المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة الخلفاء الذين حكموا بعد معاوية إلى عصر التدوين الحكومىّ، فإنّ هدف هؤلاء قد تماثَل مع أهداف الخلفاء الذين قبلهم والذين بعدهم، فهؤلاء قد استغلّوا الأفكار السائدة في العصر الأولّ وما ذهب إليه الخَلَف من مشروعيّة الرأي للصحابة، بُغية الحدّ من نشاط الطالبيّين ـ وهم المخالفون لهم على مرّ القرون ـ وبغية التعرّف عليهم، وقد عرفت أنّ الخليفة الأموىّ عمر بن عبد العزيز قد أمر ابن شهاب الزهرىّ بتدوين السنّة النبويّة، مؤكّداً الأخذ بسنّة الشيخين. وجاء عن ابن شهاب قوله: كنّا نكره تدوين السنّة حتّى اكرَهَنا السلطان على ذلك(1).
ولم يخفَ عليك أنّ هؤلاء الأمراء كانوا من أبناء أبي سفيان والحَكَم بن العاص ومن الذين لم يدخلوا الإسلام إلاّ مُكْرَهين!
ألم يَقُل أبو سفيان: فوالذي يحلف به أبو سفيان، لا جنّة ولا نار!(2)
أوَلَيسَ معاوية هو القائل استخفافاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) (... وإنّ ابن أبي كبشة لَيُصاحُ به كلّ يوم خَمْسَ مرّات: أشهد أن محمّداً رسول الله، فأىّ عمل يبقى؟! وأىّ ذِكر يدوم بعد هذا، لا أباً لك؟! لا والله إلاّ دفناً دفنا(3).
أو لم يشتهر إنشاد يزيد بن معاوية شعر ابن الزبعرى في إنكاره النبوّة:
لَعِبَـتْ هاشمُ بالمُلـْكِ فـلا | خبرٌ جاءَ، ولا وَحْيٌ نَزَلْ! |
وكيف يمكن أن يخفى ما جاء عن أبي سعيد الخدرىّ من أنّه جذب ثوب مروان بن الحكم لمّا أراد أن يرتقي المنبر ليخطب قبل الصلاة في العيدين، وقوله له: غيّرتم
____________
1- سنن الدارمي 1: 122، ح 404.
2- تاريخ الطبري 5: 622، الاستيعاب 4: 1679، الأغاني 6: 371، شرح النهج 2: 45، 8: 30، 9: 53، 15: 175، مروج الذهب 2: 343.
3- الأخبار الموفّقيّات للزبير بن بكار: 576 ـ 577، مروج الذهب 3: 454، النصائح الكافية: 124، شرح النهج 5: 130.
قال الإمام محمّد عبده: (إنّ عموم البلوى بالأكاذيب حقّ على الناس في دولة الأمويّين! فكثر الناقلون وقلّ الصادقون، وامتنع كثير من أجلّة الصحابة عن الحديث، إلاّ لمن يثقون بحفظه خوفاً من التحريف فيما يؤخذ عنهم)(2).
والخلفاء العبّاسيّون ليسوا بأقلّ وطئاً على الشريعة من الأمويّين، فقد استخدموا الشريعة لمصلحة الحكم والنظام، وقد وقفتَ على نصوصهم مع مالك بن أنس وطلب المنصور منه أن يدوّن السنّة حتّى يجمع الناس على ذلك، ودعوته أبا حنيفة للخوض في نقاش مع صادق أهل البيت..(3) وغيرها من النصوص التي تؤكّد التخالف الفكرىّ والأصول المتبناة عند الطرفين.
إنّ هؤلاء قد اتّخذوا الاختلاف الفقهىّ وسيلة للتعرّف على الطالبيّين، فزادت لأجله الأحاديث المتناقضة والمرجِّحة لبعض المذاهب في الشريعة الإسلاميّة(4).
قال الأستاذ أحمد أمين: (... ومن الغريب أنّنا لو اتّخذنا رسماً بيانيّاً للحديث لكان بشكل هَرَم، طرفُه المدبَّب هو عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ يأخذ في السعة على مرّ الزمان حتّى يصل إلى القاعدة، فهي أبعد ما تكون عن عهد الرسول. مع أنّ المعقول كان العكس; فصحابة الرسول أعرف الناس بحديثه، ثمّ يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا.
____________
1- صحيح البخاري 1: 326، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، ح 913، السنن الكبرى للبيهقي 3: 280، باب الخروج في الأعياد إلى المصلى، ح 5929.
2- أضواء على السنّة المحمدية: 389، عن تاريخ الإمام محمد عبدة 2: 347.
3- انظر الحوار وتعليقنا عليه في (وضوء النبىّ): 349 ـ 353.
4- بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب (وضوء النبىّ).
ثمّ علّل ذلك بنشاط حركة الهجرة في طلب الحديث ودور اليهود والنصارى في مسخ الشريعة، متناسياً دور السلطة وأهدافها السياسيّة.
لكنّي أتساءل: هل يمكن لليهود ـ وهم الذين يعطُون الجزية عن يد وهم صاغرون ـ ممارسة دورهم الهدّام بعيداً عن أىّ دعم أو تغاض من قبل السلطة الحاكمة؟ وبنظري أنّ العوامل السياسيّة والذهاب إلى مشروعيّة رأي الجميع كان من العوامل المهمّة في هذا المجال، وقد أنبأ رسول الله بوقوع ذلك وأبدى تخوّفه على مستقبل الشريعة وأرشد إلى ضرورة التزام سنّته، ولزوم الأخذ بقول العترة من آله كما صرّح (صلى الله عليه وآله) به في حديث الثقلين وغيره من الأحاديث، وقد توقّع الخليفة أبو بكر حدوث ذلك أيضاً لكنّه لم يعالجه إلاّ بدعوة النّاس إلى الاقتصار على كتاب الله!!
اتّضح من كلّ ما سبق أنّ هذه الأفكار وغيرها قد حدثت من جرّاء المنع عن تدوين السنّة الشريفة والقول بحجّيّة رأي الصحابة وغيرها من العوامل السياسيّة.
وقد قيل عن الاختلاف: إنّه يبدأ بمليمتر واحد حتّى ينتهي إلى كيلومتر، بل وإلى ما لا نهاية، حسب تعبير علماء الهندسة. وقد شاهدنا هذه الحقيقة عياناً في محنة النصّ النبوىّ، وما جرى على الشريعة، وأنّ السنّة قد وصل بها الأمر إلى أنّها أصبحت لا تعرف إلاّ بفعل الصحابة بل بجعل كلام الصحابىّ وفعله مخصِّصاً للقرآن!
وهذه بعض النصوص عن أهل البيت، ترى فيها أجوبة الكثير من الشبهات المطروحة، مؤكِّدة على عدم مشروعيّة الأخذ بالرأي.
فمن رسالة طويلة للإِمام الصادق إلى أصحابه، من جملتها:
____________
1- ضحى الإسلام 2: 128 ـ 129.
وقد عَهِد إليهم رسولُ الله قبل موته، فقالوا: نحن بعدما قبض الله عزّ وجلّ رسوله يَسَعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد ما قبض الله رسوله! وبعد عهده الذي عهده إلينا، وأمرنا به; مخالفاً لله ولرسوله، فما أحد أجرأ على الله، ولا أبين ضلالة ممّن أخذ بذلك، وزعم أنّ ذلك يَسَعه. والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه، ويتّبعوا أمره في حياة محمّد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته.
هل يستطيع أُولئك أعداء الله أن يزعُموا أنّ أحداً ممّن أسلم مع محمّد أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه؟ فإن قال: نعم، فقد كذب على الله وضلّ ضلالاً بعيداً، وإن قال: لا، لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه، فقد أقرّ بالحجّة على نفسه، وهو ممّن يزعم. وكما أنّه لم يكن لأحد من الناس مع محمّد أن يأخذ بهواه، ولا رأيه، ولا مقاييسه; خلافاً لأمر محمّد، كذلك لم يكن لأحد بعد محمّد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه. ثمّ قال:
واتَّبعوا آثار رسول الله وسنّته، فخُذوا بها، ولا تتّبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا، فإن أضلّ الناس عند الله من اتّبع هواه ورأيه بغير هدى من الله.
وقال: أيّتها العصابة، عليكم بآثار رسول الله وسنّته وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول الله من بعده وسنّتهم; فإنّه مَن أخذ بذلك فقد اهتدى، ومَن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ; لأنّهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم(1).
____________
1- الكافي 8: 5 ـ 6، 14، وعنه في الوسائل 27: 37، ح 33152 والمتن منه. وقد ردّ الإمام الصادق ما طرحته مدرسة الاجتهاد من آراء حول اجتهاد الرسول واختلاف أُمّتي رحمة و...، في كلام طويل له، راجع المحكم والمتشابه: 91، والوسائل 27: 52 ـ 53، ح 33188 عنه.
وعنه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عزّ وجلّ: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي(2).
قال معاوية بن ميسرة بن شريح: شهدت أبا عبد الله [الصادق ]في مسجد الخيف، وهو في حلقة، فيها نحو من مائتي رجل، وفيهم عبد الله بن شبرمة فقال له: يا أبا عبد الله! إنّا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنّة، ثمّ ترِد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي إلى أن قال فقال أبو عبد الله: فأىّ رجل كان علىّ بن أبي طالب؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولاً عظيماً، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فإنّ عليّاً أبى أن يُدخل في دين الله الرأىَ، وأن يقول في شي من دين الله بالرأي والمقاييس إلى أن قال: لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس ولا عمل بها(3).
وعن الباقر (عليه السلام): يا زرارة! إيّاك وأصحابَ القياس في الدِّين، فإنّهم تركوا علم ما وُكّلوا به، وتكلّفوا ما قد كُفُوه، يتأوَّلون الأخبار، ويكذبون على الله عزّ وجلّ(4) وكأنّي بالرجل منهم يُنادى مِن بين يديه، فيجيب مِن خلفه، وينادى من خلفه، فيجيب من بين يديه، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدِّين؟(5).
____________
1- أمالي الصدوق: 342، ح 570، معاني الأخبار: 185، باب معنى الإسلام، ح 1، كما في الوسائل 27: 44 ـ 45، ح 33171.
2- عيون أخبار الرضا 2: 107، باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد، ح 4 وعنه في الوسائل 27: 45، ح 33172.
3- المحاسن: 1: 210، ح 77، كما في الوسائل 27: 51، ح 33183.
4- لقولهم بالظنّ قال سبحانه {قُلْ ءآللهُ أذِنَ لَكُمْ أمْ على اللهِ تَفْتَرون}.
5- الوسائل 27: 59، ح 33193.
وقوله: اكتب وبُثّ علمك في إخوانك، فإن مِتّ فأورثْ كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمانُ هَرَج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم(3).
وما سواها من الأخبار الكثيرة التي تركناها مخافة الإطالة، وكلّها تصبّ في مصبّ واحد مفاده ضرورة التدوين واتّباع المدوّنين من خلّص أصحاب النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، وضرورة التعبّد المحض، ونبذ الرأي والاجتهاد والفتيا طبق الأصول التي لم يأتِ بها النبىّ (صلى الله عليه وآله) وإنَّما تولّدت في أزمان متأخّرة وتحت ظروف خاصّة.
____________
1- الكافي 1: 52، باب رواية الكتب والحديث، ح 10، شرح اصول الكافي 2: 221، الوسائل 27: 81، ح 33262، 27: 323، ح 33845.
2- الكافي 1: 52، باب رواية الكتب والحديث، ح 9، شرح اصول الكافي 2: 220، الوسائل 27: 81، ح 33261.
3- الكافي 1: 52، باب رواية الكتب والحديث، ح 11، شرح اصول الكافي 2: 221، الوسائل 27: 82، ح 33263، مستدرك وسائل الشيعة 17: 292، ح 21381.
خلاصة السبب الأخير
نخرج من كلّ ما مرَّ بأنّ السبب الحقيقىّ الكامن وراء منع التدوين: له عدّة عوامل ودوافع.
منها: طمس فضائل أهل البيت المفسَّرة بأحقّيّتهم والداعية إلى إمامتهم وخلافتهم، ومنها: عدم إحاطة الحكّام بالأحكام.
ومنها: ما كان عند الخلفاء من خلفيات موروثة ونزعات ومؤهلات تتناسب مع الاجتهاد، ومن كل ذلك راموا خَلْقَ جوّ فقهىّ جديد يستطيع الخليفة من خلاله أن يتكيّف لسدّ العجز الفقهىّ الذي يجده وليبني هرماً فقهياً سياسياً جديداً، ويتّضح هذا الاستنتاج عبر ملاحظة المقدّمات الآتية:
أ ـ عرفنا سابقاً أنّ أوّل بادرة لمنع التدوين ظهرت بشكل عملي فاعل على لسان عمر بن الخطّاب قبيل وفاة النبىّ، وذلك لمّا طلب (صلى الله عليه وآله) أن يأتوه بالقلم والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقول عمر في جواب طلب النبىّ (صلى الله عليه وآله): إنّ الرجل لَيهجر! حسبنا كتاب الله.
فإنّ هذا المنع من التدوين وإن ـ كان في لحظة ما ـ موقفاً خاصّاً اضطرّ فيه عمر أن يمنع من التدوين لتوجيه أمر الخلافة بعد الرسول الوجهة التي يريد، إلاّ أنّ ذلك المنع قد اعتمد على ضرب قدسيّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) وجلالة قدره، وتجريح عصمته، ممّا فتح له الباب على مصراعيه لكي يُدلي بدلوه، وأن يفرض رأيه فرضاً على الصحابة ومن
والنصّ يكشف عن أنّ النبىّ لم يقبل بفعل عمر، بل كان (صلى الله عليه وآله) يريد التأكيد على مقولته السابقة في حجّة الوداع واستخلافه في الأمّة ثقلين، أحدهما أكبر من الآخر.
إنّ عمر بن الخطّاب كان يتخوّف من تأكيد رسول الله على هذا الأمر، فنسب إلى قدسيّة رسول الله الهُجر ـ وحاشاه ـ كي يقلّل من أهمّيّة مقولته (صلى الله عليه وآله). أو حتّى كتابته ـ لو قُدّر أن يكتبها النبىّ (صلى الله عليه وآله) ـ إذ يضعف الاحتجاج بكتابته (صلى الله عليه وآله) بعد أن طرح احتمال الهجر في حقّه. وهذا ما جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينصرف عن الكتابة بقوله (قوموا ولا تنازعوا عندي فإنّه لا ينبغي عندي التنازع)(2) فالمنع عن التدوين هنا جاء لمنع التصريح بخلافة العترة، ولضرب أساس قاعدة وفائدة الكتابة والتدوين. ومعنى هذا أنّ المنع كان له بُعدان:
1 ـ بُعد سياسىّ.
2 ـ بُعد تشريعىّ.
فسبب المنع ـ مضافاً إلى ما قاله الإخوة الأعلام في السبب السابع مع إضافتنا قيد التفسير والبيان ـ هو تأسيس الخليفة لفكرة (رأىٌ رأيتُه)، والسماح بتعدّديّة الآراء ليسدّ به العجز الفقهىّ الذي كان يوقعه في حرج شديد.
إنّ الناس كانوا يعلمون أنّ المشرِّع هو الله ورسوله، فكانوا لا يريدون أخذ الأحكام إلاّ ممّن اختصّ بالنبىّ، وعلم جميع أسرار التنزيل والتأويل. ومن جهة
____________
1- الطبقات الكبرى 2: 244، المعجم الأوسط 5: 288، ح 5338، البيان والتعريف 2: 257، وانظر كنز العمال 5: 644، ح 14133.
2- صحيح البخاري 1: 54، باب كتابة العلم، ح 114، الاحكام لابن حزم 7: 425، الاستيعاب لابن عبد البر 1: 169، فتح الباري 1: 209.
ب ـ عرفت أنّ الشيخين لم يدّعيا أنّهما قد عرفا جميع المسائل الصادرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بل إنّهما كانا يُفتيان طبق الرأي، فجاء عن أبي بكر في الكلالة: (إن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمنّي ومن الشيطان). وكانا يسألان الصحابة عمّا خفي عليهما من أحكام الرسول، ثمّ إنّهما أخذا بكلام الصحابة وأقرّا ذلك، حتّى أنّ عمر أقرّ لتلك المرأة التي خطّأته بكونها أفقه منه!(1)
والأحكام التي خَفِيت عليهما لم تكن قليلة، ولا تنحصر في مسألة ومسألتين حتّى يمكن البحث عن مخرج من مخارج التأويل، في حين أنّك عرفت وجود حكم تلك المسائل عند الآخرين من الصحابة، فتارة كان حكم رسول الله عند معاذ، وأُخرى عند حذيفة، وثالثة عند ابن مسعود، ورابعة عند علىّ... وهكذا.
ومن هنا يظهر أنّ قول عمر بن الخطّاب لمن جمعهم من الصحابة: (فنحن أعلم نأخذ منكم ونردّ عليكم)، وقول عروة بن الزبير لابن عبّاس: هما واللهِ كانا أعلم بسنّة رسول الله وأشيع لها منك، وغيرها... إنّما كان لتثبيت الموقع العلمىّ للشيخين في الدولة، ولإِلزام الآخرين بالأخذ بما يحكمان به ولو عن رأي واجتهاد بدعوى أنّهما أعلم بمصالح المسلمين من غيرهم. وقد عرفت أن الناس لمّا أتوا عمر بصحفهم كانوا يَرجُون أن يرى عمر أقومها وأعدلها، ولم يكونوا يريدون بفعلهم هذا أن يكون الرأي الأخير بيد الخليفة، وأن يرى أنّ رأيه هو الصواب.
____________
1- انظر السنن الكبرى للبيهقي 7: 233، ح 14114، كتاب السنن لسعيد بن منصور: 195، ح 598.
ولا يمكننا أن ننسى دور المنع من التدوين، وخنق الصحف عند الصحابة، فإنّه ممّا أحدث فراغاً في التشريع لا يُسدّ إلاّ بالاجتهاد، والاجتهاد هو ما يريده الخليفة ويستهدفه من وراء برنامجه المنعىّ.
ج ـ وقفتَ سابقاً على نصوص لبعض الصحابة كانوا يمتحنون فيها الخليفة الثاني، ويستفزّونه لتنبيهه على أخطائه، وكانوا يسألونه عن حكم مسألة واحدة في أوقات شتّى، ليوقفوه على التناقض الموجود في أجوبته، ممّا ينبىُ عن أنّ الخلاف فيها كان في إطار المسائل الفقهيّة.
وكان الخليفة يضجر من تصرّفات هؤلاء الصحابة، فيقول لمن سأله عن مسألة كان قد علم جوابها سابقاً من رسول الله: تَربَت يداك! قد فسألتني عن شي سألتَ
فظاهرة تخطئة الخليفة تراها واضحة في عهد عمر دون غيره من الخلفاء، ممّا يؤكّد أنّه فتح باب (رأىٌ رأيتُه) بحيث لم يمكنه أن يسدَّه.
إنّ العالِم بالأحكام لا يهاب من السؤال بل يعجبه أن يُسأل ليجيب، وقد ثبت عن علىّ بن أبي طالب قوله (سَلُوني قبل أن تَفْقِدوني)، أمّا الذي ليس له أثر عن رسول الله فتراه يتخوّف من السؤال، ويضرب صبيغ بن عُسل ويتّهمه بالزندقة لكثرة أسئلته!(2)
____________
1- مصنف ابن أبي شيبة 3: 174، ح 13181، الآحاد والمثاني 3: 228، ح 1589 والمتن منه، شرح معاني الآثار 2: 232، باب المرأة تحيض بعد ما طافت، المعجم الكبير 3: 262، ح 3353.
2- انظر الإصابة 3: 459، ت 4127، سنن الدارمي 1: 66، ح 144، نصب الراية 3: 324، تفسير القرطبي 17: 29، الدر المنثور 2: 152، فتح القدير 1: 319، تاريخ دمشق 23: 411، كنز العمال 2: 334.
وقال الإمام أحمد في مسائله 1: 478، ح 81: روى أبو عثمان النهدي قال: سأل رجل ـ من بني يربوع أو من بني تميم ـ عمر بن الخطاب عن الذاريات، والمرسلات، والنازعات أو عن بعضهن، فقال له عمر: ضع عن رأسك، فإذا له وفرة، فقال عمر: أما والله لو رايتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك، ثم كتب إلى أهل البصرة ـ أو قال: إلينا ـ أن لا تجالسوه، فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا. اسم هذا الرجل صبيغ بن عسل... وفي المقابل روى الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي الطفيل، قال: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قام على المنبر فقال: سلوني قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي، قال: فقام ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين ما {الذاريات ذرواً}؟ قال: الرياح.
قال: فما {الحاملات وقراً}؟ قال: السحاب.
فما {فالجاريات يسراً}؟ قال: السفن.
قال: فما {المقسمات أمراً}؟ قال: الملائكة.
قال: فمن {الذين بدلوا نعمت الله كفراً واحلوا قومهم دار البوار... جهنم} قال: منافقوا قريش.
قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك على الصحيحين 2: 506، ح 3736، وانظره وطرقه في عمدة القارئ 10: 19، تغليق التعليق: 318 ـ 319، كنز العمال 13: 159 ـ 162، الأحاديث المختارة 2: 126، ح 494 و176، ح 556 و298، ح 678، مسند الشاشي 2: 96، ح 620، تاريخ دمشق 27: 99، المعيار والموازنة: 298، نظم درر السمطين: 126، نهج السعادة 2: 631، الاحتجاج 1: 386، جواهر المطالب 1: 300 وفي بعض هذه المصادر ذكر الحديث مطولاً جداً وفيه أسئلة كثيرة أجاب عنها أمير المؤمنين ومن أحب فليراجعها.
وأنّ سماحه للصحابة بالاجتهاد لا التحديث ـ في أُخريات حياته ـ إنّما كان لتبرير فعله. وكذا أمرُه الصحابة بالإقلال من الحديث ففيه إشارة إلى أنّ الخليفة لا يستسيغ سماع المسائل التي لا يعرفها. وبهذا يخرج المنع من إطاره الخاصّ ليدلّل على أنّه أبعد ممّا قيل عنه، وأنّه لم يتعلّق بأمر الخلافة والإمامة فقط!
هـ ـ اشتهر عن عمر أنّه حدّث بفضائل علىّ وأهل البيت، لكنّه خاف من تفسيرها، ثمّ برَّر إبعاده أهل البيت عن الخلافة بكراهة قريش اجتماع النبوّة والخلافة فيهم.
فالتحديث بفضائل علىّ ـ بعد تسلّم عمر للخلافة ـ لا يضرّه بقدر ما كان يضرّه نشر فقه الفضائل والنصوص والحديث عن رسول الله; لأنّ في ذلك الفقه ما يجهر بتخالف اجتهاداته مع التنزيل وسنّة رسول الله وبالتالي يؤدّي إلى نقض أُموره وانقضاض المسلمين عليه، فالتضعيف لو قُدّر له أنّ يسري في كيان الدولة لجاء من ها هنا!
نعم، إنّ الخليفة بعد تسلّمه الخلافة كان لا يعجبه أن يسمع تفصيل وشرح وتفسير فضائل علىّ وأهل بيته لأنّ انتشارها وذيوع أمرها من شأنه أن يهزّ مكانة الخليفة ويضعضع موقعه القيادىّ. ومن شأنه أيضاً أن يقوّي الخصم ويكشف عن
إنّ إبعاد الإمام علىّ عن إمامة الفقه والسياسة كان من الأهداف الأساسيّة في دولة الخلفاء. وقد ورد هذا صريحاً في كلام ابن عبّاس: (لو قدّم مَن قدّم الله... ما عالت فريضة)(1) ; لأنّ التوعية الفقهيّة لا يقلّ شأنها عن التوعية السياسيّة، وإنّ تعرّف الناس على قدرة الإمام علىّ في الأحكام وضعفِ الطرف الآخر، سيؤدّي ـ بلا ريب ـ إلى التشكيك في مقدرة الخليفة العلميّة، فيسقط أحد جناحَي الخلافة بسقوط ما يفترض في الخليفة من القدرة العلميّة.
فالمنع من التدوين عموماً والإقلال من التحديث، ثمّ فتح باب الاجتهاد بالرأي والقياس وغيرها.. كلّ ذلك يوضّح أنّ للمنع من التدوين دوافع متعدّدة لا تقتصر على ما قاله الأعلام في السبب السابع.
وـ أنّ النصوص الواردة عن الصحابة ـ المعارضين لفقه عمر ـ يغلب عليها الجانب الفقهىّ أكثر من بيان الخلاف الإدارىّ والحكومىّ، وبمعنى أوضح: يغلب فيها فهم الأحكام الشرعيّة، على ما جاء في الإمامة والفضائل!
وقد مرّ عليك كلام ابن عبّاس: أقول لهم: قال رسول الله، ويقولون: قال أبو بكر وعمر! وقول ابن عمر: (أفسنّة عمر تتبع أم سنّة رسول الله)؟!(2) وقول
____________
1- السنن الكبرى للبيهقي 6: 253، باب العول في الفرائض، ح 12237.
2- البداية والنهاية 5: 141 وانظر مسند أحمد 2: 95، ح 5700 فقد جاء فيه: قال ابن عمر: وقد سأله اناس كيف تخالف أباك وقد نهى عن المتعة في الحج فرد ابن عمر قائلاً: أرسول الله أحقّ أن تتبعوا سُنّته أم سُنّة عمر، رواه البيهقي أيضاً في سننه الكبرى 5: 21، ح 8658.
فالمنع من نقل فضائل أهل البيت المفسَّرة وأدلّة الإمامة مع المنع عن نقل الفقه والأحاديث النبويّة، بل كلّ ما يوثّق مدرسة أهل البيت، كانت ضمن المخطّط الكلّيّ للخلفاء، ولتأكيد الموضوع إليك هذا النصّ.
عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قدِم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة 82 وهو ولىّ عهد، فمرّ بالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلّموا عليه. وركب إلى مشاهد النبىّ (صلى الله عليه وآله) التي صلّى فيها، وحيث أُصيب أصحابه بأُحد، ومعه أبان بن عثمان وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبد الله، فأتوا به قُباء، ومسجد الفَضِيخ ومَشْربة أمّ إبراهيم وأُحداً، وكلّ ذلك يسألهم ويخبرونه عمّا كان.
ثمّ أمر أبانَ بن عثمان أن يكتب له سيرة النبىّ (صلى الله عليه وآله) ومغازيه، فقال أبان: هي عندي، قد أخذتها مُصحّحة عمّن أثق به.
فأمر بنسخها، وألقى فيها إلى عشرة من الكتّاب، فكتبوها في رقّ. فلمّا صارت إليه، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر.
فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا.
فقال أبان بن عثمان: أيّها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه أن نقول بالحقّ: هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.
قال: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لأمير المؤمنين، لعلّه يخالفه. فأمر
____________
1- صحيح البخاري 2: 567، باب التمتع والإقران والإفراد، ح 1488، ومسند أحمد 1: 135، ح 1139 وغيرها من الكتب الحديثة.
فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر عبد الملك بالذي كان من قول أبان، فقال عبد الملك: وما حجّتك أن تقِدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟! تُعرِّفُ أهلَ الشام أُموراً لا نريد أن يعرفوها.
قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتّى أستطلع رأي أمير المؤمنين، فصوّب رأيه(1).
وإليك الآن بيان لمراحل المنع وكيفية التدرج بالمواقف والحلول حتى صارت فكرة منع تدوين الحديث وفتح الإجتهاد هما الشرعية المتبعة في الصدر الاول من خلال كل الملابسات التي وقفت وستقف عليها.
____________
1- الموفّقيّات للزبير بن بكّار: 332 ـ 333، وللخبر ذيل راجعه.
مراحل المنع
انكشفت لنا حتّى الآن أنَّ منع التدوين والتحديث ـ الذي جرَّ إلى فتح باب الاجتهاد والرأي ـ قد مرَّ بمراحل أساسيّة، وأشواط معيّنة، ولم يكن تعبّداً متلقّ عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، وكانت أهمّ تلك المراحل هي:
1 ـ شيوع ظاهرة كثرة الحديث
لمّا كثرت اجتهادات الشيخين ـ ومن على نمطهما الفكرىّ من الصحابة ـ وظهر التخالف بين أقوال المجتهدين وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كان من البديهىّ أن يكثر التحديث عن النبىّ باعتباره أمراً ضروريّاً للوصول إلى الحكم الشرعىّ الصحيح بأنقى صوره، ولكون تلك الاجتهادات قد تميّزت تميُّزاً واضحاً عن مسيرة التحديث بشكل عامّ، حيث أَلِفَ الصحابة التحديث وكانت مسألة طبيعيّة عندهم، فمن المحتمل ـ بعد هذا ـ أن يكون قول الخليفة الأوّل (إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً) إشارة إلى تعدّد الاتّجاهات في عهده، وتبنّي كلّ واحد من الصحابة وجهة نظر خاصّة، وهذا هو ممّا يسبب توسيع رقعة الاختلاف بين المسلمين فيما بعد، وعلى كل حال فالتحديث كان تيّاراً قويّاً في زمن أبي بكر، واستحكم وجوده من بعد مقابل التيار الاجتهادي المنفلت، وهذا ما ظهر على لسان الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، لقوله لهم: (أكثرتم الحديث عن رسول
2 ـ منع أبي بكر من التحديث وإحراقه مدوّنته
بعد أن كثر التحديث عن رسول الله وصار مدّاً عارماً، أمر الخليفة أبو بكر الصحابة بعدم التحديث عن النبىّ، فقال: (لا تحدّثوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله...) ثمّ أعقب ذلك بحرق مدوّنته الحديثيّة، حينما قال لابنته عائشة: (أي بُنيّة! هلمّي الأحاديث التي عندكِ) فلمّا جاءته بها (دعا بنار فحرقها) إلى آخر الخبر.
3 ـ أمر عمر الصحابة بالإقلال من الحديث
نظراً لاستمرار ظاهرة التحديث والإكثار منه ـ على عهد الخليفة عمر بن الخطّاب ـ وعدم انصياع الصحابة المحدّثين لما كان يتوخّاه أبو بكر، راح الخليفة عمر يواصل سيرة أبي بكر بإلحاح أكثر وإصرار متزايد، فشايع وفد الصحابة إلى الكوفة ـ إلى موضع صرار قرب المدينة ـ لأجل أن يقول لهم (أقلّوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا شريككم)، وقوله (أقلّوا الرواية عن رسول الله إلاّ فيما يعمل به) أو (كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً) و...
4 ـ جمع عمر مدوّنات الصحابة وإحراقها
إنَّ النهي عن التحديث وإحراق الخليفة الأوّل لمدوّنته لم يُقابَلْ ـ من قِبَلِ الصحابة ـ بما يسرّ الشيخين، فقد بقيت هناك مدوّنات عند كثير من الصحابة، ومع وجود المدوّنات والمدوّنين لا يتأتّى للخليفة ما يريده، فكان أن اتّخذ عمر بن الخطّاب خطوة جمع فيها المدوّنات عِبْرَ قوله لهم: (فلا يبقيّن أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به) وقد كانوا يظنّون أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، لكنّهم فوجئوا بإحراقه لها لقول الراوي: (فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار).
ولأنَّ المدوَّن المكتوب في الصدر الأوّل وبقلم صحابىّ له من القيمة ما يجعله قادراً على نقض رأي الخليفة، بخلاف التحديث إذ يمكن معارضة الحديث بحديث آخر يوضع في الآن وعلى البديهة، أمّا المدوّنة فلا يمكن رسم بديلها على البديهة، ولأجله نراهم يسمحون بالتحديث ويمنعون التدوين!
واحتمل بعض الكتّاب أن يكون السماح بالتحديث والمنع من التدوين جاء لاعتقاد فرقة من اليهود بالكتابة; خلافاً لأخرى داعية إلى الحفظ.
وبما أنَّ كعب الأحبار ووهب بن منبّه كانا ممّن يستشيرهم الخليفة عمر، فمن المحتمل أن يكون قد تأثّر برأيهما في السماح بالتحديث والمنع من التدوين، لأنّه كان يحتاج إلى تحديد بعض النقول عن رسول الله، والتفكيك بينهما خير علاج للقضيّة، فجاء عن عمر أنّه سأل كعب الأحبار عن الشعر فأجابه: بأنَّ قوماً من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة(1)، وفي آخر عن وهب أنّه قال: إنَّ موسى قال: يا ربّ! إنّي أجد في التوراة أُمّة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان مَنْ قَبْلَهُمْ يقرؤون في كتبهم نظراً ولا يحفظونها فاجعلهم أُمّتي، قال: تلك أُمّة أحمد(2).
وجاء في (الفكر الدينىّ الإسرائيلىّ) للدكتور حسن ظأظأ: 79 عن التلمود حيطين 60 ب ـ تمورا ـ 14ب (أنَّ الأمّة التي تروي مشافهة ليس لك الحقّ في إثباتها بالكتابة)(3).
____________
1- العمدة في معرفة صناعة الشعر لابن رشيق 1: 25.
2- تاريخ دمشق 3: 395، البداية والنهاية 6: 62، سبل الهدى والرشاد 10: 359.
3- انظر بحوث مع أهل السنّة والسلفيّة للروحانىّ: 97، تاريخ التشريع الإسلامىّ للفضلىّ:40، والصحيح من سيرة النبىّ للعاملىّ.