الصفحة 403
من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الأمّة المقدّسة ـ لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعوناً بلعنة الله عزّ وجلّ. قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنِ البيّناتِ والهُدَى مِن بعدِ ما بَيَّناهُ للنّاسِ في الكِتابِ أُولئِكَ يلْعَنُهُم اللهُ ويَلْعَنُهمُ اللاّعِنُون}(1) فنحن نقول: لعن الله كلّ من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وكتمه عن الناس كائناً من كان. ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقد نسبهم إلى الإدخال في الدين وكيد الشريعة، وهذا أشدّ ما يكون من الكفر.

وقد عارضتُ بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبدىّ في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن بشر رحمه الله وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيّين، فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة، بل صمتوا كلّهم، إلاّ قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي; وذلك أنّي قلت له: لقد نسبت إلى مالك (رضي الله عنه)ما لو صحّ عنه لكان أفسق الناس، وذلك أنّك تصفه بأنّه أبدى إلى الناس المعلولَ والمتروك والمنسوخ من روايته، وكتمهم المستعملَ والسالم والناسخ، حتّى مات ولم يُبْدِه إلى أحد. وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتدليس على أهله، وقد أعاذه الله من ذلك. بل كان عندنا أحد الأئمّة الناصحين لهذه الملّة، ولكنه أصاب وأخطأ، واجتهد فوفّق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق ـ أو كلاماً هذا معناه ـ وقد افترض الله تعالى التبليغ على كلّ عالم، وقد قال (عليه السلام) مخبراً: (إنّ مَن كتم علماً عنده فسئل عنه أُلجم يوم القيامة بلِجام من نار)...(2) إلى آخره.

لكنّ التعدّديّة في الرأي ـ التي دافع عنها ابن حزم ـ تخالف وحدويّة العقيدة، وإن كنّا نوافقه في ذهابه إلى عدم حجية قول وفعل الصحابي، بل نزيده أنّ القول بعدالة الصحابة على الإطلاق يخالف ما فعله عمر مع سعد بن عبادة وقوله فيه:

____________

1- سورة البقرة: 159.

2- الإحكام لابن حزم 2: 241 ـ 243.


الصفحة 404
اقتلوا سعداً، قتل الله سعداً!(1) وكذلك ضربُه تميماً الدارىّ(2)، وتخوينه عمرو بن العاص في سرقته مال(3) الفي، وطعنه في دين خالد بن الوليد والمطالبة برجمه(4)، كلّ هذا يُفهم منه أنّ القول بعدالة الصحابة لم يكن على عهد عمر وأبي بكر، وحتّى على عهد عثمان. بل إنّه قد حدث لاحقاً، وليس له رصيد، ولم يُدْعَم من السنّة; إذ كلّ ما نقل عنه (صلى الله عليه وآله) في هذا الشأن هو عرضة للترديد والردّ، ومثله ما رُسم من هالة للصحابة وعدّهم بمنزلة المعصوم والمخصِّصين للقرآن. نعم، إنّه فعل مدرسة الخلفاء ـ والدعاة إلى الرأي والأخذ بالمصالح! ـ وأنصارهم!

وللمزيد إليك كلام التفتازاني في شرح المقاصد إذ قال:

... إن ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ و... يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحد وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسة والميل إلى اللذات والشهوات، إذ ليس كل صحابي معصوماً ولا كل من لقي النبي بالخير موسوماً، إلاّ أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله ذكروا محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة، سيما المهاجرين منهم والأنصار والمبشرين بالثواب في دار القرار. وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ومن الشناعة بحيث لا اشتباه

____________

1- مصنف عبد الرزاق 5: 444، بيعة أبي بكر، ح 9758، مسند أحمد 1: 55، ح 391، طبقات ابن سعد 3: 616، تاريخ الطبري 2: 235.

2- المعجم الكبير 2: 58، ح 1281، المحلى لابن حزم 2: 274.

3- شرح النهج 20: 21.

4- انظر تاريخ الطبري 2: 274 وفيه قول عمر لخالد بن الوليد بعد قتله لمالك بن نويرة: قال: قتلت أمرأ مسلماً نزوت على امرأته والله لأرجمنك باحجارك، وهو في البداية والنهاية 6: 323، ثقات ابن حبان 2: 169.


الصفحة 405
على الآراء، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهد منه الجبال، وتنشق الصخور، ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور، فلعنة الله على من باشر أو رضى، أو سعى، ولعذاب الآخرة اشد، وأبقى.

فإن قيل فمن علماء المذاهب من لم يجوز اللعن على يزيد مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد. قلنا. تحامياً عن أن يرتقي إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض...(1).

كلّ هذه المباني المخترعة والأصول الخاطئة كان سببها ـ بل من أهمّ عوامل بنائها ـ منع التحديث والتدوين، ذلك المنع الذي فسح المجال لسلطة الرأي أن تتحكّم على النصوص.

جاء عن سليمان بن عبد القوىّ الحنبلىّ (ت 716 هـ) قوله في شرح الأربعين:

إنّ أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص، وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك عمر بن الخطّاب، لأنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنّة فمنعهم مع علمه بقول النبىّ (صلى الله عليه وآله) (اكتبوا لأبي شاة) وقوله (قيّدوا العلم بالكتابة).

فلو ترك الصحابة يدّون كلّ واحد منهم ما سمع من النبىّ لانضبطت السنّة فلم يبق بين آخر الأمّة وبين النبىّ إلاّ الصحابىّ الذي دوّنت روايته، لأنّ تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم كما تتواتر عن البخارىّ(2).

وقال الشيخ محمّد أبو زهرة: إنَّ امتناع بعض الصحابة عن كتابة الحديث ومنعهم منها لم يكن سببه نهي النبىّ (صلى الله عليه وآله) عن كتابة الحديث، بدليل أنَّ الآثار الواردة عنهم في المنع أو الامتناع من كتابة الحديث لم ينقل فيها التعليل بذلك، وإنَّما

____________

1- شرح المقاصد (للتفتازاني 5: 310).

2- نقل الأستاذ أسد حيدر عنه هذا الكلام في كتابه الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، فراجع.


الصفحة 406
كانوا يعلّلون بمخافة أن تشـتغل الناس بها عن كتاب الله أو غير ذلك من الأغراض(1).

وبذلك اندثر الكثير من سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ونُسب إليه أكثر من ذلك، واختلقت مبان وأصول كثيرة في الشريعة، واختلط الأثر النبوىّ أيّما اختلاط بالرأي والاجتهاد، حتّى ألزم البخارىّ نفسه أن ينتقي كتابه من بين ستمائة ألف حديث، وقريب منه فعل مسلم والنسائىّ وسواهما.

كان هذا مجمل الحديث عن محنة النصّ النبوىّ ـ ثمّ اختراع حجيّة قول وفعل الصحابي ـ وما أعقب المنع من آثار على الشريعة، بسطنا القول فيه ليتعرّف القارئ على ملابسات التشريع وبعض أسباب الاختلاف بين المسلمين. ولم نكن نتوخّى فيه إلاّ بيان الحقيقة التي خفيت على المسلمين أحقاباً طو يلة، وفُرض عليها الحصار قُرابة أربعة عشر قرناً من الزمان.

____________

1- الحديث والمحدّثون: 234.


الصفحة 407

الصفحة 408

النتيجة


نتج من خلال البحث والتتبّع أنّ المنع من التدوين مرّ بمراحل ثلاث:

الأولى: فترة الشيخين.

الثانية: من سار على نهجهما، كعثمان ومعاوية.

الثالثة: بعد معاويّة، حتّى عصر التدوين الحكومىّ.

المرحلة الأولى:

كان المنع في عهد الشيخين نابعاً ـ مضافاً إلى محاولة إخفاء فضائل أهل البيت المفسَّرة بأحقيتهم في الخلافة، ومضافاً إلى عقليتهم المؤهّلة للرأي والاجتهاد ـ من عدم حفظهما واستيعابهما لجميع أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولمّا كان مقام الخلافة يستوجب العلم بما حكم به الرسول، والخليفة لم يختصّ به (صلى الله عليه وآله) كي يعرف جميع الأحكام الصادرة عنه، ولم يثُبت معرفة الخليفة بوجوه التفسير والتأويل في القرآن.. كان من الطبيعىّ أن يحدث التخالف بين فتاواه، وبين أقوال رسول الله وحكم التنزيل. وهذا الأمر لو كان قد فسح المجال ليتّضح للناس مثلما هو عليه اليوم لأحدث مشكلة كبيرة، خاصّة وأنّ الخليفة كان في صدد معارك عسكريّة وفتوح للبلدان المتاخمة لبلاد المسلمين، فلذلك رأى من اللازم عليه اعتبار رأيه الحكم الفَصْل وإن خالف النصّ لكي يكون معذوراً فيما يذهب إليه لمصالح قد ارتضاها!


الصفحة 409
فتراه يقول: (ذلك على ما قَضَينا، وهذا على ما قضينا).

وقد تزايدت القضايا والوقائع التي ينبغي بيان حكمها، على أثر اتّساع رقعة الدولة الفتيّة بالفتوحات ومن خلال التعامل مع أقوام شتّى دخلوا في الإسلام. ولم يكن وضع الخليفة العلمىّ بالذي يهيئوه للإِجابة الشرعيّة عن الحاجات المستجدّة، لعدم إحاطته بأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستيعابه للموقف الشرعىّ الذي كان النبىّ(صلى الله عليه وآله) قد كشف عنه، ذلك أنّ عمر بن الخطّاب لم يكن متفرّغاً لملازمة الرسول والأخذ عنه، بل كان ـ كما يقول عن نفسه ـ يتناوب هو وأخ له من الأنصار للأخذ عنه (صلى الله عليه وآله).

فعن عمر ـ كما روى البخاري ّـ أنّه قال: كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أُميّة بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنّا نتناوب النزول للأخذ عن رسول الله، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك(1).

وكان البيع والشراء في الأسواق ممّا يشغله ويلهيه عن ملازمة رسول الله(صلى الله عليه وآله) والاستمداد منه، لقوله: (وكان يلهيني الصفق في الأسواق)(2)، وقال له أُبىّ: وكان يلهيك الصَّفْق في الأسواق(3). فكان هذا أحد أسباب قلّة التلقي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

بَيْدَ أنّ الوقائع المستجدّة تحتاج إلى حلول فوريّة يلزم استقاؤها من القرآن

____________

1- صحيح البخاري 1: 46، باب التناوب في العلم، ح 89، و2: 871، باب إماطة الأذى، ح 2335، صحيح مسلم 2: 1112، باب في الإبلاء واعتزال النساء ويخيرهن، مسند أحمد 1: 33، ح 222، سنن الترمذي 5: 420، باب ومن سورة التحريم، ح 420.

2- انظر صحيح البخاري 2: 727، باب الخروج إلى التجارة، ح 1956، 6: 2676، باب الحجة على من قال إن أحكام النبي(صلى الله عليه وآله) كانت ظاهرة، ح 6920، صحيح مسلم 3: 1695، باب الاستئذان.

3- السنن الكبرى للبيهقي 7: 69، باب ما خص به من أن أزواجه امهات المؤمنين، ح 13197.


الصفحة 410
والسنّة، وبما أنّ الخليفة لم يكن عارفاً بجميع السنّة ووجوه التأويل، فإنّه واجَهَ مشكلة في ذلك مستعصية إذ أنّه لو أفتى بشي يخالف القرآن أو السنّة كان في حرج أمام الصحابة الذين سيعلنون عن الموقف الشرعىّ السليم في الواقعة كما سمعوه من رسول الله(صلى الله عليه وآله).

لذلك تراه يبدأ السؤال عن حكم الرسول ـ كي لا يُحرَج لاحقاً ـ أو تراه يخضع لما يذكّره به الصحابة من أقوال النبىّ وأحاديثه دون نقاش.

لكنَّ استمرار حالة سؤاله الصحابةَ عن حكم الوقائع والحوادث المتتابعة، وافتراض كون الأحكام مستنبطة من النصوص.. من شأنه إيقاع الخليفة في حرج آخر كلّما دعت الحاجة إلى موقف شرعىّ كاشف عن حكم الله جلّ جلاله، ومن شأن استمرار هذه الحالة أيضاً أن تفوّت على الخليفة كثيراً من الفرص. ومن هنا وجد من الضرورىّ له خروجاً من الحرج وفوات الفرص أن يصير إلى تشريع الاجتهاد والعمل بالرأي في إطار المنع من الحديث كتابة ورواية وتدويناً; لإعذاره وإعذار من يسير على نهجه من المسلمين.

ولذلك صار عند المسلمين اتّجاهان:

الأوّل: لا يرتضي الحكم والاستنباط إلاّ على ضوء النصّ الشرعىّ من قرآن وسنّة.

الثاني: يرى الاجتهاد فيما لا نصّ فيه وما فيه نصّ، ويذهب إلى اعتبار ما يراه من المصلحة.

فالمصلحة هي الوسيلة الأقوى التي اتّخذها الحكّام، فهم لا يقولون بشي إلاّ بادّعاء أنّ المصلحة في فعله، ولا ينهون عن شي إلاّ بتصوّر أنّ المصلحة في تركه. لكنّ السؤال الذي لا مفرّ منه هو: هل مشروعيّة هذه المصلحة مُنْتَزعة من النصّ أم لا؟

إنّ أصحاب نهج التعبّد المحض لو أخذوا بالأحكام الثانويّة فإنّهم يكونون قد

الصفحة 411
أخذوا بها على ضوء النصوص ولفترة محدودة بمقدار الضرورة، لا اجتهاداً من عند أنفسهم.

وأمّا المصلحة في نهج الخلفاء فإنّها ـ مضافاً إلى كونها مصلحة متخيّلة ـ تؤخذ من فعل الخليفة وما رآه مصلحة بحيث تكون حكماً دائميّاً لا وقتيّاً، وهذا فارق عظيم بين الحالتين.

نعم، إنّ الاجتهاد له مطّاطيّة وانسيابيّة، ولا يمكن لأحد الحدّ من سيره، وإنَّ راكبه كما وصفه الإمام علىّ بن أبي طالب في الخطبة الشِّقشقيّة: (كراكِبِ الصَّعْبة...) لا يمكن لأحد أن يلجمه كما لا يمكنه الإمساك بزمامه.

المرحلة الثانية:

كان عثمان يميل إلى مواصلة سنّة الشيخين، لكنّه في الوقت نفسه يرى لنفسه الأهليّة في الإفتاء والاجتهاد كالشيخين; لما يراه من مصلحة ورأي، لأنّ تحديد إفتائه وحديثه (بما عُمِل به في زمن الشيخين) ـ كما هو المصرّح به في خطبته الأولى(1) ـ كان يؤذيه من بعد، لسابقته في الإسلام ومصاهرته الرسول!!، ولكونه ليس بأقلّ شأناً من عمر وأبي بكر، فكيف يجوز للناس أن يعترضوا عليه لمخالفته بعض اجتهادات الشيخين وهو قد شاهدهم بالأمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر المخالفة لسنّة رسول الله؟! بل إنّهم قد ارتضوا تلك الاجتهادات وجعلوها نهجَ حياة، يضاهي ويوازن سنّة رسول الله، بل يعارضها في موارد كثيرة، وهو ـ أي عمر ـ في

____________

1- ففي الطبقات الكبرى 2: 336، وتاريخ دمشق 39: 180، بالإسناد عن محمود بن لبيد. قال: سمعتُ عثمان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يسمع به في عهد ابي بكر ولا عهد عمر.

وقد مرّ عليك كما في المستدرك على الصحيحين 4: 377 ـ قول عثمان لعمر لمّا طُعن واستشارهم في الجدّ: إن نتّبع رأيك فهو رشد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنِعْمَ ذو الرأي. وانظر سنن الدارمي 1: 159، باب اختلاف العلماء، ح 631، السنن الكبرى للبيهقي 6: 246، باب من لم يورث الأخوة مع الجد، ح 12201.


الصفحة 412
بعضها أجسر فيما شرّعه من عثمان وأجرأ.

فكان عثمان يردّد هذا السؤال مع نفسه:

كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهى لمصلحة كان يقدّرها ـ كما في صلاة التراويح ومتعة النساء وغيرها ـ ولا يحقّ لي ذلك؟!

ولماذا يجب أن أكون تابعاً لسياستهما ولا أكون مجتهداً متبوعاً؟!

وقد جاء هذا الكلام صريحاً في قوله للمعترضين: (ألا فقد ـ والله ـ عبتم عَلَيّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله)، ثمّ يقول: (أما والله لأنا أعزّ نَفَراً وأقربُ ناصراً وأكثر عدداً وأقْمَنُ إن قلت هلمّ، أُتِيَ إلىّ، ولقد أعددتُ لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولاً وكشّرت لكم عن نابي...)(1).

وقد شاهدتَ ابن عوف وعرفت أنّه لم يقدر أن يُلْزِمَ عثمانَ بما أعطاه من العهد والميثاق للسير على طِبق سيرة أبي بكر وعمر، ومن هنا اعتصم ابن عوف بالصمت في آخر الحوار الذي دار بينه وبين عثمان حول الصلاة في منى، فقال ابن عوف: ألم تصلِّ في هذا المكان مع رسول الله ركعتين؟

قال عثمان: بلى.

فقال ابن عوف: ألم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟

قال: بلى.

فقال ابن عوف: ألم تصل مع عمر ركعتين؟

قال: بلى.

قال ابن عوف: وصدراً من خلافتك ركعتين؟

قال: بلى.

فقال ابن عوف: إذن كيف تصلّي اليوم أربعاً؟!

____________

1- الإمامة والسياسة 1: 46، تاريخ الطبري 2: 645، البداية والنهاية 7: 169.


الصفحة 413
فقال عثمان: رأىٌ رأيته!(1)

فعثمان ما فعل في هذه المفردة إلاّ ما جرّ إليه الاجتهاد.

وتجاوُزُ الحدود جاء تبعاً للاجتهاد قبال النص المنهي عنه في شريعة سيد المرسلين، فلم يمكن لأحد الأخذ بلجامه والاعتراض على اجتهادات الآخرين، لأنّ خليفة المسلمين قد فعل ذلك، فإن ورد اعتراض على اجتهادات الآخرين فإنّه يَرِدُ قبله على خليفة المسلمين لأنّه فعل ذلك، فإن كان الاجتهاد شرعيّاً فاجتهاد عثمان وغيره شرعىّ كذلك، وإن لم يكن شرعيّاً، فَلِمَ فعل الشيخان ذلك؟!

ومرّةً أُخرى.. فإنّ المنع عن تدوين السنّة الشريفة والذهاب إلى إقلال الحديث عن رسول الله هو الذي أوجد الاجتهاد عند الشيخين، واجتهاد الشيخين هو الذي حدا بعثمان أن يجتهد كذلك ويُحْدِث الأحكام طبق ما يراه من مصلحة، والخلفاء بعد هؤلاء ـ إلاّ علىّ بن أبي طالب ـ قد وجدوا في الاجتهاد والمصلحة بُغيتهم، وأنّه خير غطاء يمكن الاحتماء به لتصحيح آرائهم.

وأمّا علىّ بن أبي طالب فقد عارض فكر هذا الاتّجاه. وكلماتُهُ في نهج البلاغة وغيره توضّح ذلك وتجلّيه بما لا يَدَع مجالاً للشكّ. وإليك نصّين عنه في أيّام خلافته يوضّحان معالم الاختلاف وجذور المسألة.

الأوّل قوله (عليه السلام): (... وإنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع وأحكام تُبَْتدع، يُخالَف فيها كتاب الله، يَتولّى فيها رجالٌ رجالاً، على غير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ولو أن الحقّ خَلَصَ من لبس الباطل لانقطعت ألسنة المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضِغثٌ ومن هذا ضِغثٌ، فيمزَجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى. إنّي سمعتُ رسولَ الله يقول: كيف أنتم إذا لَبِسَتْكُم فتنة يربو فيها الصغير ويَهرم فيها الكبير،

____________

1- الخبر بكامله في تاريخ الطبري 2: 606، أحداث سنة 29 هـ.


الصفحة 414
يجري الناس عليها ويتّخذونها سنّة، فإذا غُيِّرَ منها شي قيل: قد غُيّرت السنّة وقد أتى الناس منكراً؟! ثمّ تشتدّ البليّة وتسبى الذرّيّة، وتدقّهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب، وكما تدقّ الرحا بثِفالها(1)، ويتفقّهون لغير الله ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.

ثمّ أقبل بوجهه، وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال: قد عملتِ الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله متعمّدِين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيِّرِين لسنّته، ولو حملتُ الناس على تركها وحوَّلْتُها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله لتفرّق عنّي جندي، حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرضَ إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله). أرأيتم لو أمرتُ بمقام إبراهيم فردَدْتُه إلى الموضع الذي وضعه فيه رسولُ الله، ورددتُ فدك إلى ورثة فاطمة(2)، ورددتُ صاع رسول الله كما كان(3) وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأقوام لم تُمْضَ لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد(4)، ورددت قضايا من الجور قضي بها(5)، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقّ فرددتُهن إلى أزواجهن(6) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام، وسبيت ذراري بني تَغْلِب(7)، ورددت ما قسّم من أرض خيبر، ومحوت دواوين

____________

1- الثفال بالكسر جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق، ويسمى الحجر الأسفل: ثفالاً بها.

2- قصّة فدك مشهورة لا حاجة لبيانها وللأعلام فيها كتب كثيرة.

3- انظر الخلاف للشيخ الطوسىّ 1: 129، مسألة 73 لتعرف حقيقة الأمر.

4- كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد.

5- كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الإرث و...

6- كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته: ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شي، ولو وجدته قد تزوج... إلخ، وانظر نهج البلاغة 1: 46، خ 15، وشرح النهج 1: 269.

7- لأنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة، فيحلّ سبىُ ذراريهم، قال البغوىّ في شرح السنّة: روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية، فقالوا: نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض، بعنوان الصدقة. فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين. قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.


الصفحة 415
العطايا(1)، وأعطيت كما كان رسول الله يعطي بالسويّة، ولم أجعلها دُولة بين الأغنياء، وألقيت المساحة(2) وسوّيت بين المناكح(3)، وأنفذت خُمْس الرسول كما أنزل عزّ وجلّ وفَرَضه(4)، ورددت مسجد رسول الله إلى ما كان عليه (5)،وسددت ما فُتح فيه من الأبواب(6)،وفتحت ما سُدّ منه، وحرّمت المسح على الخُفّين(7)،وحَدَدتُ على النبيذ،وأمرت بإحلال المُتْعَتين(8)،وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات(9)، وألزمتُ الناس الجهرَ ببسم الله الرحمن (10)الرحيم، وأخرجت مَن أُدخِل بعد رسول الله في مسجده ممّن كان رسولُ الله أخرجه، وأدخلت مَن أُخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله أدخله(11)، وحملتُ الناس

____________

1- إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لأهل العلم والولاة والجند، بمنزلة الزكاة المفروضة، ودوّن دواوين فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.

2- راجع تفصيل هذا الأمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى.

3- ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشىّ الزواج من القرشيّة، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.

4- إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمْسَهم.

5- يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً.

6- إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسد الأبواب إلاّ باب علىّ.

7- إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعلىّ وغيرهم له في هذا.

8- يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.

9- لِما كبّر النبىّ في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما.

10- لكونهم قد أكّدوا على إخفاتها.

11- يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا من المسجد في حيث إنّهم كانوا مقرّبين عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وإنّه(عليه السلام) يخرج من أخرجه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، كالحكم بن العاص وغيرهم.


الصفحة 416
على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة(1)، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها(2)، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها(3)، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم(4)، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه.. إذن لتفرّقوا عنّي.

والله لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام! غُيِّرت سنّة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. ما لقيت من هذه الأمّة من الفُرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار!! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عزّ وجلّ {إنْ كُنتم آمنتم باللهِ وما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يومَ الفرقانِ يومَ التقى الجَمْعان}(5)، فنحن والله عنى بذي القربى الذين قَرَننا الله بنفسه وبرسوله (صلى الله عليه وآله) فقال تعالى {فللّهِ وللرّسُولِ ولذي القُرْبى واليَتامى والمَساكين وابنِ السَّبيلِ كَيْلا يَكْونَ دُولةً بينَ الأغنياءِ مِنكم، وما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوه ومَا نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا واتّقوا اللهَ إنّ اللهَ شديدُ العِقاب...}(6).

الثاني: روى الطوسىّ في (التهذيب) عن الصادق(عليه السلام) قول أمير المؤمنين(عليه السلام) لمّا قدِم الكوفة وأمر الحسنَ بن علىّ(عليه السلام) أن ينادي في الناس: (لا صلاة في شهر

____________

1- كما مرّت عليك الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاثاً.

2- أي من أجناسها التسعة، وهي: الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر 3- وذلك لمخالفتهم هذه الأحكام. وقد وضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا (وضوء النبىّ).

4- وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم.

5- الأنفال: 41.

6- كتاب سليم بن قيس: 262 وعن سليم في الكافي 8: 59، ح 21، وانظر نهج البلاغة 1: 99 الخطبة 50 وقد ذكر بعضه وهو أيضاً في احتجاج الطبرسي 1: 392 من طريق آخر مختصراً.


الصفحة 417
رمضان في المساجد جماعة)، فنادى في الناس الحسنُ بن علىّ بما أمره به أميرُ المؤمنين، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علىّ صاحوا: واعُمَراه! واعمراه! فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين قال له: ما هذا الصوت؟

فقال: يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون: واعمراه! واعمراه! فقال أمير المؤمنين: قل لهم: صلّوا(1).

عرفنا من مجمل الخبرين السابقين عدّة أُمور:

1 ـ أنّ هناك سُنَناً قد شُرّعت من قبل الخلفاء لا يرتضيها علىّ; لمخالفتها لسنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

2 ـ سعى علىّ لرفعها لكنّه لم يقدر على كثير منها; لقوّة التيّار المدافع عن عمر، والمتابع لاجتهاداته وآرائه.

3 ـ أنّ الخلاف بين علىّ وعمر لم يقتصر على موضوع الخلافة وحده، بل كان على الفقه والشريعة كذلك.

فالقائلون بحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة كانوا يعارضون التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته، ويرجّحون اجتهادات الشيخين على كلّ شي لتصوّرهم بأنّهم يعرفون علل الأحكام وروح التشريع!!

وأمّا أنصار مدرسة التعبّد المحض فكانوا يقفون أمام تهديدات هؤلاء، موضّحين فقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وناقلين حديثه للناس، ولو وضعت الصمصامة على أعناقهم!

وجاء عن علىّ أنّه قال لمّا طُعِن: أمّا وصيّتي إيّاكم، فالله عزَّ وجلَّ لا تشركوا به شيئاً، ومحمّد لا تضيّعوا سنّته، أقيموا هذين العمودين...(2)

____________

1- تهذيب الأحكام 3: 71، ح 227.

2- المعجم الكبير لللطبرانىّ 1: 96، ح 197.


الصفحة 418
وعن ابن كثير، عن أبيه، قال: أتيت أبا ذرّ، وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثمّ قال: أوَلَمْ تُنهَ عن الفُتيا؟! فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عَلَيَّ؟! لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي أُنِفُذ كلمةً سمعتُها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيَّ، لأنفذتها(1).

انظر إلى أبي ذرّ كيف يُصِرّ على تبليغ ما سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإن وُضِعَت الصمصامة على عنقه! وانظر إلى عدوله عن لفظ السائل (الفيتا) إلى لفظ (سمعتها من رسول الله) لتعلم التفاوت بين الاتّجاهين.

إنّها المسؤوليّة التي يتحسّسها أبو ذرّ وغيره من أتباع نهج التعبّد المحض، فيجدّون في تبليغ سنّة رسول الله حتّى آخر نفس، لقوله: (ثمّ طننتُ أنّي أُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيّ، لأنفذتها)(2).

كيف لا يقول ذلك، وهو قد سمع رسول الله في أكثر من مشهد وموقف أنّه يتخوّف على أُمّته من الضلال والابتعاد عن الصراط والأخذ بسنن الآخرين بُغضاً لعلىّ؟!

فعن حنش الكنانىّ: قال سمعت أبا ذرّ وهو آخِذٌ بباب الكعبة يقول: أيّها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذرّ، سمعت رسولَ الله يقول: مَثَلُ أهل

____________

1- تاريخ دمشق 66: 194، سنن الدارمي 1: 146، سير أعلام النبلاء 2: 64، طبقات ابن سعد 2: 354، حلية الأولياء 1: 160 وفيها: وعلى رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ وفي فتح الباري 1: 161، قال ابن حجر: إنّ الذي خاطبه رجل من قريش، والذي نهاه عثمان. وقد روى البخاري في صحيحه 1: 37، في باب العلم هذا الحديث مبتوراً، فلم يذكر نهي عثمان ولا الفتى القريشي الرقيب بل اكتفى بذكر قول أبي ذر (لو وضعتم الصمصامة...)... الخ فتامل.

2- الخبر في سنن الدرامي 1: 146، ح 545، وقد قال ابن حجر في فتح الباري 1: 161 قال: إن أبا ذرّ كان لا يرى طاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي(صلى الله عليه وآله) بالتبليغ عنه.


الصفحة 419
بيتي كسفينةِ نوح: مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق(1).

وجاء عنه قوله: أيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها، أمّا لو قدّمتم مَن قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم، ولَمَا عال ولىُّ الله، ولا طاشَ سهمٌ من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه. فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وَبالَ أمركم، وسيعلم الذين ظَلموا أىَّ منقلب ينقلبون(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين علىّ لأبي ذرّ: (إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك)(3).

وهذا النصّ وما سبقه ممّا يكشف عن تحيّر الأمّة الممتحَنة، وأنّهم لا يدرون بكلام أي الاتّجاهين يأخذون بسبب تقديمهم المتأخّر وتأخيرهم المتقدّم، ذلك أنّ الصحابة قد تصدّروا الاتّجاهين:

فأبو ذرّ ومن يماثله من أنصار التعبّد المحض يؤكّدون لزوم الأخذ بسنّة رسول الله الموجودة عند أهل بيته، لكثرة النصوص المسموعة والمنقولة عن مكانة علىّ بن أبي طالب، فعلىٌّ قد دوّن كلام رسول الله في حياته (صلى الله عليه وآله) ، وله صحيفة وكتاب الجامعة والجفر فيها جميع ما سمعه من رسول الله. وكان يخلو بالنبىّ في اليوم مرّتين

____________

1- المعجم الاوسط 5: 355، ح 5534، المعجم الكبير 3: 45، ح 2636، مستدرك الحاكم 2: 373، والنص منه، مسند الشهاب 2: 273، ح 1343، وقد روى هذا الحديث صحابة آخرين منهم أبي سعيد الخدري، وابن عباس كما في الأوسط 6: 85، ح 5869، والكبير 3: 46، ح 2638، 12: 34، ح 12388، حلية الأولياء 4: 306.

2- تاريخ العقوبي 2: 171.

3- نهج البلاغة 2: 12 الخطبة 130، شرح نهج البلاغة 8: 252، عيون الحكم والمواعظ، لليثي: 552، الكافي 8: 207، السقيفة وفدك للجوهري: 78، وانظر المحاسن 2: 354 الباب 12، ح 45، مكارم الأخلاق: 249 باب في التشيع.


الصفحة 420
صباحاً ومساءً، وقد صرّح بأنّه يعرف كل آية أين نزلت وفيمن نزلت و...

وهناك من الصحابة من يأخذ بكلام عمر، ولا يرتضي التدوين عن رسول الله، بل يشرّع الاجتهاد قبال كلامه (صلى الله عليه وآله) ، معلّلاً بأنّه قد عرف روح التشريع!

وقد مرّ عليك قول ابن عبّاس: مالي لا أسمع الناس يُلَبُّون؟!

فقلت [أي الراوي:] يخافون معاوية.

فخرج ابن عبّاس من فُسطاطه فقال: لبّيك اللّهمّ لبّيك، وإن رغم أنف معاوية. اللّهمّ العنهم; فقد تركوا السنّة من بغض علىّ(1).

وعن عكرمة قال: صلّيت خلف شيخ بمكّة، فكبّر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عبّاس: إنّه أحمق!

فقال ابن عبّاس: ثكلتك أُمّك سنّة أبي القاسم(2).

إن سرقة معاوية البسملة من السورة!(3)، وبيعه سِقايةً من ذهب ـ أو ورق ـ بأكثر من وزنه، واعتراض أبي الدرداء عليه، وحكايته حديثاً عن الرسول في عدم جواز ذلك، وقول معاوية له: لا أرى بأساً بذلك.

فقال له أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟! أنا أُخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا أُساكِنُك بأرض أنت فيها.(4).

كلّ هذه النصوص وما مرّ يُوضّح تخالف النهجين في الأصول والمفاهيم.

____________

1- سنن النسائىّ 5: 253، ح 3006، المستدرك على الصحيحين 1: 636، ح 1706 قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، السنن الكبرى للبيهقىّ 5: 113، ح 9230 والنص منه، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 360.

2- صحيح البخارىّ 1: 272 كتاب الصلاة، باب التكبير إذا قام من السجود، ح 755.

3- مصنف عبد الرزاق 2: 92، ح 2618، الام 1: 108، باب القراءة بعد التعوذ، سنن الدارقطني 1: 311، باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، ح 33 وح 34، المستدرك على الصحيحين 1: 357، ح 851.

4- موطّأ مالك 2: 634 كتاب البيوع (16) باب بيع الذهب بالفضّة، ح 1302، السنن الكبرى للبيهقىّ 5: 280، ح 10274، الرسالة للشافعىّ: 446.