الصفحة 354
السرخسي في (أصوله)، والنسفي في (كشف الأسرار).

ثم قال الدكتور: الراجح في هذه المسألة ـ هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول ـ وهو أنه يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات ـ لوجوه:

الوجه الأول: ثبوت حديث أبي هريرة السابق (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) وصحته، ولم يثبت شي يصلح لمعارضته.

الوجه الثاني: أن غسل الإناء سبعاً ثبت عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) عن طريق آخر فقد أخرج مسلم في (صحيحه)، وأبو داود في (سننه)، والنسائي في (سننه) وابن ماجه في (سننه)، والدارمي في (سننه)، وأحمد في (المسند) عن عبد اللّه بن مغفل أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، والثامنة عفروه بالتراب)(1).

فإذا فرضنا ـ مع الفرض الممتنع أن مخالفة الصحابي تؤثر في الحديث الذي رواه، فإنها لا يمكن أن تؤثر في مروي غيره.

الوجه الثالث: أن ما قاله أصحاب المذهب الثاني ـ أو بعضهم وهو: أنه يغسل الإناء ثلاث مرات; استناداً إلى ما روي عن أبي هريرة من أنه كان يغسل الإناء ثلاث مرات، وفي ذلك مخالفة للحديث الذي رواه، هذا لا يصلح أن يكون مستنداً يعتمد عليه; وذلك لأن الرواية اختلفت عن أبي هريرة: فقد روى عنه أنه أفتى بغسل الإناء سبع مرات، وروى عنه أنه أفتى بغسله ثلاث مرات.... إلى أن يقول الدكتور:

____________

1- صحيح مسلم 1: 235، باب حكم ولوغ الكلب، ح 280، سنن أبي داود 1: 19، باب الوضوء بسؤر الكلب، ح 74، سنن النسائي 1: 177، باب تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، ح 337، سنن الدارمي 1: 204، باب في ولوغ الكلب، ح 737، ورواه ابن عمر أيضاً عن النبي(صلى الله عليه وآله) كما في مصنف بن أبي شيبة 1: 59، باب في الكلب يلغ الإناء، ح 1831، سنن ابن ماجة 1: 130، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، ح 366، المعجم الكبير 12: 365، ح 13307.


الصفحة 355

المثال الثاني:

ما أخرجه أبو داود في (سننه)، والترمذي في (سننه)، والدارمي في (سننه)، والدارقطني في (سننه)، والحاكم في (المستدرك)، والإمام أحمد في (المسند) والطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل) (1).

فهذا الحديث قد روته عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ـ عائشة كما رأيت ـ ولكنها لم تعمل به، بل خالفته، حيث إنها ـ رضي اللّه عنها ـ زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على ابن اختها: المنذر بن الزبير، وكان أخوها ـ عبد الرحمن ـ غائباً في الشام(2).

فهنا: اختلف العلماء تجاه ذلك:

فذهب أصحاب المذهب الأول ـ وهم الذين يأخذون بالرواية، دون مخالفة الصحابي له ـ إلى العمل بمقتضى الحديث وهو أنه لا يجوز أن تزوج المرأة نفسها، فلا يجوز النكاح بغير ولم يلتفتوا إلى مخالفة عائشة لهذا الحديث الذي روته; وهم الجمهور.

أما أصحاب المذهب الثاني فقد ذهبوا إلى الأخذ بمخالفة عائشة والعمل بذلك، وترك الاحتجاج بالحديث; لذلك يقولون: يجوز أن تزوج المرأة نفسها.

قال عبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار) ـ مبيناً وجهة نظر الحنفية في ذلك ـ: (فلمّا رأت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن تزويجها بنت أخيها من غير أمره جائز،

____________

1- سنن ابي داود 2: 229، باب الولي، ح 2083، سنن الترمذي 3: 407، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، ح 1102، سنن الدرامي 2: 185، باب النهي عن النكاح بغير ولي، ح 2184، سنن الدارقطني 3: 221، كتاب النكاح، ح 10، المستدرك على الصحيحين 2: 182، ح 2706، قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، مسند أحمد 6: 47، ح 24251، 6: 66، ح 24417، شرح معاني الآثار 3: 7، باب النكاح بغير عصبة.

2- انظر المحلى 9: 455، بدائع الصنائع 2: 249، فتح الباري 9: 225.


الصفحة 356
ورأت ذلك العقد مستقيماً حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلاّ عن صحة النكاح وثبوته، استحال أن يكون ترى ذلك مع صحة ما روت).

ثم ذكر وجه دلالة آخر لذلك قائلاً: (فلما أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة; لأن العقد لما انعقد بعبارة غير المتزوجة من النساء فلأن ينعقد بعبارتها أولى فيكون فيه عمل بخلاف ما روت).

وذكر وجه دلالة ثالث من ذلك إذ قال: (لما أنكحت فقد اعتقدت جواز نكاحها بغير إذن وليها بالطريق الأولى، لأن من لا يملك النكاح لا يملك إلاّ نكاح بالطريق الأولى ومن ملك الإنكاح ملك النكاح بالطريق الأولى).

وذكر بعض الحنفية كالسرخسي في (أصوله)، والنسفي في (كشف الأسرار) بأن الحديث منسوخ، وذلك; لكون الراوية له ـ وهي عائشة ـ قد عملت بخلافه تبعاً لقاعدتهم(1).

وقد نص على ذلك الإمام أحمد في رواية حرب بن إسماعيل، فقال: (لا يصح الحديث عن عائشة; لأنها زوجت بنات أختها، والحديث عنها).

وقال ـ أيضاً ـ في رواية المروزي: (لا يصح الحديث; لأنها فعلت بخلافه).

ثم علق الدكتور على الكلام السابق بقوله: الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور; لأمرين: ـ الأمر الأول: ما أخرجه البخاري في (صحيحه)، وأبو داود في (سننه)، والترمذي في (سننه)، وابن ماجه في (سننه) والإمام أحمد في (المسند) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (لا نكاح إلاّ بولي)(2) ورواه ـ أيضاً ابن

____________

1- انظر اصول السرخسي 2: 6، قال: فبعملها بخلاف الحديث يتبين النسخ.

2- صحيح البخاري 5: 1970، باب من قال لا نكاح إلا بولي، وفيه عدة أحاديث، سنن أبي داود 2: 229، باب في الولي، ح 2085، سنن الترمذي 3: 307، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، ح 1101، ح 1102، سنن ابن ماجة 1: 605، باب لا نكاح إلا بولي، ح 1880، مسند أحمد 1: 250، ح 2261.


الصفحة 357
عباس، وأبو موسى الأشعري، وهو صحيح قال المروزي: (سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث فقالا: صحيح)(1) وهذا نص في المسألة.

الأمر الثاني: أن مخالفة عائشة لحديث (أيما امرأة...) ليس صريحاً في المخالفةِ.

ولو سلمنا صراحة المخالفة، فإن فعل عائشة أو غيرها لا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ أن يقوى على إسقاط حديث قد ثبت ولم يشك فيه أي إمام من أئمة الحديث الذين يعتمد على أقوالهم. والله أعلم.

المثال الثالث:

ما أخرجه البخاري في (صحيحه)، ومسلم في (صحيحه)، وأبو داود في (سننه)، والترمذي في (سننه)، والنسائي في (سننه)، وابن ماجه في (سننه)، والإمام مالك في (الموطأ)، والإمام أحمد في (المسند)، عن الزهري عن سالم عن أبيه ـ عبد الله بن عمر ـ قال: (رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود)(2).

فهذا الحديث قد رواه عبد الله بن عمر(رضي الله عنه) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يعمل به; بل خالفه، ولا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة فقط، فقد أخرج بن أبي شيبة، في (المصنف): أن مجاهداً قال: (ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح)،

____________

1- المغني 6: 7، كشاف القناع 5: 48.

2- صحيح البخاري 1: 257، باب رفع اليدين في التكبيرة الاولى، ح 702، صحيح مسلم 1: 292، باب استحباب رفع اليدين، ح 390، سنن أبي داود 1: 191، ابواب تفريع استفتاح الصلاة، باب رفع اليدين، ح 721، سنن الترمذي 2: 35، باب ما جاء في رفع اليدين ثم الركوع، ح 255، سنن النسائي 2: 182، باب رفع اليدين للركوع حذاء المنكبين، ح 1025، سنن ابن ماجة 1: 279، باب رفع اليدين إذا ركع، ح 858، الموطأ 1: 75، باب افتتاح الصلاة، ح 163مسند أحمد 2: 8، ح 4540.


الصفحة 358
وأخرجه الطحاوي في (شرح معاني الآثار)، بسند صحيح(1).

فهنا: هذا الصحابي ـ وهو ابن عمر ـ خالف حديثاً قد رواه، فاختلف العلماء في ذلك:

فذهب أصحاب المذهب الأول ـ وهم القائلون بأن مخالفة الصحابي لما رواه لا يسقط الاحتجاج به ـ إلى الأخذ بمقتضى الحديث وهو: رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وهذا مذهب الجمهور.

أما أصحاب المذهب الثاني ـ وهم القائلون بأن مخالفة الصحابي لما رواه يسقط الاحتجاج به، ومن ثم نعمل بعمل الصحابي ونترك الحديث ـ فإنهم عملوا بفعل عبد الله بن عمر وهو: رفع اليدين عند الافتتاح ـ فقط ـ وتركوا العمل بالحديث، وهم أكثر الحنفية.

قال الجصاص في (الفصول): (فدل تركه الرفع بعد روايته عن النبي(صلى الله عليه وآله) على أنه عرف نسخ الحديث; إذ لولا ذلك لما تركه; لأنه غير جائز أن يُظَن بصحابي مثله مخالفة سنّة للنبي(صلى الله عليه وآله) رواها عنه مما لا احتمال فيه للتأويل).

وجزم أكثر الحنفية بمثل ما قاله أبو بكر الجصاص، وهو: أنه بمخالفة ابن عمر له عُلم أن الحديث الذي تركه ـ وهو من روايته ـ قد ثبت نسخه; من هؤلاء: أبو زيد الدبوسي في (الأسرار في الأصول والفروع)، والسجستاني في (الغنية في الأصول)، والسرخسي في (أصوله)، والكمال بن الهمام في (التحرير)، وعبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار)، وأمير بادشاه في (تيسير التحرير)، وابن أمير الحاج في (التقرير والتحبير)، والنسفي في (كشف الأسرار)، وملا جيون في (نور الأنوار شرح المنار).

وبعض الحنفية قالوا بأن الحديث الذي رواه ابن عمر قد سقط الاحتجاج به لمّا

____________

1- مصنف ابن أبي شيبة 1: 214، ح 2452، شرح معاني الآثار 1: 227، الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1: 149.


الصفحة 359
خالفه راويه، ولم يذكروا أنه منسوخ كالبزدوي في (أصوله)، والخبازي في (المغني).

ثم قال الدكتور عبد الكريم بن نملة: الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وذلك لأمور:

الأمر الأول: إن الحجة فيما فعله النبي(صلى الله عليه وآله) وليست في فعل واحد من الصحابة; ابن عمر أو غيره ـ كما قلنا أثناء تقريرنا للقاعدة الأصولية هناك ـ.

الأمر الثاني: إن الحديث قد عمل بمقتضاه أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) ; قال الحسن: (رأيت أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) يرفعون أيديهم إذا كبروا، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا رؤوسهم كأنها المراوح)(1).

وقال البخاري: قال ابن المديني ـ وكان أعلم أهل زمانه ـ: (حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم لهذا الحديث)(2).

الأمر الثالث: إن قول مجاهد ـ وهو: أنه لم ير ابن عمر يرفع يديه إلاّ في أوّل ما يفتتح ـ معارض بما ذكره طاووس من أنّهُ رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي(صلى الله عليه وآله).

ومعارض بما قاله الإمام أحمد ـ وقد سئل عن الرفع ـ: (إي لعمري، ومن يشك في هذا؟! كان ابن عمر إذا رأى من لم يرفع حصبه، وأمره أن يرفع)(3).

ونرجح رواية طاووس والإمام أحمد على رواية مجاهد; لأنّه يوافق الحديث الذي رواه ابن عمر، وكون الراوي يوافق ما رواه هو الذي يؤيده العقل والنظر والله أعلم.

____________

1- التمهيد لابن عبد البر 9: 217، المغني 1: 295، الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1: 155، نصب الراية 1: 416.

2- التحقيق في أحاديث الخلاف 1: 331، ح 419، المغني 1: 295، تحفة الأحوذي 2: 88، الباب 77 رفع اليدين ثم الركوع.

3- التمهيد لابن عبد البر 9: 224، تلخيص الحبير 1: 220.


الصفحة 360
ولا تلتفت إلى ما قاله عبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار) من أن ابن عمر كان يرفع يديه في الافتتاح والركوع والرفع منه قبل العلم بنسخ الحديث الذي رواه، فلما علم به ترك الحديث، وفعل ما ذكر عنه من أنه لا يرفع إلاّ في الافتتاح، وذلك لأن هذا الكلام ـ أعني كلام عبد العزيز البخاري ـ مجرد احتمال يحتاج إلى دليل وبرهان، وما دام أنه لا دليل على احتماله فنتوقف فيه، ونعمل بما لا يحتمل شيئاً وهو ما ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمل به جل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهو رفع اليدين في الجميع، والله أعلم.

هذه بعض الأمثلة التطبيقية على تلك القاعدة الأصولية، ومن أراد الاستزادة والتفصيل في تلك الأمثلة السابقة، أو أمثلة أخرى فليراجع كتب الفقه إن شاء(1).

انتهى موضع الحاجة من كلام الدكتور عبد الكريم بن علي النملة.

استخلاص واستنتاج

جئنا بهذه النماذج للتأكيد على أنّ الحكّام يهمّهم في الغالب منح رأيهم الشرعيّة، أكثر من التقيّد بما قاله الله والتعبّد بنصوص الوحي. ولو تبصّر الباحث في فقه عثمان ومعاوية ومن سار على نهجهما لوجده ـ في آرائه المستجدّة ـ امتداداً لنهج الخليفة عمر بن الخطّاب. وإذا حَدَث أن شذّوا في بعض الأحيان عن سنّة الشيخين ـ كما في إتمام الصلاة بمنى وتقديم الخطبة عند عثمان، وإحداث الأذان وتقديم الخطبة في العيدين، عند معاوية ـ فلا يعني هذا تخالف رأيهم مع رأي عمر وأبي بكر في كلّ شي، بل يدلّ على تبنّيهم رأياً جديداً مبتنياً على قاعدة أنّ للخليفة حقّ التشريع بما يراه مصلحة ورجحاناً، ومن الطبيعىّ أن تكون قناعتهم هي الراجحة على نظر من سبقهم. فالخليفة عثمان بن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان يسيران ـ بنحو عامّ ـ على

____________

1- انظر مخالفة الصحابي للحديث النبوي: 124 ـ 145

الصفحة 361
نهج من سبقهما، وأنّ أخذهما بالرأي والاجتهاد جاء امتداداً لرأي الشيخين اللذين سنّا هذا في الشريعة.

وبذلك تبلور عند المسلمين اتّجاهان: أحدهما يأخذ بالنصوص الشرعيّة ولا يرتضي رأىَ أحد بديلاً عن حكم الله ورسوله، إذ أنّ الرسول كان لا يقول في الأحكام برأي ولا قياس ولكنّه يحكم { بِمَا أراك الله }(1)و {ما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى }(2). ومعنى هذا أنّه كان متعبّداً بما ينزل عليه من الوحي ولا يفتي برأيه. وهذا المفهوم التعبّديّ قد ورد في كلمات الأئمّة من ولده; إذ كلّهم يؤكّدون أنّ قولهم لم يكن عن رأي، وإنّما هو حكمٌ توارَثوه كابراً عن كابر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله).

وفي مقابل هذا الاتّجاه برز اتّجاه آخر هو ما سمّيناه: اتّجاه الاجتهاد والرأي، أو المصلحة، وقد استحكم بأخرة وفي العهود اللاحقة.

وقد تبنّى هذا الاتّجاه في جذوره الأساسيّة بعض الصحابة على عهد رسول الله، إذ اتّضح لك موقف أبي بكر وعمر في قضيّة المتنسّك وأنّهما لم يقتلاه لصلاته وخشوعه، وغيرهم من الصحابة الذين صاموا الدهر مع وجود النهي عن رسول الله فيه و... فهؤلاء قد دعوا إلى مشروعيّة الرأي، والخليفة عمر بن الخطّاب حكَّم فكرتهم لما أحسّه من العوز إلى النصوص، فالسماح بالقياس والاجتهاد ثمّ صعود عمر المنبر واعتراضه على الصحابة لاختلافهم في الآراء يعني أنّه وأبا بكر كانا يريدان حصر الرأي وحجّيّته بهما، دون غيرهما، ويُلزمان الصحابة بالتعبّد بما يقولانه، بيد أنّهما لم يوفَّقا في ذلك، لأنّ القول بمشروعيّة الرأي والاجتهاد له اتّساع ومطّاطيّة وانسياب، ولا يمكن لأحد حكره على نفسه.

____________

1- النساء: 105.

2- النجم: 3 ـ 4.


الصفحة 362
إنّ القول بمشروعيّة تعدّديّة الرأي هو ما أوقع الأمّة في الاختلاف. وقد وضّح أبو بكر هذه الحقيقة بقوله: (والناس أشدّ اختلافاً من بعدكم)، ومثله ما قاله أبو بكر لعمر ـ كما في رواية البيهقىّ آنفة الذكر ـ حيث (شكا إليه الحكم بين الناس...).

أمّا الإمام علىّ بن أبي طالب فقد وضّح الأمر بأجلى صوره في الخطبة الشِّقشقيّة حيث قال: (... يَكْثُرُ العثارُ فيها والاعتذار منها، فصاحِبُها كراكبِ الصَّعْبة: إنْ أشْنَقَ لها خَرَم، وإن أسْلَسَ لها تَقَحّم، فَمُنِيَ الناس لعمرُ الله بخبط وشماس...).

ولو تدبّرنا كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم الخميس: (ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً) وقوله(صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين: (ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) مع الأحاديث الواردة عن أهل البيت ونهيهم عن الأخذ بالرأي، وكون الرأي بنظرهم ابتعاداً عن السنّة، لعرفنا أنّ إباحة التدوين ومنعه كانا أمرين مرتبطينِ بالشريعة، لكن الخلفاء سخراهما لخدمة مصالحهم وآرائهم، فمنعوا التدوين والتحديث حينما رأوا ضرورة في ذلك، وفتحوه أيضاً عندما أرادوا ذلك.

فالأمّة الممتحنة كلّما ابتعدت عن أهل البيت زادت بُعداً عن الحقّ وتيهاً عن جادّة الصواب، وهذا ما كان يتخوّف منه رسول الله على أُمّته لأنّ الابتعاد عنهم سياسيّاً وعدم إطاعتهم في أمر الولاية والخلافة سيبعد الأمّة عن سنّة رسول الله، وهو ممّا يؤدّي إلى الانحراف عن الجادّة، لأنّ عدم ترشيحهم للخلافة وتنصيبهم لها لا يُسقط أمر الرسول وإخباره (إنّي مخلّف فيكم الثقلين); لأنّ المأمور به هو الأخذ منهم، أي أنّكم لو لم تأخذوا بأقوال هؤلاء الأئمّة في الشريعة لضللتم عن الدرب وابتعدتم عن السنّة.

وقد أكّد رسول الله على هذا الأمر موضّحاً كونهم هُداة الأمّة والمبيّنين لما اختلف فيه الناس من بعده.


الصفحة 363
وذلك في مثل قوله (صلى الله عليه وآله): (أنا المنذر وعلىّ الهادي وبك يا علىّ يهتدي المهتدون من بعدي)(1).

وقوله: (من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنّة الخُلد التي وعدني ربّي، فليتولَّ علىَّ بن أبي طالب، فإنّه لن يُخرجكم من هدى، ولن يُدخلكم في ضلالة)(2).

وفي نصوص أُخرى عنه (صلى الله عليه وآله) يتأكّد لزوم أخذ الأحكام عنهم لا غير، فجاء عنه(صلى الله عليه وآله) قوله: إنَّما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنَّما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضاً فلا تكّذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه(3).

وفي آخر: مهلاً يا قوم! بهذا أُهلكت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إنَّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضاً، بل يصدّق بعضه بعضاً، فما عرفتم فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه(4).

وعن أُبىّ بن كعب أنّه قال لمّا سئل ما المخرج من هذا؟ ـ حينما وقع الناس في عثمان ـ قال: كتاب الله وسنّة نبيّه، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه(5).

____________

1- تاريخ دمشق 42: 359، المستدرك على الصحيحين 3: 140، ح 4646، قال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، تفسير الطبري 13: 108، تفسير ابن كثير 2: 503، الدر المنثور 4: 608، فتح القدير 3: 70، فتح الباري 8: 376.

2- الكافي 1: 209، باب ما فرض الله عز وجل رسوله(صلى الله عليه وآله) ، ح 5، المعجم الكبير 5: 194، ح 5067 وفيه زيادة، المستدرك على الصحيحين 3: 139، ح 4642.

3- مسند احمد 2: 185، ح 6741 واللفظ له، المعجم الاوسط 3: 227، ح 2995، المدخل للبيهقي 1: 429، باب التوقي عن الفتيا والتثبت فيها، ح 790، المستدرك على الصحيحين 3: 343، ح 5321، نحوه.

4- مسند احمد 2: 181، ح 6702، وانظر 2: 300، ح 7976، وصحيح ابن حبان 1: 275، وقريباً منه في المعجم الاوسط 8: 307، ح 8715، واعتقاد أهل السنة 1: 117، ح 183.

5- خلق أفعال العباد للبخاري: 63، المستدرك على الصحيحين 3: 343، ح 5321، اللفظ له، مفتاح الجنّة للسيوطي: 70، حجّيّة السُنّة: 358.


الصفحة 364
وقد مر عليك ما في ذيل حديث الصادق (عليه السلام) ـ المنقول عن تفسير العيّاشىّ قوله(عليه السلام): فلو أنهم إذا سئلوا عن الشي من دين الله فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) (1).

إنّ المنع من الإتيان بالدواة إلى رسول الله، ثمّ المنع من تدوين السنّة والتحديث بأحاديث النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، والقول بـ(حسبنا كتاب الله) وأخيراً الذهاب إلى مشروعيّة الرأي والقياس وجواز تعدّد الآراء في الشريعة وكون كلام الصحابىّ يخصّص القرآن والسنّة.. كلّها مراحل مرّت بها الأمّة فابتعدت بها عن الجادّة وعمّا رسمه الوحي في شريعته.

كان هذا مجمل محنة النصّ النبوىّ وسلطة الرأي على الشريعة. ولو أردنا التوسّع في مثله لخرجنا عمّا نريد الإشارة إليه.

إنّ الحكومة كانت تصحّح جميع الآراء، وتأخذ بأقوال جميع الصحابة.. إلاّ فقه علىّ بن ابي طالب وأتباعه المتعبّدين والمدوّنين; فإنّه بزعمها أجنبىّ عن الإسلام ومنفىّ من فقه المسلمين!

ولو تطلّعنا إلى تراثنا الفقهىّ الحديثىّ لرأينا غلبة روح العصبيّة عليه، فأحاديث علىّ لا تتجاوز العشرات في المجاميع الحديثيّة ولم يبنوا عليها الأحكام إلاّ عند اضطرارهم لذلك، بل إنّهم ليخافون ويقصرون في نقل جميع مرويّات علىّ (عليه السلام) وأحكامه التي استلمها فَمَاً لِفَم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأمّا أحاديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة فتدور عليها رحى الشريعة عندهم، وهي بالألوف!

ترى.. لِمَ أُريد لهذا الاختلال أن يكون؟! أَلأَِِنَّ أبا هريرة وابن عمر وعائشة

____________

1- تفسير العياشي 2: 331 ـ 332.


الصفحة 365
كانوا أقدم إسلاماً وأكثر علماً، وأقرب إلى رسول الله من علىّ؟! أم أنّ هناك شيئاً آخر؟!

ولِمَ لا يروي مالك في موطّئه عن علىّ الأحاديث بقدر ما روى عن أبي هريرة؟!(1)

ولماذا لا نرى في فقه المسلمين ما يشير إلى أحكام أهل البيت في حين نرى هؤلاء الفقهاء يذكرون شواذّ آراء المذاهب الفقهيّة البائدة.

فما يعني كلّ هذا؟! ولماذا نجد بقايا فكر العصبيّة موجوداً في تراثنا، ومن أجله يُمنع الباحثون من التعرّف على أُمور فيها إيضاح للحقائق، ولو أقدم أحد على أمر كهذا لرمي ببثّ الفرقة بين المسلمين؟!

إنّا لنعجب كلّ العجب ويحقّ لنا أن نتساءل: متى كان تبيين الحقائق وتوضيح المجهولات يعني الفرقة والفتنة؟!

مفردات مُهمّة

وإليك هذا النصّ كي تقف على منهج الحكّام في الأحكام، فقد جاء في مقدّمة تذكرة الحفاظ للذهبي عن شعيب بن جرير أنّه طلب من سفيان الثورىّ أن يحدّثه بحديث السنّة، فقال:

اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق ـ إلى أن يقول ـ: يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى المسح على الخفّين، وحتّى ترى أنّ إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر به، وحتّى تؤمن بالقَدَر، وحتّى ترى الصلاة وراء كلّ بَرّ وفاجر، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جائر أو

____________

1- عدد الأحاديث التي رواها مالك عن علي بن أبي طالب في موطئه هي ثمانية أحاديث فقط بينما نراه قد روى عن أبي هريرة ما يقارب 170 حديثاً.


الصفحة 366
عادل.

فقلت: يا أبا عبد الله! الصلاة كلّها؟

قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف من أدركت، أمّا سائر ذلك فأنت مخيّر، لا تصلّي إلاّ خلفَ من تثق به وتعلم أنّه من أهل السنّة(1).

وها أنت ترى أنّ إخفاء (بسم الله الرحمن الرحيم)، والمسح على الخفّين والصلاة خلف كلّ بَرّ وفاجر.. كلّها ممّا وضعته السياسة الحكوميّة، وأنت تعرف أنّ مدرسة أهل البيت ترى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من علامات المؤمن، وقد أيّد موقفهم هذا عدد كبير من الصحابة، ولو لا الخروج عن صُلب البحث لأشرنا إلى أسمائهم ونصوصهم. لكنّ المهمّ هو أنْ تعرف أنّ كلّ المفردات المذكورة مخالفة لفقه علىّ وابن عبّاس وأعيان الصحابة، وموافقة لفقهاء السلطة والحكومة، وكفى بهذا دليلاً ومؤشّراً.

كانت هذه بعض أُصول السياسة، والآن لنوضّح سرّ التأكيد على سيرة الخليفة عمر بن الخطّاب وكونه قد أخاف الناس في الحديث عن النبىّ!

جاء في بعض النصوص المنسوبة إلى النبىّ (صلى الله عليه وآله): (اقتدوا بالذين من بعدي: أبا بكر وعمر)(2). وفي هذا النصّ مؤشّرات تدلّ على أنّه قد جُعِل في أوائل خلافة عثمان، لأنّا قد عرفنا أنّ عمر بن الخطّاب وعبد الرحمن بن عوف كانا يتخوّفان من أمرين.

الأوّل: تصدّر من لا يرتضي اجتهاد الشيخين.

____________

1- انظر اعتقاد أهل السنّة 1: 152 ـ 154 وقد ذكر الخبر بكامله وفيه: ان القرآن كلام مخلوق بدل غير مخلوق، تذكرة الحافظ 1: 206 واللفظ له، تحفة الاحوذي 2: 48 مختصراً.

2- مسند أحمد 5: 382، ح 23293، سنن ابن ماجة 1: 37، ح 97، سنن الترمذي 5: 609، 610، باب مناقب أبي بكر وعمر، ح 3662، 3663، المستدرك على الصحيحين 3: 80، ح 4455.


الصفحة 367
الثاني: سريان الاجتهاد بحيث لا يمكن حدّه، إذ إنّ تعدّد مراكز الإفتاء والقول بحجّيّة رأي الجميع لو أُطلق له العنان وخصوصاً في تلك البرهة من تاريخ الإسلام لما أمكن لأحد الوقوف بوجهه; ومن أجله نرى ابن عوف يعترض على عثمان لإتيانه بأُمور لم تكن على عهد الشيخين، ويطلب منه أن يقف عند اجتهاداتهما ولا يتعدّاها إلى غيرها!!

لكنّ عثمان لم يستجب لطلبه ولم يرتضِ قوله; لأنّه كان لا يرى نفسه أقلّ شأناً منهما ليكون متّبعاً لهما مقتفياً أثرهما في الاجتهاد، ولم يكن هناك ما يرجّح رأيهما على رأيه، فإذا كان كلّ من أبي بكر وعمر قد ارتبط برسول الله (صلى الله عليه وآله) عن طريق المصاهرة، فزوّج كلّ منهما ابنته لرسول الله.. فإنّ عثمان قد ارتبط برسول الله برباطين، وتزوّج ابنتيه، كما نقلت ذلك بعض الأخبار!!!

بلى، إنّ عثمان كان يتساءل مع نفسه: لو كان الاجتهاد مشروعاً فلمَ لا أجتهد أنا في الأحكام كذلك؟ وكيف يحقّ لهم أن يلزموني بأن أتّبع رأي الشيخين وأقتفي آثارهما وأراهم لم يتعبّدوا بقول الرسول ويجتهدان أمامه؟! وإذا لم يكن الاجتهاد جائزاً فلم يُبيحون لأولئك الاجتهاد ويحضرونه علىّ؟

وهذه الموازنة أيضاً كانت محلّ اختلاف الأنظار، فابن عوف ومن على طرازه الفكرىّ كانوا يتصوّرون إمكان حصر دائرة الاجتهاد والرأي بسيرة الشيخين، فألزموا عثمان بها وطالبوه بالوفاء بما التزم به، في حين كان موقف علي بن أبي طالب (عليه السلام) خلاف ذلك، فإنّه أدرك خطأ الموازنة المتوخّاة، وأنّ الاجتهاد باب مفتوح لا ينحصر بواحد دون آخر، ولذلك قال لابن عوف (دقّ الله بينكما عطر منشم)(1)، فقد أخبر باختلافهما. وأخرجه مخرج الدعاء، لعلمه بثاقب بصيرته لما سيؤول إليه الأمر، وقد حدث ذلك بالفعل.

____________

1- شرح النهج 1: 188، 9: 55.


الصفحة 368
غير أنّ الأمويّين أضافوا اسم عثمان إلى قائمة من يجب طاعته واتّباع سيرته من الخلفاء، لما رأيت من النصوص الكثيرة التي فيها أسماء الخلفاء الثلاثة: (أبي بكر، وعمر، وعثمان) دون علىّ بن ابي طالب، ولم يدرج اسم علي (عليه السلام) رابعاً إلاّ في أواخر العهد العبّاسىّ الأوّل، فقد أدرجوا اسمه ضمن قائمة الخلفاء; لأنّهم رأوا أنّه لا محيص عن إدراج اسمه ضمن من سبق خصوصاً في أوائل الحكومة العبّاسيّة(1) وحاجتها إلى معارضة كلّ ما يمتّ للأمويّين بصلة، وعلىّ من بني هاشم، فاتّخذوه ذريعة لهم. وكذلك صدور روايات (الخلفاء الراشدين من بعدي) كانت من آثار هذه الفترة من تاريخ الإسلام. فالاختصاص بالثلاثة (أبي بكر، وعمر، وعثمان) كان من إبداعات العهد الأموىّ! وأمّا: (اقتدوا بالذين من بعدي) وأمثاله فقد صدرت بعد الشورى، وأيّام التأكيد على سيرة الشيخين!

ما رجّحه ابن عبد العزيز في التدوين

نعم، إنّ السياسة كان لها الأثر الأكبر في هذه النصوص وفي غيرها، من أمثال (العشرة المبشّرة) أو (عدالة الصحابة). كلّ هذه النصوص توضّح مسلك تعدّديّة الرأي الذي بذر بذرته الخليفتان (أبو بكر وعمر) عند منعهما للحديث والتدوين.

إنّ شيوع ظاهرة الأخذ بالأحاديث عند بعض الصحابة، والرأي عند الآخر واختلاطهما عند فريق ثالث.. كلّ ذلك جعل سنّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) تختلط بالأثر عن للصحابة، فتداخلت الأمور، واختلط الحابل بالنابل، والصحيح بالسقيم، والسنّة بالسيرة العامّة. ثمّ جاء عمر بن عبد العزيز ليحكّم سيرة الشيخين لتكون شريعة ماضية للمسلمين.

جاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم: انظر ما كان من

____________

1- تربيع الخلافة كان في زمن احمد بن حنبل والمتوكل العباسي حسبما أعلم.


الصفحة 369
حديث رسول الله أو سنّة أو حديث عَمْرَة. فاكتبه; فإنّي خشيت دروس العلم وذهاب العلماء(1).

وفي حديث آخر: وحديث عمر(2).

وفي ثالث: أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمّد فكتبه له(3).

وجاء في حلية الأولياء عن حاطب بن خليف البُرْجُمىّ: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطُب وهو خليفة، فقال في خُطبته: ألا إنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دِين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه)؟!(4)

وفي (تقييد العلم): كتب ـ عمر بن عبد العزيز إلى المدينة انظروا ـ، وفي حديث عفّان إلى أهل المدينة: أن انظروا ما كان في حديث رسول الله فاكتبوه فإنّي خفت. وفي حديث عفّان: فإنّي قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء(5).

وجاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز لبعض ولاته (...فإنَّ السنّة إنَّما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمّق، فارض لنفسك ما رضى به القوم لأنفسهم، فإنَّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وتفضيل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولأن قلتم (إنّما حدث بعدهم) ما أحدثه إلاّ من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه

____________

1- صحيح البخاري 1: 49، باب كيف يقبض العلم، طبقات ابن سعد 8: 480، سنن الدارمي 1: 137، ح 488، التمهيد لابن عبد البر 17: 251، تقييد العلم: 105، 106 واللفظ له.

2- سنن الدارمىّ 1: 137، ح 487.

3- الطبقات الكبرى 2: 387، الجرح والتعديل 1: 21، 9: 337 واللفظ له، تهذيب الكمال 33: 140.

4- حلية الأولياء 5: 298، تاريخ دمشق 11: 385، تاريخ الخلفاء 1: 241 وفيه حاطب بن خليفة البرجمي بدل: خليف.

5- تقييد العلم: 106.


الصفحة 370
عنهم، فإنَّهم هم السابقون، فقد تكلّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصّر وما فوقهم من محسر، وقد قصّر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم قوم فغلوا، وإنَّهم بين ذلك لعلى هدى مستقم...)(1).

وفي كلام آخر له: سنّ رسول الله وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال لطاعة الله، وقوّة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتّبع غير سبيل المؤمنين...(2).

ثمّ إنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز جعل ما دوّنه ابن حزم سنّة للأمصار، وقد علمت أنّ ما دوّنه كان يضمّ في مطاويه اجتهادات الخلفاء، وما روته عمرة والقاسم بن محمّد عن عائشة وغيرهما، وهو ما أرادته السلطة من تثبيت فقه هؤلاء!

وفي هذا الصدد ورد عن ابن شهاب الزهرىّ قولُه: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السُّنَن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفتراً(3).

وقد مرّت عليك نصوص عنه بأنّ تدوين العلم كان من أجل طلب الأمراء. مع الوقوف على دور السلطة في العهد العبّاسىّ في تأصيل المذاهب الأربعة، ننتهي من ذلك إلى أنّ عمل عمر بن عبد العزيز في السنّة لم يكن لجمع سنّة رسول الله فقط، بل لتأصيل ما صدر عن الخلفاء من اجتهادات وآراء كذلك، أي أنّه قد أصّل مدرسة الخلفاء (الاجتهاد والرأي) بعد أن انفصل فقههم عن منابعه وأُصوله وضاع العلم عن الأمّة مدّة قرن أو أزيد!

____________

1- سنن ابي داود 4: 203، باب لزوم السنّة، ح 4612، وعنه في حقيقة البدعة وأحكامها للغامدىّ 1: 74، ونحوه في البدع لابن وضاح: 30.

2- السنّة لعبد الله بن أحمد 1: 357، اعتقاد أهل السنّة 1: 94، حلية الأولياء 6: 324 واللفظ له، جامع العلوم والحكم: 264.

3- جامع بيان العلم وفضله 1: 76.