هذا، ولا يخفى أنّ وجود بعض الأحاديث ممّا لا يرتضيه الاتّجاه الحكومىّ العامّ لا يعني خلوص نيّة من تصدّى لأمر التدوين وطموحهم إلى حفظ الشريعة، بل هو مؤشّر على امتداد النهجين في عهدهم، ووجود من يدافع عن سنّة رسول الله; لأنّ التحريف الحكومىّ لا يُمكنه الصمود أمام التيّار الفكرىّ الضخم الأصيل، ذلك أنّ تعثّر النهج الحاكم، وخلطه بين الأوراق هو ما تكشفه الروايات الأخرى والقرآن الكريم، ويقف أمامه أتقياء الصحابة والمنطق السليم.
ولذلك نرى أصالة نهج التعبّد في الصحاح والمسانيد التي دوّنها أتباع الرأي والاجتهاد، وقد اتّخذت تلك المرويّات طريقها في فقه المسلمين على رغم كلّ الظروف والملابسات. وأنّ شمولها واتّساعها لأغلب أبواب الفقه ينبئ عن وجود نهجين فكريّين: أحدهما يدعو إلى الرأي ويفتي طبق اجتهاد الصحابة، والآخر: يعمل بالنصوص وما جاء في كتاب الله وسنّة نبيّه لا غير.
جاء في (تقييد العلم): أخبرنا صالح بن كيسان، قال: اجتمعت أنا والزهرىّ، ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبىّ (صلى الله عليه وآله). ثمّ قال: نكتب ما جاء عن أصحابه، فإنّه سنّة.
فقلت أنا: ليس بسنّة فلا نكتبه.
قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيّعت(1).
قال أبو زهرة: وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم كما أنّها من السنّة(2).
____________
1- الطبقات الكبرى 2: 389، حلية الأولياء 3: 360 ـ 361، تقييد العلم: 106 ـ 107 والمتن عنه.
2- كتاب ابن حنبل لابن زهرة: 251 ـ 255، وكتاب مالك لابن زهرة ايضاً: 90.
كيف لا يكون ذلك والحكومة وراء نهج الخلفاء، تثبّت ما يريدون، وتترك جانباً ما لا يرغبون فيه؟! وإليك هذا النصّ:
نقل أبو بكر الصنعانىّ: أتينا مالك بن أنس، فحدّثَنا عن ربيعة الرأي ـ وهو أُستاذ مالك ومعلّمه ـ فكنّا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟
فأتينا ربيعة، فقلنا: كيف حظى بك مالك ولم تُحِظ أنت بنفسك؟!
فقال: أما علمتم أنّ مثقالاً من دولة خير من حِمل علم(2).
وهذا يكشف عن مواقف النهجين وامتدادهما في العصر الأموىّ والعبّاسىّ، ويكشف عن اختلاط النصوص بحيث يعسر تمييز صحيح الحديث من سقيمه، وهو ما أراده هؤلاء الخلفاء للعصور اللاحقة!
تساؤلات وموازنة
إنّ التصريح بأسماء عشرة من الصحابة على أنّهم من أهل الجنّة(3) يخالف الواقع العملىّ لسيرتهم، إذ كيف يمكننا أن نصحّح الخبر مع أنّ طلحة والزبير يقاتلان عليّاً وهو يومئذ الخليفة الشرعىّ، والكلّ من أهل الجنّة؟! في حين نعلم أنّ الحقّ واحدٌ،
____________
1- الوشيعة: 77.
2- تاريخ بغداد 8: 424، طبقات الفقهاء لأبي اسحاق: 54، صفوة الصفوة 2: 151.
3- مسند أحمد 1: 187، ح 1629، سنن ابن ماجة 1: 48، باب فضائل العشرة، ح 133، سنن الترمذي 5: 647، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف، ح 3747.
ولو قبلنا خبر (العشرة المبشّرة)، فكيف نفعل بما رواه البخارىّ عن رسول الله من قوله: إذا التقى المسلِمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.
فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل.. فما بال المقتول؟!
قال: إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه(1).
إنّ هذا لَيجعل الباحث في حيرة، لا يدري أيصدّق كونهما من أهل الجنّة، أم كونهما من أهل النار؟
وما هي وظيفة الصحابىّ؟ هل يقاتل الفئة التي تبغي حتّى تفي إلى أمر الله، أم ينبغي له اتّباع من غلب، كما في قول ابن عمر؟!
وإذا كان كلّ واحد من العشرة له أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء، باعتباره من أصحاب الجنّة، فلماذا لم يدركوا هم هذه الحقيقة ويترك بعضهم البعض الآخر، وإذا كان هذا المنطق هو الصحيح، فلماذا نرفض الفوضويّة في التفكير؟ وهل هذا الكلام إلاّ عين الاستهانة بدماء وأموال وأعراض المسلمين؟!
ولماذا نرى عمر بن عبد العزيز يؤكّد على أبي بكر عمرو بن حزم أن يكتب ما كان من حديث رسول الله وسنّة صاحبيه، أو في حديث آخر: عمرة، وفي ثالث: عمر؟!
وما هو المستبطن في خطبته: (إلاّ ما سَنّ رسول الله وصاحباه، فهو ديِن نأخذ به وننتهي إليه، أمّا ما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه...)؟!
____________
1- صحيح البخاري 1: 20، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، ح 31 و6: 2520، ح 6481 و6: 2594، ح 6672، وهو أيضاً عند مسلم 4: 2213، باب اذا تواجه المسلمان بسيفيهما، ح 2888.
أمّا أُصول الجرح والتعديل فقد رُسمت بعد رسول الله ومن قبل الحكام وتحت رعايتهم وإشرافهم مع الأخذ بنظر الاعتبار غلبة روح العصبيّة على تلك الأصول، فنسبة الضلال وفساد العقيدة والكذب وما شابهه إلى شيعة علىّ جاءت لتخالف مرويّات هؤلاء مع أُولئك فكريّاً، وقد تركت تلك الأصول آثارها في سيرتنا وسلوكنا بحيث لا يمكن التحرّر منها والابتعاد عنها من دون بحث وتحقيق، فلا محيص من المكوث عندها ودراسة جذورها تاريخيّاً وفقهيّاً، مع إيماننا بأنّ دراسة مثل هذه القضايا تفتح للباحث آفاقاً جديدة للمعرفة لم يكن قد تذوّق صدقها ودقّتها من قبل، وهو ما ندعو إليه الباحثين ونؤكّد عليه في بحوثنا ودراساتنا، وستقف في ثنايا هذا البحث وكذا في بحثنا عن (تاريخ الحديث النبوي)، وما كتبناه عن السنة بعد الرسول على أنّ السنّة المتداولة اليوم لم تكن سنّة رسول الله، بل هي سنّة الرجال في كمّ ضخم من أبوابها ومفرداتها.
نظريّة أهل البيت في الموضوع
إنّ الأئمّة من أهل البيت كانوا يشيرون إلى هذه الحقيقة تصريحاً وتلويحاً، في نصوص كثيرة، إليك بعضها لتقف على رؤيتهم المميّزة لها عن مدرسة أهل الرأي.
عن الباقر أنّه قال لجابر: يا جابر! لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأُصول عنهم، نتوارثها كابر عن
وسأل رجلٌ الصادقَ عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرايت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟
فقال له: مَه! ما أجبتك فيه شي فهو عن رسول الله، لسنا من (أرأيت) في شي(2).
عن سعيد الأعرج قال، قلت لأبي عبد الله (الصادق) إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون يَرِدُ علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة، نقول فيه برأينا؟
فقال أبو عبد الله: كذبوا ليس شي إلاّ قد جاء في الكتاب وجاءت به السنّة(3).
وعن أبي جعفر (الباقر) أنّه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل: إنّ الفقهاء لا يقولون هذا، فقال: ويحك! وهل رأيت فقيهاً قطّ، إنّ الفقيه حقّ الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة المتمسّك بسنّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) (4).
وفي رواية أُخرى عنه (عليه السلام): ما أحد أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهل البيت أو كذب علينا، لأنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن الله، فإذا كُذِّبنا فقد كُذِّب الله ورسوله(5).
وعن الباقر أنّه قال: لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا(6) (وفي آخر: فلولا ذلك كنّا كهؤلاء الناس)(7) ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها
____________
1- بصائر الدرجات: 320.
2- الكافي 1: 58، باب البدع والرأي والمقاييس، ح 21.
3- بصائر الدرجات: 321 ـ 322، الباب 15: ح 2، إختصاص المفيد: 281، أوائل المقالات للمفيد: 230، مستدرك وسائل الشيعة 17: 258، ح 21279.
4- الكافي 1: 70، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح 8.
5- انظر قرب الإسناد: 350، مستدرك الوسائل 9: 91 ـ 92، ح 10309 واللفظ له، جامع أحاديث الشيعة 1: 181.
6- بصائر الدرجات: 319، الباب 14، ح 2.
7- بصائر الدرجات: 321، الباب 14، ح 9.
وفي خبر آخر عنه (عليه السلام): أنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّاً وعلّمنا والله الحديث(2).
روى ابن حزم بسنده عن ابن شبرمة أنّ جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الصادق (عليه السلام) قال لأبي حنيفة: (اتق الله ولا تقس; فإنّا نقف غداً نحن ومن خالفنا بين يدي الله، فنقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال الله تبارك وتعالى..، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء)(3).
وقد أخرج أبو نعيم في حليته بسنده عن ابن شبرمة قال دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد فقال لابن أبي ليلى: من هذا معك؟ قال: هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين، قال الصادق: لعلّه يقيس أمر الدين برأيه!
قال نعم.
فقال الصادق: يا نعمان هل قست رأسك بعد؟
قال: كيف أقيس رأسي؟
فقال الصادق: ما أراك تحسن شيئاً، فهل علمت كلمة أولها كفر وآخرها إيمان؟
فقال أبو حنيفة: فأخبرني عن الكلمة التي أولها كفر وآخرها إيمان؟
فقال الصادق: إذا قال العبد: لا إله فقد كفر; فإذا قال إلاّ الله فهو إيمان.
ثم أقبل (عليه السلام) على أبي حنيفة فقال: يا نعمان، حدثني أبي عن جدي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال:.. أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له اسجد لآدم فقال:{ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فمن قاس الدين برأيه قرنه الله
____________
1- بصائر الدرجات: 319، الباب 14، ح 2.
2- الكافي 7: 442، باب ما لا يلزم من الإيمان والنذور، ح 15، وسائل الشيعة 23: 224، ح 29426.
3- الإحكام لابن حزم 8: 513، الباب 38، فصل في إبطال القياس.
ثم قال الصادق لأبي حنيفة: أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟
قال أبو حنيفة: قتل النفس.
فقال الصادق: فإنّ الله قبل في قتل النفس بشاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة، ثم قال (عليه السلام): أيهما أعظم الصلاة أو الصوم؟
قال أبو حنيفة: الصلاة، فقال (عليه السلام): فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟فكيف ويحك يقوم لك قياس! اتق الله ولا تقس الدين برأيك(1).
وعن أبي شيبة، قال: سمعت الصادق يقول: ضلّ عِلم ابن شبرمة، عندنا الجامعة إملاء رسول الله وخطّ علىّ بيده، إنّ الجامعة لم تدع لأحد كلاماً، فيها علم الحلال والحرام، إنّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقّ إلاّ بُعداً، إنّ دين الله لا يصاب بالقياس(2).
وعن الصادق أنّه قال: إنّ الله بعث محمّداً فختم به الأنبياء فلا نبىَّ بعده، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ـ إلى أن قال ـ فجعله النبىّ (صلى الله عليه وآله) علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس، وهم الشهداء على أهل كلّ زمان حتّى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر، وطلب علومهم، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السنّة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا(3).
____________
1- حلية الأولياء 3: 196 ـ 197.
2- بصائر الدرجات: 166، باب 11، ح 23، الكافي 1: 57، باب البدع والرأي والمقائيس، ح 14.
3- وسائل الشيعة 27: 200 ـ 201، ح 33593 عن رسالة المحكم والمتشابه للمرتضى.
وعن محمّد بن حكيم قال قلت للصادق: إنّ قوماً من أصحابنا قد تفقّهوا وأصابوا علماً ورووا أحاديث فيرد عليهم الشي فيقولون فيه برأيهم، فقال: لا، وهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه؟!(2)
وقد ورد كلّ هذا وغيره في كنز العمّال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: تعمل هذه الأمّة برهة بكتاب الله، ثمّ تعمل برهة بسنّة رسول الله، ثمّ تعمل برهة بالرأي فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا(3).
عن ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبد الله (الصادق) قال: لعن الله أصحاب القياس فإنّهم غيّروا كلام الله وسنّة رسوله واتّهموا الصادقين في دين الله(4).
وقد جاء هذا الكلام بنحو آخر عن الباقر، وذلك حينما ذكر له عن عبيدة السلمانىّ أنّه روى عن علىّ بيع أُمّهات الأولاد، فقال الباقر: كذبوا على عبيدة أو كذب عبيدة على علىّ، أنما أراد القوم أن ينسبوا اليه الحكم بالقياس، ولا يثبت لهم هذا أبداً، نحن أفراخ علي فما حدّثناكم به عن علىّ فهو قوله، وما أنكرناه فهو افتراء عليه، ونحن نعلم أنّ القياس ليس من دين علىّ، وإنّما يقيس من لا يعلم الكتاب ولا السنّة، فلا تضلّنّكم روايتهم، فإنّهم لا يَدَعُون أن يضلّوا...(5) وعن أبي بصير، قال: قلت للصادق: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة رسول الله فننظر
____________
1- المحاسن 1: 205، باب العقل، ح 61، الكافي 1: 43، باب النهي عن القول بغير علم، ح 9.
2- المحاسن: 212، باب العقل، ح 88.
3- مسند أبي يعلى 10: 240، ح 5856، الفردوس بمأثور الخطاب 2: 63، ح 2355، الاحكام لابن حزم 6: 220.
4- أمالي المفيد: 52، وسائل الشيعة 27: 59، ح 33194.
5- دعائم الإسلام 2: 536، ح 1902، مستدرك وسائل الشيعة 17: 254، ح 21267.
وعن علىّ بن الحسين: أنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يصاب إلاّ بالتسليم، فمن سُلّم لنا سَلِمَ ومن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً ممّا نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم(3).
وجاء عن رسول الله: إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا في الحلال والحرام برأيهم، فأحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحلّه الله فضلّوا وأضلّوا(4).
وعن علىّ أنّه قال: يا معشر شيعتنا المنتحلين مودّتنا! إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعداء السنن، تفلّتت منهم الأحاديث أن يحفظوها وأعيتهم السنّة أن يعوها ـ إلى أن يقول ـ فسئلوا عمّا لا يعلمون فأنفوا أن يعترفوا بإنّهم لا يعلمون فعارضوا الدين بآرائهم فضلّوا وأضلّوا(5).
وعن حبيب قال: قال لنا أبو عبد الله ما أحد أحبّ إلىّ منكم، إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى، منهم من أخذ بهواه، ومنهم من أخذ برأيه، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل(6).
وقد يكون هذا هو معنى آخر لما قاله أمير المؤمنين علىّ عن الناس بعد رسول
____________
1- المحاسن 1: 213، ح 90، الكافي 1: 56، باب البدع والراي والمقائيس، ح 11.
2- ليس من البعيد أن يكون مقصود الإمام(عليه السلام) التعريض بخطأ ما التزمته يد الإجتهاد والرأي; وهو صحة إفتاء الامراء والحكام، لما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره.
3- كمال الدين وتمام النعمة: 324، مستدرك الوسائل 17: 262، ح 21289.
4- عوالي اللئالي 4: 65، مستدرك وسائل الشيعة 17: 256 ـ 257، ح 21272.
5- مستدرك وسائل الشيعة 17: 309، ح 21429.
6- المحاسن: 156، باب ما خلق الله المؤمن من نوره، ح 87، الكافي 8: 146، ح 126.
وعن الصادق: إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس لَيحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتباً إملاء رسول الله وخطّ علىّ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام، وإنّكم لتأتونا بالأمر فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه(2).
هذا وقد كان الإمام علىّ قد صنّف الأحاديث الموجودة بيد الناس، وبيّن سبب الاختلاف فيها بقوله:
إن في أيدي الناس حقّاً وباطلاً، وصِدقاً وكَذِباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامّاً وخاصّاً، ومُحكماً ومُتشابهاً، وحِفْظاً ووَهَماً. ولقد كُذِب على رسول الله صلّى الله عليه وآله على عَهْدِه، حتّى قامَ خطيباً فقال: أيّها الناس! قد كثرت عَلَيّ الكذّابة، فمن كذب عَلَيّ مُتَعمِّداً فَليَتَبَوّأ مقعده من النار. ثُمّ كُذِب عليه من بعدِه. وإنّما أتاكُم الحَديثُ من أربعة ليس لهم خامس:
رجل منافِق يُظهر الإيمان، مُتَصنّع بالإسلام لا يَتَأثّم ولا يَتَحَرّج أن يكذب على رَسول الله مُتَعَمِّداً، فلو عَلِمَ الناسُ أنّه مُنافِق كَذّاب لَمْ يَقْبَلوا منه ولَم يُصدّقوه، ولكنّهُم قالوا: هذا قَدْ صَحِبَ رسول الله ورآه وسَمِعَ مَنْهُ وأخَذَ عَنْه وَهُمْ لا يَعْرِفونَ حالَهُ! وَقَدْ أخبَره الله عَن المُنافِقين بِما أخْبَرَه ووصَفَهُمْ بِما وصَفَهُمْ فَقال عزّ وجلّ {وإذا رأيْتَهُمْ
____________
1- الكافي 1: 33، باب أصناف الناس، ح 1، وسائل الشيعة 27: 18، ح 33093.
2- الكافي 1: 242 ـ 243، باب فيه ذكر الصحيفة، ح 6، وانظر بصائر الدرجات: 174، باب في الأئمة(عليهم السلام)، ح 7.
ورَجُلٌ سَمِعَ من رسول الله شيئاً فَلَمْ يَحْمِلْهُ على وجْهِهِ ووَهَمَ فيه ولَمْ يَتَعَمّدْ كذباً، فَهُو في يَدِهِ يَقولُ به ويَعْمَل بِهِ ويَرويهِ فَيَقُولُ: أنا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسول الله، فَلَو عَلِم المُسْلِمون أنّهُ وَهَمَ لَمْ يَقْبَلوه، وَلَو عَلِمَ هو أنّه وَهَمَ لَرَفَضَهُ.
ورَجُلٌ ثالِث سَمِعَ من رسول الله شَيْئاً أمَرَ بِهِ ثُمَّ نَهى عَنْه وهو لا يَعْلَمْ، أو سَمِعَهُ يَنْهى عَنْ شَي ثُمَّ أمَرَ بِهِ وهو لا يَعْلَم فَحَفِظَ مَنْسوخَهُ ولَمْ يَحْفَظْ الناسِخ، ولَو عَلِمَ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضَهُ، ولَوْ عَلِمَ المُسْلِمونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضُوهُ.
وآخر رابِع لَمْ يكذِبْ على رسول الله، مُبْغِضٌ للكَذِبِ، خوفاً مِنَ الله وتَعْظيماً لرسول الله، لَمْ ينسه بَلْ حَفِظَ ما سَمِعَ على وجْهِهِ. فَجاءَ بِهِ كما سَمِعَ لَمْ يَزِدْ فيه ولَمْ يَنْقُص منه، وعَلِمَ الناسِخَ مِنَ المَنْسوخ، فَعَمِل بالناسِخِ وَرَفَضَ المَنْسوخَ، فإنَّ أمْرَ النّبىّ(صلى الله عليه وآله) مِثْلَ القُرآنِ ناسِخٌ ومَنْسوخ، وخاصٌّ وعامٌّ، ومُحْكَمٌ ومُتَشابِهِ، قَْد كانَ يَكون من رسول الله الكَلام لَهُ وَجْهان: كلامٌ عامٌّ، وكَلامٌ خاصٌّ مِثْلُ القُرآن، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه {ما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا}(2) فَيَشْتَبِه على مَنْ لَمْ يَعْرِف وَلَمْ يَدْر ما عَنى الله بِهِ ورَسُولَهُ، وَلَيْسَ كُل أصْحاب رسول الله كان يَسْأله عَنْ الشي فَيَفْهَم، ومنهم مَنْ يَسْأله ولا يَسْتَفْهِمْهُ حتّى إنْ كانوا لَيُحِبّون أنْ يُجي الأعرابىّ والطارئ فَيَسأل رسول الله حتّى يَسْمَعوا.
وقَدْ كُنْتُ أدْخُلُ على رسول الله كُلّ يَوم دَخْلَةً وكُلّ لَيْلَة دَخْلةً، فَيخليني فيها أدورُ
____________
1- المنافقون: 4.
2- الحشر: 7.
وإذا أتاني للخَلوَةِ مَعي في مَنْزلي، لَمْ تَقُم عَنّي فاطمة، ولا أحدٌ مِنْ بَنىَّ، وَكُنْتُ إذا سألته أجابَني، وإذا سَكَتُّ عَنْه وفُنِيَتْ مَسائِلي ابْتدأني، فما نَزَلتْ على رسول الله آية من القرآن إلاّ أقْرأنيها وأملاها عَلَيَّ فَكَتَبْتُها بِخَطّي، وعَلّمْني تأويلها وتَفْسيرها، وناسخها ومَنْسوخِها، ومُحْكَمها ومُتَشابهها، وخاصّها وعامّها ـ إلى أن يقول ـ ولا علماً أملاه عَلَيَّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته، فلم أنس حرفاً واحداً، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً(1).
بهذا التقسيم المنهجىّ الموضوعىّ يوقفنا الإمام علىّ على رأي مدرسة أهل البيت في تلقّي الصحابة، وواقع روايتهم عن النبىّ، ومكانته من رسول الله، ودور قريش في الشريعة. وإليك نصّاً آخر في هذا السياق عن نهج البلاغة ـ والحديث طويل منه:
(... فَانظُروا إلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهم، حِينَ بَعَثَ إليهم رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلّتهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهم جنَاحَ كَرَامَتها، وَأسَالت لَهُمْ جَدَاولَ نَعِيمهَا، وَالْتَفَّتِ المْلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائد بَرَكَتها، فَأصْبحُوا في نِعمتها غَرِقِينَ، وفِي خُضْرَة عَيْشهَا فَكهينَ؟! قَدْ تَرَبَّعَتِ الأمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر،
____________
1- نهج البلاغة 2: 189 ولم يذكره كله، الخطبة رقم 210، الكافي 1: 62، باب اختلاف الحديث، ح 1، عن كتاب سليم بن قيس: 182، باب علّة الفرق بين أحاديث الشيعة وأحاديث مخالفيهم. والمتن عنه.
ألا وَإنَّكمْ قَدْ نَفَضتمْ أيْديَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللهِ المَضْرُوبَ عَلَيْكُم بِأحْكَامِ الجاهليَّةِ، وإن اللهَ سُبْحَانُه قَدِ امْتنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هِذِه الأمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الألْفَةِ الَّتي يَنْتَقلُونَ في ظلِّهَا، وَيَأْوونَ إلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَة لا يَعْرفُ أحَدٌ مِنَ المخلُوقين لَهَا قِيمةً; لأنّهَا أرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَن، وَأجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَر.
واعْلَمُوا أنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الهجرَة أعْرَاباً، وَبَعْدَ المُوَالاةِ أحْزَاباً، مَا تَتَعلَّقُونَ مِنَ الإسْلامِ إلاّ بِاسْمِهِ، ولا تَعِرفُونَ مِنَ الإيمَانِ إلاّ رسْمَهُ!
تَقُولُونَ: (النَّارَ وَلا العَارَ)، كأنَّكُمْ تُرِيدُونَ أنْ تُكفئُوا الإسْلامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتهِاكاً لحَرِيِمِه، ونقْضَاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً في أرْضِهِ، وَأمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ، وإنَّكُمْ إنْ لَجَأتُمْ إلَى غَيْرهِ حَارَبَكُمْ أهْلُ الكُفْرِ، ثُمَّ لا جَبْرَائِيلُ وَلا مِيكَائيِلُ وَلا مُهَاجِرُونَ وَلا أنْصَارٌ يَنصُرُونكُمْ، إلاّ المُقَارَعَةُ بالسَّيْفِ حتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنكُمْ.
وإنَّ عنْدكُمُ الأمثَالَ مِنْ بأسِ اللهِ وقَوَارعِهِ، وَأيّامِهِ وَوَقَائِعِه، فَلا تَسْتَبْطئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأخْذِهِ، وَتَهاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأساً مِنْ بأسِهِ; فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ القَرْنَ المَاضِي بَيْنَ أيْدِيكُمْ إلاّ لِتَرْكِهِمُ الأمْرَ بالمعرُوف والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، فَلَعَنَ اللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ المَعَاصِي، وَالحُلمَاء لَترْك التَّنَاهي.
ألا وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الإسْلامِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وأمتُّمْ أحْكَامَهُ، ألا وَقَدْ أمَرَنِي اللهُ بِقِتَالِ أهْلِ البَغي والنَّكْثِ والفَسَادِ فِي الأرْضِ: فَأمَّا النَّاكِثُون فَقَدْ قَاتلْتُ، وَأمَّا القَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وأمَّا المارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وَأمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَة سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبهِ، وَرَجَّةَ صَدْرِهِ وَبَقيتْ بَقِيْةٌ مِنْ أهْلِ البَغْيِ، وَلَئنْ أذِنَ اللهُ
أنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلاكِلِ العَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجمِ قُرونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وقدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رسول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِالقَرَابِةِ القَرِيَبةِ وَالَمنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وأنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنفُنِي إلى فِرَاشِهِ، وَيُمسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَان يَمْضُغُ الشَّي ثُمَّ يُلْقِمُنِيِه، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلا خَطْلَةً فِي فِعْل، وَلقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى الله عليه وآله، مِنْ لَدُنْ أنْ كَانَ فَطِيماً أعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلأئِكَتِه; يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المْكَارِمِ، وَمَحَاسِنِ أخْلاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أثَرَ أُمّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْم مِنْ أخْلاقِه عَلَماً، وَيَأْمُرُني بالاقْتدَاء بِه، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحرَاء، فَأرَاهُ وَلا يَرَاهُ غَيْري، وَلَمْ يُجْمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذ فِي الإسْلامِ غَيْرَ رَسُوِل الله صلى الله عليه وآله، وَخَدِيَجةَ، وَأنَا ثَالِثُهُمَا، أرَى نُورَ الوَحْي والرِّسَالَةِ، وأشُمُّ رِيحَ النُّبُوُّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَان حِينَ نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيْهِ(صلى الله عليه وآله) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ أيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أرَى، إلاّ أنّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكنّكَ وَزِيرٌ، وَإنّكَ لَعَلَى خَيْر).
وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه وآله، لَمَّا أتَاهُ المَلأ مِنْ قُرَيْش، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آباؤُكَ وَلا أحَدٌ مِنْ بَيْتكَ، وَنَحْنُ نَسْألُكَ أمْراً إنْ أجَبْتَنَا إلَيْه وَأرَيْتَنَاهُ عَلمنَا أنَّكَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ صلى الله عليه وآله: وَمَا تَسْألُونَ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هِذِه الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقهَا وَتَقفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَي قَدِيرٌ، فَإنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذلِكَ أتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالحَقِّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَإنِّي لأعْلَمُ أنَّكُمْ لا تَفِيئُونَ إلى خَيْرِ، وإنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطرَحُ فِي القَليب، وَمَنْ يُحَزِّبُ الأحْزَابَ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله: يا أيَّتُهَا الشَّجَرَةُ! إنْ كُنتِ تُؤمنِينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ
نعم لقد وصل الأمر بالأمّة إلى هذا الحدّ، وهو كما قال الدهلوىّ في رسالته: (ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم. وكان بقي من العلماء من الطراز الأوّل، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار غير العلماء إقبال الأمّة عليهم مع إعراضهم، فاشتروا طلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال
____________
1- نهج البلاغة 2: 153 ـ 160، الخطبة رقم 192 المعروفة بـ(القاصعة).
تخوّف وتأصيل
كان النبىّ (صلى الله عليه وآله) يتخوّف من سلطة القبليّة في الشريعة، والتي نهى عنها القرآن الكريم. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكّد أنّ علىّ بن أبي طالب هو الوحيد الذي يعرِف تفسير وتأويل الآيات والأحاديث كلّها، وأنّه بعيد عن الروح القبليّة والآراء الارتجاليّة.
فجاء عن أبي سفيان أنه قال للإمام علي بعد أن عين أبو بكر للخلافة قوله: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي: ابسط يدك ابايعك، فوالله إن شـئت لاملائنها على ابي فصيل ـ يعني أبا بكر ـ خيلاً ورجلاً، فامتـنع عليـه علي(2).
وفي بعض النصوص قال علي: يا أبا سفيان طال ما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئاً.
روى ربعىّ عن علىّ أنّه قال: لمّا كان يوم الحديبيّة خرج إلينا ناس من المشركين، فيهم سُهيل بن عمرو وأُناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله! خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فاردُدْهم إلينا.
قال رسول الله: فإنْ لم يكن لهم فقه في الدين سنفقّههم. يا معشر قريش! لتنتَهُنَّ
____________
1- انظر رسالة الإنصاف للدهلوي وهي مذكورة في دائرة المعارف لفريد وجدي مادة (جهد). وقد نقل الفيض القاساني في الاصول الاصيلة: 183 هذا الكلام عن أبي حامد الغزالي في مبد نشوء علمي الكلام.
2- شرح نهج البلاغة 1: 221. وانظر المصنف لعبد الرزاق 5: 451، ح 9767، تاريخ الطبري 2: 237، المستدرك على الصحيحين 3: 83، ح 4462، الاستيعاب لابن عبد البر 3: 974، 4: 1679.