فلو سلّمنا كلّ هذا وأعرضنا عن أن النبىّ(صلى الله عليه وآله) كان يفعل كل ذلك ويتكلّم به بأمر الله وبما يوافق مراد الباري سبحانه وتعالى، وأنّه كان يشاور أصحابه استطابة لنفوسهم وتعليماً لهم على الحنكة والتدبير، ثمّ يجزم هو (صلى الله عليه وآله) بما أراه الله بما هو في صالح المسلمين، وما هو مراد الله سبحانه وتعالى. أقولُ: لو سلّمنا كلّ ذلك نقول:
إنّ هذه القضايا هي مواقف في أُمور الحرب والموضوعات الخارجيّة، وهي ليست كاجتهادات الخليفة عمر بن الخطّاب; إذ أنّ غالب ما ذهب إليه كان في الأحكام الشرعيّة وليس شي منها في الموضوعات الخارجيّة! هذا بعد الإغضاء عن أنّ اجتهاد النبىّ ـ لو فرض صحّته ـ لا يساوق اجتهاد غيره، باعتبار أنّ عقل النبىّ هو أكبر عقل وأَدْرَكُهُ للواقع، فإنّ اجتهاده جاء بعد إلمامه بالمصالح والمفاسد والمقدّمات والنتائج، وكان ذلك موافقاً لحكم الله الواقعىّ، واين هذا من اجتهاد غيره؟
نعم، إنّهم بطرحهم هذه الرؤية كانوا يريدون مساواته(صلى الله عليه وآله) مع الصحابة لتعميم الأمر عليهم، ولكي يرفعوا به التخالف الموجود بين أقوالهم، وليخلصوا إلى القول: إنّها اجتهادات كاجتهادات النبىّ!
بَيْد أنّ ما لا ريب فيه كما يشهد الجميع أنّ ما يسمّى باجتهاد النبىّ هو غير اجتهاد الصحابة، فالنبىّ لو ارتضينا أنّه مجتهد لم يكن يجتهد إلاّ في الموضوعات وأُمور الحرب والأقضية، وذلك لا يعني أنّه(صلى الله عليه وآله) كان يجتهد في الأحكام كذلك.
وأمّا العمل بالوظيفة الظاهرة فإنّه لا يعني الاجتهاد بمعناه المعروف اليوم لأنّ قوله(صلى الله عليه وآله): (إنّما أحكم بالظاهر وإنّكم تختصمون إلَيّ، ولعلّ أحدكم ألحن بحجّته من بعض، فمن قضيتُ له بشي من مال أخيه فلا يأخذه، فإنّما قطع له قطعة من النار)(1)،
____________
1- أنظر اجتهاد الرسول: 97.
هذا، وقد عُرف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه كان يحكم بين الناس في المدينة ـ وفي هذا ما يفهم منه أنّه كان يحكم ـ طبق الأدلّة والموازين. وفي هذا ما يعني ـ بما لا مجال للشكّ فيه ـ أنّه قَنَّنَ الحكم بالظاهر لكي لا تنخرق نواميس الشريعة والقوانين البشريّة التي جرت عليها سنّة الخلق.
إنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) لاتّصاله بالوحي إنّما كان يعرف حكم الشرع، وذلك لمعرفته بما في اللوح المحفوظ; لأنّ من الثابت عند المسلمين نزولُ القرآن مرّتين: نزل في الأولى كاملاً ليلة القدر، ونزل في الثانية نجوماً في الوقائع والأحداث المختلفة، فيكون ما يصدر عن النبي إنّما هو لِما عرفه من اللوح المحفوظ وإن لم تنزل عليه بالتنزيل الثاني ـ آية صريحة ـ لحين ذلك التاريخ.
وكذا الحال بالنسبة إلى ما قالوه في تمنّي رسول الله تحويلَ القبلة إلى المسجد الحرام; فلو كان اجتهاداً منه لحوّلها ولَما ظلّ ستّة أشهر أو سبعة يصلّي إليها حتّى نزل قوله تعال: { قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ }(1) لأجل انتظاره للوحي وتعبّده بأمر السماء، لا إتياناً منه(صلى الله عليه وآله) بحكم يخالف شريعة الله.
وأمّا الاستدلال على اجتهاد الرسول بقوله تعالى: { إنّا أنْزَلْنا إليكَ الكِتابَ بالحقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ الله}وتفسيرهم { بما أراك } بمعنى: بواسطة نظرك واجتهادك في أدلّة الأحكام.. فإنّه تفسير خاطىٌ ومخالف لظاهر الآية; لأنّ منطوق الآية وبقرينة السياق ـ {إنّا أنزلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ لِتحكُمَ بينَ الناسِ بما أراكَ
____________
1- البقرة: 144.
وأمّا أنصار مدرسة الرأي من الصحابة، فكانوا يريدون تعميم اجتهاداتهم حتّى على الأحكام الشرعيّة، وذلك بالطبع بعد عصر رسول الله. لأنّهم في عصر النبىّ كانوا يرجّحون أن تكون الأحكام مستوحاة من النصّ ومن كلام الرسول بل كان النبىّ يردعهم عن الرأي، لأنّه المرجع المصحّح لما قد يقعون فيه من الأخطاء، لكنّهم وبعد وفاته(صلى الله عليه وآله) اجتهدوا، فيما فيه نصّ وفيما لا نصَّ فيه.
وإنَّ هذا الاتّجاه قد استحكم بناُؤهُ في عهد الخليفة الثاني، لأنَّ المجتهدين على عهد الرسول وبسطاء المتعبّدين قد تأثّروا باتّجاه الرأي لاحقاً.
إنّ رفع الأمور في عهد النبىّ إليه(صلى الله عليه وآله) والعمل طبقاً لقوله(صلى الله عليه وآله) ، يعني أنّ الحُكم قد أُمضِي من قبل الشارع، وصار حجّة بإمضاء النبىّ; فالحجّة فيه إمضاء النبىّ لا ما فعله الصحابىّ وقاله!
فلو كان الاجتهاد بالرأي في عهده(صلى الله عليه وآله) حجّة كما هو المصطلح اليوم فلماذا ألزم أُسامةَ أن يدفع دية الرجل الذي قتله اجتهاداً منه؟!(2)
ولماذا قال(صلى الله عليه وآله): (اللهم أبرأ إليك ممّا صنع خالد)(3)
وقد مرّ عليك سابقاً كلام الدكتور مدكور إذ قال: (... إنّ الرسول ـ على مقتضى هذه النظريّة نفسها ـ لم يكن بحاجة إلى هذا المعنى من الاجتهاد... أمّا بعد انتقال الرسول من الحياة الدنيا وفي عصر الصحابة الذي ينتهي بنهاية القرن الهجرىّ الأوّل
____________
1- النساء: 105.
2- انظر أحكام القرآن للجصاص 3: 223.
3- صحيح البخاري 4: 1577، باب بعث النبي(صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، ح 4084، مسند أحمد 2: 150، ح 6382، الطبقات الكبرى 2: 148، الاستيعاب 2: 428 قال: وخبره بذلك في صحيح الأثر.
وقال الدكتور معروف الدواليبىّ: (لا جديد في الغالب من أحداث لم يألفها ووقائع لم يتخرج في أحكامها، على نحو ما في الكتاب والسنّة من حكم وإرشاد.
وهذا يعني أنّ الاجتهاد في أثناء حياة النبىّ لم يلعب دوراً هامّاً ذا شأن، بل بقي ضمن نطاق من القضايا محدود، وعدد منها معدود)(1).
وقالت الدكتورة نادية العمرىّ: (حتّى لقد كان يقترح [عمر ]من التشريعات في عهد رسول الله ما يراه متّفقاً مع الفضيلة والحقّ والمصلحة)(2) وهذه الكلمات تعضد ما توصّلنا إليه من أنّ الاجتهاد ـ بمعناه اليوم ـ لم يكن حجّة في زمان النبىّ(صلى الله عليه وآله) وإنّما تكامل اصطلاحيّاً في وقت متأخّر على يد الشيخين ومَن سار مسيرهما، وأنّ انبثاقه وتكامله كان لحاجتهم إلى الأحكام، ولعدم إحاطتهم بجميع الأحكام ووجوه الاستدلال فيها.
والآن.. نعود إلى صلب البحث لكي نعرف موقف الخليفة عمر بن الخطّاب من الصحابة ونعرف موقفهم منه. وقد استبان لك موقفه من ابن مسعود وهو الصحابىّ الذي أرسله مع عمّار إلى الكوفة ليعلّماهم أُمور الدين، وقوله لأهل الكوفة لمّا أرسلهما إليهم: إنّهما من النجباء من أصحاب محمّد من أهل بدر، فاقتدوا بهما واستمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي(3). وكذا موقفه مع غيره من الصحابة.
____________
1- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: 32 عن المدخل إلى علم أُصول الفقه: 78 ط5 ـ 1965.
2- اجتهاد الرسول: 259.
3- الطبقات الكبرى 6: 8، تذكرة الحفاظ 1: 14، معتصر المختصر لابي المحاسن 2: 314.
وقد مرَّ أنّه اتّخذ أُسلوب العنف إزاء الصحابة، لأنّه أدرك مواقفهم من فقهه، وعلم أنّهم لا يرتضون اجتهاداته المخالفة لسنّة رسول الله وأنّهم ما يزالون يعترضون عليها. وأنّهم مع ذلك العنف ظلّوا مصرّين على ما تلقّوه من النبىّ(صلى الله عليه وآله) ، حتّى بلغ الأمر ببعضهم أن يعمد إلى اختبار فهم الخليفة أمام المسلمين لإِعلامهم أنّ اجتهادات عمر خاطئة، بعيدة عن السنّة.
مُسائلة الصحابة للخليفة
وإليك نصّين في ذلك:
الأوّل: عن الحارث، عن عبد الله بن أوس، قال: أتيتُ عمر بن الخطّاب، فسألته عن المرأة تطوف بالبيت ثمّ تحيض؟
قال: ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت.
قال الحارث: فقلت: كذلك أفتاني رسول الله.
فقال عمر: أربت على يّدك، سألتني عمّا سألت عنه رسول الله لكيما أُخالف؟!(2)
____________
1- شرح نهج البلاغة 3: 44.
2- مسند أحمد 3: 416، سنن أبي داود 2: 208، باب الحائض تخرج بعد الافاضة، ح 2004، واللفظ له، الاحاد والمثاني 3: 228، ح 1589، المعجم الكبير 3: 262، ح 3353، وجاء في الغدير للاميني 6: 112، عن سنن أبي داود وفيه (قال عمر: تبت يداك أو ثكلتك امك سألتني عما سئلت عنه رسول الله(صلى الله عليه وآله) كيما أخالفه).
قال عمر: لا.
فقال له الثقفىّ: فإنّ رسول الله أفتاني في هذه المرأة بغير ما أفتيتَ به!
فقام إليه عمر يضربه بالدرّة ويقول: لِمَ تستفتيني في شي قد أفتى فيه رسول الله؟!(1)
والجدير بالذكر هنا هو استخدام لفظة (الإفتاء) في هذا العهد، وأنّ الخليفة قد قالها عن النبىّ كذلك، في حين نعلم بوجود (فرق بين الرسالة والفتوى; أنّ الفتوى تقبل النسخ من حيث الجملة في جنسيهما، وأمّا الرسالة فهي لا تقبل النسخ بأن تكون خبراً صِرْفاً)(2).
وكأنّه راح يوسّع فكرة الاجتهاد ـ التي رأى فيها علاج كلّ شي ـ بأقصى ما يملك من قدرة، حيث لم يُمكنه القول بمشروعيّة رأيه وارتقائه إلى مرتبة قول الرسول إلاّ بعد المرور بعدّة مراحل، منها القول بأنّ النبىّ كان من المجتهدين وأنّ بعض أحكامه قد صدرت عن رأي، وبذلك قد تنزّلت أقواله(صلى الله عليه وآله) إلى مرتبة غيره من المجتهدين، بحيث يمكن مضاهاتها من حيث إمكان الأخذ والطرح، وهذا من أعجب العجائب.
ولو دقّقتَ النظر في مخالفة ـ بل مخالفات ـ الصحابة إيّاه في طروحاته وآرائه، لعرفت أنّ الشكّ في سلامة فقه عمر بن الخطّاب كان أمراً مطروحاً عند الصحابة.
____________
1- المدخل إلى السنن الكبرى 1: 104، باب الحديث الذي يرو خلافه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ح 24، مفتاح الجنة للسيوطي 1: 44، ايقاظ الهمم 1: 8، ورواه أبو داود بنحوه.
2- انظر اجتهاد الرسول: 352 ـ 353.
فعن علىّ بن أبي طالب: سَل تفقّهاً، ولا تسأل تعنّتاً، فإنّ الجاهل المتعلم شبيهٌ بالعالم، وإنّ العالم المتعسّف شبيه بالجاهل المتعنّت(1).
وقوله: الناس منقوصون مدخولون إلاّ من عصم الله، سائلهم متعنّت ومجيبهم متكلّف(2).
لكنّ الذي نريده هو الوقوف على الحقائق، لأنَّ الصحابة ـ على رغم وقوفهم على النصوص الذامّة للسؤال اختباراً ـ كانوا ينزعون إلى هذا اللّون منه في تعاملهم مع عمر; لأنّهم يجدون فيه أُسلوباً للخروج من الأزمة التي هم فيها، ولأنّ تكرار مواقفهم هذه من الخليفة من شأنه أن يبصّر الآخرين بأنّ فقه الخليفة الثاني لا يتطابق في كثير من الأحيان مع ما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، سواء أَعَلِمَ الخليفة بورود نصّ آخر يخالف ما أفتى به، أم لم يعلم بورود شي فيه أصلاً.
ولأنهم أرادوا إيقاف عامة المسلمين على عدم امتلاك الخليفة عمر دوراً في التشريع، وعدم امتلاكه القدرة الكافية على استنباط الأحكام من الكتاب العزيز والسنة الشريفة، وعدم أهليته لأَن يكون رأيه قسيم الكتاب والسنّة في هذا الشأن.
ويبدو لي أنّ إثارة الصحابة لهذه القضايا وتكرارهم السؤال عنها، لم يَعْنوا به المساس بشخصيّة الخليفة بقدر ما كانوا يريدون به الدفاع عن حياض التشريع الإسلامىّ ومنع الآخرين عن إدخال الآراء في الشريعة.
وقد استبان لك بجلاء تخالف وجهات النظر بين الخليفة وكثير من الصحابة في
____________
1- نهج البلاغة (الحكم) 4: 76.
2- نهج البلاغة (الحكم) 4: 80، حلية الاولياء 9: 290.
من هنا عمد قسط كبير من الأعلام ـ تفادياً لاختلاط الأحكام الاجتهاديّة الصادرة عنهم بالأحكام النبويّة ـ إلى ضرورة الفصل والتمييز بينهما، لكيلا يقع المسلمون في حرج حين الأخذ; لأنّ الخبر الذي يصدر عن اجتهاد هو غير الذي يصدر عن وحي، فسمّيت أحكامهم بالاجتهاد ـ ثم أضفي عليها اسم الأثر ـ وما صدر عن النبىّ بالسنّة. وقد صرّح بعض الصحابة بأنّ ما يقوله من نفسه وليس مأثوراً عن سنّة النبىّ(صلى الله عليه وآله).
وقال الدكتور مدكور: ومن الطبيعىّ أنّ الاجتهاد بالرأي يترتّب عليه اختلاف وجهة النظر والتفاوت في الفتاوى والأحكام(1).
وقال أيضاً: وإنّ اجتهاد الصحابة لم يقف عند القياس، وإنّما شمل كلّ وجوه الرأي. عمدتهم في ذلك البديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع مع وعي كامل للأساس العقلىّ الذي يقوم عليه الرأي، والدور الذي يؤدّيه في إظهار الأحكام الشرعيّة(2).
الآراء وتأثيرها على الفقه
علّل بعض الكتّاب والباحثين اختلاف نظر الصحابة ـ إضافة لما سبق ـ بتفاوتهم في العقل والإدراك والمناهج، متناسين منطلقات الخليفة ـ وأنصاره من أتباع الرأي على عهد رسول الله ـ ومتطلّبات الوضع العامّ في الدولة الإسلاميّة، إذ الجميع يعلم أنّ الاختلاف بين المسلمين لم يقع في حجّيّة الكتاب أو السنّة، بل الكلام
____________
1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 80.
2- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 80.
وهل وُضع لتأييد المذهب الفلاني والخليفة الفلاني أم ليس له ارتباط بذلك، بل هو بيانٌ محض؟
ويبدو أنّ اختلاف النُّقول عن الصحابة في الأحكام له مفهوم آخر، غير ما قالوه من أنّه نتيجة طبيعيّة للاجتهاد، ذلك لأنّ الاختلاف يشير إلى تخالف الاتّجاهات الفكريّة آنذاك وليس كلّ اختلاف يمكن تعليله بأنّه اجتهاد رأي ـ كما يقولون ـ.
فلنأخذ البسملة مثلاً، فلو راجعت كتب الصحاح والسنن لرأيت الأقوال فيها مختلفة حتّى عن الصحابىّ الواحد; فتارة يروون عن أنس أنّه جهر بالبسملة، وأُخرى يروون عنه أنّه قال: لا تجهروا، لأنّي صلّيت خلف أبي بكر وعمر فكانا لا يجهران، وتارة ثالثة يذكرون حكماً آخر يختلف عن سابقيه.. وهكذا.
وقد أشار الفخر الرازىّ إلى الآراء الأربعة المنسوبة إلى أنس، ثمّ قال: (فهذه الروايات الثلاث تقوّي قول الحنفيّة، وثلاث أُخرى تناقض قولهم:
أحدها: ما ذكرنا من أنّ أنساً روى أنّ معاوية لمّا ترك (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بيّنا أنّ هذا يدلّ على أنّ الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.
وثانيها: روى أبو قلابة، عن أنس: أنّ رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم.
وثالثها: أنّه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به، فقال: لا أدري هذه المسألة.
فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظُم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضاً ففيها تهمة أُخرى وهي أنّ عليّاً(عليه السلام)
هذا هو كلام الفخر الرازىّ، وهو يوضّح دور الحكومة في اختلاف الأحكام الشرعيّة.
وجاء عن ابن عبّاس: أغفل الناس آية من كتاب الله تعالى لم تنزل على أحد سوى النبىّ إلاّ أن يكون سليمان بن داود، بسم الله الرحمن الرحيم(2).
وروى محمّد بن منصور قال: سمعتُ جعفراً يقول: لقد أغفلوا اسماً عظيماً (بسم الله الرحمن الرحيم)(3).
وجاء عن القاسم بن محمّد أنّه قال في القراءة: إنْ تركته فقد تركه ناس يُقتدى بهم، وإن قرأته فقد قرأه ناس يقتدى بهم!(4)
وهذا يوضّح امتداد النهجين ووجود كلا الاتّجاهين بين الصحابة والتابعين، وكلّهم ممّن يُقتدى بهم!
اتّضح إذاً أنّ اختلاف نُقول الصحابة بهذه السعة وخصوصاً في المسائل التي خولف فيها أهلُ البيت يُوحي بوجود نهجين في الشريعة:
1 ـ أهل البيت وطائفة من الصحابة يؤكّدون على جزئيّة البسملة، ولزوم الجهر فيها.
____________
1- تفسير الفخر الرازىّ 1: 206.
2- الدرّ المنثور 1: 20، الإتقان 1: 116، 211، والبيهقىّ في شعب الإيمان 2: 438، ح 2328.
3- رأب الصدع 1: 255 رقم 353.
4- الحجة للشيبياني 1: 119.
وكذا الحال بالنسبة إلى الإرسال والقبض في الصلاة فنلحظ نصوصاً لكلا النهجين(1)، ومثله سائر الأحكام الشرعيّة; فاختلاف النظر بين الصحابة يرجع إلى جذور عميقة وأُصول مُبتناة عند بعضهم، فهذا يستند إلى ما صحّ عنده من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، والآخر إلى ما أفتى به كبار القوم واجتهده في قول وفعل رسول الله. وما عرفوه من ملاكات للأحكام، وكذا كون التأمين سنة أو بدعة، فمَن يقول بعدم جواز التأمين لا يعني بكلامه أنّه اجتهد في ذلك، بل إنّ له أصلاً تمسّك به في نفي ذلك، وكذا الحال بالنسبة إلى من يقول بجزئيّة الحيعلة الثالثة في الأذان فإنَّ له أصلاً في ذلك، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأحكام الشرعيّة التي خولف فيها أهل البيت.
وعليه فإنّ بعض اختلاف الصحابة في الأحكام إنّما مَرَدّه إلى ما لهم من ميول واتّجاهات وإلى ما أصّلوه وجعلوه دليلاً، وليس جميعها اجتهادات بحتة، وخصوصاً في المسائل التي اتّفقوا فيها مع مدرسة أهل البيت، فإنَّها ممّا تؤكّد وجود صحابة لهم أُصول وأدلّة التزموا بها رغم كلّ الظروف، وبعد هذا كيف يمكن لأحد أن يدّعي أنّ تلك الروايات هي روايات ضعيفة دخلت الفقه من قِبل الزنادقة، وما إلى ذلك من أقوال لا تعضدها حجّة ولا تقوم على دليل.
إنّ عيون الصحابة كانوا عبر استدلالهم بالقرآن المجيد والسنّة النبويّة لا غير، يريدون تبصير الآخرين بأنّ هناك اتّجاهاً يتّخذ الرأي قِبالَ النصّ، عند عدم الحصول على النصّ والعوز إليه بل حتى مع وجوده. فمن شاء فليؤمن بالتعبّد بالقرآن والحديث، ومن شاء فليعكف على اتّخاذ الرأي والتضحية بالنصّ.
ولنطبّق حكم المرأة التي حاضت بعد أن زارت، فهل أنّ حكمها أن تنفر قبل أن تطهر أم تنتظر، كما أفتى عمر بن الخطّاب؟
____________
1- وقد قَطَع الإمام مالك بأنّ السنة هي الإرسال. انظر بدائع الصنائع 1: 201.
والمعروف عن زيد بن ثابت وابن عمر أنّهما قد تأثّرا برأي الخليفة وأفتَيا بما قاله في هذه المسألة.
لكن زيداً(2) وابن عمر(3) قد عَدَلا عن رأيهما. وقيل: إنّ عمر قد ترك صنيعه الأوّل، ولعلّ سبب ذلك هو الحديث الذي بلغه ـ ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما ـ عن عائشة قالت: حاضت صفيّة بعد ما أفاضت، أي طافت طواف الإفاضة.
قالت عائشة، فذكرتُ حيضتها لرسول الله، فقال رسول الله: أحابِسَتُنا هي؟
قلت: يا رسول الله! إنّها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثمّ حاضت بعد الإفاضة.
فقال رسول الله، فلتنفر.
أو لحديث آخر(4).
وأمّا ما كتبه زيد إلى ابن عبّاس فجاء فيه قوله: إنّي وجدت الذي قلت كما قلت، فقال ابن عبّاس: إنّي لأعلم قول رسول الله للنساء، ولكنّي أحببت أن أقول بما في كتاب الله، ثمّ تلا الآية { ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بالبيتِ العَتيقِ}(5) فقد قَضت التفَث، ووَفَت النَّذر، وطافت بالبيت، فما بقي؟(6)
وفي كلام ابن عبّاس ما يؤكّد أنّ المنقول عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذو أصل في الكتاب العزيز الذي دعا الخليفة الناس إلى الاقتصار عليه بقوله: (حسبنا كتاب
____________
1- موسوعة فقه زيد بن ثابت: 107 عن المغني 3: 461، المجموع 8: 229.
2- موسوعة زيد بن ثابت: 107.
3- موسوعة عبد الله بن عمر: 285.
4- انظر موسوعة عمر بن الخطاب: 333 عن المحلّى 7: 170.
5- الحجّ: 29.
6- سنن البيهقىّ 5: 163، ح 9543، كما في الدراسات للأعظمىّ: 136.
على أنّ بروز ظاهرة استدلال الإمام علىّ والحَبْر ابن عبّاس بكثرة كاثرة على الأحكام المختلف فيها، بمنطوق الكتاب أو مفهومه أو كنهه، أو بأحد أنواع الدلالات الأخرى ليدلّ بما لا يقبل الشكّ على أُمور:
أوّلها: إرشاد المسلمين عمليّاً إلى إمكان استنباط الأحكام الشرعيّة أو الكثير منها من كتاب الله، وذلك بالتأمّل، والتفكير، والاستنتاج، والعقليّة الفقهيّة السليمة، وهذا برهنةٌ منهما على ما يدّعيانه من عدم الضرورة الملجئة إلى اختراع مقاييس جديدة، وإنشاء قواعد مستحدثة، وإطلاق عنان الاجتهاد والرأي; إذ من الممكن الواقع معرفة الأحكام من خلال آيات الكتاب والاستدلال بها.
وثانيها: وقوع الاختلاف الفاحش بين الصحابة ومرويّاتهم، بل بين مرويّات الصحابىّ الواحد في الواقعة الواحدة، بالإضافة إلى المسموعات الناقصة التي تلقّوها عبر واسطة أو أكثر دون السماع المباشر، مع ملاحظة عدم تنبه جميع الرواة لوجه الحكم المروي أو المسموع إلى جوار منع الحكّام للتحديث والتدوين وخوف الصحابة... هذا كلّه مجتمعاً جعل الاحتجاج بالسنّة أمراً متعسّراً قليل الجدوى، ضعيف الاقناع اللّهمّ إلاّ ما تطابَق النقل فيه، ـ وهو نزر قليل ـ ممّا يجدر معه باللبيب أن يعمد إلى الاحتجاج بالقرآن الذي لم يجرؤ أحدٌ على ردّ الاستدلال به.
وثالثها: هو إلزام أتباع نهج الاجتهاد بما ألزموا به أنفسهم، من كفاية كتاب الله (حسبنا كتاب الله) في حلّ المعضلات، ممّا يظهر التهافت البيّن بين هذه الكلّيّة التي أطلقوها وبين إخفاقهم على الصعيد العلمىّ والعملىّ في تطبيقها واستنتاج بعض مفرداتها، بعكس الملتزمين بنهج التعبّد الذين يرون ضرورة إشفاع الكتاب بالسنّة لبيان الأحكام، مع امتلاكهم القدرة الفائقة على استخراج الأحكام واستنباطها من
وعلى كلّ حال: فالفقه الإسلامىّ قد تأثّر بلا ريب باجتهادات عمر بن الخطاب، وانعكس اختلاف وجهات نظره على الأحكام، لأنّه جَدَّ في لزوم تطبيق ما أفتى به وجعله بمنزلة السنّة التي أكّد الرسول عليها، فقد تأثّر البعض من الصحابة بهذه الرؤية وألزموا أنفسهم بالسير على نهج الشيخين، وبذلك ترى الاختلاف أخذ مجاله في التشريع الإسلامىّ وأثّر في الأحكام الشرعيّة المتداولة بين المذاهب الإسلاميّة، فمثلاً:
أبو حنيفة وصاحباه وابن حنبل وزفر وابن أبي ليلى قالوا بحرمان الأخوين الشقيقين من الإرث لما حكم به عمر في الواقعة الأولى.
أمّا مالك والشافعىّ فإنّهما يُشركان الشقيقين مع الأخوين لأمّ في الثلث لما قضى به عمر في الواقعة الثانية.
والعجيب أنّهم يرون صحّة الرأيين لصدورهما عن الخليفة، وهو رجل غير معصوم، باتّفاق الجميع.
نعم، إنّهم في استدلالاتهم لم يكتفوا برأي عمر وحده فراحوا يعضدونه بقرائن أُخرى ترجّح أحد القولين!
وإزاء حالة كهذه يحقّ للمرء أن يتساءل عن حكم الله: في أىّ هذين الرأيين يجده؟
أتراه طابق الرأي الأوّل للخليفة عمر أم وافق الثاني، فإذا كان يطابق الحكم الأوّل وأنَّ الحقّ حرمانهما، فكيف يعطي الشقيقين في الواقعة الثانية، مع العلم بأنّ الإرث حقّ مالىّ، وعندها تظلّ ذمّة عمر مشغولة بمقدار ما أعطى للشقيقين لمن أخذ منهم؟
وإن قيل: إنَّ الحقّ إعطاؤهما، فكيف منعهما وحرمهما في الواقعة الأولى؟ وهكذا وهلّم جرَّاً.
نعم صارت سيرة الشيخين هي المطبَّقة في الشريعة، وأصبحت مسائلة الخلفاء ظاهرة يتخذها الصحابة في تعاملهم مع الخلفاء، فأحس بها الخلفاء فراحوا يهددون من يحترفها، فجاء في تاريخ دمشق وحياة الصحابة(1) أنّ سعيد بن سفيان سأل عثمان بن عفان عن مسألة فقال: فهل سألت أحداً قبلي؟
قال لا.
قال: لئن استفتيت أحداً قبلي فأفتاك غير الذي أفتيتك به ضربت عنقك.
أترك النص للقارئ دون تعليق.
متابعة الخليفة في تعليل المنع
أخذ محبّو الخليفة يتناقلون بأوسع نطاق تعاليل عمر في منع التدوين، فصارت تعاليله تتّحد معها تعاليل الآخرين الناهين من الصحابة، وفي هذا ما يشير بوضوح إلى حقيقة سياسيّة لا تخفى على البصير، تومىُ إلى كون الخليفة ـ وأنصاره ـ وراءها!
لقد دعا عمر بن الخطّاب إلى ترك تدوين السنّة الشريفة خوفاً من اختلاطها بالقرآن، أو أنّ الناس سيأخذون بالحديث ويتركون القرآن. ونفس التعليل ـ أو التعاليل ـ تراها ترد في حديث أبي هريرة، وفي المحكىّ عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدرىّ وأبي موسى الأشعرىّ:
____________
1- تاريخ دمشق 1: 248، وفيه ضربت عنقك، تهذيب تاريخ دمشق 1: 54 واللفظ له، حياة الصحابة 2: 390، 391 عنهما في الصحيح للعاملي 1: 89.
قلنا: أحاديث سمعناها منك.
فقال: (أكتاباً غيرَ كتاب الله تريدون؟! ما أضلّ الأممَ من قبلكم إلاّ ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله).
فقال أبو هريرة: أنتحدّث عنك يا رسول الله؟
فقال: نعم، (تحدّثوا عنّي ولا حرج، فمن كذب علىّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار)(1).
وعن إبراهيم التيمىّ، قال: بلغ ابنَ مسعود أنّ عندنا كتاباً يعجبون به، فلم يزل معهم حتّى أتوه به، فمحاه، ثمّ قال: إنّما هلك أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب علمائهم وتركوا كتاب الله(2).
وفي نقل آخر عنه: أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم، تركوا التوراة والإنجيل حتّى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والأحكام(3).
وعن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد الخُدريّ: أكتبتنا!
فقال: لن أكتبكم ولكن خذوا عنا كما كنا نأخذ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) (4).
وروى عنه أيضاً: قلت لأبي سعيد الخدرىّ: ألا نكتب ما نسمع منك؟ قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟! إنّ نبيّكم كان يحدّثنا فنحفظ(5). وقال أيضاً: قلت
____________
1- مسند أحمد 3: 12، ح 11107، تقييد العلم: 33، واللفظ له، مجمع الزوائد 1: 151، باب كتابة العلم.
2- سنن الدارمي 1: 133، ح 469، تقييد العلم: 53، 55، 56.
3- شرح النهج 12: 102، تقييد العلم: 56.
4- تقييد العلم: 37.
5- تقييد العلم: 37.