الصفحة 387
أو ليبعثنّ الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الأيمان.

قالوا: من هو يا رسول الله؟ وقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟

قال: هو خاصف النعل، وكان قد أعطى عليّاً نعله يَخْصِفها(1).

والنصوص الحديثيّة والتاريخيّة تؤكّد أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يعلم أنّ الخلاف بين أُمّته من بعده واقع لا محالة، إذ أخبره جبرئيل بذلك، فعنه (صلى الله عليه وآله): أتاني جبرائيل فقال: يا محمّد! أُمّتك مختلفة من بعدك(2).

وأخرج الحكيم الترمذىّ عن عمر بن الخطّاب، قال: أتاني جبرئيل آنفاً، فقال: أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قال: أتاني جبرئيل، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قلت: أجل، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فَمِمَّ ذاك يا جبرئيل؟ قال: إنَّ أُمَّتك مفتتنة بعدك بقليل من كثير.

قلت: فتنة كفر أو فتنة ضلالة.

قال: كلّ ذلك سيكون.

قلت: ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله تعالى.

قال: بكتاب الله يضلّون، وأوّل ذلك من قبل قرَّائهم وأُمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلوا، ويتّبع القرّاء أهواء الأمراء فيمدّونهم في الغىّ ثمّ لا يقصرون.

قلت: يا جبرئيل، فَبِمَ يسلم من يسلم منهم.

____________

1- سنن الترمذي 5: 634، ح 3715 قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.

2- اسد الغابة 4: 26، سنن الترمذي 5: 298، ذخائر العقبى: 76. والفتح الرباني: 1.


الصفحة 388
قال: بالكفِّ والصبر، إن أُعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه(1).

إن ابتلاء الأمّة وامتحانها كان يدور مدار أخذهم بأقوال أهل بيت الرسول وعدمه، فعن خالد بن عرفطة قال، قال رسول الله: إنّكم ستُبْتَلَون في أهل بيتي من بعدي(2).

أو قوله في حديث الثقلين:... أيّها الناس! فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولٌ إلَيَّ فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين، أوّلهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به; فحثِّ على كتاب الله ورغّب فيه. ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي(3).

وجاء عنه (صلى الله عليه وآله): (لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذاتي أحبّ إليه من ذاته)(4).

وكذا قوله (... وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يرِدا عَلَيّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(5).

وقد علّق صاحب (الفتح الربّانىّ) على الحديث السابق بقوله:...أي إن ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه واهتديتم بهدى عترته واقتديتم بسيرته، اهتديتم فلم

____________

1- كتاب السنّة لابن أبي عاصم 1: 132، الباب 57، ح 303، نوادر الاصول في أحاديث الرسول 2: 248 ـ 249، والمتن عنه، العلل المتناهية 2: 851 ـ 852، حديث في الفتن، ح 1424، الدر المنثور 3: 634.

2- المعجم الكبير 4: 192، ح 4111، الجامع الصغير للسيوطي 1: 388، ح 2535، البيان والتعريف 1: 254.

3- مسند أحمد 4: 366، صحيح مسلم 4: 1873، ح 2408، المعجم الكبير 5: 183، ح 5028.

4- المعجم الأوسط 6: 59، ح 5790، الفردوس بمأثور الخطاب 5: 154، ح 7796، كنز العمال 1: 41، ح 93 عن المعجم الأوسط وفيه: وذريتي أحب إليه من ذريته، بدل وذاتي أحب إليه من ذاته.

5- مسند أحمد 3: 17، 11147، سنن الترمذي 5: 663، ح 3788، السنن الكبرى للنسائي 5: 45، ح 8148، المعجم الكبير 3: 65، ح 2679.


الصفحة 389
تضلّوا(1).

وفي (تحفة الأحوذىّ) عند شرحه لقوله (صلى الله عليه وآله): (فانظروا كيف تخلفوني فيهما): النظر بمعنى التأمّل والتفكّر، أي تأمّلوا واستعملوا الرويّة في استخلافي إيّاكم، هل تكونون خَلَف صِدْق أو خَلَف سوء؟!(2)

وقال الزرقانىّ في (شرح المواهب):

أمّا الكتاب، فلأنّه معدِن العلوم الدينيّة والأسرار والحِكَم الشرعيّة، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق.

وأمّا العترة فلأنّ العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين; فطيِب العنصر يؤدّي إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدّي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته، لهذا أكّد رسول الله في عدّة مواطن على لزوم اتّباع أهل بيته وأنّهم أولى الناس برعاية شؤون الأمّة، ولهذا جعل مَثَلهم كَمَثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق(3).

وقال صاحب (التاج الجامع للأصول) في شرح الحديث السابق: يقول النبىّ: أحسِنوا خلافتي فيهما باحترامهما والعمل بكتاب الله وما يراه أهل العلم من آل البيت أكثر من غيرهم(4).

وقال النووىّ وهو يعلّق على الثقلين: سمّي ثقلين لعِظَمهما وكبير شأنهما، وقيل

____________

1- الفتح الربّانىّ في ترتيب مسند أحمد 22: 104.

2- تحفة الأحوذىّ في شرح جامع الترمذىّ 10: 197.

3- شرح المواهب 2: 8 والحديث تجده في المستدرك على الصحيحين 2: 373، ح 3312 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، و3: 163، ح 4720، المعجم الكبير 3: 46، ح 2638، والمعجم الأوسط 6: 85، ح 5870، والمعجم الصغير 2: 84، ح 825، مسند الشهاب 2: 273، ح 1342، ح 1343.

4- التاج الجامع للأصول 1: 48.


الصفحة 390
لثقل العمل بهما(1).

وقال الحسين بن محمّد بن عبد الله الطيبىّ في (الكاشف عن حقائق السنّة النبويّة): قوله (صلى الله عليه وآله): (إنّي تارك فيكم) إشارة إلى أنّهما بمنزلة التوأمين الخَلَفين عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) (2).

وقال نور الدين السمهودىّ في (جواهر العقدين):...والحاصل أنّه لمّا كان كلّ من القرآن العظيم والعترة الطاهرة معدِناً للعلوم الدينيّة والأسرار والحكم النفسيّة الشرعيّة وكنوز دقائقها واستخراج حقائقها أطلق (صلى الله عليه وآله) عليهما الثقلين، ويرشد لذلك حثّه في بعض الطرق السالفة على الاقتداء والتمسّك والتعلم من أهل بيته(3).

وقال ابن حجر في (الصواعق): (سمّى رسولُ الله القرآنَ وعترتَه الثّقلين، لأنّ الثقل كلُّ نفيس خطير مَصُون، وهذان كذلك; إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنيّة، والأسرار والحكم العلّيّة، والأحكام الشرعيّة، ولذا حثّ (صلى الله عليه وآله) على الاقتداء والتمسّك بهم، والتعلّم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهلَ البيت. وقيل: سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما(4).

قال الخطابي في (غريب الحديث) وابن منظور في (لسان العرب) والزَّبيدىّ في (تاج العروس) وابن الأثير في نهايته، والنووي في شرحه وغيرهم في شرح الحديث: سُمّيا ثقلين لأنّ الأخذ بهما ثقيل، والعمل بهما ثقيل(5).

وقال شهاب الدين الخفاجىّ في (نسيم الرياض) وهو يعدّد الأقوال في تفسير حديث الثقلين: والثقلين، تثنية الثقل، وهو ما يثقل ضدّ الخفّة، وهما الإنس والجانّ.

____________

1- النووي شرح مسلم 15: 180 كتاب الفضائل، فضائل علىّ.

2- تحفة الأحوذي 10: 197 عن الطيبي.

3- الصواعق المحرقة 2: 442.

4- الصواعق المحرقة 2: 442.

5- غريب الحديث للخطابي 2: 192، النهاية في غريب الحديث 1: 216، لسان العرب 2: 192، تاج العروس 7: 245، شرح النووي على صحيح مسلم 15: 180.


الصفحة 391
فسمّاهما ثقلين تعظيماً لشأنهما، وإنّ عمارة الدين بهما، كما تَعْمُر الدنيا بالإنس والجنّ. ولرجحان قدرهما، لأنّ الرجحان في الميزان بثقل ما فيها، أو لأنّه يثقل رعاية حقوقهما.

السابع: كون كلّ منهما مصوناً عن الخطأ والخطل وعن السهو والزلل وطهارتها عن الدنس والرجس وعن الباطل والكذب، ويؤيّده بعض فقرات الحديث ويناسبه المعنى اللغوىّ; لأنّ الثقل في اللغة كما تقدّم الشي النفيس المصون.

أمّا طهارة الكتاب المبين وصيانته عمّا ذكره فمعلوم، فإنّه من عند الله العليم، وهو لديه لَعلىّ حكيم فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وأمّا طهارة العترة الطيّبة فبما أذهب اللهُ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لا يقولون الباطل ولا يعملونه ولا يأمرون به، وهم الصادقون الذين أمر الله المؤمنين أن يكونوا معهم، فلولا ذلك لم يجعلهم أقران الكتاب، فإنّه لا يمسّه إلاّ المطهرون(1).

ولابن حجر المكّيّ بعد نقله دعاءً من الإمام السجّاد كلام في (الصواعق) قال: فإلى من يفزع خلف هذه الأمّة وقد دَرَست أعلام هذه الملّة ودانت الأمّة بالفُرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً والله يقول {وَلا تَكُونوا كالِّذينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَائَهمُ البَيِّناتُ}؟!(2) فمَن الموقوف به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم إلاّ أعدال الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى، الذين احتجّ الله بهم على عباده ولم يَدَع الخلقَ سُدى من غير حجّة؟! هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيرا وبرّأهم من الآفات وافترض مودّتهم في الكتاب؟!(3)

لقد استبان بما سبق أنّ رسول الله كان يعني بتأكيده على العترة هو الأخذ عنهم

____________

1- جامع أحاديث الشيعة 1: 83 عن نسيم الرياض 3: 409.

2- آل عمران: 105.

3- جامع أحاديث الشيعة 1: 84 عن الصواعق: 150 وفي الصواعق المحرقة المطبوع حديثاً 2: 444 ترى جملة: إلى أهل الكتاب بدل (إلا أعدال الكتاب).


الصفحة 392
في العقيدة والفقه وفي كلّ مجالات الحياة، لأنّهم آله وذرّيّته العارفون بسنّته; وكان يتخوّف من عاقبة الأمّة وانحرافها عن طريقه وسنّته، لأنّ الخلافة وما تتلوها من أُمور العصبيّة والقبليّة ستؤثّر ـ لا محالة ـ على الأحكام، وتبعد الناس عن أهل البيت وبالتالي يكون الابتعاد عن المصدر الصحيح للتشريع الإسلامىّ ـ السنّة النبويّة ـ، كما حدَث بالفعل، وهذا هو بعينه ما كان يتخوّف منه رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أُمّته.

ولو أمعنت النظر في نصوص النبىّ والأئمّة من ولده لرأيت التأكيد على جملة (الضلال)، التي تعني الابتعاد عن جادّة الصراط.

ففي رزية يوم الخميس قال: (ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً)(1).

وقوله في حجّة الوداع: (...ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا)(2)، وقوله لمّا أتى إليه عمر بجوامع من التوراة: (والذي نفسي بيده، لو أنّ موسى أصبح فيكم ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم)(3) وغيرها. وقد جاء هذا المفهوم في كلام أهل بيته، وعن ابنته فاطمة الزهراء صريحاً في خطبها وكلماتها.

وقد قال الشيخ محمّد الحنفىّ في شرح الجامع الصغير، وفي حاشية شرح العزيزىّ 2: 417، وحديث العيبة (عيبة علمىّ) أي وعاء علمي الحافظ له، فإنَّه مدينة العلم، ولذا كانت الصحابة تحتاج إليه في تلك المشكلات، ولذا كان يسأله سيّدنا معاوية في زمن الواقعة عن المشكلات فيجيبه فتقول له الجماعة: ما لك تجيب عدوّنا؟ فيقول: أما يكفيكم أنّه يحتاج إلينا؟

____________

1- صحيح البخاري 4: 1612، باب مرض النبي(صلى الله عليه وآله) ووفاته، ح 4168، صحيح مسلم 3: 1259، باب ترك الوصية، ح 1637.

2- مسند أحمد 3: 59، ح 11578، سنن الترمذي 5: 662، باب مناقب أهل بيت النبي، ح 3786، المعجم الأوسط 5: 89، ح 4757، المستدرك على الصحيحين 3: 118، ح 4577.

3- مصنف عبد الرزاق 6: 113، ح 10164، مسند أحمد 3: 470، 4: 265، سنن الدارمي 1: 126، ح 435.


الصفحة 393
ووقع له فكّ مشكلات مع سيّدنا عمر، فقال: ما أبقاني الله أن أدرك قوماً ليس فيهم أبو الحسن، أو كما قال، فقد طلب أن لا يعيش بعده، ثمّ ذكر قضايا فيها حديث اللطم والذي أخرجه الطبرىّ في الرياض النضرة.

وقال المناوىّ في فيض القدير 4: 356 عن حديث العيبة: والعيبة ما يحرز الرجل فيه نفائسه، قال ابن دريد: وهذا من كلامه الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاصه بأُموره الباطنيّة التي لا يطّلع عليها أحد غيره، وذلك غاية في مدح علىّ.

وعليه فقد اتّضح لك بعض أُصول الاختلاف بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء، وأنّ الأصول الفكريّة كانت الخلاف الكبير بينهما، وأنّ العترة طلبوا الخلافة لكي يحقّقوا أهداف الشريعة وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، إذ الخلافة في نفسها ليس لها أدنى سبيل إلى نفوسهم وليس لهم أدنى ميل إليها. قال ابن عبّاس: دخلت على أمير المؤمنين علىّ (رضي الله عنه) بذي قار، وهو يخصِف نَعْله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام): (والله لَهِيَ أحبُّ إلىّ من إمرتكم، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً)(1).

هذا، وأنّ العترة من أهل البيت لا يرتضون العمل بما يُنقل عنهم إلاّ بعد عرضه على الكتاب; فإن وافقَ القرآن وأحرز تطابقه معه يؤخذ به، وإن خالفه يُطرح ويُضرب به عرض الحائط ـ حسب تعبيرهم ـ كلّ ذلك حرصاً منهم على إيضاح الضوابط التي يؤخذ أو يردّ على أساسها الحديث، وليس حسن الظنّ بالصحابة وما شاكله من الأمور التي يمكن الاعتماد عليها وبناء الشريعة وفقهها مع ما قدّمنا من أُمور وأدلّة.

وهذا هو معنى الوحدويّة في الفكر والأصول، فكلام العترة يفسّر القرآن،

____________

1- نهج البلاغة: 1: 80، الخطبة رقم 33.


الصفحة 394
والقرآن يشيد بطهارة العترة، فـ(علىٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع علىّ)(1) وأنّك لا ترى في كلام العترة تخالفاً مع القرآن وكذا العكس!

وهذا بعكس فقه الخلفاء الذين لم يرتضوا عرض فقه الرجال على القرآن، وربّما كانوا يعدّون ذلك من عمل الزنادقة!(2) لمعرفتهم بوجود تبايُن في كثير من الأحيان بين القرآن واجتهادات الصحابة، بل يجعلون فقه الصحابة وعملهم مخصِّصاً حتّى للكتاب العزيز ـ الذي لا يأتيه الريب ـ حبّاً أعمى، إذ قال الشيخ محمّد أبو زهرة: (إنَّ الأحناف والحنابلة اعتبروا عمل الصحابىّ مخصّصاً للكتاب، معلّلين بأنَّ الصحابىّ العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلاّ لدليل فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص وإنَّ قوله بمنزلة عمله)(3).

وقد مر عليك كلام الصاوي الذي هو اعجب من هذابكثير حيث اعتبر الخارج عن المذاهب الاربعة ضالاً مضلاً(4).

وهذا من أعجب العجب.

عمر بن الخطّاب والأمويّون

عقيب ما قدّمنا لا يمكننا إلاّ التصريح بدور الخليفة عمر بن الخطّاب في تحكيم فقه الأمويّين; لأنّه ثبّت مواطئ أقدامهم بإمضائه إمارة الشام لمعاوية بعد أخيه

____________

1- المعجم الصغير 2: 82، ح 720، المستدرك على الصحيحين 3: 134، ح 4628 قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

2- قد مرّ عليك كلام ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله، وراجع مقدّمة مصنّف ابن أبي شيبة.

3- أبو حنيفة، لأبي زهرة: 304.

4- مر كلامه في صفحة 267 وانظر حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3: 10 ط دار إحياء التراث العربي.


الصفحة 395
يزيد،(1) واقتراحه على أبي بكر بأن يترك ما بيد أبي سفيان من الصدقات ليضمن ولاءَهُ،(2) وأن يعيّن ابنه يزيد بن أبي سفيان قائداً لجيش الشام، وقوله عن معاوية: تذكرون كسرى وعندكم معاوية(3)، أو قوله لما ذُكر معاوية عنده وقيصر ودهاءهما: دعونا من ذم فتى قريش وابن سيدها من يضحك في الغضب ولا ينال إلا على الرضا ومن لا يأخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه(4).

والنصوص الأخرى التي تؤكّد على أنّ معاوية لمّا ولاه عمر جاءته رسالة من أبيه وأُخرى من أُمّه; قال له أبوه فيها: يا بنىّ! إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا فرفعهم سبقهم وقصُر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولّوك جسيماً من أُمورهم فلا تخالفهم، فإنّك تجري إلى أمد، فنافِس فيه فإنْ بلغته أورثته عقبك!

وقالت له أُمّه في رسالتها: والله يا بنىّ; إنّه قلّ أنْ تَلِدَ حرّةٌ مثلك، وإنّ هذا الرجل (أي عمر) قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت؟(5)

وجاء، فيما دار بين معاوية وعمر لمّا قدِم الشامَ، قول معاوية لعمر:

فَمُرْني يا أمير المؤمنين بما شئت، فقال: لا آمرك ولا أنهاك(6).

____________

1- المصنف لعبد الرزاق 5: 456، غزوة ذات السلاسل، ح 9770، الاستيعاب 2: 625، ت 988 لسعيد بن عامر، البداية والنهاية 8: 21، الإصابة 6: 152، ت 8074.

2- شرح النهج لأبن أبي الحديد 2: 44 عن كتاب السقيفة للجوهري.

3- تاريخ الطبري 3: 264، وانظر الاستيعاب 3: 1417، ت 2435 لمعاوية بن أبي سفيان وفيه قول عمر حين دخل الشام ورأى معاوية قد استقبله في موكب عظيم قال: هذا كسرى العرب، وتهذيب الأسماء للنووي 2: 407، الإصابة 6: 153، ت 8074 لمعاوية بن أبي سفيان.

4- الاستيعاب 3: 1418، ت 24350 لمعاوية، تاريخ دمشق 59: 112 والمتن له، البداية والنهاية 8: 124.

5- تاريخ دمشق 70: 186، البداية والنهاية 8: 118.

6- الاستيعاب 3: 1417، تاريخ دمشق 59: 112، البداية والنهاية 8: 125، سير أعلام النبلاء 3: 133، وانظر الطبري في تاريخه 3: 265.


الصفحة 396
بهذه السياسة: (مُرْني أمتثل) و(علّمني أمتثل) استطاع معاوية أن يستولي على قلب الخليفة عمر بن الخطّاب، وقد كان عمر قد ولّى جمعاً من بني أُميّة ومحبيه على بعض الولايات، فولّى عمرو بن العاص فلسطين والأردن(1). وولّى الوليد بن عقبة صدقات بني تغلب، وكان من المقرّبين إليه(2).

وولّى يعلى بن أمية على بعض بلاد اليمن(3)، وجعل المغيرة بن شعبة أميراً على الكوفة(4)، وولّى عبد الله بن أبي سرح ـ أخا عثمان من الرضاعة ـ على صعيد مصر(5) ـ وفي عهد عثمان ضمّت إليه مصر (6)كلّها ـ.

إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد اعتمد على نحو واضح على الأمويّين ومعاضديهم في توليته الولايات والأعمال، وفي الوقت نفسه أعرض عن تولية بني هاشم وكما صرّح هو نفسه لابن عبّاس ـ لمّا أراد توليته على حمص بعد موت واليها ـ فقال له:

يا ابن عبّاس! إنّي خشيت أن يأتي عَلَيّ الذي هو آت (أي الموت) وأنت على عملك فتقول: هلمَّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم(7).

ونحوه تصريح ابن عوف لعلىّ ـ وفيه تطبيق لسياسة الشيخين ـ: أُبايعك على

____________

1- تاريخ خليفة 1: 155، فتوح البلدان 1: 145، تاريخ دمشق 46: 157، 59: 111.

2- المنتظم 6: 5، تهذيب الكمال 31: 54، تهذيب التهذيب 11: 126، البداية والنهاية 8: 214.

3- تاريخ الطبري 2: 361، 2: 380، الإصابة 3: 256، 5: 390، تهذيب الأسماء 2: 459، ت 703 ليعلى بن أمية.

4- تاريخ خليفة 1: 154، فتوح البلدان 1: 297، تاريخ الطبري 2: 499، تاريخ الخلفاء 1: 133، شذرات الذهب 1: 56.

5- سير أعلام النبلاء 3: 43، الإصابة 4: 110.

6- تاريخ خليفة 1: 178، فتوح البلدان 1: 244، تاريخ الطبري 2: 516، البداية والنهاية 5: 350 ـ 351.

7- مروج الذهب 2: 330.


الصفحة 397
شرط أن لا تجعل أحداً من بني هاشم على رقاب الناس(1).

ولمّا كثرت الاعتراضات على الخليفة لتوليته معاوية مكان عمير بن سعد على حمص، فقال الناس: عزل عميراً وولى معاوية، فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلاّ بخير، فإنّي سمعت رسول الله يقول: اللّهمّ اهدِه(2).

ولا أدري هل كان هذا الحديث قد وضع من قبل الأمويّين لتصحيح ما صدر عن معاوية أيام ولايته وملوكيّته؟ أم أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب أراد دفع اعتراض الناس بقوله ذلك؟ وهل ان طلب الهداية من ربّ العالمين يتّفق مع ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله) في لعنه ولعن أبيه وأخيه؟ وعلى كلّ حال فإنَّ معاوية استفاد من دعم عمر له لتقوية مكانته، ويؤيّد ذلك قوله لصعصعة بن صوحان: والله إنّ لي في الإسلام لقدماً وإن كان غيري أحسن قدماً مني لكنّه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه منّي، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب، فلو كان غيري أقوى منّي لم يكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إلَيَّ فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلاّ وهو خير; فمهلاً فإنّ دون ما أنتم فيه وما...)(3).

وقوله لمحمّد بن أبي بكر لمّا كتب إليه برسالة يذكر فيها فضائل علىّ، منها قوله:

____________

1- الإمامة والسياسة 1: 31 وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 344 والطبري في تاريخه 2: 560، ومصنف عبد الرزاق 5: 481، ح 9776، ومصنف ابن أبي شيبة 7: 439، ح 37071، والسنن الكبرى للبيهقي 8: 151 وفي هذه المصادر ان هذه المقولة هي لعمر قالها لعلي ولغيره من أصحاب الشورى يوم تعينهم.

2- البداية والنهاية 8: 122 وفي تاريخ دمشق 59: 85 عن أبي السائب قال: وسمعت أبي فذكر أن عمر بن الخطاب ولى معاوية بن أبي سفيان، فقالوا: ولاه حدث السن فقال: تلومونني وانا سمعت رسول الله يقول: اللهم اجعله هاديا مهدياً واهده واهد به.

3- تاريخ الطبري 2: 638، شرح النهج 2: 133، الكامل في التاريخ 3: 35.


الصفحة 398
...فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلىّ وهو وارث رسول الله ووصيّه وأبو ولده وأوّل الناس اتّباعاً وأقربهم به عهداً... إلى آخره.

فكتب إليه جواباً على رسالته (...فكان احتجاجك عَلَيّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فأَحْمَدُ الله ربّاً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.

قد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مميّزاً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده، وأتمّ له وعده، وأظهر دعوته، وأبلج حجّته، وقبضه الله إليه، كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، وخالفه على أمره على ذلك اتّفقا واتّسقا ـ إلى أن يقول:

أبوك مهّد له مهاده، وبيّن ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صواباً، فأبوك أوّله، وإن يكُ جوراً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلّمنا إليه، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب)(1).

وجاء في رسالة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان إلى ابن عمر، لمّا اعترض عليه في قتله الحسين بن علىّ نحوه. حيث كتب إليه: (أمّا بعدُ يا أحمق، فإنّا جئنا إلى بيوت منجّدة وفُرُش ممهّدة، ووسائد منضّدة، فقاتلنا عنها، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن يكن الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سَنَّ هذا واسـتأثر بالحقّ على أهله)(2).

____________

1- انساب الأشراف 3: 1092 ـ 1093، وقعة صفين للمنقري: 119، جمهرة رسائل العرب 1: 477 عن مروج الذهب 2: 600، شرح النهج 3: 190 وهذه الرسالة هي التي قال عنها الطبري في تاريخه 3: 68 (كرهت ذكرها، لما فيه مما لا يحتمل سماعه العامّة)!!، والكامل في التاريخ 3: 157.

2- الأنوار النعمانية 1: 53 عن البلاذري وهو في بحار الأنوار 45: 328، وكتاب الأربعين للماحوزي: 104 ايضاً.


الصفحة 399
فهذا كلّه يؤكّد دور الخليفة عمر بن الخطّاب في تقوية فقه الأمويّين من خلال فسح المجال لعثمان ومعاوية وأمثالهما من النهج المخالف لنهج التعبّد المحض، لكي يبنوا فقهاً جديداً وأُسساً مستحدثة في التشريع الإسلامىّ وفي المقابل ترى الامويين يسعون لترسيخ فقه أبي بكر وعمر وعثمان.

مع حجّيّة قول الصحابىّ:

قال الإمام الغزّالىّ في (المستصفى)، في معرض حديثه عن حجّيّة قول الصحابىّ، بعد أن أورد الآراء فيها، قال: من الأصول الموهومة قول الصحابي، وقد ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابىّ حجّة مطلقاً، وقوم إلى أنّه حجّة وإن خالف القياس، وقوم إلى إن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصّة، لقوله (صلى الله عليه وآله): (اقتدُوا بالذين من بعدي) وقوم إلى إن الحجة في قول الخلفاء الراشدين، إذا اتّفقوا والكل باطل عندنا، ثمّ عمد الغزّالىّ لتفنيد الأقوال جميعاً، فقال:

فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته فلا حجّة في قوله، فكيف يُحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟!

وكيف تُدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟! وكيف يُتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟!

وكيف يختلف المعصومان؟! كيف، وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة رأي الصحابة؟! فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه; فانتفاء الأدلّة على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم، فيه، ثلاثة أدلّة قاطعة(1).

____________

1- المستصفى: 168.


الصفحة 400
وقال الأستاذ أبو زهرة: والحقّ أنّ قول الصحابىّ ليس بحجّة، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمّة إلاّ نبيّنا محمّداً (صلى الله عليه وآله) ، وليس لنا إلاّ رسول واحد. والصحابة من بعده مكلّفون على السواء باتّباع شرعه في الكتاب والسنّة، فمن قال بأنّه تقوم الحجّة في دين الله لغيرهما فقد قال في دين الله ما لا يثـبت، وأثبت شرعاً ما لم يأمر الله به(1).

وللدكتور حسين الحاجّ حسن كلام طريف بهذا الصدد، نصّه:

فصحابة النبىّ بشرٌ مثل غيرهم من الناس، والدنيا ومباهجها تغري بعضهم، وتؤثّر في سلوكهم القيم الاجتماعيّة، والذي قال: إنّهم ملائكة معصومون من الذنوب فهو...، إلى أن يقول:

فمن سوء حظّ أبي جهل أنّه قُتل في معركة بدر في صفّ المشركين، ولو أنّ الصدفة ساعدته ـ كما ساعدت غيره ـ فنجا من تلك المعركة، ثمّ بقي إلى يوم الفتح فأسلم، لصار من عداد الصحابة أو القوّاد الذين ادّعوا أنّهم رفعوا راية الإسلام.

إنّها مسألة صدفة، والصدفة تلعب بمقدّرات الرجال لعباً هائلاً. وهذا أمر نشاهد مصداقه يجري أمام أعيننا كلّ يوم، إذ نرى الكثير من أمثال أبي جهل أوصلتهم الصـدف إلى أعلى المراتب، والمحدِّثون والإخباريّون من حولهم يحيطونهم بهالة من العظمة...(2).

وقال ابن حزم بعد نقله قوله تعالى: { وَ يَقُولُونَ آمنّا باللهِ وبالرسولِ وأطَعْنا ثُمّ يتولّى فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك وما أولئكَ بالمُؤمنين * وإذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضُون * وإن يَكُنْ لَهُمُ الحقُّ يأتُوا إليِه

____________

1- ص 102.

2- نقد الحديث للدكتور حسين الحاجّ حسن 1: 350 ـ 351 وقد أخذ هذا الكلام من كتاب وعاظ السلاطين: 118 للدكتور علي الوردي.


الصفحة 401
مُذْعِنين * أفي قُلوبِهم مَرَضٌ أم ارتابوا أم يَخافون أن يَحيفَ اللهُ عليهم ورسولهُ، بل أولئك هُمُ الظالمون * إنّما كانَ قولَ المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُم أن يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولئك هُمُ المُفْلِحون * ومَن يُطِع اللهَ ورسولَه ويَخْشَ اللهَ ويَتَّقْهِ فأُولئكَ هُمُ الفائزون * وأقْسَمُوا باللهِ جَهْدَ أيْمانِهمْ لَئن أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُلْ لا تُقْسموا طاعةٌ معروفةٌ إنّ الله خبيرٌ بما تعملون * قُلْ أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرّسُول، فإن تَوَلِّوا فإنّما عليهِ ما حُمِّلَ وعليكم ما حُمِّلْتُم وإنْ تُطيعوه تَهْتَدوا وما على الرّسُولِ إلاّ البلاغُ المُبِينُ}(1):

هذه الآيات محكمات لم تَدَع لأحد علقة يشغب بها، قد بيّن الله فيها صفَة فعل أهل زماننا; فإنّهم يقولون: نحن المؤمنون بالله وبالرسول، ونحن طائعون لهما، ثمّ يتولّى طائفة منهم بعد هذا الإقرار، فيخالفون ما وردهم عن الله عزّ وجلّ ورسوله(صلى الله عليه وآله)! أُولئك بنصّ حُكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين، وإذا دُعُوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول يخالف كلّ ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك، فِمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا متروك، ومن قائل: أبى هذا فلان، ومن قائل: القياس غير هذا. حتّى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئاً يوافق ما قلّدوا فيه طاروا به كلّ مَطار، وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفاً حرفاً، فيا ويلهم ما بالهم؟! أفي قلوبهم مرض وريب؟! أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله (صلى الله عليه وآله)؟! ألا إنّهم هُمُ الظالمون، كما سمّاهم الله ربّ العالمين، فبعداً للقوم الظالمين!(2)

ثمّ عَمَد ابن حزم ليبرّر ما فعله كبار الصحابة في مخالفاتهم لحديث رسول الله، ودفع عنهم شبهة الإدخال في الدين ـ لما رسم في نفسه من هالة لأولئك الرجال ـ لكنّه في نفس الوقت نفى حجية ما فعله الصحابي وما قاله خلافاً للثابت عن رسول

____________

1- سورة النور: 47 ـ 54.

2- الإحكام في أُصول الأحكام 1: 98 ـ 99.


الصفحة 402
الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال:

وقد قال بعضهم: قد صحّ ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير ممّا بلغهم من حديث النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مُْسَتْخِفّيِنَ به، وهذا كفر من فاعله، أو يكونوا تركوه لفضلِ علم كان عندهم، فهذا أولى أن يُظنّ بهم.

ثمّ قال: وهذا يبطل من وجوه، أحدها أنّه لو قال قائل: لعلّ الحديث الذي تركه من تركه منهم فيه داخلة، قيل له: ولعلّ الرواية التي رويت بأنّ فلاناً الصاحب ترك حديثاً كذا هي المدخولة، وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها، وأيضاً فإنّ قوماً منهم تركوا بعض الحديث، وقوماً منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء.

فلا فرّق بين من قال: لابدّ من أنّه كان عند من تركه علمٌ من أجله تركه، وبين من قال: لابُدّ من أنّه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به. وكلّ دعوى عَرِيتْ من برهان فهي ساقطة. وقد قدّمنا أنّه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحقّ، سواء تركه مخطئاً معذوراً، أو تركه عاصياً موزوراً، ولا يكترث بمن عمل به كائناً من كان، وسواء عمل به أو تركه وفرض على كلّ من سمعه أن يعمل به على كلّ حال.

وأيضاً فإنّ الأحاديث التي روي أنّه تركها بعض من سلف ليست ـ في أكثر الأمر ـ التي ترك هؤلاء المحتجّون بترك من سلف لما تركوا منها. بل ترك هؤلاء ما أخذ به أُولئك، وأخذ هؤلاء بما تركه أُولئك، فلا حجّة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث; لأنّهم أوّل مخالف لهم في ذلك، وأوّل مبطل لذلك الترك. ولا أسوأ من احتجاج امرئ بما يبطل على من لا يحقّق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتجّ به له أو أشدّ.

وأيضاً: فلو صحّ ما افترَوه، من أنّه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علمٌ من أجله ترك ما ترك من الحديث ـ ونعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعيذ كلّ من يظنّ به خيراً