ردّ الأمّ للسدس
أخرج الطبرىّ في تفسيره، عن طريق شعبة، عن ابن عبّاس: أنّه دخل على عثمان فقال: لِمَ صار الأخوانِ يردّان الأمّ إلى السدس، وإنّما قال الله { فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ...}(2) والأخَوَانِ في لسان قومك، وكلام قومك ليسا بإخوة؟
فقال عثمان: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار؟!(3)
وفي لفظ الحاكم والبيهقىّ: لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس(4).
زكاة الخيل
أخرج البلاذرىّ في (الأنساب)، بالإسناد عن الزهرىّ: أنّ عثمان كان يأخذ من الخيل الزكاة، فأُنكر ذلك من فعله، وقالوا: قال رسول الله: عفوتُ لكم عن صدقة
____________
1- السنن الكبرى 7: 446، ح 15348.
2- النساء: 11.
3- تفسير الطبرىّ 4: 278.
4- المستدرك على الصحيحين 4: 372، ح 7960، السنن الكبرى للبيهقي، باب فرض الأم، ح 12077.
فيحتمل أن يكون عثمان قد اتّبع عمر في هذه المسألة; إذ أخرج ابن حزم في المحلّى عن ابن شهاب أنّ السائب ـ ابن أُخت نمر ـ أخبره: أنّه كان يأتي عمر بن الخطّاب بصدقات الخيل. قال ابن شهاب: وكان عثمان بن عفّان يصدِّق الخيل(2).
وعن حارثة قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر (رضي الله عنه) فقالوا: إنّا قد أصَبْنا أموالاً وخيلاً ورقيقاً نحبّ أن يكون لنا فيها زكاة وطَهور.
قال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، فاستشار أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) وفيهم علي(رضي الله عنه)، فقال علىّ: هو حسن إن لم يكن جزيةً راتبة يؤخَذون بها مِن بعدك(3).
فالإمام علىّ نبّه هنا على أنَّ منع المسلمين من تطهير أموالهم وقد رغبوا في ذلك لا يجوز شرعاً، بل ربّما استحبّ كما هو الحقّ، لكنّ مخافة التالي الفاسد وهو صيرورتها سنّة وشريعة هو أيضاً حرام شرعىّ، فنبّه علىّ (عليه السلام) على جواز أخذ زكاة الخيل لا على وجه الوجوب، وأنّه لا يمكن إجبار مسلم على أداء زكاة خيله، فجمع علىّ (عليه السلام) بين الحكم بالجواز والتنبيه على ما قد يتوهّم منه الوجوب، وهذا هو الطريق السديد، وكان قد فعل النبىّ (صلى الله عليه وآله) ذلك في الصلاة بمنى حيث كان ينبّه الناس على أنّهم مسافرون يقصرون الصلاة وأنّ على أهل البلد الإتمام.
وبهذا عرفت أنّ عثمان قد اتّبع سيرة صاحبَيه في بعض الأحكام، وإن كان يحمل آراء تخصّه في أحيان أُخرى، وهي آراء يخالف بها الآخرين، لأنّا نعلم أنّ طريق الرأي لو فتح لا يمكن لأحد أن يغلقه، كما يقول الإمام علىّ: (كراكب الصَّعْبة: إنْ أشنَقَ لها خَرَم، وإن أسلسَ لها تَقحّم). وإنّك عرفت نهج الخلفاء وأنّ على الخليفة
____________
1- أنساب الأشراف 5: 26، وانظر المحلّى 5: 227 ـ 229 مثلاً.
2- المحلى 5: 227.
3- مسند أحمد 1: 14، مسند عمر بن الخطاب، ح 82، سنن الدارقطني 2: 126، باب زكاة مال التجارة، ح 2 و3، المستدرك على الصحيحين 1: 557، ح 1456.
الكلالة
عن الشعبىّ أنّه قال: سئل أبو بكر عن الكَلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمنّي ومن الشيطان، أراه ما خلا الولد والوالد. فلمّا استخلف عمر (رضي الله عنه) قال: إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر!(1)
وقد نقل الجاحظ في كتابه (الفتيا) عن أُستاذه إبراهيم بن السيّار النظّام تعليقه على قول عمر آنف الذكر، يقول: وإنّي لأعجب من قول عمر (إنّي لأستحي من الله من أن أُخالف أبا بكر) فإن كان عمر إنّما تابعه لأنّ خلافه لا يجوز [أو اعتقاداً منه بأنّ الحقّ معه ]فقد خالفه في الجدّ مائة مرّة وفي أهل الردّة [والمؤلّفة قلوبهم ]وفي أُمور كثيرة(2).
فدك
ولو أخذنا قضيّة فدك وخُمس الأموال من باب المثال لعرفنا كيفيّة خضوع الأحكام الشرعيّة لعوامل خارجيّة وسياسات وقتيّة ثمّ وُسِّع نطاقها لتكون سياسة عامّة يتّخذها الخلفاء من بعدهم كأصل في الحياة!
ففدك لو كانت حقَّ الأمّة ـ كما قال الخليفة الأوّل ـ فكيف يمنحها إذَن عثمان لمروان بن الحكم مع خُمس إفريقية؟! وإنّها لو كانت حقّاً شخصيّاً ـ كما قالت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ فلِمَ لا يعطونها إيّاها؟! ولتوضيح ذلك نقرأ هذا النصّ:
____________
1- سنن الدارمىّ 2: 462، باب الكلالة، ح 2972، السنن الكبرى للبيهقي 6: 223، باب حجب الاخوة والاخوات، ح 12043.
2- الفصول المختارة: 207 للشيخ المفيد عن كتاب (الفتيا) وما بين المعقوفتين زيادة توضيحية منا.
وهذا تناقض عجيب، وتضارب بيِّن، ترى أين الصواب: في ادّعاء أبي بكر أنّها للمسلمين، أم ادّعاء عمر بأنّهم بحاجة إلى أموالهم لتجييش الجيوش وتوسيع رقعة الإسلام، أم في ادّعاء عثمان بأنّها له باعتباره ممثلاً عن النبىّ؟!
ومهما تكن الإجابة فإنّا نرى إطباق هذه الادّعاءات على منع فاطمة من فدك، بشتّى الاجتهادات والتوجيهات، واستمرار ذلك، يقفو به اللاحق السابق، وهذا ممّا يؤكّد التواصل المدروس لتنمية نهج الاجتهاد والرأي في مقابل نهج التعبّد المحض بالسنّة الشريفة(2).
ويلحظ استمرار المنع من التدوين إلى فترة خلافة عمر بن عبد العزيز الذي فتح التدوين، كما يلاحظ إرجاع هذا الخليفة فدكاً لأولاد فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3)، ولعلّ في الأمر ملازمة وارتباطاً، لأنّ التدوين الحاصل ـ على علاّته ـ أفاد المسلمين، وأوضح الكثير من الحقائق ـ وإن كان بجانب آخر يهدف إلى تثبيت مبادئ مدرسة الاجتهاد لكي تدافع عن نفسها مقابل مدرسة التدوين والتحديث ـ فكان لإيضاح تلك الحقائق مع ما عُرف من عمر بن عبد العزيز، نتيجة طيّبة، إذ
____________
1- السنن الكبرى 6: 301، ح 12516.
2- في كلام الزهراء والإمام علي وأهل البيت دلالات واضحة إلى هذا، منها قول الزهراء، إلى نساء المهاجرين والأنصار: ويعرف التالون غب ما أُسس الأولون، وقولها(عليها السلام): تتربصون بنا الدوائر تتوكّفون الأخبار.
3- فتوح البلدان للبلاذري 1: 38، شرح النهج 16: 278، معجم البلدان 4: 239 (فدك)، الكامل في التاريخ 2: 104 ـ 105.
الخمس
جاء عن ابن عبّاس أنّه قال: فلمّا قبض الله رسوله ردّ أبو بكر نصيب القرابة في المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله(2).
وعنه في جوابه لنجدة الحَروريّ لمّا سأله عن سهم ذوي القربى: لمن هو؟
قال: قد كنّا نقول: إنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلّها ذوو قربى!(3)
وروى الشافعي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لقِيتُ عليّاً عند أحجار الزيت، فقلت له: بأبي أنت وأُمّي، ما فعل أبو بكر وعمر في حقّكم أهلَ البيت من الخمس...؟ إلى أن يقول:
قال علىّ: إنّ عمر قال: لكم حقّ ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كلّه، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم، فأبينا عليه إلاّ كلّه، فأبى أن يعطينا كلّه(4).
وقد كان عمر بن الخطّاب قد قال مثله لابن عبّاس، وأجابه ابن عبّاس بمثل
____________
1- مسند أبي يعلى 2: 334، ح 1075 وح 1409، شرح النهج 16: 268، الدر المنثور 5: 273 ـ 274.
2- تفسير الطبرىّ 10: 7، وانظر باب قسمة الخمس من أحكام القرآن للجصّاص 4: 243 ـ 245.
3- مسند احمد 1: 294، ح 2685، سنن النسائي 7: 129، ح 4134، تفسير الطبري 10: 6، واللفظ له، زاد المسير 3: 360، الدر المنثور 4: 68.
4- الام 4: 148، باب سن تفريق القِسَمْ، مسند الشافعي 1: 325، من كتاب قسم الفي، السنن الكبرى للبيهقي 6: 344، ح 12742.
فلو كان الخمس حقّاً للمسلمين، فكيف يحقّ لعثمان أن يتأوّل ويعطيه مرّة لعبد الله بن أبي سرح وأُخرى لمروان بن الحكم؟!(2)
ولو كان هذا تأويلاً من عثمان لم يقبله المسلمون، فَلِمَ نرى غالب أئمّة الجمهور لم يجعلوا لذي القربى حقّاً من الخمس اليوم؟!(3)
يبدو أنّ الأمر في الواقع هو غير ما أُريد له أن يملأ أذهان المتطرّفين من بيننا في تقديس السلف، الذين يحرّمون الحوار ويحظرون مناقشة المواقف والآراء.. وربّما عدّوا هذه المناقشات خروجاً عن الدين!
____________
1- مسند أحمد 1: 320، ح 2943، سنن النسائي 7: 128، ح 4133، المعجم الكبير 10: 334، ح 10829.
2- تاريخ الطبري 2: 597، والبداية والنهاية 7: 152 في أحداث سنة 27 هـ، وذكره ابن الاثير في الكامل 2: 481، في احداث سنة 26 هـ.
3- انظر النصّ والاجتهاد: 53.
تواصل الامتداد في عهد معاوية
هلمّ معي نتابع امتداد اجتهادات الشيخين، في زمن معاوية ومن جاء من بعده. وقد مرّ سابقاً ما أخرجه أحمد في مسنده، وإليك ما قاله ابن عساكر: كان معاوية يقول على منبر دمشق: إيّاكم والأحاديثَ عن رسول الله، إلاّ حديثاً ذُكِر على عهد عمر!(1)
وفي صحيح مسلم عن اليحصبىّ، قال: سمعت معاوية يقول: إيّاكم وأحاديث، إلاّ حديثاً كان في عهد عمر; فإنّ عمر كان يُخيف الناس في الله عزّ وجلّ!(2).
وقد مرّ ما رواه ابن عدىّ، عن إسماعيل بن عبيد الله: أنّ معاوية نهى أن يُحدَّث عن رسول الله بحديث إلاّ حديث ذُكر على عهد عمر، فأقرّه عمر(3).
وقد جاء عن ابن عساكر عن رجاء بن حيوة قال: كان معاوية ينهى عن الحديث يقول: لا تحدثوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (4).
عن محمّد بن عبد الله: أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس(5)، عامَ حَجَّ معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ.
فقال الضحّاك: لا يصنع ذلك إلاّ من جَهِل أمر الله تعالى.
فقال سعد: بئسما قلتَ يا ابن أخي.
قال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك.
____________
1- تاريخ دمشق 29: 274.
2- صحيح مسلم 2: 718 / 98، باب النهي عن المسألة، ح 1037، وفي المعجم الكبير 19: 370، ح 869، ومسند الشاميين 3: 129، ح 1933 بلفظ (إياكم وأحاديث رسول الله).
3- الكامل لابن عدي 1: 19، الباب الرابع عشر.
4- تاريخ دمشق 59: 167.
5- الضحّاك بن قيس الفهرىّ القرشىّ قائد جلاوزة معاوية، ولد قبل وفاة النبىّ بسبع سنين، وولّي على شرطة معاوية، وحارب معه، فأغار على سواد العراق، وعلى الحاجِّ وأخذ أمتعتهم، وتولّى دفن معاوية، وبايع ابن الزبيرَ بعد يزيد، وقاتل مروان، فقُتل بمرج راهط سنة أربع وستّين.
وفي سنن الدارمىّ: قال سعد: عمر خير منّي، وقد فعل ذلك النبىّ(صلى الله عليه وآله) وهو خير من عمر(2).
وقد اتّبع الضحاك في نهيه عن المتعة عثمان، وعثمان كان قد اتّبع عمر، ذلك المنع الذي شدّد عليه معاوية; لأنّه كان يرى ضرورة تشييد فقه مستقلّ ذي أبعاد وأُسس مستقلّة، يتميّز عن فقه العلويّين ومَن تابعهم من أصحاب النبىّ(صلى الله عليه وآله).
وكان فقه الشيخين هو المحور الذي يمكن أن يبنى على أساسه هذا البناء المشمخر.
وقد أدرك معاوية وهو الداهية ضرورة سدّ باب التحديث، تقويةً لاجتهادات الخليفة عمر بن الخطّاب وقراراته; لكي يتمكّن من تشييد بناء البديل. وقد أكّدنا في (وضوء النبىّ) على أنّ الخلفاء أمويّين كانوا أم عبّاسيّين يتخوّفون من الطالبيّين (أبناء علىّ بن أبي طالب، وأتباع نهجه) ويخطّطون للتعرّف عليهم، فقرّروا أن يجمعوا الناس على فقه مناقض لعلىّ بن أبي طالب، لتشخيص أتباع علىّ وتمييزهم، فتراهم تارة يأخذون في الأحكام بقول عمر، وأُخرى بقول عائشة، وثالثةً بقول أبي هريرة، ورابعةً بقول عثمان... وهكذا.
المهمّ هو حدوث التخالف مع قول علىّ، ثمّ جمع الأمّة على ما يريدونه، ومتى أرادوا النيل من أحد الطالبيّين فإنّهم يُشيعون عنه أنّه قد خرج عن إرادة الأمّة، لأنّ فقهه يخالف فقه المسلمين، فانظروا إلى وضوئه فإنّه مَسْحي، وإلى صلاته فهو مُسْبِل، وإلى قراءته فهي جهريّة، وإلى آخر هذه المصائد والكمائن.
____________
1- مسند احمد 1: 174، ح 1503، سنن الترمذي 3: 185، ح 823، قال: هذا حديث صحيح، سنن النسائي 5: 152، ح 2734، واللفظ له.
2- سنن الدارمىّ 2: 55، باب في التمتع، ح 1814.
فعن عمرو بن العاص أنّه قال: أشهدُ، لَسَمعتُ رسول الله يقول: ما أقرأكم عمر فاقرؤوا، وما أمركم به فأتمروا(1).
وجاء فيما كتبه معاوية إلى عمّاله في الأمصار: (انظُروا مَنْ قِبَلكم من شيعة عثمان ومُحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدْنُوا مجالسهم، وقرِّبوهم وأكرِموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلٌّ رجلٌ منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته)(2).
ولمّا فشا الحديث في فضائل عثمان، كتب إليهم:
(إنّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفشا في كلّ مصر، وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعُوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة)(3).
وهذا النصّ وضّح لك سياسة معاوية وأنّه قد ارتضى جميع الصحابة إلاّ عليّاً ـ أبا تراب ـ وأنّ الوضع أخذ يتفشّى في الحديث ويأخذ مجاله في الفقه. وإليك هذا النصّ، ـ الذي رواه البيهقىّ وأبو داود في سننهما ـ واللفظ للأوّل:
إنّ معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله: إنّ رسول الله نهى عن صفف
____________
1- كنز العمّال 12: 593 / ح 35844، تاريخ دمشق 44: 234.
2- شرح النهج 11: 44.
3- شرح النهج 11: 45.
قالوا: اللّهمّ نعم.
قال: وأنا أشهد.
قال: أتعلمون أنّ النبىّ(صلى الله عليه وآله) نهى عن لبس الذهب إلاّ مقطّعاً؟
قالوا: اللّهمّ نعم.
قال: أتعلمون أنّ النبىّ(صلى الله عليه وآله) نهى أن يُقْرَن بين الحجّ والعمرة؟
قالوا: اللّهمّ لا!
قال: والله، إنّها لَمَعَهُنّ(1).
انظر إلى طريقة معاوية كيف يحاول الاستدراج والانتقال من الثوابت ليلصق بها ما يريد إلصاقه بها إيهاماً وتضليلاً للآخرين.
قال ابن القيّم بعد إيراد الحديث السابق: ونحن نشهد بالله إنّ هذا وهمٌ من معاوية أو كذب عليه، فلم يَنْهَ رسولُ الله عن ذلك قطُّ(2).
والواقع أنّ الوهم من ابن القيّم، فإنّه ككثير من المسلمين حَسَّنَ الظنّ بمعاوية، فقال (إنّه وَهِمَ)، مع أنّه لا يمكن الوهم في مثل هذا الحكم الواضح الذي فعله النبىّ والمسلمون، ومن ثمّ وقع الاختلاف فيه في زمان الخليفة عمر بن الخطّاب، فمنع عن القرآن، فهل خفي كلّ ذلك على معاوية فوهم؟!
ولماذا يكون هذا كذباً على معاوية كما يقول ابن القيّم ولا يكون كذباً على النبىّ(صلى الله عليه وآله)؟! ولماذا لا يكون تخطيطاً مسبقاً وإصراراً على تأسيس شرعيّة جديدة مقابل مشروعيّة كتاب الله وسنّة رسوله؟!
____________
1- مسند احمد 4: 99، مسند عبد بن حميد: 157، ح 419، السنن الكبرى للبيهقي 5: 19، باب كراهية من كره القرآن والتمتع والبيان...، ح 8651، واللفظ له.
2- زاد المعاد 2: 138.
أعلمتَ أنّي قصّرتُ من رأس رسول الله ثم المروة بمشقص؟
فقال له ابن عبّاس: لا أعلم هذا إلاّ حجّة عليك(1).
أي دليلاً عليك لا لك; لأنّ معاوية بنقله الكلام السابق كان يريد الإشارة إلى أنّه كان مقرّباً من رسول الله وفي خدمته، لكنْ فاته أنّ كلامه هذا يناقض ما أفتى به سابقاً، ونقله زَعْماً عن رسول الله!
وجاء عن سعد بن أبي وقّاص أنّه سئل عن المتعة ـ كما في رواية مسلم ـ فقال: فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعرش، قال الراوي: يعني بيوت مكّة(2)، وفي رواية أُخرى: يعني معاوية(3).
وقد جعلوا لفظ (العَرْش) (العُرُش) بضمّتين ليكون جمع عريش مثل قليب وقُلبُ ويكون بمعنى بيوت مكّة(4).
ولعلّ سعداً تلفظه بفتح العين وسكون الراء وقصد أنّه كان يومذاك كافراً بربّ العرش!
____________
1- صحيح البخارىّ 2: 617، باب الحلق والتقصير ثم الإحلال، ح 1643، صحيح مسلم 2: 913 / ح 1246، باب التقصير بالعمرة، والنصّ لمسلم.
2- صحيح مسلم 2: 898، باب جواز التمتع، ح 1225.
3- مسند أحمد 1: 181، ح 1568، المسند المستخرج على صحيح مسلم 3: 324، ح 2841، فتح الباري 3: 566.
4- من أُولئك: الخطّابىّ في إصلاح غلط المحدّثين: 121، والسيوطىّ في التطريف في التصحيف: 31، وينظر غريب الحديث لأبي عبيد 4: 20، 21، والمشارق 2: 79، وشرح النووىّ 8: 204، وغريب ابن الجوزي 2: 81.
نعم، إنّ سعد بن أبي وقّاص، وعمران بن الحصين، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من مشهوري الصحابة كان يمكنهم الوقوف أمام آراء معاوية وربّما عثمان وعمر، لكنّهم في الوقت نفسه كانوا يحذرون البطش، خصوصاً بطش معاوية الذي عرف بالمكر والخداع...
جاء عن الصحابىّ عمران بن الحصين أنّه قد أباح بسرّ كان قد كتم أنفاسه عن الجهر به في زمن الشيخين وعثمان، ولمّا حضره الموت أودع ما عنده لمطرف، فاستمع لما حكاه مسلم وغيره عن مطرف، فإنّه قال:
بعث إلىّ عمران بن الحُصَين في مرضه الذي توفّي فيه فقال: إنّي كنتُ محدِّثك بأحاديث لعلَّ الله أن ينفعك بها بعدي، فإنْ عشتُ فاكتمْ عنّي، وإن متُّ فحدِّث بها إن شئت، إنّه قد سلم علىّ، واعلم أنّ نبىّ الله (صلى الله عليه وآله) قد جمع بين حجّ وعمرة، ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله، ولم يَنْهَ عنها نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء(1).
وفي نصّ آخر عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: إنّي لأحدِّثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم، واعلم ثم أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أعمَرَ طائفة من أهله في العشر، فلم تنزل آية تنسخ ذلك، ولم ينه عنه، حتّى مضى لوجهه ارتأى
____________
1- صحيح مسلم 2: 899، باب جواز التمتع، ح 1226، شرح النووي على صحيح مسلم 8: 206، وهو أيضاً في مسند احمد 4: 428، ومعجم الشيوخ للصيداوي: 345، والمسند المستخرج على صحيح مسلم 3: 325، ح 2845.
نعم، إنّ عمران بن الحصين نقل الحديث وهو وجِل من عُقبى قوله فطلب من مطرف أن يحفظها عنده عسى أن تنفعه في الأيّام اللاحقة! وأن يكتمها عليه إن شفاه الله من مرضه، وهل بعد هذا الخوف والوجل من شكّ في أنّ الكثير من الصحابة كانوا لا يرتضون ما يفعله ويرتأيه الشيخان وعثمان ومعاوية من بعد.
كلام لابن قيّم الجوزيّة في متعة النساء
ولابن القيّم كلام في الجمع بين الأحاديث الناهية عن المتعة والمجوّزة لها، قال:
(فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّامَ على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث.
وفيما ثبت عن عمر أنّه قال: مُتعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحجّ؟
قيل: الناس في هذا طائفتان:
طائفة تقول: إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون، ولم تَرَ هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح; فإنّه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جدّه، وقد تكلّم فيه ابن معين، ولم يَرَ البخارىّ إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه،
____________
1- صحيح مسلم 2: 898، باب جواز التمتع، السنن الكبرى للبيهقي 4: 334، باب العمرة في اشهر الحج، ح 8513. قال: اخرجه مسلم في الصحيح من حديث الجريري وزاد: لم ينه عنه حتى مضى لوجهه، المعجم الكبير 18: 111 ـ 112، ح 211، ح 213، ح 214.
والطائفة الثانية: رأت صحّة حديث سبرة، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث علىّ (رضي الله عنه): إنّ رسول الله حرّم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر، حتّى كان زمن عمر، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر; وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها وبالله التوفيق)(1).
ردٌّ وإيضاح
لنا في كلام ابن القيّم نظر، إذ لا ندري متى ثبتت حرمة التمتّع بالنساء عن علىّ حتّى يصحّ جعله دليلاً للمطلوب، في حين كان الإمام وابن عمه عبد الله بن عبّاس في طليعة الُمجِيزين لها، والأئمّة من ولده من المدافعين عنها على مرّ التاريخ، فكيف ينسب إلى علىّ التحريم والخلفاء كانوا يعقدون جلسات المناظرة مع الأئمّة من ولد علىّ وكان السؤال عن المتعة في رأس قائمة الأسئلة في تلكم المناظرات التي حفظها لنا التاريخ؟!(2)
فلو كان المنع قد ثبت عن علىّ فما معنى هذا الإصرار من قبل آله في الدفاع عن حلِّيَّة التمتّع؟! ولماذا غدا أتباع علىّ ـ إذَن ـ موضع سهام الانتقاد والمحاربة، من أجل القول بمشروعيّة هذا التمتّع؟! ولمَ تُحارَبُ الشيعة من أجله؟!
____________
1- زاد المعاد 3: 462.
2- انظر عيون أخبار الرضا 1: 132 مثلاً.
لقد أكّدنا ـ أكثر من مرّة ـ على أنّ الحكومة وأنصارها كانت تجدّ في نسبة ما تريد إلى أعيان الصحابة المخالفين لرأي الخليفة، لتزكية عمل الخلفاء من خلال القول بأنّ علىّ بن أبي طالب وابن مسعود وسعد بن أبي وقاصّ وغيرهم.. كانوا يذهبون أيضاً إلى ما ذهب إليه الخليفة.
وهذا يفسّر لنا ظاهرة من ظواهر اختلاف منقولات أتباع نهج الاجتهاد والرأي عن الصحابىّ الواحد، خاصّة إذا كان من الجناح المقابل لفقه الشيخين، لكي يختلط عند ذلك الحابل بالنابل والغثّ بالسمين.
إن اختلاف النقل عن الصحابىّ ينمُّ عن وجود امتداد لنهج آخر في الشريعة، ولأجله ترانا نؤكّد بين الفينة والأخرى على ضرورة دراسة ملابسات الأحاديث والأخبار، لمعرفة من قال بهذا الرأي من الخلفاء أو من أعطوه دوراً كبيراً في الشريعة كعائشة أُمّ المؤمنين، وهل هناك من يخالفهم من الصحابة عن رسول الله أم لا؟ وبهذا يمكننا الوقوف على الخيوط الخفيّة في الأحكام الشرعيّة، ومكان وزمان صدور الخبر وملابسات الفتاوى والآراء!
ولو اتّخذنا قضيّة المتعة مثلاً، لعرفنا امتداد النهجين واضحاً بيّناً فيها.
فابن عبّاس،وابن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، وعلىّ بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعرىّ، وغيرهم.. يؤكّدون على مشروعيّة هذا الفعل ويعتبرونه فعلاً شرعيّاً نصّ عليه الله ورسوله، ولم ينسخ قطّ.
أمّا عثمان بن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان وأئمّة الفقه الحاكم، فلا يرتضون ذلك