

1- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: 69 ـ 70 وقد أخذ كلام الدكتور الزرقاء من الفقه الإسلامىّ في ثوبه الجديد 1: 167.

2- تاريخ الطبري 2: 353، الطبقات الكبرى 3: 200، المنتظم لابن الجوزي 4: 126.

3- الكامل في التاريخ 3: 7 ـ 8، باب ذكر غزو حذيفةُ الباب وأمر المصاحف، التمهيد والبيان لأبي بكر المالقي 1: 62 ـ 63، البداية والنهاية 7: 218.


الصفحة 200
والمطالع في أُصول فقه العامّة يعلم أنّ المصالح المرسلة ليست من الأصول الذاتيّة في هذا الفقه ولم يشذّ عن هذا، إلاّ مالك فإنّه هو الوحيد الذي اعتبرها أصلاً مستقلاًّ، فقد قسّموا المصالح إلى ملغاة ومرسلة ومعتبرة، والأخيرة إلى ضروريّة وحاجّيّة وتحسينيّة وفرّعوا عليها الفروع والأحكام.

مفردات اجتهاديّة

والآن فلنرجع إلى مواقف الخليفة في الأحكام لنرى أإن كانت اجتهاداته قد انتهت عند هذا الحدّ أم أنّ له آراء أُخرى ذهبت إلى أبعد من ذلك؟

والواقع أنّنا الآن في غنى عن التفصيل في هذا الموضوع، بيد أنّ تجلية رؤيتنا في مسألة منع الحديث تقود بالضرورة إلى بيان الجانب الفقهىّ للخليفة، ومدى المفردات وأُمّهات المسائل الفقهيّة التي استفاد فيها من الرأي المحض والاجتهاد.

فمن ذلك: أنّ عمر بن الخطّاب شرّع صلاة التراويح وقال عنها: نِعْمَت البِدعة هذه!(1)

وأضاف في أذان الصبح (الصلاة خير من النوم)، لمجرّد إعجاب الخليفة بها حين سمعها من أحد الصحابة. وبالمقابل حذف (حىّ على خير العمل) من الأذان معلّلاً ذلك بأنّ هذه الجملة ستمنع المسلمين من الجهاد(2)، ونهى عن البكاء على الميّت(3)،

____________

1- صحيح البخارىّ 2: 707، باب فضل من قام رمضان، ح 1906، موطأ مالك 1: 114، باب ما جاء في رمضان، ح 250، تاريخ المدينة 2: 713، الطبقات الكبرى 5: 59، تاريخ العيقوبي 2: 140.

2- وهناك أسباب ودواعي أخرى لتلك الإضافة وهذا الحذف بيّنا جوانب كثيرة منها في دراسة لنا مستقلة (الأذان بين الأصالة والتحريف) تقع في ثلاث مجلدات وقد صدر الأول منها بعنوان (حي على خير العمل الشرعية والشعارية).

3- صحيح البخارىّ 1: 432، باب قول النبي(صلى الله عليه وآله) يعذب الميت ببعض بكاء أهله، ح 1226، وفيه استنكار عائشة لرواية عمر لهذا الحديث قائلة: والله ما حدث رسول الله(صلى الله عليه وآله) ان الله ليعذب المؤمن ببكاء بعض أهله عليه ولكن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقالت حسبكم القرآن ولا تزرو وازرة وزر أُخرى، وانظر صحيح مسلم 2: 642، ح 929، سنن النسائي (المجتبى) 4: 18، ح 1858، مسند أحمد 1: 237، ح 2127، و1: 335، ح 3103، بسنده عن ابن عباس وفيه ما معناه: أن عمر ضرب نساءً بكين رقية ابنة رسول الله حين ماتت فنهاه رسول الله عن ذلك، والمستدرك على الصحيحين 3: 210، ح 4869، الإجابة للزركشىّ: 67.


الصفحة 201
وجعل علامة البلوغ ستّة أشبار(1)، مع أنّ الثابت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو قوله: (والغلام حتّى (2) يحتلم)، وقال بعدم توريث الأعاجم إلاّ مَن ولد في العرب(3) مع أنّ الرسول الأكرم محمّد(صلى الله عليه وآله) يقول: (لا فضل لعربىّ على أعجمىّ إلاّ بالتقوى)(4)ويقول الله سبحانه وتعالى: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}(5) واختلفت الأحكام عنده في حدّ شارب الخمر، فتارة يجعله ثمانين جَلدة(6)، وأُخرى يجعله ستّين! ويقول لمطيع الأسود: اقص عنه بعشرين، أي اترك العشرين الباقية لشدّة ما أوجعته(7). وجاء عنه أنّه صلّى المغرب فترك القراءة، فلمّا انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة!

قال: كيف كان الركوع والسجود؟

قالوا: حسناً.

قال: لا بأس(8).

____________

1- مصنف عبد الرزاق 10: 178، باب لا قطع على من لم يحتلم، مصنف بن أبي شيبة 5: 481، باب في الغلام يسرق أو يأتي الحد، ح 28162.

2- سنن الدارمي 2: 225، باب رفع القلم عن ثلاثة، ح 2296، سنن أبي داود 4: 140، ح 4401، سنن الدارقطني 3: 138، ح 173.

3- الموطأ لمالك 2: 520، باب ميراث أهل الملل، ح 1086، المدونة الكبرى 8: 338، 383.

4- مسند أحمد 5: 411، ح 23536، المعجم الأوسط 5: 86، ح 4749، مجمع الزوائد 8: 84.

5- الحجرات: 13، وانظر مجمع الزوائد 3: 272.

6- سنن الدارقطني 3: 157، ح 223، السنن الكبرى للبيهقي 8: 318 ـ 319. انظر المحلّى 11: 157، مسئلة 2184.

7- السنن الكبرى للبيهقي 8: 317 ـ 318، شرح النهج 12: 137 الطبعة القديمة ـخطبة 223، الفائق 4: 119، فتح الباري 12: 73.

8- السنن الكبرى للبيهقي 2: 347، باب من سها عن القراءة، ح 3678.


الصفحة 202
في حين صحَّ عن النبىّ أنّه قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب(1).

وجاء عن عمر أنّه ضرب ابنه عبيد الله لتكّنيه بأبي عيسى، معلّلاً أنّ عيسى ويحيى ليس لهما أب(2).

وعن هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عمر بن الخطّاب قرأ آية السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد، وسجد الناس معه ثمّ قرأها يوم الجمعة الأخرى، فتهيّأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إنّ الله لم يكتبها علينا إلاّ أن نشاء، فلم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا(3).

والمطالع في كتب الفقه يقف على رواسب هذا الحكم وامتداداته في الفقه الإسلامىّ ـ في أحد مدارسه الفقهيّةـ.

فقد اختلفوا في حكم سجود التلاوة: أهو واجب أم سنّة؟

قال مالك(4) والشافعىّ(5) وأحمد(6): هو سنّة، أو فضيلة عند مالك وليس بواجب.

____________

1- صحيح البخاري 1: 263، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، ح 723، صحيح مسلم 1: 297، ح 395، سنن الدارمي 1: 312، باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ح 1242، سنن أبي داود 1: 217، ح 822، 823، سنن الترمذي 2: 25 ـ 26، باب ما جاء أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، مسند أحمد 2: 241، ح 7289، 2: 478، ح 10201.

2- المصنّف لعبد الرزّاق 11: 42، سنن أبي داود 4: 291، باب فيمن يتكنى بأبي عيسى، ح 4963، السنن الكبرى للبيهقي 9: 310، باب من تكنى، تيسير الوصول 1: 47، 7، شرح النهج 12: 44 واللفظ له، وفي الطبقات الكبرى 5: 69: عن عمر بن الخطّاب أنّه جمع كلّ غلام اسمه اسم نبىّ، فأدخلهم الدار ليغيّرَ أسماءهم، فجاء آباؤهم فأقاموا البيّنة أنَّ رسول الله سمّى عامّتهم، فخلّى عنهم....

3- الموطأ 1: 206، ح 484، شرح معاني الآثار 1: 354، السنن الكبرى للبيهقي 2: 321، ح 3574 و3: 213، ح 5587، التمهيد لابن عبد البر 19: 128.

4- التمهيد لابن عبد البر 19: 132، الشرح الكبير 1: 306.

5- الام 1: 133 ـ 139، باب سجود التلاوة والشكر، حلية العلماء للشاشي 2: 122، المجموع 4: 69.

6- المغني 1: 361.


الصفحة 203
أمّا أبو حنيفة(1) فقد خالفهم وذهب إلى أنّه واجب.

قال الزرقانىّ في شرحه على الموطّأ(2): هو سنّة أو فضيلة؟ قولان مشهوران. وقد روى في ذلك حديثاً عن أبي هريرة: أنّ رسول الله قرأ بالنجم فسجد وسجد الناس معه إلاّ رجلَين(3).

وعن زيد بن ثابت أنّ رسول الله قرأ بالنجم فلم يسجد فيها(4).

وفي آخر عنه(صلى الله عليه وآله): السجدة على من سمعها وعلى من تلاها(5). وإلى غيرها من الأحاديث التي وُضعت لاحقاً لتصحيح مواقف الخليفة وما تذهب إليه المذاهب.

ولو راجع الباحث أثر قول الصحابىّ في الأحكام لعرف الكثير الكثير(6)، ومنها حكم هذه المسألة التي نحن بصددها; إذ استدلّ مالك على أنّها سنّة، لترك عمر السجود فيها بمحضر الصحابة، ولم ينكر عليه أحد ولم ينقل عن أحد منهم خلاف، وهم أفهم بمغزى الشرع وأقعد بفهم الأوامر الشرعيّة!!(7)

قال الدكتور محمّد سلاّم مدكور، بعد ذكره للروايات المجيزة للاجتهاد في عصر الرسول:... والواقع أنّ شيئاً من ذلك لا يدلّ على أنّ أحداً غير الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ بما

____________

1- نور الايضاح 1: 80، الهداية في شرح البداية 1: 78.

2- شرح الزرقاني 2: 27.

3- صحيح البخاري 1: 363، باب ما جاء في سجود القرآن، ح 1017، وفيه عن عبد الله قال: قرأ النبي(صلى الله عليه وآله) النجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفاً من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا. فرأيته بعد ذلك قتل كافراً. ومثله في صحيح مسلم 1: 405، ح 576، وسنن الدارمي 1: 407، ح 1465، الام 1: 135، باب سجود التلاوة والشكر، والمتن منه، السنن الكبرى للبيهقي 2: 321، ح 3572.

4- صحيح البخاري 1: 364، باب من قرأ السجدة ولم يسجد، ح 1022، سنن الدارمي 1: 409، ح 1472، سنن أبي داود 2: 58، ح 1404.

5- المبسوط للسرخسي 2: 4، بدائع الصنائع 1: 180، نصب الراية 2: 178، وانظر أثر الأدلّة المختلف فيها: 355.

6- انظر أثر الأدلّة المختلف فيها في الفقه الإسلامىّ: 353 ـ 433 مثلاً.

7- أثر الأدلّة المختلف فيها: 355 عن المغني 1: 361، بداية المجتهد 1: 162، واللفظ منه، الزرقانىّ على الموطّأ 2: 27.


الصفحة 204
يوحى إليه ـ له سلطة تشريعيّة في ذلك العهد، لأنّ هذه الجزئيّات: منها ما صدر في حالات خاصّة يتعذّر فيها الرجوع إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لبعد المسافة أو خوف فوات الفرصة، ومنها ما كان القضاء منها أو الإفتاء مجرّد تطبيق لا تشريع. ونستطيع أن نقول: إنّ الرسول على مقتضى هذه النظريّة نفسها لم يكن بحاجة إلى هذا المعنى من الاجتهاد.

إلى أن يقول: أمّا بعد انتقال الرسول(صلى الله عليه وآله) من الحياة الدنيا، وفي عصر الصحابة ـ رضوان الله عليهم، الذي ينتهي بنهاية القرن الهجرىّ الأوّل ـ فقد عرضت لهم بسبب التوسّع والفتح واتّساع رقعة الدولة الإسلاميّة مسائل جديدة لم يكن لهم بها عهد، وقد انقطع الوحي فكان لا مناص من مواجهة الأحكام الفقهيّة للأحداث والنوازل في دولة ناشئة سريعة النموّ تضمّ أقطاراً وأجناساً مختلفة(1).

وعليه فقد عرفنا أنّ الخليفة كان يعتمد في فتاواه على محض الرأي دون نصّ من القرآن أو فعل من النبىّ، بل كان يخالف أحياناً بفتواه صريح القرآن كما في آية الطلاق(2)، وأمر النبىّ ـ كما في قضية الرجل المتنسّك(3) ورزيّة يوم الخميس(4) ـ لما رآه من مصلحة!

ولو سلّمنا بحجّيّة رأي الصحابىّ وأنّ الصحابة جميعاً عدول فإنّ ذلك لا يقتضي العمل بما يقولون وإن خالف النصّ الصريح. وأقصى ما يمكن أن يقال فيهم، هو أنّ

____________

1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 43 ـ 44.

2- صحيح مسلم 3: 130، ح 1471، عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، الدر المنثور 1: 668.

3- الإصابة 1: 484، حلية الأولياء 3: 227، مسند أحمد 3: 15.

4- صحيح البخاري 1: 54، ح 114، 6: 2680، ح 6932، صحيح مسلم 3: 1259، ح 1637، مسند أحمد 1: 324، ح 2992 و1: 336، ح 3111.


الصفحة 205
لكلِّ واحد منهم أن يلتزم بما يراه فيكون منجّزاً ومعذّراً له وليس على الآخرين أن يلتزموا بما التزم هو به.

واللافت للنظر أنّ الخليفة كان يفتي قبل تصفّح الكتاب العزيز ومراجعة السنّة المطهّرة، فضلاً عن استفراغ الوسع وبذل الجهد في تحصيل الحكم الشرعىّ منهما.

فإرادة الخليفة رجمَ المرأة التي ولدت لستّة أشهر مع وجود آيتين في كتاب الله، تدلاّن بالتأمّل على شرعيّة حملها وولادتها..

وكذا اقتراحه تجريدَ الكعبة من كسوتها، ومخالفة شيبة بن عثمان وأُبىّ بن كعب له وقولهما: إنّ رسول الله والصدّيق كانا أحوج منك إليها.

وكذا جهله بحكم تزويج المرأة في عدّتها، وإرادته رجم المجنونة الزانية، والتباس وجه الحيلة عليه في قضيّة المرأة التي اتّهمت الشابّ بمراودتها عن نفسها، وغيرها من النصوص المارّة الذكر سابقاً.. كلّها لَتؤكد على أنّ الخليفة كان يفتي دون استحضار لآيات الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة، ثمّ يريد أن يتعبّد الصحابة بفتواه، خلافاً لما ثبت وصحّ عندهم.

فلو صحّ القول بحجّيّة رأي الصحابة للزم عمر أن يأخذ بمرويّات الآخرين كذلك، خصوصاً في المسائل التي ليس عنده أثر فيها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، كما يلزمه الأخذ بفتاوى الآخرين وآرائهم لأنّها حجّة حسب فرضه، ولا يحقّ له إلزامهم بالتعبّد برأيه وحده.

إنّه لَيحقّ للمطالع بعد هذا أن يتساءل: كيف يجوز للخليفة أن يهدّد عمّاراً وأُبيّاً وأبا موسى الأشعرىّ وغيرهم؟! فيقول لأبي موسى: (والله لتقيمنّ عليه بيّنة)(1) أو (أقم عليه البيّنة وإلاّ أوجعتُك)(2)، ويقول لأبىّ: (لتخرجنّ ممّا قلت، فجاء يقوده

____________

1- انظر الخبر في صحيح البخاري 5: 2305، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، ح 5891.

2- انظر الخبر بتفاصيله في صحيح مسلم 3: 1694، باب الاستئذان، ح 1203، السنن الكبرى للبيهقي 8: 339، باب الرجل يستأذن على دار، الوقوف على الموقوف لابن حجر 1: 114، من كتاب الأدب، ح 148.


الصفحة 206
حتى أدخله المسجد...)(1)، ولابن مسعود: (ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله؟!)(2)، ويقول لأبي هريرة: (لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دوس)(3)، وضربه تميمَ الدارىّ بالدرّة(4).

نعم، قال علماء أهل السنّة والجماعة بعدم لزوم اتّباع الصحابة الأوائل بعضهم للآخر(5) من أجل أن يعذروا عمر ويبرّروا أفعاله معهم، وليحدّوا من تأثير مخالفات الصحابة للخليفة!

ويظهر من النصوص المتقدّمة أنَّ عدم لزوم الاتّباع إنَّما هو لمن خالف الخليفة من الصحابة، وأمّا من وافقه فإنَّهم أضفوا عليهم هالة من القدسيّة والعظمة بحيث لم يقبلوا خطأ أحد الخلفاء أو أتباعهم، حتّى أنّهم جعلوا من سيرة الشيخين مصدراً تشريعيّاً لا يقبل النقاش، مع ذهابهم إلى عدم عصمة أُولئك الصحابة!!

إنّ الخليفة بتأكيده على القياس كان يريد تصحيح اجتهاداته، وبإصراره على الرأي كان يريد الانطلاق من موقعيّة عليا في الدولة الإسلاميّة، فتراه يقف موقف المشرّع الذي لا يتراجع عمّا أفتى به، اللّهمّ إلاّ إذا عورض بتيّار فكرىّ قوىّ، ونُقِد كلامه بآية قرآنيّة أو حديث عن رسول الله متّفق عليه بين المسلمين، فيرضخ عند ذلك لحكم الوحي ويتراجع عن رأيه!

____________

1- الطبقات الكبرى 4: 21، تاريخ دمشق 26: 371، الدر المنثور 5: 231.

2- المعجم الاوسط 3: 378، ح 3449، مجمع الزوائد 1: 149، باب الامساك عن بعض الحديث، سير أعلام النبلاء 7: 206، 11: 555.

3- اصول السرخسي 1: 341، المحدث الفاصل 1: 554، سير أعلام النبلاء 2: 601، البداية والنهاية 8: 106، وانظر تاريخ المدينة 3: 800.

4- بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 1: 328، باب الصلاة بعد العصر، ح 214، وعنه في كنز العمال 8: 49، ح 21810، سير أعلام النبلاء 2: 248.

5- انظر أثر الأدلّة المختلف فيها، للدكتور البغا: 339.


الصفحة 207
وبنظري أنَّ القول بالتصويب في الأحكام الشرعيّة عند مدرسة الخلفاء جاء من هذا المنطلق.

ومن هذا كلّه نخلُص إلى أنّ القول بحجّيّة كلام الصحابىّ وأنّ للخليفة الإفتاء طبق ما يراه مصلحةً، كان المنطلق والنهاية في مدرسة الخلفاء اذ انطلقت اولاً في عهد الرسول الاكرم باعتراضات عمر على رسول الله، ثم تاطير هذه التصرفات وما فعله الخليفة لاحقاً باطار الاجتهاد والمصلحة.

وبذلك فلا تكون هناك تخالف من القول باجتهادات على عهد رسول الله ـ والتي هي اقرب إلى التحدي من الاجتهاد ـ وبين القول بان جهل عمر بالروايات عن رسول الله هي التي الجائته إلى تكيم فكرة الاجتهاد فكرة الاجتهاد والاستفادة منه كخطوة سياسيه، اذ ان الروح التحررية عند عمر وعدم تعبده بالنص كانت العامل الاساس لانتهاجه هذا المنهج.

وعليه فقد اتّضحت لنا لحدّ الآن أُمور، هي:

1 ـ عدم اختصاص الشيخين بميزة ترفعهما عن غيرهما.

2 ـ انقسام المسلمين ـ بعد رسول الله ـ إلى نهجين فكريّين.

3 ـ سعي الخليفة عمر بن الخطّاب في إخضاع الآخرين لرأيه.

4 ـ عدم حجّيّة قول الصحابة، لمخالفة عمر لآرائهم ومخالفتهم إيّاه في عدّة موارد.

5 ـ الخدش فيما قيل عن نظريّة عدالة الصحابة، لتكذيب الخليفة لهم وعدم اطمئنانه إلى أقوالهم وكذا العكس.

6 ـ إمكان مناقشة الصحابة فيما بينهم، والقول بعدم جواز ردّهم جاء لتصحيح ما وقع في الصدر الأوّل من الاختلاف في فتاواهم، وعدّ ذلك من الرأي الممدوح!

7 ـ بطلان ما أسّسوه من أُسس للاجتهاد، كالقياس والاستحسان والمصلحة;

الصفحة 208
لكونها قد أُسّست لاحقاً ولضرورات وقتيّة، فلم ينصّ عليها كتاب ولا سنّة(1).

فمن الطبيعي ـ والحالة هذه ـ أن تزداد موجة الاعتراض على نهج الرأي والاجتهاد من قبل الصحابة المتعبدين، وذلك بتحديثهم عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، لأنّ في نقل الحديث والإكثار منه، فيه ما يعني تخالف الأحكام ووجهات النظر الشرعيّة بين مدرسة السنّة النبويّة وبين منحى الرأي والاجتهاد، لأنّ في مدرسة السنّة النبويّة حقائق توعويّة، قد لا تتوافق مع ما يصبو إليه أتباع نهج الرأي والاجتهاد من الحكّام وغيرهم. ومن يراجع النصوص الحديثيّة والتاريخيّة يجد هذه الحقيقة ظاهرة جليّة.

فالبعض مِن الصحابة لا يرتضي الرأي والاجتهاد ويدعو إلى لزوم استقاء الأحكام من القرآن والسنّة النبويّة المطهّرة، لا غير، ولا يرتضي اجتهادات الصحابة وفِعْل الشيخين.

والبعض الآخر منهم يذهب إلى مشروعيّة قول عمر ويعتبره حجّة يجب التعبّد به.

ومن هذا كلّه نخلص إلى القول: بأنَّ المدوّنين كانوا من أتباع التعبّد المحض، موافقين لروح الشريعة الحاثّة على العلم والوصايا واهتمام النبىّ بالتدوين، وقد دوّنوا وحدّثوا فعلاً. وأمّا المانعون عن التدوين فهم من أتباع الاجتهاد والرأي، ومن أتباع الخلفاء، وقد لاقى المدونّون الإذلال والاستهانة في عهد الخلفاء حتى وصل الأمر بالحجّاج بن يوسف الثقفي أن يختم في يد جابر بن عبد الله الانصاري وفي عنق سهل بن سعد الساعدي وأنس بن مالك يريد اذلالهم وان يتجنّبهم الناس ولا يسمعوا منهم(2).

____________

1- وأما استدلوا بها لاحقاً لشرعية القياس والاستحسان و.. فجميعها مردودة.

2- الاستيعاب 2: 664، ترجمة سهل بن سعد الساعدي رقم 1089، اُسد الغابة لابن الأثير 2: 366 في ترجمة سهل بن سعد الساعدي، تهذيب الكمال 12: 189.


الصفحة 209

نماذج من امتداد النهجين


ولمزيد من تجلية هذه الحالة، إليك بعض النصوص:

أخرج ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم يملي عَلَيّ أحاديث، فقال: إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطّاب، فأنشدَ الناس أن يأتوه بها، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها، ثمّ قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب(1).

وإزاء مثل هذه الحوادث تحضر في ذهن القارىِ أسئلة تبحث عن إجابات دقيقة مُقنعة: ترى...: لماذا تكثر الأحاديث على عهد عمر بن الخطّاب بالخصوص؟! وعلى أىّ شي تدلّ هذه الظاهرة؟ ثمّ لماذا يأمر بحرقها ولا يُميثها بالماء أو يدفنها في الأرض مثلاً؟

ولماذا يتسرّع الخليفة في عمله، بدون تحقيق وتمحيص؟!

ثمّ لماذا يصطلح الخليفتان على موقف واحد من الأحاديث، فيقوم كلاهما بإبادتها حرقاً بالنار ولا يميثانها بالماء أو يدفنانها في الأرض ـ كما فعل ابن مسعود وغيره ـ؟ هذا مع أنّ التيّار الفكرىّ لأكثر الصحابة كان ضدّ إتلاف الأحاديث، لكنّ نهج الاجتهاد ـ صاحب السلطة التنفيذيّة ـ أبى إلاّ أن ينفِّذ ما يراه، فلماذا هذه الاستهانة وعدم الاعتناء بآراء ووجهات نظر الصحابة مع موافقتها لأحاديث النبىّ وسيرته ولروح التشريع الإسلامىّ؟!

أترك القارىَ ليستنتج الجواب من النصوص السابقة واللاحقة، وأُذكّره بحديث

____________

1- الطبقات الكبرى 5: 188، سير أعلام النبلاء 5: 59.


الصفحة 210
آخر رواه لنا سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس في المتعة وأنّه قال: تمتع النبىّ (صلى الله عليه وآله)..

فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة.

فقال ابن عبّاس: ما يقول عُريّة؟!

قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة!

فقال ابن عبّاس: أراكم ستهلكون، أقول: قال رسول الله، ويقول: نهى أبو بكر وعمر!(1)

وروى ابن حزم وابن عبد البرّ: والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله! نحدّثكم عن النبىّ وتحدّثونا عن أبي بكر وعمر!(2)

وفي حديث ثالث: قال ابن عبّاس: إنّي أُحدّثكم عن النبىّ(صلى الله عليه وآله) وتجيئوني بأبي بكر وعمر؟!

وعنه: أراهم أن يُرمَوا بالحجارة من السماء(3).

وأمّا جملة عروة: هما والله كانا أعلم بسنّة رسول الله وأتبع لها منك.(4). فقد علّق الخطيب البغدادىّ عليها بقوله:

قلت: قد كان أبو بكر وعمر على ما وصفهما عروة، إلاّ أنّه لا ينبغي أن يقلّد أحد في ترك ما تثبت به سنّة رسول الله(5).

ونُقِلَ عن عبد الله بن عمر أنّه كان يفتي بالذي أنزل الله من الرخصة بالتمتّع وما

____________

1- مسند أحمد 1: 337، ح 3121، زاد المعاد 2: 206، واللفظ له، إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد لمحمد بن اسماعيل الصنعاني: 24 ـ 25.

2- حجة الوداع لابن حزم الاندلسي 1: 353، التمهيد لابن عبد البر 8: 208، زاد المعاد 2: 206.

3- في البداية والنهاية 5: 141، عن ابن عمر انه قال: لقد خشية أن يقع عليكم حجارة من السماء، حين اعترض عليه لمخالفته لابيه في الترخيص بالمتعة.

4- حجة الوداع 1: 353 ـ 354، زاد المعاد 2: 206.

5- تقييد العلم.


الصفحة 211
سنّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وقد اعترض عليه البعض بقوله: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟!

فقال: أفرسول الله(صلى الله عليه وآله) أحقّ أن تتّبعوا سنّته أم سنّة عمر؟!(1)

وفي آخر: أأمرَ أبي أتّبع أم أمرَ رسول الله؟! لقد صنعها رسول الله(2).

  وأخرج أحمد في مسنده عن عبد الأعلى، قال: صلّيت خلف زيد بن أرقم على جنازة، فكبّر خمساً.

فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ فقيه الدولة في وقته ـ فأخذ بيده، فقال: نسِيتَ؟

قال: لا، ولكن صلّيت خلف أبي القاسم خليلي فكبّر خمساً، فلا أتركها أبداً(3).

وأخرج الطحاوىّ بسنده عن يحيى بن عبد الله التيمىّ، قال: صلّيت مع عيسى ـ مولى حذيفة بن اليمان ـ على جنازة فكبّر عليها خمساً، ثمّ التفت إلينا، فقال: ما وَهِمتُ ولا نسيت، ولكنّي كبّرت كما كبّر مولاي وولىّ نعمتي ـ يعني حذيفة بن اليمان ـ صلّى على جنازة فكبّر عليها خمساً، ثمّ التفت إلينا فقال: ما وهمت ولا نسِيت، ولكنّي كبّرت كما كبّر رسول الله(صلى الله عليه وآله) (4).

  وعن وبرة بن عبد الرحمن قال: أتى رجل إلى ابن عمر فقال: أيصلح أن أطوف بالبيت وأنا محرم؟

____________

1- مسند أحمد 2: 95، ح 5700، السنن الكبرى للبيهقي 5: 21، ح 8658، البداية والنهاية 5: 141.

2- إرشاد النقّاد للصنعانىّ: 25، سنن الترمذي 3: 185، ح 823، سنن ابن ماجة 1: 214، ح 2978.

3- مسند أحمد 4: 370، شرح معاني الآثار 1: 494، باب التكبير على الجنائز، وفيه فلا أتركه أبداً.

4- مسند أحمد 5: 406، ح 23495، شرح معاني الاثار 1: 494، تاريخ بغداد 11: 142، ترجمة عيسى البزاز المدني رقم 5840، مجمع الزوائد للهيثمي 3: 34، باب التكبير على الجنازة.


الصفحة 212
قال: ما يمنعك من ذلك؟

قال: إنّ فلاناً ينهانا عن ذلك حتّى يرجع الناس من الموقف، ورأيته كأنّه مالت به الدنيا، وأنت أعجب إلينا منه. قال ابن عمر: حج رسول الله(صلى الله عليه وآله) فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وسُنّة الله تعالى ورسوله أحقّ أن تُتّبع من سنّة ابن فلان، إن كنت صادقاً(1).

  وعن ابن عمر: إنّ رسول الله قال: لا تمنعوا إماء الله أن يصلّين في المسجد.

فقال ابن له: إنّا لَنمنعهنّ.

فغضب ابن عمر غضباً شديداً وقال: أُحدّثك عن رسول الله وتقول: إنّا لنمنعهنّ!(2)

وفي رواية أُخرى: فانتهره عبد الله قائلاً: أفّ لك!! أقول: قال رسول الله وتقول: لا أفعل؟!(3)

  وفي مجمع الزوائد: أنّ تميماً ركع ركعتين بعد نهي عمر بن الخطّاب عن الصلاة بعد العصر، فأتاه عمر فضربه بالدرّة، فأشار إليه تميم أن اجلس ـ وهو في صلاته ـ فجلس عمر، ثمّ فرغ تميم من صلاته.

فقال تميم لعمر: لِمَ ضربتني؟!

قال: لأنّك ركعت هاتين الركعتين، وقد نهيتُ عنها.

قال: إنّي صلّيتهما مع من هو خير منك; رسول الله(صلى الله عليه وآله).

____________

1- صحيح مسلم 2: 905، باب ما يلزم من احرام بالحج، ح 1233 وفيه ابن عباس بدل من ابن فلان، مسند أحمد 2: 56، ح 5194، واللفظ له، المسند المستخرج على صحيح مسلم 3: 331، ح 2863 وفيه ابن عباس بدل عن ابن فلان وهو كذلك في سنن البيهقي الكبري 5: 75، ح 9028 وفتح الباري 3: 478،السنّة قبل التدوين:90.

2- صحيح مسلم 1: 327، ح 442، سنن ابن ماجة 1: 8، ح 16، واللفظ له، مصنف عبد الرزاق 3: 147، ح 5107، مسند أحمد 2: 76، ح 5468، 2: 90، ح 5640.

3- مسند أحمد 2: 127، ح 6101، وانظر جامع بيان العلم وفضله 2: 159.