20 ـ أبو هريرة الدوسىّ (ت 59 هـ).
روى الفضل بن حسن بن عمر بن أُميّة الضميرىّ عن أبيه، قال: تحدّثت عند أبي هريرة بحديث فأنكره، فقلت: إنّي قد سمعته منك! فقال: إن كنت سمعته منّي فهو مكتوب عندي(1)، وفي حديثه ما يؤيّد نهج التعبّد وفيه ما يخالف ذلك.
نماذج من امتداد النهجين
21 ـ تميم الداريّ (عاش بعد مقتل عثمان)
وقد مرّ عليك اعتراضه على الخليفة حينما منعه من الصلاة بعد العصر.
22 ـ المقداد بن الأسود. (ت 33 هـ)
لم يرد أنّه من المصنّفين أو المدوّنين، لكنَّ له مزيّة متابعة علىّ بن أبي طالب وترسّم خطاه، فهو من مدرسة التعبّد المحض، لكن لم يدوّن أو لم تصل إلينا مدوّنته.
23 ـ أبو ذرّ الغفارىّ.(ت 32 هـ)
أضاف ابن شهرآشوب اسم أبي ذرّ الغفارىّ بعد ذكره لسلمان ضمن أسماء من
____________
1- العلل لأحمد 2: 591، ح 3807، المستدرك على الصحيحين 3: 584، ح 6169، واللفظ له، فتح الباري 1: 215.
استنتاجات
وبهذا نكون قد تعرّفنا عبر هذا الجَرْد الإحصائىّ البسيط على أنّ الصحابىّ المخالف فقهيّاً لنهج الخليفة غالباً ما يكون أحد اثنين:
1 ـ كونه من أصحاب المدوّنات، بمعنى أن المتعبدين لم يرد عنهم النهي عن التدوين، بل هم موافقون له، بخلاف المجتهدين الذين كانوا في مسيرهم العام مانعين للتحديث والكتابة والتدوين أي هناك ملازمة بين التدوين والتعبد وبين منع التدوين والاجتهاد، فعمار بن ياسر مثلاً فهو من نهج التعبد المحض، حسبما سنوضحه في دراساتنا الاحقة، وان لم تكن له مدونة، وكذا عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وغيرهم فهم من نهج الاجتهاد والرأي وان كانت لهم مدونات اذ بالاستقراء سيتضح لك ان مدوناتهم لا تعدوُ ارآئهم الشخصية وتصب مروياتهم في هذا المصب لا محالة، فالمعني بأصحاب المدونات المتعبدون. وهولاء كانوا على راس المخالفين لنهج الاجتهاد والراي.
2 ـ كونه من أصحاب علىّ بن أبي طالب، ومن الذين شهدوا حروبه(2).
واستبانت لنا من خلال ذلك أيضاً حقائق أُخرى مهمّة في هذا السياق، هي:
1 ـ سقم من يقول بوجود نهي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تدوين حديثه.
____________
1- معالم العلماء: 38.
2- وإن كنّا سنضيف إلى هذين فقه الأنصار لاحقاً، كي نقف على دعاة التعبّد المحض من الصحابة، وأنّه يدور غالباً في هذه المحاور الثلاثة.
3 ـ وجود مدوَّنات عند الصحابة على عهد عمر، وتلك هي التي دَعَته أن يأمر بإحضارها إليه.
4 ـ أنَّ النهي عن تدوين السنّة كان متأخّراً وبأمر الشيخين، ولم يكسب شرعيّته من النصّ النبوىّ.
قال المعلّمىّ: لو كان النبىّ نهى عن كتابة الأحاديث مطلقاً لَما كتب أبو بكر، ولما هَمّ بها عمر(1).
وعليه نقول: إذا كانت نصوص السنّة مدوّنة وموجودة، فَلِمَ لا يرتضي الخليفة نشرها؟! وكيف يقول حسبنا كتاب الله؟!
ولو صحّ ما قلناه، فَلِمَ يستبعد ابن حزم وغيره صدور أمر من عمر بحبس الصحابة؟!
نعم، إنَّ التحديث والتدوين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو المانع الأساسىّ أمام اجتهادات الشيخين، وإنّ إرشاد عمر وأبي بكر الناس إلى العمل بالقرآن والإقلال من التحديث ومنع التدوين كان الخطوة الأولى في هذا الطريق، وهكذا بعدت الفاصلة بين عامّة الناس والحديث، ممّا مَهّد الأرضيّة المناسبة لاحتضان البديل، وهو اجتهاد الصحابىّ. فكان البديل هو الخطوة التالية لخطوة منع التحديث والتدوين.
وقد أنبأ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بوقوع هذا الأمر في القريب العاجل، بقوله (صلى الله عليه وآله) (يوشك)، وهو من أفعال المقاربة، مع تأكيده على أنّ ما يقع هو ممّا لا يرتضيه (صلى الله عليه وآله) ; لقوله (لا أعرفنّ) و(لا ألفَينّ) مؤكّداً على أنّ كلامه من كلام الله ولا تنافي بينهما
____________
1- انظر تدوين السنّة الشريفة: 264 و273 عن الأنوار الكاشفة: 38.
إنّ المنع من التحديث ـ بالنسبة للخليفة ـ كان ضرورة اجتماعيّة فرضتها ظروفه عليه، وهو بمثابة المردود السلبىِّ وردّة الفعل إزاء ما لا يعرفه من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بل لما عرفه من نهي النبىّ ـ عندما كتب شيئاً من التوراة ـ فالخليفة بنهيه عن التدوين كان يريد أن يجتهد، فراح يستغل نهي الرسول عن التأثر بمدوّنات أهل الكتاب فعمَّمه إلى المنع عن التحديث والتدوين لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) ، مع علمنا بالفارق بينهما.
فنهي رسول الله من كتابة صحف أهل الكتاب جاء لكونها محرّفة، وهذا يختلف عن نهي عمر الناس عن كتابة سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله).
حبس المحدِّثين
ولتوضيح الأمر إليك نصّاً في ذلك:
أخرج الذهبىّ، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أنّ عمر حبس ثلاثة:
ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصارىّ، فقال: لقد أكثرتم الحديث عن رسول الله!(1)
وفي (شرف أصحاب الحديث) للخطيب:
بعث عمر بن الخطاّب إلى عبد الله بن مسعود وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود، فقال لهم: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله؟! فحبسهم بالمدينة.
وأخرج الحاكم، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه:
إن عمر بن الخطّاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذرّ: ما هذا الحديث
____________
1- المحدث الفاصل 1: 553، تذكرة الحفّاظ 1: 7، حجّيّة السنّة: 395.
وفي (مختصر تاريخ دمشق): أنّ عبد الرحمن بن عوف قال: ما مات عمر بن الخطّاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله، وحذيفة، وأبو الدرداء، وأبو ذرّ، وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟!
قالوا: تنهانا؟
قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عِشت; فنحن أعلم، نأخذ منكم ونردّ عليكم. فما فارقوه حتّى مات(2).
إنّ جملة: (أكثرتم عن رسول الله) وكذا: (أفشيتم عن رسول الله في الآفاق) لتؤكّد على أنّ في نقل الأحاديث عن الرسول توعية للمسلمين، وإحراجاً للخليفة في ظروفه الخاصّة; لأنّه قد حدّد ما أخذه عليهم بأنّه (الإكثار) و(الإفشاء) لا الكذب والبهتان، فالإفشاء يساوق تخطئة الخليفة، خصوصاً إذا كان الكلام الصادر عن رسول الله ظاهراً صريحاً، وتتّضح هذه الحقيقة أكثر لو أمعنّا النظر في جواب عمر بن الخطّاب لأبىّ بن كعب:
فقال أُبىّ: يا عمر! أتتّهمني على حديث رسول الله؟!
فقال عمر: يا أبا المنذر، لا والله ما أتّهمك عليه، ولكنّي كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً(3).
وقولُهُ للصحابة: (أقِلُّوا الرواية عن رسول الله إلاّ فيما يُعمل به)(4)، وسِرّ المنع في
____________
1- مصنف ابن أبي شيبة 5: 294، ح 26229، المستدرك على الصحيحين 1: 110، وكذا في تلخيص الذهبىّ، سير أعلام النبلاء 2: 345.
2- مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 17: 101، كنز العمال 10: 293، ح 29479.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 21 ـ 22.
4- الجامع لمعمر بن راشد 11: 262، البداية والنهاية 8: 107.
وكذا تقييده بـ (ما يُعمل به) يعني جواز نقل الأحاديث المشهورة المعمول بها بين المسلمين في الأحكام وغيرها، ممّا هو شائع يعرفه الخليفة كما يعرفه غيره من المسلمين.
وأمّا نقل الأحاديث التي لا يعرفها الناس أو ربّما لا يعرفها الخليفة، فلا يجيز تناقلها، لإِمكان حدوث التخالف بينها وبين اجتهاده، ممّا سيؤول إلى إيجاد مشكلة في جهاز الحكم الذي يُفترض فيه أن يكون مقوّماً ومرجعاً فقهيّاً للأمّة الإسلاميّة.
ولأجل كلّ هذا قال للصحابة: (أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت; نحن أعلم، نأخذ منكم ونردّ عليكم).
بهذا اتّضح أنّ الخليفة كان لا يرتضي التحديث بالرواية، كما أنّ الصحابة أو الكثير منهم كانوا لا يرتضون ما ذهب إليه، وهذا ـ كما ترى ـ مغاير لِما عمد البعض إلى إشاعته من أنّ الخليفة قد نهى عن التدوين حسب.
ومن ثمَّ يضاف إلى قائمة الأسماء، أسماء آخرين قد خالفوا الخليفة في رأيه، هم:
25 ـ أبو الدرداء.
26 ـ أبو مسعود الأنصارىّ.
27 ـ عقبة بن عامر.
ولا نريد هنا التفصيل في هذه الأسماء، مكتفين بالإشارة إلى أنّ هناك صحابة كثّر يتحد فقههم مع فقه أهل البيت، وهؤلاء لا ينحصر عددهم بثلاثة عشر، كما زعم ذلك ابن حجر، أو سبعة كما زعم موسى جار الله.
آراء متضاربة
سئل ابن عبّاس: عن رجل توفّي وترك بنته وأُخته لأبيه وأُمّه.
فقال: لابنته النصف وليس لاخته شئ.
فقال السائل: فإنّ عمر قضى بغير ذلك.
فقال ابن عبّاس: أأنتم أعلم أم الله؟!
قال السائل: ما أدري ما وجه هذا حتّى سألت ابن طاووس [اليماني ]، فذكرت له قول ابن عبّاس، فقال: أخبَرَني أبي أنّه سمع ابن عبّاس يقول: قال الله عزّ وجلّ {إنِ امْرؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُختٌ فَلَها نِصفُ ما تَرَكَ }(1) فقال ابن عباس: فقلتم أنتم: لها نصف ما ترك وإن كان له ولد(2).
إنّ عمر كان قد ساوى في الميراث بين بنت الميت وأُخته لأبيه وأُمّه، لأنّ البنت حسب نظره لا يصدق عليها حقيقة الولد، كما هو المعروف عند العرب من قبل. والمعلوم أنّ هذه الرؤية تخالف صريح القرآن العزيز لقوله عزّ وجلّ {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أوْلأدِكُم للذّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيين }(3).
فدلّت هذه الآية على أنّ البنت (ولد) بالمفهوم القرآنىّ والعُرفىّ والحقيقىّ، ومع وجود الولد لا تأتي رتبة الإخوة والأخوات في الإرث، لقوله تعالى { وَهُو يَرِثُها إنْ لَم يَكُنْ لَها وَلَد، فإن كانَتا اثْنَتَين فَلَهُما الثُّلُثان ممّا تَرَكَ وإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالاً ونِسَاءً فَللِذّكرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبيّن اللهُ لكَمْ أن تَضِلّوا واللهُ بكلِّ شَيّ عَلِيم }(4).
____________
1- النساء: 176.
2- المستدرك على الصحيحين 4: 376، ح 7979، السنن الكبرى للبيهقي 6: 233، ح 12113، كنز العمّال 11: 44، ح 30558.
3- النساء: 11.
4- النساء: 176.
وللخليفة رأي آخر في عول الفرائض خالفه فيه ابن عبّاس:
قال عمر: والله ما أدري أيّكم قدّم الله ولا أيّكم أخّر، وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أنّ أقسمه عليكم بالحصص.
فقال ابن عبّاس: وأيم الله، لو قدّم مَن قدّم الله وأخّر مَن أخّر الله ما عالت فريضة(1).
وحَكَمَ في امرأة ماتت عن زوج وأُمّ وأخَوَين لأمّها دون أبيها، وأخَوَين لأمّها وأبيها معاً بحكمين مختلفين:
قضى في المرّة الأولى بإعطاء زوجها فرضه ـ وهو النصف ـ وإعطاء أُمّها فرضها ـ وهو السدس ـ وإعطاء أخويها لأمّها خاصّة الثلث الباقي، فتمّ المال وأُسقط أخواها الشقيقان.
وفي المرّة الثانية أراد الخليفة أن يحكم كما حكم سابقاً، فاحتج الاخوة من الأب والأم فقالوا: يا أمير المؤمنين! لنا أب وليس لهم أب، ولنا أُمّ كما لهم، فإن كنتم حرمتمونا بأبينا فوِّرثونا بأُمّنا كما ورّثتم هؤلاء بأُمّهم، واحسبوا أنّ أبانا كان حماراً، أوَ ليس قد تراكضنا في رحم واحد؟
فقال عمر عند ذلك: صدقتم، فأشرك بينهم وبين الإخوة من الأُمّ في الثلث(2)، وفي رواية أُخرى: هب أنّ أبانا كان حجراً مُلْقىً في اليمّ، فأشركنا في قرابة أُمّنا، فأشرك بينهم بتوزيع الثلث على الإخوة الأربعة بالسواء.
فقال له الرجل: إنّك لم تشركهما عامَ كذا.
____________
1- السنن الكبرى للبيهقىّ 6: 253، ح 12237، وانظر المستدرك على الصحيحين 4: 378، ح 7985.
2- أحكام القرآن للجصّاص 3: 24، باب المشركة.
أخرج الشافعىّ في (المسند)، وأبو داود والبيهقىّ عن طاووس: أنّ عمر(رضي الله عنه)قال: أسَمِعَ امرؤ عن رسول الله في الجنين شيئاً؟
فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جاريتين لي [يعني ضرّتين ]فضربتْ إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميّتاً، فقضى فيه رسول الله بُغرّة.
فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، إن كِدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا(2).
قال عبيدة السـلمانىّ: لقد حفظتُ لعمر بن الخطّاب في الجدّ مائة قضـيّة مختلفة(3).
وعلّق الدكتور محمّد سلاّم مدكور على أمر عمر في الجدّة بقوله: (... ولكنّ عمر كان يأبى إلاّ أن يكون الجدّ أولى من الإخوة، ويقول: لو أنّي قضيت به اليوم لقضيت به للجدّ كلّه، ولكنّه اتّجه إلى العدول عن رأيه وقال: لعلّي لا أخيّب منهم أحداً، ولعلّهم أن يكونوا كلّهم ذوي حقّ. ثمّ عَدَل مرّة أُخرى إلى المقاسمة بشرط ألاّ تقلّ عن السدس. ثمّ عدل إلى المقاسمة بشرط ألاّ تقلّ عن الثلث على ما ذكرنا. وما كان هذا الاختلاف وعدم الاستقرار في الرأي إلاّ لأنّ المسألة اجتهاديّة صرفة لم يِرد فيها نصّ يبيّن الحكم بوضوح.
____________
1- سنن الدارمي 1: 162، باب الرجل يفتي بالشئ ثم غيره، ح 645، سنن الدارقطني 4: 88، كتاب الفرائض والسير، ح 66، واللفظ له، السنن الكبرى للبيهقي 6: 255، باب المشركة، ح 12247، و10: 120، باب من اجتهد من الحكام وغير اجتهاده.
2- مسند الشافعي 1: 241، السنن الكبرى للبيهقي 8: 114، باب الدية، الاحكام للامدي 2: 76.
3- مصنّف عبد الرزّاق 10: 261، باب فرض الجد، السنن الكبرى للبيهقي 6: 245، واللفظ له، فتح الباري 12: 21، تغليق التعليق 5: 219، شرح الزرقاني 3: 142، موسوعة فقه عمر بن الخطاب: 53.
وقال الدكتور محمّد روّاس قلعه چي بعد أن أتى بكلام عبيدة السلمانىّ والآية الكريمة { ولأبوَيْهِ لكلّ واحد منهما السُّدس ممّا تَرَكَ إنْ كانَ لَهُ وَلَد }(2) وقوله: { فإن لمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أبوَاهُ فَلأمّهِ الثُّلُث }(3). قال: يفهم منه أنّ الباقي للجدّ(4). (وكان عمر يلاحظ اضطرابه في قضيّة ميراث الجدّ مع الإخوة، فاستشار الصحابة في شأنه أكثر من مرّة، ولكنّه لم يصل فيه إلى قرار حاسم. وقبيل وفاته أحبّ أن تستقرّ الأمور في الجدّ على شكل ما، حتّى لا يترك الأمر فوضى، فكتب في الجدّ والكلالة كتاباً، ومكث يستخير الله ويقول: اللّهمّ إن علمت فيه خيراً فامضِه، حتّى إذا طعن دعا بالكتاب فمحاه، فلم يدرِ أحد ما كان فيه فقال: إنّي كنت كتـبت في الجدّ والكلالة كتاباً وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه)(5).
وعلّق السيوطىّ في (الأشباه والنظائر) على اجتهادات عمر في الجدّة بقوله: وعلّته أنّه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأوّل، فإنّه يؤدّي إلى أنّه لا يستقرّ حكم، وفي ذلك مشقّة شديدة، فإنّه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلّم جّراً(6).
والذي يدل دلالة قطعية على أن عمر كان يجتهد في قبال الكتاب والسنة، هو أنّ
____________
1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 172.
2- النساء: 11.
3- النساء: 11.
4- موسوعة فقه عمر بن الخطّاب: 53.
5- موسوعة فقه عمر بن الخطّاب: 54، والخبر في مصنف عبد الرزاق 6: 43، باب الكلالة، وتفسير الطبري 6: 43، الإحكام لابن حزم 6: 279.
6- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: 452 عن الأشباه والنظائر: 101.
وقال الصالحي الدمشقي في سبل الهدى والرشاد: وروى ابن راهويه وابن مردويه قال الشيخ ـ وهو صحيح عن ابن المسيب ـ ان عمر سأل رسول الله كيف تورث الكلالة؟
قال: أوليس قد بين الله تعالى ذلك ثم قال: وإن كان رجل يورث كلالة [ النساء 12 ] إلى آخرها، فكأن عمر لم يفهم.
فأنزل الله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء 176 ] إلى آخر الآية، فكأن عمر لم يفهم.
فقال لحفصة: إذا رأيت رسول الله طيب نفس فسأليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها، فقال (صلى الله عليه وآله): أبوك ذكر لك هذا، ما أرى أباكِ يعلمها أبداً فكان يقول: ما أراني أعلمها أبداً، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قال(2).
وبعد هذا قد يكون ما جاء في حديث الإمام علي (من سرهُ أن يقتحـم جراثـيم جهنم فليقض بين الجد والأخوة)(3) أي يرمي بنفسـه في معاظـم
____________
1- رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. انظر المعجم الاوسط 4: 295، ح 4245، واللفظ له، وطبقات المحدثين باصبهان 3: 564، ومجمع الزوائد 4: 227، باب ما جاء في الجد، وكنزل العمال 11: 58، ح 30611، عن (عب، هق، وأبو الشيخ في الفرائض).
2- سبل الهدى والرشاد 9: 287، وهو في أحكام القرآن للجصاص 3: 18، تفسير ابن كثير 1: 595، الدر المنثور 2: 754.
3- سنن الدارمي 2: 450، باب الجد، ح 2902، واللفظ له، السنن الكبرى للبيهقي 6: 245، باب التشديد في الكلام في مسألة الجد مع الأخوة، ح 12196وهو أيضاً في مصنف عبد الرزاق 10: 262، ومصنف ابن ابي شيبة 6: 268.
ناظراً إلى اجتهادات الشيخين لما عرف عنهما من التضارب في فتاواهما في إرث الجد، وخصوصاً فتاوى عمر بن الخطاب. وتخالف ذلك مع الذكر الحكيم.
القول باجتهاد النبىّ (صلى الله عليه وآله)!!
فاتّضح إذاً ـ على ضوء النصوص السابقة ـ اضطرارهم إلى اتّخاذ الاجتهاد كمنطلق يمكن على ضوئه تبرير اختلاف وجهات النظر بين الصحابة، بل بين فتاوى الخليفة نفسه أو الصحابىّ الواحد نفسه، لأنّه الغطاء الذي يمكن أن يحتمي به الداعون إلى مدرسة الخلفاء، والاجتهاد، والعاملين به على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، لرفع التضادّ والتناقض الموجود بين فقه الصحابة.
لكنّنا نريد أن ندرس القضيّة من جذورها، ومن منطلق أكثر عقلانيّة وواقعيّة، لنرى: هل كان الرسول يجتهد في الأحكام حقّاً، أم أنّ ما نسبوه إليه(صلى الله عليه وآله) جاء لتصحيح اجتهادات الصحابة؟
وهل يعقل أن يتّخذ الرسول الاجتهاد وسيلة للوقوف على حكم السماء، وهو المأمور بتبيين الأحكام الصادرة من الله للناس، وهو رسول ربّ العالمين؟!
ولو سُمح له(صلى الله عليه وآله) بالاجتهاد، فلِمَ يتوقّف(صلى الله عليه وآله) في بيان حكم اللعان(2)، وميراث العمة والخالة حتّى ينزل عليه الوحي؟!(3)
____________
1- لسان العرب 12: 463 مادة "قحم".
2- انظر تفسير الطبري 18: 83، مسند احمد 1: 238، ح 2131، سنن ابي داود 2: 277، باب في اللعان، ح 2256، أسباب النزول للواحدي: 213، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي: 153.
3- انظر سنن الدارقطني 4: 80، ح 42 و4: 98، ح 90 و4: 99، ح 98، من كتاب الفرائض والسير، المستدرك على الصحيحين 4: 381، ح 7997، تفسير القرطبي 8: 60، الدر المنثور 2: 450، المراسيل لأبي داود 1: 263.
وإذا كان الرسول بمقدوره الحصول على اليقين، فكيف يعمل بالظنّ الذي هو أقلّ درجة عن اليقين.؟!
يضاف إلى ذلك: ماذا نفعل بالآيات الأخرى الآمرة بلزوم اتّباع كلام رسول الله، كقوله تعالى: { مَا آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوُه، وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(1) وقوله تعالى: {فلا وَرَبِّكَ لا يُؤمنونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُم...}؟!(2) فنحن لو اعتبرنا الاجتهاد وعرفنا أنّه مبتن على الظنّ، وممّا يُحتمل فيه الخطأ، فكيف يوجب سبحانه اتّباع الظنّ والخطأ في أحكامه؟! وقد نهى سبحانه عن اتّباع الظنّ بقوله: { إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً }؟!(3)
يبدو أنَّ الإصرار على القول باجتهاد الرسول، إنّما صِير إليه لتصحيح اجتهادات الصحابة، ومنحها السمة المشروعة، وعلى الأخصّ فتاوى الشيخين. ومن يقرأ التاريخ والحديث بروح مجرّدة يقف على ما نقول. وإنّك لو تمعّنت فيما استدلّ به علماء الأصول ـ من اتّباع مدرسة الرأي ـ على اجتهاد الرسول، وما ذكروه من أدلّة لعرفت أنّ السرّ فيه إنّما هو الإشارة إلى الأخطاء التي نسبها بعضهم إليه(صلى الله عليه وآله) في مقام التشريع! فأرادوا حلّ هذه العويصة بمخرج الاجتهاد والرأي.
ثمّ لو كانت أقواله(صلى الله عليه وآله) وأفعاله، نابعة من اجتهاداته(صلى الله عليه وآله) المسموح بها حسب فرضهم، فلماذا نرى غالب تصريحاتهم وتلويحاتهم توحي بأنّ النبىّ تخلّف عن أوامر الله ـ كما في صلاته على المنافق ـ وتخلّف عن الضوابط الإنسانيّة كما نرى عبوسه عند مجي الأعمى عبد الله بن مكتوم... وغيرها ممّا نسبوه إلى النبىّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) ، حتّى
____________
1- الحشر: 7.
2- النساء: 65.
3- يونس: 36، النجم: 28.
انظر إلى كلام الزمخشرىّ هذا كيف يتطاول به على ساحة النبوّة المقدّسة!!
لقد قال أتباع الاجتهاد المانعون للتدوين بمثل هذا القول فيما يتّصل برسول الله(صلى الله عليه وآله) ، في حين يؤكّدون أنّ الوحي كان يوافق الخليفة عمر بن الخطّاب في كلّ تلك القضايا التي أخطأ فيها النبىّ(صلى الله عليه وآله) ، وأنّ النبىّ قد شهد له بذلك.. أترك القارىَ ليفهم مغزى هذا التناقض وسرّ تخطئة الرسول(صلى الله عليه وآله) وسلامة رأي عمر وموافقة الوحي له دون النبىّ!
ولو تنزّلنا وقلنا أنّ النبىّ بشر، له مَلَكات ربّانيّة، وأنّ غالب أُموره الدنيويّة كانت تصدر بقرار من نفسه وليس لها ارتباط بالوحي، بمعنى أنّه (صلى الله عليه وآله) لو قال لأحد: كيف أنت؟ لا يعني أنّه قالها له امتثالاً لأمر الباري، وكذا قوله: ماذا تأكل؟ أو: اذهب إلى فلان لأخذ الحاجة الفلانيّة، أو ائتني بماء فإنّي عطشان، ومثلها مزاحه مع أزواجه والمؤمنين، وغيرها من متطلّبات الحياة العامّة..
وكذا الحال بالنسبة إلى حروبه، فكان(صلى الله عليه وآله) يشاور الصحابة، كما في مصالحة غطفان يوم الخندق(3)، والخروج إلى أُحد(4)، وأخذه برأي سلمان الفارسىّ في حفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب(5)، وكذا أخذه(صلى الله عليه وآله) برأي حبّاب في النزول عند الماء في غزوة بدر، وبقول سعد بن معاذ في بناء عريش بدر(6) وغيرها من
____________
1- التوبة: 43.
2- تفسير الكشّاف 2: 153.
3- سيرة ابن هشام 4: 104، وعنه في اجتهاد الرسول: 95.
4- أنظر البخارىّ ومسلم ومسند أحمد والنسائىّ وسيرة ابن هشام 3: 64 بل جميع التواريخ.
5- السيرة النبويّة لابن هشام 3: 235.
6- السيرة النبويّة لابن هشام 2: 271، وللتفصيل في هذه الواقعة ونظائرها راجع اجتهاد الرسول للدكتورة نادية شريف العمرىّ: 83 ـ 146.