بلى، إنّ اتّجاه التعبّد المحض كان في تضادّ مع الاجتهاد بالرأي ـ الذي دعمه الشيخان ـ فابن عوف بتأكيده على سيرة الشيخين كان يريد تطبيق ما سُنّ على عهدهما من آراء، والذهاب إلى مشروعيّتها، وعدم جواز مخالفة الخليفة الخلف لاجتهادات من سلف!
لكنّ رجال التعبّد المحض كانوا لا يَرَون مشروعيّة تلك الأقضية; لأنّها غير مستوحاة من النصّ، فكانوا يخالفونها ولا يرضونها، ويجدّون في نقل الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يضادّها.
وكان أنصار مدرسة الخلفاء يضعون الأحاديث على لسان رسول الله، لكي يستنصروا لرأي الخليفة، وهذا هو ما يقف وراء ما نجده من الاختلاف الواضح في الأحاديث التي نقلوها أو التي نقلت عنهم.
إنّ تخالف الأحاديث، ووجود أحاديث تؤيّد مدرسة أهل البيت عند أهل السنّة والجماعة لا يعني ـ لا من قريب ولا من بعيد ـ أنّها وضعت من قِبل الروافض ومن قبل الزنادقة(1)، بل هو مؤشّر على وجود نهج أصيل عند الصحابة، وهم الذين
____________
1- كما ذهب إليه البعض، انظر مقدّمة مصنّف ابن أبي شيبة.
ويتجلّى هذا الهاجس الذي كان يلاحق الخليفة، والذي حدا به أن يتخّذ أُسلوب فتح باب الرأي والاجتهاد، ومحاولته تقنين ذلك وأضفاء طابع المشروعيّة المطلقة عليه، يتجلّى هذا من النصّ الذي نقله لنا الحافظ الموفّق بن أحمد، بإسناده عن محمّد بن خالد الضبّيّ، قال:
خطبهم عمر بن الخطّاب فقال: لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ قال محمّد: فسكتوا، فقال ذلك ثلاثاً، فقام علىّ (رضي الله عنه) فقال: يا عمر إذن كنّا نستتيبك، فإن تبت قبلناك.
قال: فإن لم أتَبْ؟
قال: فإذن نضرب الذي فيه عيناك.
فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمّة من إذا اعوججنا أقام أودنا(1).
ويمكننا أن نستشفّ من هذا النصّ عدّة أشياء:
1 ـ أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب عبّر بقوله (عمّا تعرفون إلى ما تنكرون)، ولم يقل (عمّا نعرفه إلى ما ننكره) ففي هذا إشارة للبصير، فتأمّل.
2 ـ أنّ في سكوت المسلمين، بعد تكراره قوله ثلاث مرّات لدلالة واضحة على سياسة العنف والاضطهاد الفكرىّ التي مارسها الخليفة الثاني في حقّ الصحابة، وهذا يتماشى مع ما قدّمنا من حبسه للصحابة عنده في المدينة ومنعه إيّاهم من التحديث والتدوين.
____________
1- المناقب للخوارزمىّ: 98.
4 ـ إنّ مفهُوم الاستتابة في حالة الانحراف عن الدين، ثمّ قتل المنحرف عند عدم توبته، هو مفهوم إسلامىّ لنهج السنّة والتعبّد، لا يؤوِّل ولا يقول "تأوّل فأخطأ" ولا يختلق الأعذار في سبيل تصحيح أغلاط وسقطات الآخرين، وهذا المفهوم هو الذي طبّقه المسلمون من بعد على عثمان، فتركوه ورجعوا عنه حين أعلن توبته عن إحداثاته في الدين، ثمّ رجعوا إليه فقتلوه حين أصرّ على إحداثاته وأمر بقتل أتباع نهج التعبّد، ولا بد هنا من التنبيه إلى كلام بعض الكتّاب بأنّه لو قدّر أن يطول الزمان بعمر لقتله المسلمون كما قتلوا عثمان من بعد.
فالخليفة وتحاشياً من وقوع الخلافة بيد أتباع السنّة والتعبّد جعل كلامَ ابن عوف الميزان والحكم الفصل في النزاع بين أعضاء الشورى الستّة، ليمكنه أوّلاً أن يملي رأيه على ابن عوف، وليتمكّن هذا الأخير من البلوغ بالسفينة بأمان إلى الشاطىِ المبتغى!!
عبد الله بن عمر ومخالفته لأبيه وتتّضح هذه الحقيقة أكثر لو تدبّرنا آهات الخليفة وحسراته، حين افتقد أبا عبيدة ومولاه سالماً ليسلّمهما أمر الخلافة لو كانا حاضرَينِ آنذاك.
مع العلم أنّ سالماً كان من الموالي(1)، والمعروف عن عمر أنّه اعترض على الأنصار يوم السقيفة وأصرّ على لزوم كون الخليفة من قريش (2)، لكنّه الآن يأسف
____________
1- انظر ترجمته في الطبقات الكبرى 3: 85، الاستيعاب 4: 1799، ت 3265، الاصابة 3: 13، ت 3054.
2- انظر صحيح البخاري 6: 2506، ح 6442، مسند أحمد 1: 55، ح 391، تاريخ الطبري 2: 235.
فالخليفة لم يرتضِ تسليم الخلافة إلى دعاة التحديث عن رسول الله أمثال علىّ بن أبي طالب، وأبي ذرّ، وابن عبّاس، وابن مسعود، وعمّار... لأنّ هؤلاء سيخطّئون الخليفة في سلوكه ونهجه لاحقاً ويعضدون النهج المخالف له.
عبد الله بن عمر ومخالفته لأبيه
إلى هنا عرفت سرّ جعل الخيار الأخير في اجتماع الشورى بيد ابن عوف، وإذا تأمّلت قليلاً عرفتَ كذلك سرّ عدم جعل عمر بن الخطّاب ابنه عبد الله خلفاً له، وسرّ عدم عدّه أحد أعضاء الشورى الستّة، إذ ترى تعليله لعدم التنصيب يمسّ شخصيّة عبد الله العلميّة، وأنّه لا يعرف الفقه والأحكام لقوله لمن اقترح عليه أن يخلفه: قاتلك الله! والله ما أردتَ الله بهذا، ويحك، كيف أستخلِفُ رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟!(2)
والواقع أنّ الأمر لم يكن كما علّله الخليفة، بل إنّه لَيشي بوجود تخالف بينهما في الفكر والمنهج.
فلو صحّ تعليله هذا، لقال لمن اقترح ابنَهُ عليه: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، ويحك كيف أستخلف عبد الله وكبارُ الصحابة أمثال: علىّ، وابن عوف، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقّاص، بين الناس؟!
قال عمر هذه المقولة في ابنه عبد الله; لأنّه خطّأه في أكثر من موقف وفي أكثر من
____________
1- تاريخ الطبري 2: 580، قصة الشورى، مقدمة ابن خلدون 1: 194.
2- تاريخ الطبري 2: 580، قصة الشورى، تاريخ المدينة لابن شبة النميري 3: 923، شرح النهج 1: 190.
وقد حصر الأستاذ روّاس قلعة چي في موسوعة (عبد الله بن عمر) ما خالف فيه عبد الله أباه، وإليك تلك المسائل.
1 ـ كان عمر يرى جواز التظلّل للمُحْرِم بحجّ أو عمرة، وكان ابن عمر يرى عدم جواز ذلك له.
2 ـ يرى عمر جواز الغناء بما هو مُحلَّلٌ للمُحْرِم بحجّ أو عمرة، وكان ابن عمر يرى عدم جواز ذلك له.
3 ـ يرى عمر أنّ للمُحْرِم أن يأكل ممّا صاده الحلال إذا لم يأمره هو بذلك أو لم يَصِده له، أما ابن عمر فكان يتورّع عن أكله، ولا يُفتي بذلك.
4 ـ كان عمر يمنع بيع الأرض الخراجيّة، وكان ابن عمر يجيز ذلك.
5 ـ كان عمر يرى وجوب استبراء الأمَة المباعة من قِبل البائع، ثمّ من قبل المشتري. أمّا ابن عمر فكان يوجب استبراءها من قبل المشتري فقط دون البائع.
6 ـ كان عمر يرى جواز قتل الأسرى، وكان ابن عمر لا يجيز قتلهم.
7 ـ كان عمر يرى أنّ من نوى الإقامة في السفر ثلاثة أيّام يتمّ صلاته، ويرى ابن عمر أنّه لابُدّ أن ينوي الإقامة اثني عشر يوماً.
8 ـ كان عمر يرى جواز الشرب بالإناء المُضَبَّب بالفضّة بأن يضع الشاربُ فمَه في غير موضع الضبّة، وكان ابن عمر إذا سقي به كسره.
9 ـ كان عمر لا يجيز بيع الأشياء المتنجّسة التي يمكن الانتفاع بها، وكان ابن عمر يرى جواز ذلك.
10 ـ كان عمر يوجب المساواة بين الأولاد في العطيّة، وكان ابنه يجيز المفاضلة
11 ـ كان عمر يثبت حرمة المصاهرة بالتسرّي، وكان ابن عمر لا يثبتها به.
12 ـ كان عمر يكره صلاة سنّة الطواف في أوقات الكراهة، وكان ابن عمر لا يكره ذلك.
13 ـ كان عمر يجيز في هَدْي التمتّع والقِران الشاةَ، وكان ابنه لا يجيز في ذلك غير البقرة أو الجَزُور.
14 ـ كان عمر يوجب الزكاة في حُلِيّ النساء، وكان ابن عمر يقول: زكاة الحلي إعارته.
15 ـ كان عمر يرى أنّ الخلع طلاق بائن، وكان ابن عمر يرى الخلع فسخاً لا طلاقاً.
16 ـ كان عمر يرى أنّ عدّة المختلعة عدّة المطلّقة، وكان ابن عمر يرى أنّ الواجب في الخلع الاستبراء لا العدّة.
17 ـ كان عمر يرى جواز المسح على الخمار في الوضـوء، وكان ابنه لا يبيح ذلك.
18 ـ كان ابن عمر يرى أنّ الجنين إذا خرج من بطن أُمّه بعد ذبحها ـ وقد تمّ خَلْقه ونَبَت شَعره ـ يذبح. أمّا عمر فكان يرى أنّه إن خرج ميّتاً من بطن أُمّه وكانت حركته بعد خروجه حركة المذبوح فهو حلال أكله، وإن خرج حيّاً فلا يحلّ أكله إلاّ بعد ذبحه.
19 ـ كان عمر يرى أنّه لا يثبت الرِّضاع بالمصَّة والمصّتين، وكان ابن عمر يرى ثبوت الرِّضاع بمصّة واحدة.
20 ـ كان عمر يرى أنّ المدبَّر يُعتَق من رأس المال، وكان ابن عمر يعتقه من
21 ـ وكان عمر يرى أنّ المحلِّل لا حدّ عليه، وكان ابن عمر يرى التحليل زنا.
22 ـ كان عمر يعتبر نكاح العبد بغير إذن سيّده مخالفة لا حدّ فيها، وكان ابن عمر يعتبره زنا ويقيم فيه حدّ الزنى.
23 ـ كان عمر يرى أن سجود التلاوة لا يلزم إلاّ مَن قرأ آية السجدة أو سمعها قصداً، وكان ابن عمر يوجب السجود على كلّ سامع لها وكلّ قارى.
24 ـ كان عمر يجيز الغناء وسماع الغناء بشروط، وكان ابنه لا يبيح الغناء بحال.
25 ـ كان عمر لا يرى صيام يوم الشكّ، وكان ابنه يرى صيامه إذا كان في السماء قَتَر.
26 ـ كان عمر يرى أنّ المسافر يصلّي الوِتْر على الأرض لا على ظهر الدابّة، وكان ابنه يرى جواز صلاته على الدابّة.
27 ـ كان عمر يقنت في صلاة الصبح، وكان ابن عمر يعتبر القنوت في صلاة الصبح بدعة.
28 ـ كان عمر يرى أنّ ما يُدركه المسبوق من صلاته مع الإمام هو أوّل صلاته، وكان ابن عمر يراه آخر صلاته.
29 ـ كان عمر يرى أن أحقّ الناس بالصلاة على الميّت وليّه، وكان عبد الله ابن عمر يرى أنّ أحقّ الناس بالصلاة عليه هو الأمير.
30 ـ كان عمر يرى أنّ رمضان لا يثبت إلاّ بشاهدَين، وكان ابنه يرى ثبوت رمضان بشاهد واحد.
31 ـ كان عمر يكره صيام الدهر، وكان ابن عمر يصومه.
32 ـ كان عمر يرى أنّ الطلاق بألفاظ الكناية، إذا نوى فيه الطلاق، لا يقع به إلاّ طلقة واحدة. أمّا ابن عمر فكان يرى أنّ الكنايات الظاهرة في الطلاق يقع
33 ـ كان عمر يرى أنّ المطلّقة البائن لها النفقة في العدّة، أما ابن عمر فكان يقول: لا نفقة لها.
34 ـ كان عمر يثبت نسب ولد المتسرّى بها من سيّدها بثبوت وَطْئه لها، أما ابن عمر فإنّه كان لا يثبت نسب ذلك الولد منه إلاّ أن يدّعيه.
35 ـ كان عمر يرى أنّ امرأة المفقود يطلّقها وليّه إذا انتهت مدّة تربّصها، أما ابن عمر فيرى أنّه لا حاجة إلى طلاق الولىّ.
36 ـ كان عمر يرى أنّ الميّت يُكفّن في ثلاثة أثواب، أمّا ابن عمر فيرى أنّه يكفّن في خمسة أثواب.
37 ـ كان عمر يرى أنّ الواجب في كفّارة النذر هو الواجب في كفارة اليمين، أمّا ابن عمر فكان يرى أنّ الواجب فيه كفّارة اليمين المؤكّدة.
38 ـ كان عمر يرى أنّ اليمين واحدة وكفّارتها واحدة، أمّا ابن عمر فكان يرى أنّ اليمين على نوعين: مؤكّدة وغير مؤكّدة، وكفّارة كلّ نوع تختلف عن كفّارة النوع الآخر.
39 ـ كان عمر يشترط الإشهاد لصحّة عقد النكاح، أمّا ابن عمر فإنّه لا يشترط لصحّة عقد النكاح الإشهاد عليه(1).
فمن خلال هذه النقاط الخلافيّة في الفقه بين عمر وابنه عبد الله، وغيرها من المفردات نرى احتداد عمر على ابنه ورميه بالعجز الفقهىّ والقصور الذهنىّ عن أبسط الأحكام الشرعيّة، فما هو الداعي الحقيقىّ إذَن؟ إنّ الداعي الحقيقىّ هو أنّ عمر لا يرتضي مخالفات ابنه، وأنّ ابن عمر كان لا يرى رأي أبيه في كثير من الأحيان، وخصوصاً في مسألة طلاق الثلاث في مجلس واحد، وهل يقع ثلاث تطليقات، أم
____________
1- انظر موسوعة فقه ابن عمر: 33 ـ 39.
لقد كان عمر يصرّ على وقوعه ثلاثاً ردعاً للمسلمين عن إكثار الطلاق، بخلاف ابن عمر الذي يرى أولويّة اتّباع ما جاء به كتاب الله وسنّة رسوله، ولذلك رفض عمر أن يكون ابنه أحد أعضاء الشورى، مؤكّداً غضبه بأنّه "لا يحسن طلاق زوجته" وذلك للخلاف الذي ذكرناه، فلاحظ حدّة كلام عمر حين قال لمن اقترح عليه أن يخلفه "قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، ويحك كيف استخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته".
وتتأكّد مخالفة ابن عمر لأبيه، فيما جاء عن عمر أنّه قال لابنه عبد الله: (يا عبد الله! ناوِلَْني الكتف، فلو أراد الله أن يُمضي ما فيه أمضاه، فقال له ابن عمر: أنا أكفيك محوها.
فقال: لا والله، لا يمحوها أحد غيري، فمحاها عمر بيده، وكان فيها فريضة الجَدّ)(1).
هذا، وقد كان الأستاذ رواس قلعة چي قد قدّم جرداً في بعض المسائل التي تأثّر فيها عبد الله بفقه أبيه، لكنّ البادي للعيان هو أنّها أقلّ من مخالفاته له، ممّا يعضّد الذهاب إلى أنّ إبعاد عمر ابنَه (عبد الله) عن الخلافة، جاء لتخالفهما في الرأي والاستنباط.
ونحن لا نريد بكلامنا هذا تقرير أنّ عبد الله كان من أتباع نهج التعبّد المحض أو أنّه مُحقّ في تخطئته لعمر، لأنّ بعض الأحكام التي قالها الخليفة والتي خالفه فيها عبد الله كانت أصيلة، مستندها القرآن أو السنّة فمخالفتنا للخليفة ليست في مثل هذه المسائل، بل إنّ إشكاليّتنا عليه جاءت لمعارضته لأحكام ثابته في القرآن الحكيم والسـنّة المطهّرة والذهاب إلى لزوم الأخذ بالرأي مع وجود
____________
1- الطبقات الكبرى 3: 341، الامامة والسياسة 1: 40، حلية الاولياء 4: 151.
وكان عبد الله مثل أبيه في تجويز الاجتهاد لكن بدائرة أضيق بكثير من دائرة أبيه الخليفة، فقد كانت لابن عمر مسائل كثيرة اجتهد فيها برأيه، مخالفاً فيها سنّة رسول الله، وأُخرى غلب عليه فيها التزهّد ممّا أخرجه عن التعبّد، لكنّا لا ننكر أنّ الصبغة الغالبة عليه ـ قياساً بأبيه ـ هي تحرّي آثار رسول الله واتّباع سنّته، لا الاجتهاد والرأي.
قال ابن خلّكان وغيره: كان ابن عمر كثير الاتّباع لآثار رسول الله، وقد شهد له الصحابة ومنهم عائشة حيث قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبىّ في منازله كما كان يتبعه ابن عمر(1).
وروى نافع: أنَّ عبد الله كان يتبع آثار رسول الله ويصلّي فيها، حتّى أنّ النبىّ نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يصبّ الماء تحتها حتّى لا تيبس(2).
وروى مالك عمّن حدّثه أنّ ابن عمر كان يتبع أمر رسول الله وآثاره وحاله ويهتمّ به، حتّى كأنْ قد خِيفَ على عقله من اهتمامه بذلك(3).
وقد تحدّثنا عن حاله، وقلنا بأنّه ما مات إلاّ ووافق الأكثريّة وسايَرَ الاتّجاه العامّ في الخلافة، وخضع لما سُنّ من رأي على عهد أبيه. وقد فصَّلنا هذه الأمور في كتابنا "وضوء النبىّ" وأكّدنا على أنّه كان يذهب إلى مسح الرجلَين ويخالف الماسِحين على الخُفّين، لكنّه ما مات إلاّ بعد أن وافق العامّة من الناس في غسل الرجلَين، إذ نقل الفخر الرازىّ عن عطاء أنّه قال: كان ابن عمر يخالف الناس في
____________
1- الطبقات 4: 145، وفيّات الأعيان لابن خلكان 3: 29.
2- السنن الكبرى للبيهقىّ 5: 245، سير أعلام النبلاء 3: 213، أُسد الغابة 3: 227.
3- الطبقات الكبرى 4: 144، المستدرك على الصحيحين 3: 247، ح 6376، حلية الاولياء 1: 310، سير أعلام النبلاء 3: 213.
هذا وإنّ هناك من المؤرخين من يذهب إلى أنّ ابن عمر كان قد أسلم قبل أبيه، فعن ابن شهاب: أنّ حفصة وابن عمر أسلما قبل عمر...(2)
هذا النصّ وأمثاله قد يوحي بأنّ القائل يريد ترجيح رأي عبد الله على رأي أبيه باعتبار ترجيح رأي الأقدم إسلاماً على الآخر! لأنّه الأتقى والأقرب إلى النبىّ (صلى الله عليه وآله) من غيره.
اتّضح إذن أنّ بين اجتهادات الخليفة عمر بن الخطّاب ما يخالف السنّة المطهّرة بكثرة وبينها ما يوافقها قليلاً. بعكس الإمام علىّ بن أبي طالب الذي كانت السنّة جميعها عنده، وقد امتاز بذلك على الصحابة وشهد له بذلك عمر وكبار الصحابة والتابعين.
روى ابن حجر في " فتح الباري " أنّ عمر قال: إن تولاّها الأجلح (يعني علىّ بن أبي طالب) لسـار بهـم على الطر يق [ أي السـنّة ]. فقال له ولده: فلم لا تولّيه.
قال: لا أريد أن أحملها حيّاً وميّتاً!(3)
____________
1- التفسير الكبير 11: 164.
2- سير أعلام النبلاء 3: 209، البداية والنهاية 4: 173 ـ 174.
3- فتح الباري 7: 68، وقد ذكرها ابن سعد في طبقاته 3: 342، وابو نعيم في الحلية 4: 152، وابن عبد البر في الاستيعاب 3: 1154.
امتداد النهجين بعد الخليفة عمر بن الخطّاب
أخرج الدارمي بسنده عن مروان بن الحكم: أنّ عمر بن الخطّاب لمّا طُعِن استشارهم في الجدِّ، فقال: إنّي رأيت في الجدِّ رأياً، فإنْ رأيتم أن تتّبعوه [ فاتبعوه ]، فقال عثمان: إن نتبع رأيك فهو رشـد وإن نتبع رأي الشـيخ قبلك فنعم ذو الرأي(1).
وفي (الطبقات الكبرى)، قال محمود بن لبيد: سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر(2).
وعن معاوية أنّه قال: يا أيّها الناس! أقِلّوا الرواية عن رسول الله، وإن كنتم متحدّثون لا محالة فتحدّثوا بما كان يُتحدّث به في عهد عمر(3). وفي رواية مسـلم واحمد: إيّاكم والأحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ حديثاً ذكر على عهد عمر(4).
الإقران بين الحجّ والعمرة
اخرج أحمد في مسنده، عن عبد الله بن الزبير أنّه قال:
____________
1- مصنف عبد الرزاق 10: 263، سنن الدارمي 1: 159، ح 631 و2: 452، باب في قول عمر الحد، ح 2916، والمتن منه، السنن الكبرى للبيهقي 6: 246، باب من لم يرث الاخوة من الجد، ح 12201.
2- الطبقات الكبرى 2: 336، تاريخ دمشق 39: 180، كنز العمال 10: 295، ح 29490، عن ابن سعد.
3- مسند الشاميين للطبراني (نشر مؤسسة الرسالة ط 2) 3: 251، تاريخ دمشق 26: 382، كنز العمال 10: 291، ح 29473، عن (كر).
4- صحيح مسلم 2: 718، باب النهي عن المسألة، ح 1037، مسند احمد 4: 99، المعجم الكبير 19: 370، ح 869.
إنّ أتمّ للحجِّ والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحجّ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتّى تزوروا هذا البيت زَوْرَتَين كان أفضل، فإنّ الله تعالى قد وسّع في الخير، وعلىُّ بن أبي طالب في بطن الوادي يَعلف بعيراً له، قال: فبلغه الذي قال عثمان، فأقبل حتّى وقف على عثمان، فقال: أعمدتَ إلى سنّة سنّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورخصة رخّص الله بها للعباد في كتابه، تُضيّق عليهم فيها وتنهى عنها، وقد كانت لذي الحاجة، ولنائي الدار؟! ثمّ أهَلّ بحجّة وعمرة معاً.
فأقبل عثمان على الناس، فقال: وهل نهيتُ عنها؟! إنّي لم أنْهَ عنها، إنّما كان رأياً أشرتُ به، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه(1).
وفي (موطّأ مالك)، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه: أنّ المقداد بن الأسود دخل على علىّ بن أبي طالب بالسُّقيا، وهو ينجع بَكَرات لهُ دَقِيقاً وخَبَطاً فقال: هذا عثمان بن عفّان ينهى عن أن يُقْرَن بين الحجّ والعمرة.
فخرج علىّ بن أبي طالب وعلى يدَيه أثرُ الدقيق والخبطِ، فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعَيه، حتّى دخل على عثمان بن عفّان، فقال: أنت تنهى عن أن يُقرن بين الحجّ والعمرة؟!
فقال عثمان: ذلك رأي! فخرج علىٌّ مغضَباً، وهو يقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، بحجّة وعمرة معاً(2).
وفي (سنن النسائىّ): حجّ علىّ وعثمان، فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتّع، فقال علىّ: إذا رأيتموه ارتحل فارتحلوا، فلبّى علي وأصحابه بالعمرة، فلم
____________
1- مسند أحمد 1: 92، ح 707، الإحكام لابن حزم 6: 219.
2- الموطّأ 1: 336، باب القِران في الحج، ح 742.
قال السندىّ في (هامش النسائىّ):
قوله: (إذا رأيتموه قد ارتحلَ فارتحِلوا) أي ارتحِلوا معه مُلبّين بالعمرة، لِيعلم أنّكم قدّمتم السنّة على قوله، وأنّه لا طاعة له في مقابلة السنّة(2).
وفي أُخرى: لمّا رأى علىّ أن عثمانَ ينهى عن المتعة وأن يُجْمَع بينهما، أهلّ بهما: لبّيك بعمرة وحجّة معاً.
فقال عثمان: أتفعلها وأنا أنهى عنها؟!
فقال علىّ: لم أكن لأدَعَ سنّة رسول الله لأحد من الناس(3).
وقد علّق السندىّ على هذا الحديث كذلك بقوله: أي أنّي أنهى الناس جميعاً عن الجمع كما كان عمر ينهاهم وأنت فكيف لك أن تفعل وتخالف أمر الخليفة، فأشار علىّ إلى أنّه لا طاعة لأحد فيما يخالف سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمن علم بها والله أعلم(4).
وفي نصّ ثالث: ما تريد إلى أمر فَعَله رسول الله تنهى عنه؟! فقال عثمان: دَعْنا منك! فقال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلمّا رأى علىّ ذلك أَهَلَّ بهما جميعاً(5).
وفيما تقدّم من الأمثلة وضوح بيّن على امتداد ما سنّه الشيخان عموماً والخليفة الثاني خصوصاً، والذي يلفت النظر أنَّ عثمان ومعاوية وعمرو بن العاص كانوا
____________
1- سنن النسائىّ 5: 152، باب التمتع، ح 2733، سنن الدراقطني 2: 287، ح 231، المستدرك على الصحيحين 1: 644، ح 1735، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
2- حاشية السندىّ على النسائىّ 5: 152.
3- سنن النسائىّ 5: 148، باب القرآن، ح 2723.
4- حاشية السندي على النسائي 5: 149.
5- صحيح البخاري 2: 569، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، ح 1494، صحيح مسلم 2: 897، باب في نسخ التحلل من الإحرام..، ح 1223، زاد المعاد 2: 113.
فمعاوية أمر بلعن علىّ وابن عبّاس(1)، وقال المنصور العباسي لمالك: خذ بقول ابن عمر وإن خالف عليّاً وابن عبّاس (2)، وقد ختم الحجّاج بن يوسف الثقفىّ في عنق سهل بن سعد الساعدىّ وغيره من أصحاب المدوّنات(3)، وهذه كلّها تدلّ على استمرار سيرة الخليفة الثاني وتأكيد من جاء من بعده على العمل بما سنّ من قبلهما، وإليك نصوصاً أُخرى في هذا السياق:
ترك القراءة
جاء في (بدائع الصنائع): إنّ عمر (رضي الله عنه) ترك القراءة في المغرب في إحدى الأُولَيَين، فقضاها في الركعة الأخيرة وجَهَر، وعثمان (رضي الله عنه) ترك القراءة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في الأخريين وجهر(4)، ثمّ روى حديثاً في ذلك عنها(5).
زوجة المفقود
____________
1- انظر كتاب السنة لعمرو بن عاصم 2: 602، ح 1350، تاريخ اليعقوبي 2: 223، شرح النهج 4: 56، فصل في ما روي من سب معاوية وحزبه لعلي، جواهر المطالب 2: 227.
2- الطبقات الكبرى 4: 147.
3- من الثابت تاريخاً ان الحجاج استخف باصحاب رسول الله حين دخل المدينة فختم في يد جابر بن عبد الله وختم في عنق أنس بن مالك وسهل بن سعد بالرصاص لإذلالهم. انظر تاريخ الطبري 3: 543، احداث سنة 74، والاستيعاب 2: 664، الترجمة 1089 لسهل بن سعد الساعدي، أسد الغابة 2: 366، تهذيب الكمال 12: 189.
4- بدائع الصنائع 1: 111، المبسوط للسرخسي 1: 18، 221.
5- انظر بدائع الصنائع 1: 172.