فمن الطبيعىّ ـ من أجل تقوية الجناح الحاكم ـ أن ينسبوا إلى ابن عبّاس وعلىّ ـ وحتّى إلى ابن عمر ـ قولاً في النهي عن ذلك، لتقوية اتّجاه الخليفة، فاللازم على الباحث ـ بعد وقوفه على نهي عمر في المتعة ـ أن يقف فيما يقال عن حكم التمتّع، وهل حقّاً قد نسخ، أو أنّ عليّاً وابن عبّاس قد منعا منه، وغيرها من المفتريات التي تحكِّمُ فتوى الحاكم ورأيه.
إنّ النصوص ـ تاريخيّة كانت أم حديثيّة، سنّيّة كانت أم شيعيّة ـ توضِّح سقم تلك الأخبار، وإليك خبراً آخر، عن ابن عبّاس في المتعة.
أخرج الهيثمىّ في (مجمع الزوائد): إن عروة بن الزبير أتى ابنَ عبّاس، فقال: يا ابن عبّاس، طالما أضللتَ الناس!
قال: وما ذاك يا عُرَيّة؟!
قال: الرجل يخرج مُحْرِماً بحجّ أو عمرة، فإذا طاف زعمتَ أنّه قد حلّ، فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك. فقال: أهما ـ ويحك ـ آثرُ عندك أمْ ما في كتاب الله وما سَنّ رسول الله في أصحابه وفي أُمتّه؟!
فقال عروة: هما كانا أعلم بكتاب الله وما سنّ رسول الله منّي ومنك(1).
وعن أيّوب، قال عروة لابن عبّاس: ألا تتّقي الله، ترخّص في المتعة؟!
فقال ابن عبّاس: سل أُمّك يا عُرَيّة؟
فقال عروة: أمّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا!
فقال ابن عبّاس: والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله! نحدّثكم عن
____________
1- مجمع الزوائد 3: 234، باب فسخ الحج إلى عمرة، عن الطبراني في المعجم الأوسط 1: 11، ح 21.
فإحالة ابن عبّاس الأمر إلى أمّ عروة ـ أسماء بنت أبي بكر ـ إنّما كان لتمتّع الزبير بها، وأنّها ولدت له من ذلك التمتّع عبد الله (2).
وعن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آت، فقال: ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نَعُدْ لهما(3).
إنّ عودتنا إلى بعض النصوص عن ابن عبّاس غايتها إيقاف القارئ على أنّ ما نسب إلى ابن عبّاس وأمثاله في المتعة وغيرها ليس بصحيح لأنّ مثل هذا الرأي يصبّ في مصبّ الفقه الحاكم ويخالف الثابت الصريح عن المخالفين للمنهج الحاكم.
وقد اشتهر عن معاوية أنّه أوّل من غذّى روح البغض والعداء لأهل البيت بجهره بلعن علىّ وآله ولعن ابن عبّاس على المنابر. وقد جدّ بتحريف الشريعة عن وجهتها بُغضاً لعلىّ، فلو كان كذلك فهل تصدّق أن يبقى فقه علىّ وابن عبّاس كما هو في نهج الحكّام، مع معرفتك بأن الخلفاء من بعده ـ أمويّين كانوا أم عبّاسيّين ـ كانوا يتّخذون فقه الشيخين وعثمان وعائشة، بل كلّ من يخالف علىّ ويرجّحونه على فقه الآخرين، لوجود الطالبيّين في كفّة المعارضة!
____________
1- حجة الوداع لابن حزم: 353، ح 391، وفيه سل امك يا عروة، التمهيد لابن عبد البر 8: 208، واللفظ له، زاد المعاد 2: 206.
2- محاضرات الأدباء 3: 214، العقد الفريد 2: 139، جمهرة خطب العرب 2: 127، عن العقد الفريد لابن عبد ربه قال: اول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير.
3- صحيح مسلم 2: 914، ح 1249، 2: 1023، ح 1405، السنن الكبرى للبيهقي 7: 206، ح 13947، فتح الباري 9: 174.
الحكّام والتطبيع الفقهيّ
أخرج الشافعىّ في كتاب (الأمّ)، من طريق عبيد بن رفاعة عن أبيه: أنّ معاوية قدِم المدينة فصلّى بهم، فلم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم والأنصار: أنْ: يا معاوية! أسرقتَ صلاتك؟! أين (بسم الله الرحمن الرحيم)؟! وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟!
فصلّى بهم صلاة أُخرى، فقال ذلك فيها الذي عابوا عليه(1).
وأتى قبله بحديث عن أنس بن مالك، قال:
صلّى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأمّ القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتّى قضى تلك القراءة، ولم يكبّر حين يهوي حتّى قضى تلك الصلاة، فلمّا سلّم ناداه مَن سمع ذلك من المهاجرين من كلّ مكان: يا معاوية! أسرقتَ الصلاة أم نسِيت؟
فلمّا صلّى بعد ذلك، قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمّ القرآن، وكبّر حين يهوي ساجداً(2).
____________
1- الام 1: 108، باب التعوذ بعد الافتتاح، سنن الدارقطني 1: 311، باب ذكر التكبير ورفع اليدين، ح 34، السنن الكبرى للبيهقي 2: 49، ح 2239، التدوين في أخبار قزوين 1: 154.
2- الام 1: 108، باب التعوذ بعد الافتتاح، السنن الكبرى للبيهقي 2: 49، ح 2237، التدوين في أخبار قزوين 1: 154، وجاء في فتح الباري 2: 270، وعون المعبود 3: 45، ونيل الاوطار 2: 266، عن سعيد بن المسيب انه قال: اول من ترك التكبير معاوية!
وعلّق الفخر الرازىّ في (أحكام البسملة) على كلام الزهرىّ:
قلت: وولي عمرو المدينة في زمن يزيد بن معاوية، وتبعه من تبعه في ذلك، فلهذا قال يحيى بن جعدة: اختلس الشيطان من الأئمّة آية البسملة، يعني بالأئمّة: الولاة العلماء. وقال الزهرىّ: هي آية من كتاب الله تركها الناس. وقال مجاهد: نسِيَ الناس ما كان الأمر عليه قبل ذلك، ولا خير فيما أُحدث بعد العصر الذي أنكر فيه على معاوية تركها، وإذا اشتهر واستفاض، فالحجّة فيما ينقل عن العلماء دون أفعال الولاة.
فإن قلت: لو لم يكن حقّاً لأنكره العلماء.
قلت: قد أنكروه على معاوية فرجع، فلمّا أفضى الأمر إلى غيره من الولاة الجبابرة من المدينة كالأشدق والحجّاج وحُبيش بن دلجة ونظائرهم، ربّما تركوه خوفاً من سطوتهم، أو أنكر بعضهم فلم يقبل منهم، فتركه الباقون ورأوا الأمر واسعاً. والكلّ جائز وإن كان فيه ترك للسنّة، فاغتفروا أمره خوفاً من الفتنة!(2)
ثمّ نقل كلام ابن الزبير: ما يمنع أُمراؤكم أن يجهروا بها إلاّ الكبر، ولعلّ عمرو بن سعيد الأشدق ـ وهو أوّل من أسرّ بها بالمدينة ـ إنَّما فعل ذلك مخالفة لابن الزبير، لأنّها مذهب ابن الزبير، حتّى في الجهر بالبسملة في الصلاة، واقتدى به من وليها من بعده لبني مروان، وغير بعيد أن يقصد الأشدق ذلك فهو الذي بعث إليه البعوث وحاصره بمكّة وهو الحصار الأوّل، وبه اقتدى الحجّاج وحاصره الحصار الثاني، وقبله أخرب الكعبة، وأخرج منها الحجر وغيَّر ما كان فعله ابن الزبير فيها، فهم كانوا حريصين على
____________
1- السنن الكبرى للبيهقي 2: 50، ح 2240، سير أعلام النبلاء 5: 434.
2- أحكام البسملة: 76.
وقد أتى الفخر الرازىّ قبل ذلك بحديث عن محمّد بن إسحاق المسيبىّ قال: حدّثني أبي أنّه لمّا صلّى بالناس بالمدينة، جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: فأتاني الأعشى ـ أبو بكر بن أُخت مالك بن أنس ـ أنّ أبا عبد الله (يعني مالك بن أنس) يقرأ عليك السلام ورحمة الله، ويقول لك: مَن خفْتُه على خلاف أهل المدينة فإنّك ممّن لم أخَف، وقد كان منك شي!
قلت: وما هو؟
قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
قلت: فأبلغه عنّي السلام كما أبلغني، وقل له: إنّ كثيراً ما سمعتك تقول: لا تأخذوا عن أهل العراق، فإنّي لم أدرك أحداً من أصحابنا يأخذ عنهم، وإنّما جئت في تركها عن حميد الطويل، فإن أحببت أخْذَنا عن أهل العراق أخذنا هذا وغيره من قولهم، وإلاّ تركنا حميداً مع غيره، فلم يكن لك عَلَيّ به حجّة، وقد سمعتك كثيراً ما تقول: خذوا كلّ علم من أهله. وعلم القرآن بالمدينة عن ابن أبي نعيم، فسألته عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، فأمرني بها وقال: أشهد إنّها من السبع المثاني، وإنّ الله أنزلها. وحدّثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه كان يبتدىُ بها ويفتتح كلّ سورة(2).
____________
1- أحكام البسملة، للرازىّ: 76، مصنف ابن أبي شيبة 1: 362، ح 1456، والسنن الكبرى للبيهقىّ 2: 49، ح 2235.
2- أحكام البسملة للفخر الرازىّ: 74 ـ 75، السنن الكبرى للبيهقىّ 2: 48، ح 2233.
والجدير ذكره هنا، هو أنّ غالب فقه أهل المدينة كان يخالف أهل البيت، أما فقه أهل العراق فغالبه ـ واعني به الكوفة ـ كان يوافق أهل البيت. والمعروف عن مالك أنّه كتب موطّأه بطلب من الخليفة المنصور العبّاسىّ، فقال له المنصور: يا أبا عبد الله! ـ يعني مالك ـ، ضع هذا العلم ودوّنه ودوّن منه كتباً وتجنّبْ فيه شواذّ عبد الله بن مسعود ورُخَص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر، واقصد إلى أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة (رضي الله عنهم)، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم ألاّ يخالفوها، ولا يقضوا بسواها.
فقال: مالك: أصلح الله الأمير، إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يَرَون في علمهم رأينا.
وفي آخر: قال المنصور لمالك: اجعل العلم يا أبا عبد الله علماً واحداً. فقال مالك: إنّ أصحاب رسول الله تفرّقوا في البلاد، فأفتى كلّ في مصره بما رأى، وإنّ لأهل البلد ـ يعني مكّة ـ قولاً، ولأهل المدينة قولاً، ولأهل العراق قولاً تعدّوا فيه طورهم. فقال المنصور: أمّا أهل العراق فلا أقبل منهم صرْفاً ولا عدلاً، وأما العلم فعند أهل المدينة، فضع للناس العلم(1).
إن فقه أهل المدينة ـ كما قلنا ـ يخالف في الغالب فقه أهل البيت، وفي كلمات الأئمّة من آل الرسول ما يوضّح ذلك.
أمّا فقه أهل العراق فإنّهم وإن قالوا بالرأي وتأثّروا بالأحاديث المطروحة من
____________
1- انظر وضوء النبىّ (المدخل): 354 عن الإمام مالك ص133، وترتيب المدارك: 30 ـ 33، وانظر الامامة والسياسة 2: 142، وفيه رواية عن مالك قال: فقلت له (يعني المنصور) إن أهل العراق لا يرضون علمنا فقال أبو جعفر المنصور: نضرب عليهم عامتهم بالسيف ونقطع عليه ظهورهم بالسياط! الديباج المذهب لابن فرحون المالكي: 25.
وجاء في كتاب مالك إلى ليث بن سعد ـ فقيه أهل مصرـ: واعلم رحمك الله أنّه بلغني أنّك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه وأنت في أمانتك وفضلك...(1)
فالسياسة الحكوميّة سواء كانت أمويّة أو عبّاسيّة تسعى لمخالفة فقه أهل البيت، وهذه حقيقة لا يسع من له صدق وإنصاف أن يشكّ فيها، أو أن ينكرها.
إنّ هذه النصوص التي أوردناها هي التي تدلّ بنفسها على هذه المعاني.
بيد أنّنا لا نريد الجزم بأنّ موقف الأمويّين أو العبّاسيّين في البسملة قد أُخذ من سيرة الشيخين; فبعضها جاء لتأييدهما، وبعضها جاء لتأييد معاوية أو عبد الملك بن مروان أو المنصور أو سواهم، وهذه الأمور ممّا ينبغي أن يتعرّف عليها الباحث ويقف عندها.
جاء في (أحكام البسملة) للرازىّ، عن (الخلافيّات) للبيهقىّ، عن جعفر بن محمّد أنّه قال: اجتمع آل محمّد على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال أبو جعفر محمّد بن علىّ: لا ينبغي الصلاة خلف من لا يجهر(2).
وعن الرضا: اجتمع آل محمّد على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(3).
____________
1- تاريخ ابن معين للدوري 4: 499، باب رسالة مالك الى الليث بن سعد.
2- أحكام البسملة للفخر الرازىّ: 40.
3- تفسير أبي الفتوح الرازىّ 1: 20 وفي المجموع للنووي 3: 289 عن كتاب الخلافيات للبيهقي، كما في مستدرك وسائل الشيعة 4: 189، ح 4456.
وفي آخر: روينا عن رسول الله، وعن علىّ، والحسن، والحسين، وعلىّ بن الحسين، ومحمّد بن علىّ، وجعفر بن محمّد، أنّهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر بالقراءة من الصلوات في أوّل فاتحة الكتاب وأوّل السورة من كلّ ركعة(2).
وعن الصادق أنّه قال: التقيّة ديني ودين آبائي ولا أتّقي في ثلاث، وعدّ منها ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(3).
وعن أبي هريرة: كان رسول الله يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثمّ تركه الناس(4).
بهذا عرفنا أنّ معاوية لم يقتصر في تحريفه على المتعة وترك البسملة والتكبير لكلِّ رفع وخفض، بل أخذ يعمل في أكثر من حقل لمحو سنّة رسول الله. ومن أجل ذلك نرى علىّ بن أبي طالب وأولاده يؤكّدون على هذه الحقائق المرّة، وإليك نصّاً آخر فيما كان يصنعه معاوية في هذا السياق:
أخرج أحمد بسنده إلى عبّاد بن عبد الله بن الزبير، قال: لمّا قِدم علينا معاوية حاجّاً، قدِمنا معه مكّة، قال: فصلّى بنا الظهر ركعتين، ثمّ انصرف إلى دار الندوة.
قال: وكان عثمان حين أتمّ الصلاة، فإذا قدِم مكّة صّلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً، فإذا خرج إلى منى وعرفات قَصَر الصلاة، فإذا فرغ
____________
1- دعائم الإسلام 1: 160، وعنه في مستدرك وسائل الشيعة 4: 189، ح 4455.
2- دعائم الإسلام 1: 160.
3- دعائم الاسلام 1: 110، 2: 132، وانظر أصول الأحكام في الحلال والحرام 2: 410 للامام يحيى بن الحسين الزيدي.
4- أحكام البسملة للفخر الرازىّ: 45 عن الدارقطنىّ 1: 307، باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم ح 20، والحاكم 1: 357، ح 850، والمصدرين ليس فيهما قول: ثم تركه الناس وانما ذكره البيهقي في روايته عنه في السنن الكبرى 2: 47، ح 2226.
فلما صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عابَ أحد ابنَ عمّك بأقبح ما عِبْتَه به.
فقال لهما: وما ذاك؟
قال، فقالا له: ألم تعلم أنّه (أي عثمان) أتمّ الصلاة بمكّة؟!
قال، فقال لهما: ويحكما! وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع أبي بكر وعمر (رض). قالا: فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّها وإنّ خلافك إيّاه عيب.
قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً(1).
كانت هذه هي سياسة الحكام دوماً، إذ تراهم يتراجعون عمّا عرفوه من أحكام عن رسول الله لقوله: (وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر) ويتّبعون الهوى لعرق يمسُّ من العصبيّة والقبليّة (فإنّ ابن عمّك قد أتمّها، وإنِ خلافك إيّاه عيب)!
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق الحسن البصري قال: كان عبادة بن الصامت بالشام فرأى آنية من فضّة، تباع الإناء بمثلي ما فيه، أو نحو ذلك، فمشى إليهم عبادة فقال: أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عبادة بن الصامت، ألا وإنّي سمعت رسول الله في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس في رمضان ولم يَصُم رمضانَ بعده، يقول: الذهب بالذهب مِثلاً بمثل، سواء بسواء وزناً بوزن، يداً بيد، فما زاد فهو ربا.
____________
1- مسند أحمد 4: 94، مجمع الزوائد 2: 156، باب فيما تقصر فيه الصلاة ومدة القصر، وانظر فتح الباري 2: 457، نيل الأوطار 3: 259، باب من اجتاز بلد فتزوج فيه أوله فيه زوجة.
فقال له عبادة: لقد صحبته وسمعت منه؟!!!.
فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره.
فقال له: بلى، وإن رغم أنف معاوية، ثمّ قام.
فقال له معاوية: ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمّد من الصفح عنهم(1).
وإذا تأمّلت الحديث اطّلعت على بعد النظر الذي كان يمتلكه عبادة بن الصامت، حيث إنّه عاصر وعرف تعليلات نهج الاجتهاد وادّعاءاتهم النسخ في كلّ حكم يريدون الإفتاء به بخلاف الكتاب والسنّة، فلذلك أكّد على أنّه سمع النبىّ، وهو يؤكّد أنّ هذه المعاملة ربويّة في آخر رمضان من حياته المباركة، ليتضاءل ـ بل يمتنع عادة ـ ادّعاؤهم نسخ هذا الحكم بعد استقرار الأحكام على ما هي عليه في آخر حياته المباركة، فلم يكن مجال لادّعاء النسخ، وكذلك نراه يذكر اليوم بالتحديد لكي لا يكذّبوه فيما يرويه عن النبىّ(صلى الله عليه وآله).
وفي رواية مسلم والبيهقىّ: فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً، فقال: ألا ما بالُ رجال يتحدّثون عن رسول الله أحاديث كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه؟!
فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصّة، ثمّ قال: لنحدثنّ بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء(2).
فمعاوية لم يستطع تكذيبه مباشرة، لأنّه حدّد تاريخ ومكان السماع (في مجلس
____________
1- انظر تاريخ دمشق لابن عساكر 26: 199.
2- صحيح مسلم 3: 1210، باب حظر بيع البر بالبر والشعير بالشعير و.... إلا سواء بسواء عيناً بعين، ح 1587، واللفظ له، السنن الكبرى للبيهقي 5: 277، ح 10260.
ومن ذلك ما قاله الوافي المهدي في مروان من أنّه كان يقضي في الذي يطلق امرأته (البتّة) أنّها ثلاث تطليقات، كما في (الموطّأ)، ونقل الزرقانىّ عن الموازية: (أنّ النبىّ ألزم البتّة من طلّق بها وألزم الثلاث من طلق بها، وقضى عمر فيها بالثلاث)(1).
وجاء عن مروان أنّه أرسل إلى ابن عبّاس، فقال: أتفتي في الأصابع عشر عشر، وقد بلغك عن عمر أنّه يفتي في الإبهام بخمسة عشر أو ثلاثة عشر، وفي التي تليها اثنتي عشر ـ وفي آخر عشر ـ وفي الوسطى بعشرة، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بستّ.
قال ابن عبّاس: رحم الله عمر، قول رسول الله أحقّ من أن يتّبع من قول عمر.(2)
وترى مروان قد اتّبع الخليفة عمر بن الخطّاب في الطلاق ثلاثاً ودية الأصابع، ومثله المروىّ عن معاوية في الصلاة بعد العصر.
جاء في (مسند أحمد) عن أبي التياح، قال: سمعت حمران بن أبان يحدّث عن معاوية أنّه رأى أناساً يصلّون بعد العصر، فقال: ثمّ إنّكم لتصلّون صلاة قد صحبنا النبىّ فما رأيناه يصلّيها ولقد نهى عنها، يعني الركعتين بعد العصر(3). وقد وقفت على
____________
1- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة للوافي المهدي المغربىّ: 191، الموطأ 2: 551، باب ما جاء في البتة، ح 1149، شرح الزرقاني 3: 218، الفواكة الدواني 2: 34.
2- السنن الكبرى للبيهقي 8: 93، الأم 6: 75 ـ 76، ومسند احمد 2: 189، ح 6772، وسنن الدرامي 2: 254، باب دية الأصابع، ح 2369، وسنن ابي داود 4: 187، باب الديات، ح 4556.
3- مسند أحمد 4: 99، وهو في مصنف ابن ابي شيبة أيضاً 2: 113، باب من قال لا صلاة بعد الفجر، ح 7326.
نعم، إنّه فقه النهج الحاكم، وغالب مرويّاتهم عن رسول الله جاءت لتصحّح ما ذهب إليه الخلفاء ـ وخصوصاً ما كان يذهب إليه الثلاثة، وعلى الأخص ما يذهب إليه أبو بكر وعمر ـ ولم تقتصر على الطلاق ثلاثاً والصلاة بعد العصر و...!
فهي سياسة عامّة في الحياة الاجتماعيّة وفي النظام الإدارىّ للخلافة الإسلاميّة،وسائل الشريعة بدءاً من صلاة التراويح إلى غيرها من الاجتهادات.
قالت الدكتورة نادية شريف العمرىّ ـ في (اجتهاد الرسول) في معرض حديثها عن صلاة التراويح ـ: (وتذكر الروايات أن ذلك كان في سنة 14 هـ، وأنّه ـ أي عمر ـ كتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك، وجعل للناس إمامين: أحدهما يصلّي بالرجال والآخر يصلي بالنساء)(1).
وقد نقل الدكتور الأعظمىّ كلام بعض منكري السنّة في الباكستان، جاء فيه: (وقالوا: والخطأ الأساسىّ الذي وقع فيه المسلمون من بعد الخلافة الراشدة حتّى الآن أنّهم لم يفهموا الإسلام وروحه، إذ الإسلام نظام اجتماعىّ مبنىّ على الشورى، فالقرآن يأمرنا بالأمور الكلّيّة ويترك تفصيلها لمجلس الشورى للمسلمين الذي يقرّر طريقة الصلاة ونسبة الزكاة حسب الزمان والمكان. وهذا ما فهمه أبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون، فكانوا يستشيرون الصحابة، وحيث شعروا بالحاجة إلى الإضافة أضافوها، وإن لم يجدوا ضرورة للتغيير أبقوها. ولو كانت سنّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) شيئاً دائماً لأعطانا الرسول شيئاً مكتوباً جاهزاً.
وليس معنى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}: أطيعوا سنّة الرسول بعد وفاته،
____________
1- اجتهاد الرسول: 285، وانظر مصنف ابن أبي شيبة 2: 34، باب في الرجل يؤم النساء، ح 6149، الطبقات الكبرى 3: 281، تاريخ الطبري 2: 570، فتح الباري 4: 253، تنوير الحوالك 1: 105.
وبما أنّ هذا النظام قد استمرّ إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثمّ بعد مجي الأمويّين على مسرح السياسة اختلف الوضع، وأصبح هناك حدّ فاصل بين الدين والسياسة، ولم يفهم الناس معنى طاعة الرسول، فاتّجهوا إلى الأحاديث; لأنّ الأحكام في القرآن قليلة وضرورات الحياة أكثر فأكثر. وكان من واجبات الخلافة على منهاج النبوّة أن تسدّ ضرورات المجتمع في القضايا المتجدّدة، لكنّ عدم وجود الدولة بهذا المفهوم دفع الناس إلى الأخذ بالحديث، وعند عدم كفاية المجموعة الحديثيّة ازداد الوضع أكثر فأكثر)(1).
ومن المؤكّد أنّ صدور هذا الكلام من أمثال هؤلاء قد جاء على أثر منع التدوين من قبل الشيخين، ثمّ دعوتهم إلى الاجتهاد والاكتفاء بالقرآن (حسبنا كتاب الله). ولا أريد الإطالة في أمثال ذلك; لأنّه يخرجنا عن أصل البحث، فالخلفاء الحكّام لو كانوا رضخوا للحقّ وتركوا أمر التشريع لأغناهم ذلك عمّا وقع فيه المسلمون من الاختلاف في الحديث والأحكام، ولما احتاجوا إلى تشريع الرأي والقياس وما يماثلهما ممّا يؤدّي أحياناً إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، ولاستقرّ الدين، ولما تعدّدت الآراء فيه.
نعم، إنّهم كانوا لا يريدون أن يتصدّر أهل البيت أمر التشريع وتبيين أحكام الله; لأنّ ذلك سيمهّد لإبعادهم عمّا هم فيه. وإذا تجاهل بعض المسلمين أحاديث الخلافة والوصيّة لمصالح سياسيّة، فليس بوسعهم أن يتجاهلوا قول الرسول في علىّ:
____________
1- دراسات في الحديث النبوىّ 1: 33 ـ 34.
بلى، كان على المسلمين أن يرجعوا إلى علىّ ومن سار على نهجه التعبدي من عيون الصحابة الذين حفظوا سنّة رسول الله ودوّنوها في مجاميعهم ليأخذوا دينهم منه، وقد ثبت عند الجميع أنّ علىّ بن أبي طالب انصرف إلى العلم بعد ان اقصي عن منصبه بعد رسول الله، فدوّن القرآن وحديث رسول الله، وكانت له ألواح يكتب فيها ما نزل على رسول الله، وما قاله(صلى الله عليه وآله) في بيان التنزيل.
بعض الأمثلة التطبيقية
على مخالفة الصحابي لحديث رسول الله(صلى الله عليه وآله)
أورد الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد الّنملة في كتابة (مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية تطبيقية) المطبوع في الرياض سنة 1415 هـ مكتبة الرشد، بعض الأمثلة التطبيقية لذلك، وذلك بعد أن عرّف المخالفة لغة وأنّها تعني المضادة، والعصيان، وعدم الاتفاق، والتغيير(3) والمقصود من الصحابي لغة واصطلاحاً...(4)
أقول: أورد آراء علماء الإسلام في ذلك وانقسامهم فيه إلى مذهبين:
____________
1- المعجم الكبير 11: 65، ح 11061، المستدرك على الصحيحين 3: 137، ح 4637، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، و3: 138، ح 4639، الفردوس بمأثور الخطاب 1: 44، ح 106 عن أنس، فيض القدير 1: 36.
2- كنز العمال 13: 114، ح 36372 عن (حل)، روضة الواعظين: 75، جواهر المطالب: 75، نظم درر السمطين: 113، ينابيع المودة 1: 231.
3- انظر مخالفة الصحابي: 22 ـ 29.
4- انظر مخالفة الصحابي: 30 ـ 86.
المذهب الثاني: يرى لزوم الأخذ بقول الصحابي وسقوط الاحتجاج بالحديث النبوي(2).
ثمّ ذكر الدكتور (الأمثلة التطبيقية على مخالفة الصحابي للحديث الذي رواه مخالفة كلية وبيان أثر الاختلاف في ذلك) فقال:
بعد أن عرفنا مذهبي العلماء في هذه المسألة الأصولية وأدلة أصحاب كل مذهب لابدّ من ذكر بعض الأمثلة التطبيقية التي خالف فيها الصحابي الحديث الذي رواه مخالفة كلية وذلك زيادة في إيضاح المسألة، ولكي يتصور القارئ تلك المسألة في ذهنه أكثر تصويراً فأقول ـ وباللّه التوفيق ـ:
المثال الأول:
ما أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، والترمذي في سننه، والنسائي في سننه، وابن ماجه في سننه، والدارمي في سننه، والإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وآله) ـ قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهنّ بالتراب)(3).
هذا الحديث رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أبو هريرة ـ كما رأيت ـ ولم يعمل به، بل خالفه وغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات، فقد أخرج الطحاوي في شرح معاني
____________
1- انظر مخالفة الصحابي: 87 ـ 105.
2- انظر مخالفة الصحابي: 106 ـ 123.
3- صحيح البخاري 1: 75، باب الماء الذي يغسل به شعر الانسان، ح 170، صحيح مسلم 1: 234، باب حكم ولوغ الكلب، ح 279، سنن أبي داود 1: 19، باب سؤر الكلب، ح 71، واللفظ له، سنن الترمذي 1: 151، باب ما جاء في سؤر الكلب، ح 91، سنن النسائي 1: 52، باب سؤر الكلب، ح 63 و64، سنن ابن ماجة 1: 130، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، ح 363 وح 364، الموطأ 1: 52، باب جامع الوضوع، ح 65، مسند احمد 2: 460، ح 9931.
فهنا خالف الصحابي ـ وهو أبو هريرة ـ الحديث الذي رواه.
فذهب أصحاب المذهب الأول ـ وهم الجمهور ـ إلى أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات واحتجوا بالحديث، ولم يلتفتوا إلى مخالفة أبي هريرة له ـ تبعاً لقاعدتهم.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم لما رأوا أن أبا هريرة قد خالف ما رواه تمسكوا بقاعدتهم ـ وهي: أنه إذا خالف الصحابي ما رواه فيؤخذ بتلك المخالفة دون الحديث(2) ـلذلك ذهبوا إلى أنه يكفي غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات. ولم يعملوا بالحديث الذي رواه.
واختلف بعض أصحاب المذهب الثاني في الحديث هل يكون منسوخاً أم يحمل على أن التسبيع ندب؟ على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن الحديث منسوخ وهو رأي الكمال بن الهمام في (التحرير)، ووافقه على ذلك أمير بادشاه في (تيسير التحرير)، وابن أمير الحاج في (التقرير والتحبير).
القول الثاني: أن الحديث لم ينسخ، ولكن يحمل على الاستحباب، أي: أنّ الغسل ثلاث مرات واجب، والغسل سبع مرات مستحب، ذهب إلى ذلك السمرقندي في (بذل النظر)، والسمرقندي في (الميزان).
القول الثالث: أن الحديث يحتمل أنه منسوخ، وأنه على الندب ذهب إلى ذلك
____________
1- شرح معاني الآثار 1: 23، سنن الدارقطني 1: 66، باب ولوغ الكلب في الإناء، ح 17، العلل المتناهية 1: 333، باب حديث في عدد الغسل من ولوغ الكلب، ح 544.
2- انظر تحفة الاحوذي على سبيل المثال 2: 78، حيث قال: وأصل علمائنا إذا خالف الصحابي في مروية فهو يدل على نسخه.