الصفحة 256
لأبي سعيد الخدرىّ: إنّك تحدّثنا عن رسول الله حديثاً عجيباً، وإنّا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص.

قال: أردتم أن تجعلوه قرآناً؟! لا، ولكن خذوا عنّا كما أخذنا عن رسول الله(1).

وعن أبي موسى الأشعرىّ قال: إنّ بني إسرائيل كتبوا كتاباً فتبعوه، وتركوا التوراة(2).

فلاحظ اشتراك التعليل في جميع هذه النصوص وأنّ النهي قد انحصر عندهم في التشبّه ببني إسرائيل الذين اتّبعوا كتب علمائهم وتركوا التوراة! وهو بعينه ما قاله عمر بن الخطّاب!! وأنّهم قد نسبوا نفس التعليل إلى علىّ بن أبي طالب وابن عبّاس، ممّا يؤكّد أنّ هناك اتّجاهاً يتبنّى رأي الخليفة ويدعمه، في حين بسطنا القول سابقاً في تعليل الخليفة للمنع وأكدنا على أنّه ضعيف.

وعلى هذا فلا معنى لتعارض أحاديث الإذن مع أحاديث النهي حتّى نقوم بموازنة بينهما(3)، وإن كان فيما قالوه تأكيد لرؤيتنا، لأنَّ قولهم ـ لو صحّ ـ من كون التدوين قد شُرِّعَ للنابهين من الصحابة والمنع لعمومهم، فهذا يخالفه فعل عمر بن الخطّاب وتعامله مع فحول الصحابة في قضيّة التدوين وغيرها، إذ أصدر أمراً لهم بأن يأتوه بمدوّناتهم ولم يستثن أحداً منهم، ولم نسمع أو نقرأ قبوله لمدوّنة أحد النابهين!

وكذا ما قالوه بأنَّ المنع جاء في العصر الإسلامىّ الأوّل ـ حين نزول القرآن ـ وأنَّه(صلى الله عليه وآله) منعهم كي لا يختلط القرآن بالسنّة، لكن حينما نزل القرآن جميعاً وعرفه

____________

1- تقييد العلم: 38، وانظر المستدرك على الصحيحين 3: 651، ح 6393.

2- سنن الدارمي 1: 135، ح 480، المعجم الاوسط 9: 358 ـ 359، ح 5548، تقييد العلم: 56.

3- كما فعل الدكتور صبحي الصالح في علوم الحديث: 11، والدكتور عجاج الخطيب في السنّة قبل التدوين: 306 ـ 309 و316، والسيّد محمّد رضا الجلالىّ في تدوين السنّة الشريفة: 302 ـ 314 وغيرهم.


الصفحة 257
الصحابة سمح الرسول لهم بكتابة حديثه، وهذا المدّعى يوضّح بأنَّ المنع قد رُفِعَ أواخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّ مشروعيّة تدوين الحديث كانت على عهده، وهو يؤكد من أن منع عمر من تدوين الحديث لم يكن شرعياً بل هو قرار شخصىّ من الخليفة، إذ لو صحّ قوله(صلى الله عليه وآله): (لا تكتبوا عنّي) أو (ومَن كتب عنّي غير القرآن فليمحه)(1) وصدور ذلك في عهده الشريف لعلمه الأصحاب، وللزم أن يكون هو الدليل الأوّل للشيخين في منعهما عن الحديث! مع أنّهما لم يحتجّا بمنع النبىّ (صلى الله عليه وآله) عن التدوين، وكفى بهذا دليلاً على بطلان دعوى نهي النبىّ عن التدوين.

ولو صحّ الحديث السابق فلماذا دوّن أبو بكر أحاديثه الخمسمائة، خلافاً لأمره(صلى الله عليه وآله)؟! وكيف يستشير عمر الصحابة في أمر التدوين، إذا كان قد ورد النهي فيه؟! بل كيف يسوغ أن يتخلّف عن رأيهم وهم يشيرون عليه بالتدوين؟! بل كيف يشيرون عليه بالتدوين إذا كانوا قد سمعوا المنع من النبىّ(صلى الله عليه وآله)؟!

ألا يعني قول عمر: (من كان عنده شي فليمْحُه) أو (لا يبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني) على وجود مصاحف وكتب قد دوّنت قبل عهده؟

على أنّ التعليل الوارد في كلماتهم لا يقوم دليلاً على مدّعاهم، لأنّ الأمم السابقة إنّما ضلّوا لأنّهم عكفوا على كتب أحبارهم ورهبانهم وتركوا التوراة والإنجيل، ولم يكن سبب ضلالهم العكوف على أقوال وكتابات أنبيائهم، وشتّان بين كتب الأحبار والرهبان والأساقفة وبين كلمات وسنن وأقوال تكتب عن سيّد الخلائق محمّد (صلى الله عليه وآله) ، إذ المدوّن أو المطلوب تدوينه هو أحاديث النبىّ وسنّته لا غير، مع أنّ علماء الأمم السـابقة كانوا قد انحرفوا فغيّروا نصـوص ومفاهيم كتبهم، وهذا بعكس علماء أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) المحافظين على الدين المفسّـرين للقرآن المدوّنين لآثار النبىّ (صلى الله عليه وآله)

____________

1- صحيح مسلم 4: 2298، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، ح 3004، مسند احمد 3: 12، ح 11100، سنن الدارمي 1: 130، باب من لم ير كتابة الحديث، ح 450.


الصفحة 258
وأحكامه.

نعم، يصحّ هذا التعليل للمنع عن تدوين آرائهم الخاصّة وفتاواهم الشخصيّة وما توصّلوا إليه من اجتهادات مختلفة، فإنّ المنع عن تأليف مثل هذه الكتب التي لا تضم بين دفتيها سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) بل تضم الآراء الشخصية قد يكون فيه المبرّر المعقول، باعتبار أنّ مثل هذه الكتب فيها الصحيح والخطأ والغثّ والسمين وربّما أُلِّف كتاب من شخص منحرف عن الدين، وبذلك تختلط الأحكام على الأجيال القادمة من المسلمين، وأمّا منع عمر من تدوين المسموعات عن النبىّ والآثار النبويّة المباركة فلا يتلائم مع التعليل المذكور.

ولعلّ هذا الأمر فات على البعض من الذين فسَّروا المنع بسبب كتب العلماء، إلى المنع عن كتابة السنّة المباركة، غفلةً منهم عن أنّ الدليل لا يفي ولا يقوم بالمدَّعى، وعن أنَّ هذا النهي منهم جاء لمنع عمر بن الخطّاب، فاستقرّ الأمر في نفوسهم، وظلّ المنع يسـري إلى الأجيال الآتية حتّى ارتفع ذلك المنع في زمن عمر بن عبد العزيز.

وعلى كلّ حال، فإنّ الأدلّة تُخبر عن مشروعيّة التدوين في عهده (صلى الله عليه وآله) وتُخبر عن أنّ المنع جاء متأخّراً وتحت ظروف خاصّة. وقد تأكّد كذلك أنّ من الصحابة والتابعين ومَنْ بَعْدَهم من كان يريد ترسيخ نهي الخليفة في قلوب المسلمين، حتّى صار التدوين عندهم مكروهاً لكراهيّة الخليفة عمر بن الخطّاب له، ثمّ صار هذا المكروه عندهم حسناً لمّا نَدَب الخليفة عمر بن عبد العزيز إليه!

قال الزهرىّ: كنّا نكره كتابة العلم، حتّى أكْرَهَنا هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين(1).

____________

1- الجامع لمعمر بن راشاد 11: 258، باب كتاب العلم، الطبقات الكبرى 2: 389، المدخل إلى السنن الكبرى 1: 409، ح 739.


الصفحة 259
وفي سنن الدارمىّ: حتّى أكرهنا السلطان على ذلك(1).

وفي آخر: استكتبني الملوك فأكتَبْتُهُم، فاستحييت الله إذ كتبتها للملوك ولا أكتبها لغيرهم(2).

قال أبو مليح: كنّا لا نطمع أن نكتب ثم الزهرىّ حتّى أكره هشامٌ الزهرىَّ، فكتب لبنيه، فكتب الناس الحديث(3).

وقد بسطنا الكلام على هذا في كتابنا (وضوء النبىّ / المدخل)، ووضّحنا دور الحكّام في تدوين السنّة الشريفة، وبيّنّا سرّ عنايتهم بهذا الجانب، وأكدّنا على أنّ العوز العلمىّ الذي كانوا يعانون منه هو الذي دعاهم إلى المنع ثمّ دعاهم إلى التدوين; لأنّ الصحابة كانوا يعارضونهم بالأحاديث، فما لا محيص عنه هو منع التحديث والتدوين لسدّ هذا الفراغ ولكي لا يظهر الضعف العلمىّ أمام تيّار فكرىّ قوىّ يعارض آراء الحكومة بما يرويه عن النبىّ(صلى الله عليه وآله) (4).

وتطوّر الأمر وتوسّع حتّى قنّن نهج الاجتهاد حجّيّة الإجماع ـ كي يلزموا الناس بما أجمعت عليه الأمّة بأمر الخليفة ـ وقرّروا أنّ إفتاء اللجنة الخاصّة التي وضعها الخلفاء يقوم مقام جميع الصحابة، ويعتبر ذلك إجماعاً لا يجوز تخطّيه ولا خرقه.

قال الدكتور الوافي المهدي عن عصر الصحابة: (... وفي هذا العصر ظهر مصدر جديد من مصادر التشريع الإسلامىّ لم يعرف في العهد التأسيسىّ للتشريع ألا وهو الإجماع، فإنّ أبا بكر كان يشرّع فيما لا نصّ فيه من كتاب ولا سنّة عن طريق جمعيّة تشريعيّة. وكذلك الأمر بالنسبة لأوّل خلافة عمر، وكان ما يصدر عن تلك الجمعيّة

____________

1- سنن الدارمي 1: 122، باب التسوية في العلم، ح 404.

2- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ 1: 77.

3- حلية الأولياء 3: 363، البداية والنهاية 9: 345 كما في الرواية التاريخيّة: 107.

4- وضوء النبي المدخل: 207 ـ 211.


الصفحة 260
التشريعيّة من أحكام يعتبر صادراً عنهم جميعاً(1).

وقد شكّل بالفعل الخليفة عمر بن الخطّاب لجنة علميّة لإِدارة شؤون المسلمين ولسدّ احتياجاتهم وطلباتهم الشرعيّة، وأناط بمن يثق به منصب الإفتاء حتّى يتفرّغ لأمور أُخرى.

روى علىّ بن رباح اللخمىّ عن أبيه، قال: إنّ عمر خطب الناس، فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أُبىّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأتِ معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتِني; فإنّي له خازن(2).

هذا النصّ يؤكّد على أنّ الخليفة احتاج إلى تأسيس مركز لدرء الخطر عن نفسه، ولتأصيل ما يذهب إليه من رأي واستحسان.

ومن المفيد التذكير هنا بأنّ اتّخاذ الرأي كمنهج في الأحكام لم يكن عمر هو أوّل من اعتمده، بل سبقه إلى ذلك الخليفة أبو بكر، إذ عرفتَ تخطّيه عن قتل الرجل المتنسِّك لِما رأى من خشوعه، وعُلِمَ إعلانه عن مبدأ الرأي والاجتهاد في أوّل حكومته حين قال: (ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني)(3)، وكذا قوله عن فعل خالد: إنّه تأوّل فأخطأ(4).

وكذا اعتذار خالد لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! إنّي تأوّلت وأصبت

____________

1- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: 46 عن خلاصة تاريخ التشريع الإسلامىّ: 41.

2- المستدرك على الصحيحين 3: 306، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

3- ثقات ابن حبان 2: 157، تاريخ اليعقوبي 2: 127، واللفظ له، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله 2: 446، البداية والنهاية 5: 248، 6: 301، تخريج الدلالات السمعية 1: 42، السيرة الحلبية 3: 483.

4- تاريخ الطبري 2: 273، الإصابة 5: 755.


الصفحة 261
وأخطأت(1).

موقف أهل البيت من المدّ الاجتهاديّ

هذه النصوص تؤكد ـ من جهة أُخرى ـ على أنّ مصطلح الرأي والتأويل راح يأخذ مجاله بين أقوال الصحابة وأفعالهم. ولذلك كان الإمام علىّ (عليه السلام) أيّامَ خلافته يحاول معالجة وسدّ هذه الثغرة التي فُتحت على الفقه والتاريخ والدين الإسلامىّ، ويبيّن سبب ذلك، ويصنّف الناس المختلفين في الأحكام، ويبرهن على بطلان منهجهم ودعاواهم المطلقة العنان، وإليك بعض النصوص عنه (عليه السلام) في ذمّ الرأي، لتتّضح المسألة بمزيد من الجلاء. قال (عليه السلام) ـ من كلام له في ذمّ اختلاف العلماء في الفُتيا ـ:

(تَرِد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترِد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً، وإلـههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد!

أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف، فأطاعوه؟!

أم نهاهم عنه فعصَوه؟!

أم أنزل الله دِيناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟!

أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟!

أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول (صلى الله عليه وآله) عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: {مَا فرّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْ }(2) وقال: {تِبْياناً لكلِّ شي}(3)،

____________

1- راجع تاريخ الطبرىّ، تاريخ اليعقوبي 2: 132.

2- الأنعام: 38.

3- النحل: 89.


الصفحة 262
وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضُه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {ولَو كانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً}(1) وإنّ القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تُكشف الظلمات إلاّ(2) به.

ومن كلام له(عليه السلام) في صفة من يتصدّى لحكم الأمّة وهو ليس له بأهل: (...ورجلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الأمَّةِ، عَاد في أغْبَاشِ الفِتْنَةِ، عَم بِمَا في عَقْدِ الهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أشْبَاهُ النَّاسِ عَالماً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْع، ما قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ، حَتَّى إذا ارْتَوَى مِنْ آجِن واكْتَنَزَ مِن غَيْرِ طَائِل جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلى غَيْرِهِ، فَإنْ نَزَلَتْ بِهِ إحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأ لَهَا حَشْواً رَثّاً من رَأْيِهِ، ثُمَ قَطَعَ بِهِ، فَهُو مِنْ لَبْسِ الشبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبوتِ: لا يَدْري أصَابَ أمْ أخْطأ; فَإنْ أصَابَ خَافَ أنْ يَكونَ أخْطأ; وإنْ أخْطأ رَجَا أنْ يَكُونَ قَدْ أصَابَ. جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالات، عَاش رَكَّابُ عَشَوَات، لَمْ يَعَضَّ عَلى العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يذري الرِّوَايَاتِ إذراء الرِّيحِ الهَشِيمَ، لا مَلِيٌّ واللهِ بإصدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، ولا أهْلٌ لِمَا فوضَ إليه، لا يَحَْسبُ العِلْمَ في شَي ممّا أنْكَرَهُ، ولا يَرَى أنَّ مِنْ وَراءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وإنْ أظْلَمَ عليه أمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَواريثُ. إلى الله أشْكُو مِنْ مَعْشَر يَعيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاّلاً)(3).

وقوله: (إنّما بَدْءُ وقوعِ الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبع، وأحْكامٌ تُبْتَدَع، يُخالَفُ فيها كتاب الله، وَيَتولّى عليها رجالٌ رِجالاً على غَيْرِ دينِ اللهِ. فَلَو أنَّ الباطِلَ خَلَصَ مَنْ مِزاجِ الحَقِّ

____________

1- النساء: 82.

2- نهج البلاغة 1: 55 خطبة 18، من كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا، وشرح النهج 1:288.

3- نهج البلاغة 1: 51 ـ 54، خطبة 17، من كلام له(عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الامة وليس لذلك أهل، وانظر شرح النهج 1: 283.


الصفحة 263
لَمْ يَخْفَ على المُرْتادِينَ، وَلو أنَّ الحَقَّ خَلَصَ من لَبْسِ الباطِلِ لانْقَطَعَتْ عنه ألْسُنُ المُعانِدين; ولكنْ يؤخَذُ مِن هذا ضِغْثٌ ومِنْ هذا ضِغْث فَيُمْزَجان! فَهُنالِكَ يَسْتَولي الشَّيْطانُ على أوْلِيائِهِ، ويَنْجو الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الحُسْنى)(1).

نعم، إنّ الرأي والتأويل ـ أي تأوّل فأخطأ ـ كانا المفردتين الأوليين اللتين دخلتا في الشريعة وقد حدث الخلط بينهما، فعنَوا بالرأي: التأويل، وبهما (الرأي والتأويل): الاجتهاد. أمّا مصطلح القياس والاستحسان والمصالح وغيرها فإنّما هي مصطلحات حادثة لم يرد ذكرها إلاّ في نادر من العبارات، ولم تستعمل بوسعتها الاصطلاحيّة اليوم، وإن كانت بذورها موجودة عمليّاً وتطبيقيّاً في ذلك العصر.

حتّى بلغ الأمر بالتابعين أن يفسّروا لفظ التأويل بالتغيير، ولا يتحرّجون عمّا لهذه الكلمة من مفهوم ومعنى، حتّى صارت سائدة مقبولة، إلى حدّ أنّهم قد طلبوا من الإمام الحسين وألحّوا عليه لكي يُؤوِّل قضاء الله، وعنوا بكلامهم أن يغيّره بانصرافه عن الذهاب إلى العراق. فقد جاء عن عمر بن علىّ أنّه قال للحسين(عليه السلام): (فلولا تأوّلت وبايعت)؟!(2) أي تأوّلت قضاء الله بقتلك، ببيعتك ليزيد. فصار مصطلح الاجتهاد معادلاً للتأويل وهذا المفهوم أخذ يتغّير مفهومه يوماً بعد يوم حتّى وصل إلى أوسع دوائره في العهدين الأموىّ والعبّاسىّ.

ولم يكن ابن عوف فيما طرحه يوم الشورى من تقييد عثمان والمسلمين بسيرة الشيخين قادراً على إيقاف مدّ الرأي والتأويل الذي كان قد انتشر واتّسع بعد تأصيله من قبل الشيخين. ولم تكن محاولته حصر الاجتهاد فيما فعله الخليفتان وحظره على سواهما من الصحابة بالتي تلقى أُذناً صاغية; لأنّ باب الرأي والتأوّل كان قد انفتح على مصراعَيه وتعذّر على من يريد إغلاقه أن يغلقه.. وغدا كلّ يريد

____________

1- نهج البلاغة 1: 99 ـ 100، خطبة 50 وشرح النهج 3: 240.

2- اللهوف في قتلى الطفوف: 19 ـ 20.


الصفحة 264
لرأيه واجتهاده أن يُقابَل بالقبول كما فعل الشيخان من قبل.

إنّ ابن عوف في اشتراطه هذا قد أراد أن يسلب عثمان حقّ التشريع والاجتهاد بالرأي على الرغم من سابقته في الإسلام وكونه صهر الرسول(صلى الله عليه وآله) وخليفة المسلمين القادم، فتراه يأخذ العهد منه أمام المسلمين على الالتزام بالكتاب والسنّة وسيرة الشيخين على السواء.

المهم هو: أن التخطيط السياسىّ الدينىّ الذي رسمه الشيخان في حصر دائرة الشرعيّة بهما دون سواهما قد أُريد له أن يجعل أقوالهما في عداد شرعيّة السنّة. بَيْدَ أنّ الواقع ما كان يرى وجهاً مقبولاً لهذا الحصر والتخصيص، وهذا هو الذي جعل الأمر على غير ما أُريد له أن يكون.

تأويلات وآراء ومن الذين كانوا يدركون سياسة الشيخين وابن عوف في الشريعة، ويعرفون ما كان يريد هؤلاء بفعلهم وتأكيدهم على الرأي ـ الذي يدور في إطار تصحيح ما أفتى به عمر وأبو بكر ـ.. هو الإمام علىّ بن أبي طالب الذي رفض تسلّم الخلافة بالشرط المذكور ـ لكي لا يصحّح بفعله اجتهاداتهما المخالفة في بعض الأحيان للكتاب والسنّة ـ ذلك أنّ قبول هذا الشرط يعني إضفاء الشرعيّة على هذه الفكرة المستحدثة وهو ما لا يريده علي بن ابي طالب ولا يرتضيه.

إنّ رفض علىّ للشرط المذكور، وامتناع ابن عوف تسليم الخلافة له، ليؤكّدان على مخالفة سيرة الشيخين واجتهادهما للكتاب والسنّة; لأنّ إيمان علىّ وفهمه وفقهه ممّا لا يرتاب فيه أحد، بعد أن تواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه أعلم الصحابة وأفقههم وأقضاهم(1) وأنّ الحقّ يدور معه حيثما دار(2). ويوضّح موقف الشورى هذا

____________

1- إعلام النبوّة للماوردي 1: 174، الإحكام للامدي 4: 244، تفسير القرطبي 15: 162، 164، طبقات الحنفية: 524، مقدمة ابن خلدون: 197، كشف الخفاء 1: 184.

2- انظر المعتمد لأبي الحسين البصري 2: 368، 369 وفيه قوله(صلى الله عليه وآله): اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار، المستصفى للغزالي: 170، المحصول للرازي 6: 181، الغرة المنيفة للغزنوي الحنفي: 51، مجمع الزوائد 7: 235. وقد جاء في تاريخ بغداد 14: 320، بسنده عن ام سلمة قالت: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا علىَّ الحوض يوم القيامة.


الصفحة 265
ارتسام معالم النهجين بوضوح، فأُولئك يدعون عليّاً أو الخليفة الجديد إلى الالتزام والتمسّك بنهج الاجتهاد والرأي، وعلىّ (عليه السلام) ومن سار بسيرته يدعو إلى التمسّك بالتعبّد المحض ـ بكتاب الله وسنّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) ـ وإن أُبْعِدَ بسبب موقفه التعبدي عن تسلّم أُمور الخلافة الفعليّة للمسلمين.

تأويلات وآراء

صرّح الخليفة أبو بكر بأنّه يعتمد الرأي والتأويل في تفسير معنى الكلالة، مع وجود آية في الذكر الحكيم تبيّن الحكم في الكلالة، فقال لمّا سئل عن الكلالة: (سأقول فيها برأي، فإن يك صواباً فمن الله وحده لا شريك له وإن يك خطأ فمنّي ومن الشيطان، والله منه بري، أراه ما خلا الولد والوالد)(1).

وأنت ترى مخالفة هذا الرأي لصريح القرآن في قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ، قُل اللهُ يُفتيكم في الكَلالة إنِ امرؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ وَلَهُ أخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَركَ وَهُوَ يَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فإنْ كانَتا اثنتَينِ فَلَهُما الثُّلثانِ ممّا تَرَكَ وإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالاً ونِساءً فللذّكرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيينِ يبيّن اللهُ لَكُم أنْ تَضِلّوا واللهُ بكلِّ شي عَلِيمٌ} (2).

وقوله: { وإنْ كَانَ رَجُلٌ يُوَرثُ كَلالةً...}(3).

____________

1- مصنف عبد الرزاق 10: 304، باب الكلالة، تفسير الطبري 6: 43، السنن الكبرى للبيهقي 6: 223، باب حجب الاخوة والاخوات، ح 12043، التمهيد لابن عبد البر 5: 196، تفسير البغوي 1: 403، تحفة المحتاج 2: 323، ح 1350، تلخيص الحبير 3: 89، كتاب التقرير والتحبير 3: 412، الدر المنثور 2: 756، واللفظ له.

2- النساء: 176.

3- النساء: 12.


الصفحة 266
نعم، إنّهم علّلوا استعمال الرأي عند الصحابة بأنّه تفسير للنصوص، وأضاف الدكتور مدكور إلى ما قاله سابقاً وهو يشير إلى مراحل الرأي:

(ثمّ أُطلقت كلمة (رأي) بعد ذلك على ما يقابل النصوص التي اختصّت بكلمة (علم). ثمّ نجد من الأصوليّين من يفسّر الرأي بالقياس وحده، ومنهم من يجعله شاملاً كافّةَ ما يقابِل الكتاب والسنّة والإجماع.

والرأي بهذا المفهوم الأخير يكون أخصّ من الاجتهاد إذ هو نوع منه، وهو ما قلنا إنّهم سمّوه (الاجتهاد بالرأي) في مقابلة (الاجتهاد في دائرة تفسير النصّ). ويكون المراد بالرأي: التعقّل والتفكير بوسيلة من الوسائل التي أرشد الشرع إلى الاهتداء بها في استنباط حكم ما لا نصّ فيه. أمّا الاجتهاد فيشمل استنباط الحكم من النصّ الظنّيّ، كما يشمل الاجتهاد للتوفيق بين النصوص المتعارضة في الظاهر، كما يشمل الاجتهاد بالرأي الذي قلناه.

ولمّا كان الرأي يعتمد على أنّ الشريعة معقولة المعنى كان مجاله الغالب في الأمور العاديّة التي يُقصد منها تحقيق مصالح دنيويّة، أمّا ما لا يُدرَك لها معنى خاصّ كأُصول العبادات فإنّ الشأن فيها الاتّباع لا إعمال الرأي)(1).

وقال الدكتور الردينىّ في (المناهج الأصوليّة):

(وقد رأينا الصحابىّ الجليل إمام أهل الرأي عمر بن الخطّاب، يخصّص عموم الآية الكريمة في سورة الأنفال من قوله تعالى { واعْلَمُوا أنّما غَنِمْتُمْ مِن شَي فأنّ للهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ ولِذي القُرْبى، واليتامَى، والمَساكِين، وابنِ السّبيل }(2).

ـ فالآية الكريمة تقرّر أنّ خُمْس الغنائم لِمَن ذُكروا فيها، وأربعة أخماس الغنيمة للغانمين عملاً بمفهوم الآية.

____________

1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 343.

2- الأنفال: 41.


الصفحة 267
ـ وقد تأيّد هذا بعمل الرسول(صلى الله عليه وآله) في خيبر، إذ قسّم أربعة أخماس الغنيمة من منقول وعقار بين الغانِمين.

ـ وهكذا كان حقّ الغانمين في كل ما يُغنم ثابتاً بالقرآن والسنّة العمليّة.

ـ لكن عمر بن الخطّاب اجتهد برأيه في الآية، وخالف ما تفيده بظاهرها وعمومها من شمول حقّ الغانمين لكلّ ما يغنم من عقار أو منقول، فخصّص عموم الآية وجعله قاصراً على المنقول دون العقار، كما علمت. ودليل التخصيص هو (المصلحة العامّة) كما يشهد بذلك استدلاله وحواره مع مخالفيه من الصحابة.

ـ بل قد حمل عمر بن الخطّاب مخالفيه على أن يفهموا نصوص الشريعة كلّها في ضوء المصلحة العامّة.

ـ ولم يكن من دليل لعمر بن الخطّاب في اجتهاده برأيه، يستند إليه في تخصيص عموم الآية إلاّ (المصلحة العامّة) أو (روح الشريعة)، إذ لم يثبت أنّه استند إلى دليل خاصّ في المسألة بعينها.

والواقع أنّ تطبيق النصّ رُوعي فيه ظروف الدلالة ومصلحتها العامّة آنذاك. وللظروف أثر في تكييف هذا التطبيق المنبثق عن فهم الآية الكريمة، وتحديد مراد الشارع منها في ظلّ ذاك الظرف، لسبب بسيط هو أنّ مآل هذا التطبيق في مثل تلك الظروف ذو أثر بالغ على المصلحة العامّة نفسها، فوجب إذاً تحديد مراد الشارع من نصّ الآية لا على أساس منطقها اللغوىّ فحسب، بل وعلى أساس ما تقتضيه الأصول العامّة في التشريع، وإلاّ فما معنى قول عمر وهو يصرّ على هذا الفهم بقوله: هذا (رأيي)؟!

ـ ثمّ يعلّل هذا (الرأي) بما يُسنده من مقصد أساسىّ في الشريعة وهو (المصلحة العامّة)، يقول: وقد رأيت أن أحبس الأرضين بِعُلوجها، وأضع على فيئِها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدّونها فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرّيّة، ولمن يأتي بعدهم.

ثمّ قال:


الصفحة 268
(فالتأويل عند الصحابة اِذَنْ من صُلب الرأي، لأنّه استند إلى (المصلحة العامّة) في صَرف الآية عن عمومها الواضح، والمستفاد من ذات الصيغة إلى قصر حكمها على بعض ما يتناوله، وهو هنا المنقول دون العقار، كما ذكرنا)(1).

اتّضح إذَن أنّ الأخذ بالرأي عند الخلفاء خضع لظروف خاصّة ـ سياسيّة كانت أم اجتماعيّة ـ وأنّ موقف أبي بكر في عدم إجراء الحدّ على خالد، وقوله بالكلالة، وسهم ذي القربى، ونحلة الزهراء، ومنعه كتابة العلم، وحرقه للأحاديث، وتخلُّفه عن سَرِيّة أُسامة وغيرها... كلّ ذلك ممّا ينبىُ عن هذا المعنى.

وعلى هذا فعلى الباحث أن يقف عند النصوص التي ترجّح رأي الخليفة: فإن كان فيها ما يوافق القرآن أو قد استُقي حكمه من السنّة، أُخِذ به، وإن كان القول قد ابتنى على الرأي فيطرحه لعدم جواز الأخذ بالرأي مع إمكان الوقوف على الحكم من السنّة النبويّة والذكر الحكيم.

بين الوحدويّة والتعدّديّة وهناك أُمور كثيرة ينبغي البحث في أطرافها، منها ما نسبوه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من أنّه قد منع من تدوين حديثه، أو ما حُكي عنه (صلى الله عليه وآله) من أنّ للمجتهد إن أخطأ أجرٌ وإن أصاب أجران، وغيرها من الروايات التي نُقلت في مشروعيّة الاجتهاد عن معاذ وغيره.

إنّ الغالب في هذه الأمور هو تحكيم رأي الحاكم كما عرفنا من قبل، والمنع عن التدوين ـ بعد ما عرفت دور الشيخين فيه ـ يوضّح أنّ القرار قرار حكومىّ وذلك لمعرفتنا بإذن الرسول في تدوين حديثه (صلى الله عليه وآله) ، ووجود مدَوّنات عند الصحابة عن النبىّ، وغيرها من الأدلّة، فلا ضرورة لدراسة أحاديث المنع المُدّعى صدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله) ـ بعد هذا ـ والجدّ في الجمع بينها، وبين الأحاديث الحاثّة على التحديث والكتابة والتدوين.

____________

1- المناهج الأصوليّة: 171.


الصفحة 269

بين الوحدويّة والتعدّديّة

والموقف من أحاديث (الاجتهاد) ينبغي أن يكون مماثلاً بعد أن وضحت جهود الخلفاء في التهيئة لقضيّة الاجتهاد وفي إشاعتها والتأكيد عليها، من أجل إضفاء الشرعيّة على كونهم مجتهدين لا يصحّ الاعتراض على ما يُصدرونه من فتاوى وأحكام. إنّ ذلك يتطلّب وقفة عند تلك الأحاديث التي تروى في هذا السياق للتثبُّت من صدورها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعدمه.

أتراها تصحّ جميع التأويلات المطروحة في الفقه؟

أحقّاً أنّ (اختلاف أُمّتي رحمة)(1) بالمعنى الذي أُريد لهذا الحديث أن يُفسّر به؟

ولو صحّ ذلك فكيف نفسّر قوله(صلى الله عليه وآله): (لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)(2)، وقوله(صلى الله عليه وآله): (ستفترق أُمّتي إلى نيف وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقي في النار)؟(3) ولماذا نرى الاختلاف في الأحكام بين المسلمين إلى هذا الحدّ وكتابُهم واحد ونبيّهم واحد؟

فهذا يسدل يديه والآخر يقبضهما، والثاني يُفْرِج بين رجلَيه في الصلاة والآخر يجمع بينهما. وثالث يجعل يديه ما فوق السرّة، وغيره يجعلهما تحت السرّة، وهذا يجهر بالبسملة والآخر لا ينطق بها مجهورة. وهذا يقول بالتأمين وذلك لا يقول به.

____________

1- أحكام القرآن للجصاص 2: 314، شرح النووي على صحيح مسلم 11: 91، الجامع الصغير للسيوطي 1: 48، ح 288، قال العجلوني في كشف الخفاء 1: 66، ح 153، زعم كثير من الأئمة انه لا اصل له.

2- صحيح البخاري 2: 349، باب ما يذكر في الاشخاص والملازمة والخصومة..، ح 2279، و3: 1282، باب ام حسبت أن اصحاب الكهف، ح 3289 واللفظ له، مسند أحمد 1: 411، ح 3907 و3908، مسند ابن الجعد 1: 83، ح 464، مسند أبي يعلى 9: 234، ح 5341.

3- مصنف عبد الرزاق 10: 156، باب ما جاء في الحرورية، مسند احمد 3: 145، ح 12501، سنن الدارمي 2: 314، باب افتراق الامة، ح 2518، سنن ابي داود 4: 198، ح 4597، سنن ابن ماجة 2: 1322، ح 3993.


الصفحة 270
والعجيب أنّهم جميعاً ينسبون أفعالهم ـ على ما فيها من تضارب ظاهر ـ إلى رسول الله! أفيكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قالها جميعاً وفعلها جميعاً وصحّ عنه ذلك، كما يقولون؟! أم أنّ فعله كان واحداً في كلّ الحالات؟ وإذا كان ذلك كذلك.. فمن أين جاء هذا الاختلاف الذي لا يمكن دفعه وإنكاره؟

أترانا مكلّفين في شريعة الله أن نقف على الرأي الواحد، أم أنّا قد أُمرنا بالاختلاف؟

واذا بُرّرَ الاختلاف بما فسّروه ألا يلزم منه العكس وهو أنّ جميع الفرق ناجية وواحدة في النار؟!!

ولِمَ ظهرت رؤيتان في الشريعة، إحداهما تدعو إلى التعدّديّة في الرأي، والأخرى تنادي بالوحدويّة؟

فلو كانت التعدّديّة والاختلاف هي مطلوب الشارع، فلم يحصر النبىُّ الفِرقةَ الناجية من أُمّته بواحدة من الثلاث والسبعين، ويقول عن الباقي: إنّها في النار؟! وإذا كانت الوحدويّة هي مطلوب الشارع فِلَم تُصحّح التعدّديّة وتُلتزم؟!

وهل يصحّ ما قيل في اختلاف الأمّة باعتباره رحمة؟ فما معنى تأكيد الله سبحانه إذَن على وحدة الكلمة؟ وهل أمرنا الله بالوحدة أم بالفرقة؟ ولو كانت الفرقة مطلوب الشارع فما يعني قوله تعالى: {ولَو كانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيرا }(1)؟!

وكذا قوله: { إنّ هذا صِراطي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعوا الُّسبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ، ذلكُمْ وَصّاكُمْ بهِ لَعّلكُمْ تَتَّقُونَ }(2).

لتوضيح كلّ ذلك ننقل الحوار الذي دار بين عمر بن الخطّاب وابن عبّاس:

____________

1- النساء: 82.

2- الأنعام: 153.


الصفحة 271
أخرج المتّقي الهندىّ، عن إبراهيم التيمىّ أنّه قال:

خلا عمر بن الخطّاب ذات يوم فجعل يحدّث نفسه، فأرسل إلى ابن عبّاس فقال: كيف تختلف هذه الأمّة، وكتابها واحد، ونبيّها واحد، وقِبلتها واحدة؟!

قال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين! إنّا أُنزِل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما نزل، وأنّه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن لا يعرفون فيم نزل، فيكون لكلّ قوم فيه رأي، فإذا كان لكلّ قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا، فَزَبره عمر وانتهره، وانصرف ابن عبّاس. ثمّ دعاه بعدُ، فعرف الذي قال، ثمّ قال: إيهاً أَعِدْ(1).

هذا الحديث ونظائره ممّا يشكّل قاعدة لتمحيص كثير من النصوص والأفكار الموروثة، خاصّة فيما يتّصل بأحاديث الخلاف بين المسلمين، الأمر الذي يفتح الطريق أمام الباحث الموضوعىّ لدراسة ملابسات هذه الأحاديث، ويجعله يتأثّم من التسليم بها على علاّتها دونما احتياط وتحرّج في الدين; لأنّ دراسة ملابسات التشريع وما يتعلّق بزمن صدور النصّ ومعرفة خلفيّات المسائل وكيفيّة تبنّي الخلفاء لها، تجعلنا أكثر تمييزاً للصحيح من غيره وأقوى كشفاً عن حقائق تاريخيّة يُفيد منها المسلم في بناء مواقفه الشرعيّة في الموضوع، وهذه الخطوة تجعلنا من الذين تعبّدوا بقول سيّد المرسلين (رحم الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها).

وهناك رأى آخر تتبنّاه مدرسة الاجتهاد، وهو ما نقل عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال: ما أُحبّ أنّ أصحاب رسول الله لا يختلفون; لأنّه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق(2). وقريب منه ما ورد عن القاسم بن محمّد. وهذا رأي كما تراه يميل إلى الدعة والراحة، ولو على حساب التهاون بدين الله، وإلاّ فإنّ من البديهىّ أنّ الله لم يُرد التناقض والتضادّ، ولو صحّ ما علّل به ابن عبد العزيز، لكان بإمكان الباري

____________

1- كنز العمّال2: 333، ح 4167.

2- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 142 ـ 143.


الصفحة 272
سبحانه وتعالى أن يجعل الأحكام كلّها على نحو التخيير، أو لقال: خذ ما سهل من الأحكام ودع العسير.

وهل يسمّى الالتزام بقول الله الواحد ضيقاً؟

فيجب إذن البحث عن الحكم الواحد في الفقه، وكما قال الشاطبىّ: (إنّ الشريعة يلزم أن ترجع إلى قول واحد في فروعها، مهما كَثُر الخلاف. كما أنّها في أُصولها كذلك ترجع إلى قول واحد، بمعنى أنّه لا يوجد فيها ما يُفهم منه قولان متناقضان، وإنّما أدلّتها سالمة من التعارض في ذاتها، رغم وجود التعارض)(1).

وإذا دقّقنا الروايات التي ترشد إلى عرض السُّنَّة على الكتاب، وضرورة متابعة ضوابط خاصّة لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، والنصوص الواردة في وجوب التثبّت من صدق الجائي بالخبر ووثاقته وو.. كلّ هذه الروايات والموازين المتّفق عليها بين المسلمين تؤيّد الرؤيا القائلة بوحدة الحكم الشرعىّ والفقه الإسلامىّ، وتردّ الرأي الذاهب إلى الاجتهاد بالرأي. والتعدّد والاختلاف(2). فرأي ابن عبد العزيز ما هو إلاّ خطوة في تأصيل الرأي وخلق المعاذير للحكّام المجتهدين بالرأي.

وكذا لا مناص من القول بضرورة دراسة النصوص الصادرة في الصدر الأوّل الإسلامىّ، وأن لا نسكت عن دراستها بحجّة أنّ عائشة (أُمّ المؤمنين) قالت بهذا الرأي مثلاً، أو أنّ عمر (خليفة المسلمين) ذهب إلى ذلك الرأي، أو أن هذا الحديث رواه أبو هريرة واتّفق الشيخان على صحته! أو...

إنّ غيرة المسلم على دينه وحرصه على أن يكون أخذُه هذا الدينَ أخذاً سليماً

____________

1- مناهج الاجتهاد في الإسلام: 141 عن الموافقات للشاطبىّ.

2- إذ قال ابن عبد البرّ وبعد نقله حديث عرض السنّة على القرآن: (إنَّ هذه الألفاظ لا تصحّ عنه (صلى الله عليه وآله) عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه...) جامع بيان العلم وفضله 2: 191، وانظر عارضة الأحوذىّ 10: 132، وقال في مكان آخر: إنَّ هذا الحديث وضعه الزنادقة والخوارج، وفي حجّيّة السنّة: 474 بحث في تضعيف أحاديث العرض يمكنك مراجعته.