5 ـ حبسه بعض الصحابة وأمره الجميع بترك التحديث والتدوين
مع كلّ الخطوات المتواصلة، والتدابير المتضافرة، بقي بعض كبار الصحابة يحدّث ويروي ما سمعه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير عابى برأي الخليفة.
وحيال هذه الحالة لم يقف عمر مكتوف الأيدي، بل أصدر قرارات صارمة تمنع منعاً باتّاً عن التحديث والتدوين، وذلك في قوله في خطبة له أوردها ابن شبّة في منع عمر للصحابة من التحديث: (إنَّ حديثكم هو شرّ الحديث، وإنّ كلامكم هو شرّ الكلام، من قام منكم فليقم بكتاب الله وإلاّ فليجلس)(1)، وفي مثل تهديداته لناقلي حديث رسول الله، كما مرَّ في قضيّة عمّار بن ياسر وأبي موسى الأشعرىّ وغيرهما وعباراته التهديديّة في المنع لهم.
واستكمالاً للمنع أقدم الخليفة عمر بن الخطّاب على حبس الصحابة المحدّثين في المدينة المنوّرة كي يكونوا تحت نظره وإشرافه ولئلاّ يحدّثوا بما يخالف رأيه، فجاء النصّ يقول:
إنَّ عمر بن الخطّاب حبس بعض أصحاب النبىّ...، وفي آخر عن عبد الرحمن بن عوف قوله: (ما مات عمر بن الخطّاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله من الآفاق... وقال: أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشتُ، فما فارقوه حتّى مات) وغيرها من النصوص المتقدّمة.
6 ـ حصر العمل بكتاب الله
وكبديل عن الحديث النبوىّ، أو كتعليل للمنع، طرح الخليفتان مفهوم (بيننا وبينكم كتاب الله) و(حسبنا كتاب الله) و(لا ألبس كتاب الله بشي أبداً) لما فيه من تهرّب من التعبّد بنصوص السنّة وجعل العمل في دائرة أوسع وهو القرآن الكريم الذي يعتقد به الجميع ويقدّسونه.
____________
1- أخبار المدينة المنوّرة 3: 800.
7 ـ سماح الخليفة عمر للصحابة بالاجتهاد والقياس
لمّا رأى الخليفة كثرة المسائل الواردة عليه ـ التي لا يرى نصوص شرعيّة فيها ـ رأى من الضرورة السماح بالاجتهاد لنفسه وللصحابة، وليكون القياس والمصلحة وغيرهما مبانىَ أساسيّة في التشريع الإسلامىّ.
8 ـ محاولة حصر الاجتهاد
ثمّ إنَّ الاجتهاد ـ بوسعته هذه ـ أخذ مأخذه عند الصحابة، فتضاربت الآراء واختلفت، وصار من الصعب ترجيح رأى على آخر، وهذا هو الذي دعا الخليفة أن يصعد المنبر ويحذّر الصحابة من اختلافهم، وهو أيضاً جعله يقول لمن جمعهم عنده: (نحن أعلم منكم، نأخذ عنكم ونردّ عليكم) وغيرها.
إنَّ التأكيد على سيرة الشيخين في الشورى، وسماح عثمان ومعاوية في الاكتفاء بالأحاديث التي عُمِل بها في عهد عمر لا غير، وقرار الخليفة عمر بن عبد العزيز حصره التدوين (بسنّة صاحبيه، أمّا غيرهما فنرجئهما)(1) وغيرها من النصوص آنفة الذكر.
تدلّ هذه المراحل على أنَّ آراءَهما أصبحت سنّة يُعمَل بها، وأنَّ اجتهادهما صار أصلاً ثالثاً في التشريع الإسلامىّ لم يكن يدّعيه ـ الشيخان ـ من قبل.
وبهذا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه إسماعيل أدهم وتوفيق صدقي ورشيد رضا(2)ومنكرو السنّة في الباكستان القائلين بلزوم الاكتفاء بالقرآن، إنّما كان كلامهم نتيجة حتميّة لمنع الشيخين من كتابة وتدوين حديث رسول الله.
واستبان لك كذلك عدم صحّة ما علّل به الشيخان في المنع، وما علّله به
____________
1- فعن حاجب بن خليفة البرجمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب النّاس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه وما سن سواهما فإنا نرجئه. حلية الأولياء 5: 298، تاريخ الخلفاء 1: 241.
2- انظر دراسات في الحديث النبوىّ للدكتور الأعظمىّ: 32.
تلخّص ممّا سبق أمران:
الأوّل:
أنّ النهي عن كتابة الحديث لم يكن نهياً شرعيّاً، ولم يصحّ ما نُسب من الروايات ـ الناهية عن التدوين ـ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). بل إنّ قرار النهي والمنع كان نابعاً من موقف سياسىّ فقهي ممتزج اتّخذه الخليفة عمر بن الخطّاب ومِن بعده الخلفاء. ومن الطبيعىّ أن تنقل روايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنع لتصحيح مواقف الخليفة.
إذ لو ثبت المنع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعُرف هذا بين المسلمين لما دوَّن أبو بكر خمسمائة حديث، ولما تلقّى عمّن ائتمنه ووثق به! ولما كتب إلى عمرو بن العاص وأنس بن مالك بأحاديث رسول الله في الصدقة وغيرها، ولما جمع عمر بن الخطّاب الصحابة ليستشيرهم في التدوين، ولَمَا أشاروا عليه بذلك، ولَما قال عمر: (فلا يُبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به).
كلّ هذه النصوص فيها إشارة إلى مشروعيّة التدوين. وسنقدّم بإذن الله دراسة مفصّلة عن فقه الصحابة المدوِّنين للسنّة، والأنصار، والصحابة الذين شهدوا مع علىّ بن أبي طالب حروبه، كي نرى تخالف فقه هؤلاء مع فقه النهج الحاكم المانع للتحديث والكتابة والتدوين، ولنؤكّد على أنّ المحدثين الكاتبين المدوّنين الشاهدين مع علىّ حروبه من الصحابة وقسماً كبيراً من الأنصار كانوا من أنصار التعبّد المحض.
فالخليفة الثاني بعد أن علم بوجود مكتوبات ومدوّنات عن رسول الله عند
والمتدبِّر في نصوص المنع المدّعى عن رسول الله يدرك أنّ المنع إنّما حَدَث بعد مشروعيّة التدوين، أي أنّ رسول الله منع عن التدوين ـ طبق ادّعائهم ـ بعد أن كان قد سمح لهم بالتدوين أوّلاً، لقوله: (ومَن كتب فَلْيَمْحُه)(1). وهذا ينقض ما قاله الدكتور صبحي الصالح وغيره من أنّ رسول الله نهى عن التدوين في أوَّل الدعوة; خوفاً من اختلاط الحديث بالقرآن، لكن لمّا دُوّن القرآن سمح بتدوين حديثه(2)
ومرّةً أُخرى.. فإنّ قرار المنع كان قراراً حكوميّاً لم يكتسب شرعيّته من السنّة، لِما مرّ عليك من النصوص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصريحة في الحث على العلم والتعلم والتحديث والكتابة والتدوين، وأنّه (صلى الله عليه وآله) جعل فداء كل واحد من أسرى بدر تعليم عشرة من المسلمين الكتابة، وتأكيده (صلى الله عليه وآله) على نشر أحاديثه، فكلام الدكتور صبحي الصالح وغيره يقرِّرُ أنّ التدوين جاء بعد المنع، لكنّ الخبر السابق يؤكّد عكسه بجلاء!
وهكذا توصّلنا إلى أنّ المنع كان له بُعدان، الأوّل: سياسىّ، والثاني: فقهىّ. وقد وقفت على تفصيله، وكان الاختلاف في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نتائج هذا القرار. مضافاً إلى العوامل المذهبيّة و...
وبذلك يتبين أيضاً أنّه لا يصحّ أيضاً ما ذهب إليه جولدتسيهر من أنّ أحاديث النهي عن الكتابة وضَعَها أهلُ الرأي وأنّ الأحاديث التي تثبت الحديث وضعها أهل
____________
1- من حديث أبي سعيد الخدري: صحيح مسلم 4: 2298، باب التثبت في الحديث، ح 3004، سنن الدارمي 1: 130، باب من لم ير كتابة الحديث، ح 450، مسند أحمد 3: 12، ح 11100.
2- علوم الحديث ومصطلحه: 7 ـ 9، السنّة قبل التدوين 53: 306 ـ 307.
ومن هذا المنطلق لا أرى ضرورة لأن يقوم بعض الكتّاب بالجمع بين أحاديث الحظر وأحاديث الإباحة، لاعتقادي بكون الأمر لا يعدو ما قلناه، وقد وقفت على تفاصيله. وهو أهمّ ممّا قيل في وجوه الجمع بينها كالقول: بأنّ بعض الأحاديث مرفوعة والأخرى موقوفة، ويلزم ترجيح المرفوعة على الموقوفة.. وما شابه ذلك من وجوه الجمع.
تخوف الصحابة من كتابة الرأي لا الحديث
أمّا ما جاء من نهي الصحابة والتابعين عن الكتابة وعدم رغبتهم فيها.. فَمَردّه إلى ما انطبع في نفوسهم من النهي الحكومي، وكون أقوالهم قد صدرت عن رأي، فكانوا لا يرتضون تثبيتها بالكتابة حرصاً على عدم اختلاطها بالمرويّات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بل حرصاً على عدم ظهور تناقضاتهم الاجتهادية فيما بينها وتعارضها مع سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
نعم، إنّهم كانوا يسجّلون آراءهم لأنفسهم كي لا يحصل الاختلاف بين ما قالوه اليوم مع ما قالوه بالأمس، مع أنّ نشر تلك الصحف كان لا يُرضيهم فيجدّون لحرقها ومحوها. فقد جاء عن الشعبىّ: أنّ مروان أجلس لزيد بن ثابت رجلاً وراء الستر، ثمّ دعاه فجلس يسأله ويكتبون، فنظر إليهم زيد، فقال: يا مروان عذراً، إنّما أقول
____________
1- انظر دراسات في الحديث النبوىّ: 82.
قال الدكتور محمد عجاج الخطيب:
وقد ازدادت كراهة التابعين للكتابة عندما اشتهرت آراؤهم الشخصيّة، فخافوا أن يدوّنها طلاّبهم مع الحديث، وتُحمل عنهم فيدخله الالتباس. ويمكننا أن نستنبط أنّ من كره الكتابة وأصرّ، إنّما كره أن يدّون رأيه، وفي هذا يقول أُستاذنا الدكتور يوسف العش: (وأمّا من ورد عنهم الامتناع عن الإكتاب من هذا الجيل، فيؤول امتناعهم بما لا يخالف ما انتهينا إليه; فهم جميعاً فقهاء وليس بينهم محدّث ليس فقيه، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلى جانب أحاديث الرسول). ثمّ يوضّح هذا بأمثلة تثبت ما ذهب إليه، فيقول: إنّنا نجد في الواقع أخباراً تروي كراهتهم لكتابة الرأي، كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه مروان، وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب ـ وهو من الفقهاء والذين روي امتناعهم عن الإكتاب ـ فسألة عن شي، فأملاه عليه ثمّ سألة عن رأيه فأجابه، فكتب الرجل.
فقال رجل من جلساء سعيد: أيكتب يا أبا محمّد رأيك؟
فقال سعيد للرجل: نإولْينها، فناوله الصحيفة فخرّقها(2).
وقيل لجابر بن زيد: إنّهم يكتبون رأيك! قال: تكتبون ما عسى أن أرجع عنه غداً؟!(3).
وقال الدكتور صبحي الصالح:
وممّا زاد من كراهة القوم للكتاب أنّ آراءهم الشخصيّة بدأت تشتهر، فكانوا يخشون إذا كتب الناس عنهم الأحاديث أن يكتبوا إلى جانبها هاتيك الآراء. ولدينا
____________
1- الطبقات الكبرى 2: 361.
2- انظر تمام الخبر في جامع بيان العلم وفضله 2: 144.
3- جامع بيان العلم وفضله 2: 31 وكلام الدكتور محمّد عجاج الخطيب في (السنّة قبل التدوين): 323 و324.
فمن المحتمل أن يكون رجوع الخليفة عمر بن الخطّاب عمّا كتبه في الجَدّة كان من هذا الباب ـ أي خوفاً من ظهور تضارب آرائهم فيما بينها وتعارضها مع سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ، وكذا ما جاء عن الصحابة والتابعين، وأمرهم أولادهم بمحو كتبهم وإماثتها بالماء، إنّما جاءت لأنّ هذه الكتب كتبت عن رأي، لا لِما صحّ عندهم من حديث عن رسول الله!
وقال الدكتور محمّد عجاج الخطيب:
(وكلّ هذه الأقوال رُوِيت من علماء، حَدَّث المؤرِّخون عنهم أنَّهم كرهوا إكتاب الناس، وهي تدلّ دلالة صريحة على أنّ الكراهة ليست في كتابة العلم (أي الحديث)، بل في كتابة الرأي. وأنّ الأخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنّما تقصد الرأي خاصة...) إلى أن يقول: ويقوّي هذا الرأي عندنا ما ورد عن هؤلاء التابعين من أخبار يحثّون فيها على الكتابة، ويسمحون لطلاّبهم أن يكتبوا عنهم في الحديث(3).
عرفت بهذا أنّ ما كُتب عن زيد كان آراءه الشخصيّة، ولهذا كرهها زيد. وكذا الحال بالنسبة لكراهة سعيد بن المسيِّب وغيره، والمراجع لكتب الرجال والحديث يقف على نصوص كثيرة في هذا السياق(4).
من المؤكَّد إذن أنّ عمل هؤلاء الصحابة ليس دليلاً على كراهيّة تدوين السنّة
____________
1- علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح: 34.
2- تقييد العلم: 57 والتصدير للدكتور يوسف العش: 21.
3- السنّة قبل التدوين: 324.
4- انظر مثلاً جامع بيان العلم وفضله 1: 74 وتقييد العلم: 64.
وخصوصاً بعد أن آمنّا بأنّ الشيخين كانا وراء منع التدوين، وأنّ المنع كان موقفاً شخصيّاً فرضته الظروف عليهما ولم يكتسب شرعيّته من النصوص، إذ قال الشيخ محمّد أبو زهو في كتابه (الحديث والمحدِّثون) عن النهي: (... وقد كان هذا رأياً من عمر)(2). قال يحيى بن جعدة: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب في الأمصار: (مَن كان عنده منها شي فليمحه)!
إنّ تعابير (أراد) و(بدا له) و(ثمّ كتب في الأمصار) تدلّ بوضوح على أنّ إقدام الخليفة عمر بن الخطّاب كان بدافع من رغبته الشخصيّة وإرادته الخاصّة، كما في دلائل (التوثيق المبكّر): أنّ هؤلاء الذين كانوا قد وقفوا في معارضة كتابة الحديث كانت لهم أسبابهم الشخصيّة في ذلك، بل وحتّى الفاروق الذي كان يُعدّ من أشدّ معارضي الكتابة لم ينقل أو يستشهد بأىّ حديث للنبىّ (صلى الله عليه وآله) يؤيّد وجهة نظره المعارضة للتسجيل(3).
وكذا قول القاسم بن محمّد بن أبي بكر: (إنّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكَرَها وكرهها)، يدلّ على أنّ الكراهة جاءت من عمر لا من النبىّ، وأنّ
____________
1- كما حققنا ذلك وطبقناه في (وضوء النبي) وغيره.
2- الحديث والمحدّثون: 126.
3- التوثيق المبكّر: 239 كما في تدوين السنّة الشريفة: 288.
وعليه فسياسة الخليفة عمر بن الخطّاب كانت منع الحديث عموماً بما فيه من الفضائل والأحكام، وقد صدرت عن رأيه الشخصىّ، ولم تكسب شرعيّتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإنّ إعراضنا عن الجمع بين الروايات الناهية والآذِنة كان لهذا السبب.
الثاني:
ارتسام نهجين في الشريعة يخالف كلّ منهما الآخر في الأصول والمباني.
فالبعض: يذهب إلى مشروعيّة الأخذ بالرأي والظنّ، المقابل للدليل القطعىّ، ويقول بحجّيّة اجتهادات عمر بن الخطّاب في سهم المؤلّفة قلوبهم، وغيرهما من القضايا والأحكام.
والبعض الآخر من الصحابة لا يرتضي مثل هذه الاجتهادات، إلاّ إذا كانت مستنبطة من النصّ قرآناً أو سنّةً. وهؤلاء يعتقدون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من المتعبّدين بالنصوص، وأنّه كان لا يقول بالرأي والظنّ، بل ينتظر الوحي ليفصل في الوقائع ويبتّ في الأحكام، وقد قال سبحانه وتعالى عنه: {ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى}(1)، وقال جلّ جلاله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ بما أراكَ الله}(2).
أمّا قوله تعالى: {وَما كانَ لمُؤمن وَلا مُؤمنة إذا قَضَى اللهُ ورسولُه أمراً أنْ يكونَ لَهُمُ الِخيَرَةُ مِن أمَرِهِمْ}(3)، فهو نصّ في تفنيد مدرسة الاجتهاد والرأي، ومثله قوله تعالى {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة}(4)، فهو نصّ صريح يدحض فعل أُولئك المجتهدين الذين يريدون التعرّف على المصلحة وهم بحضرة
____________
1- النجم: 3 ـ 4.
2- النساء: 105.
3- الأحزاب: 36.
4- القصص: 68.
فالاجتهاد والأخذ بالظنّ في الأمور ليس لهما دليل قطعىّ من الوحي، بل هو تعدّ على صاحب الشريعة، وإفتاء بغير ما أنزل الله لقوله {قُلْ ءآللهُ أذِنَ لَكُمْ أمْ عَلى اللهِ تَفْتَروُن}؟!(2)
نعم، كان الصحابة المتعبدون لا يجوّزون الأخذ بالرأي، لمعرفتهم بوجود من يعرف التنزيل والتأويل بينهم ومن خصّه الله بالفهم والعلم، ولمعرفتهم بجواز ترك الأخذ باجتهاد الصحابىّ; لأنّ كلامه مجرّد رأي شخصىّ يمكن تركه، وليست له قيمة إلزاميّة في الشريعة الإلـهيّة، كما هو ثابت ومعروف عند الجميع.
إنّ ترجيح رأي الشيخين على كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أو الأخذ بقولهما دون البحث عن تطابقه مع القرآن والسنّة، ممّا لا يثبت أمام الحقائق، وكذا القول بأنّ الخليفة أعلم من غيره بمقصود الشارع!
نعم، إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان يريد تحقيق أمر ضرورىّ لحكومته ألا وهو: عدم تخطئة اجتهاداته بعد وفاته، بل لزوم جعل ما قاله من ضمن الشريعة، وهذا هو الذي دعا ابنَ عوف لأخذ العهد من عثمان عليه لقوله (على كتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين) وبعبارة أخرى تحديد المسلمين ب (ما سُنَّ على عهد الشيخين); لأنّ المخالفة لتلك الاجتهادات تعني تقوية الجناح المخالف لنهج الخليفة!
وعثمان حينما قبل بالشرط المذكور، كان يريد العمل بمقتضاه، لكنّه تخطّى ذلك في
____________
1- شرح نهج البلاغة 12: 53.
2- يونس: 59.
أمّا الإمام علىّ بن أبي طالب فإنّه لم يرتضِ الاجتهاد قِبال النصّ، ولم يرتضِ الشرط الأخير المقترَح من قبل ابن عوف (أي سيرة الشيخين)، واقتصر قبوله على الأصلين الأوّلين: كتاب الله وسنّة نبيّه(1).
وبذلك تميّز في الشريعة نهجان متباينان:
نهج يمثّله الإمام علىّ بن أبي طالب وأتباعه كعبد الله بن العبّاس وعمّار بن ياسر وأبي ذرّ وسلمان و... ومن بعدهم الحسن بن علىّ، والحسين بن علىّ، وعلىّ بن الحسين، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم... وباقي أئمّة أهل بيت النبىّ (صلى الله عليه وآله).
والنهج الآخر يمثّله: الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان بن عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان وأتباعهم كعمرو بن العاص وابنه وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وسمرة بن جندب، وهشام بن عبد الملك، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد... وسواهم من حكّام بني أُميّة وبني العبّاس.
أجل، إنّ الذين قالوا بالرأي قد استخدموا الاجتهاد والتأويل الباطل للخروج من إحراجات صارخة، منها أنّهم عمدوا إلى الاجتهاد والتأويل ليعذروا عبد الرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب مع العلم أنّ ابن ملجم ليس من الصحابة، ومع هذا يبحثون له عن هذا المخرج!
ومن أجل أن يعذروا يزيدَ في قتله الحسين!
ويعذروا أبا العادية لقتله عماراً!
ويعذروا معاويةَ لسمّه الحسن، ومن قبله عثمان لحرقه المصاحف، وعمرَ لحرقه الحديث، وأبا بكر في تأويلاته لقتل مالك والزنا بزوجته!
____________
1- انظر تاريخ اليعقوبي 2: 162، أمالي الطوسي: 709.
وإليك الآن بعض الشي عن الظلامة التي مُني بها أهل البيت جراء ثباتهم على العقيدة وإصرارهم على إبقاء الدين بعيداً عن شوب الشائبين وإحداث المحدثين.
موقف الإمام عليّ
وقد وضّح الإمام علىّ ما لقي بنو هاشم من القرشيّين وكيف أنّهم غيرّوا دين الله فقال: إنّ الله لمّا قَبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودُفِعنا عن حقّ نحن أحقّ به من الناس كافّة، فرأيتُ أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخضَ الوطب، يُفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خُلْف(1).
وفي رسالته (عليه السلام) إلى أخيه عقيل:
(... ألا وإنّ العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعَها على حرب رسول الله قبل اليوم...)(2).
وفي كلام آخر يقول الإمام: (اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش; فإنّهم قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنتُ أولى به من غيري، وقالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسّفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلاّ أهل بيتي...)؟(3).
____________
1- شرح النهج 1: 308 من خطبته 7 عند مسيره إلى البصرة.
2- انظر نهج البلاغة 3: 60 ـ 61، الخطبة 36، المعيار والموازنة: 180، الإمامة والسياسة 1: 54، شرح النهج 2: 119، جواهر المطالب 1: 365.
3- نهج البلاغة 2: 202، الخطبة 217، المعيار والموازنة: 47 وقد روى جزءً منه، شرح نهج البلاغة 4: 104.
نصّ آخر
وجاء في كلام الباقر لبعض أصحابه:
(يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيّانا، وتظاهُرِهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس؟!
إنّ رسول الله قُبض وقد أخبر أنّنا أولى الناس بالناس، فتمالأتْ علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثمّ تداولَتها قريش واحداً بعد واحد، حتّى رجعت إلينا، فنُكِثت بيعتنا ونُصِبت الحرب لنا. ولم يزل صاحب الأمر في صَعُود كَؤُود حتّى قُتل.
فبويع الحسن ابنه وعُوهد، ثمّ غُدِر به وأُسْلِم، ووثب عليه أهل العراق، حتّى طُعِن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أُمّهات أولاده، فوادعَ معاويةَ وحقنَ دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حَقُّ قليل.
ثمّ بايع الحسينَ (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غَدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه.
ثمّ لم نَزَل أهلَ البيت نُستذل ونُستضام، ونُقصى ونمتهن، ونُحرم ونُقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة، فحدّثوهم
____________
1- نهج البلاغة 2: 36، الخطبة 150، في الملاحم، شرح النهج 9: 132.
وكان عُظْم ذلك كبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) ، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكلّ من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن، أو نُهِب ماله، أو هُدِمت داره. ثمّ لم يَزَل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد، قاتل الحسين (عليه السلام).
ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة، حتّى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال: شيعة علىّ! وحتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ولعلّه يكون وَرِعاً صدوقاً يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنّها حقٌّ لكثرة من قَد رواها ممّن لم يُعرف بكذب، ولا بقلّة ورع)(1).
وفى كلام للإِمام علىّ يشير فيه إلى عدم عمل الأمّة بكتاب الله وسنّة رسوله، بل غلبة الاتّجاهات عليهم، قال:...فيا عجباً وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أَثَر نبىّ ولا يقتدون بعمل وصىّ ولا يؤمنون بغيب، ولا يَعِفُّونَ عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنَّ كلّ امرى منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعُرىً ثقات وأسباب محكمات...(2)
وقوله: إنَّ الكتاب لمعي ما فارقته منذ صحبته، فلو كنّا مع رسول الله... إلى أن يقول: ولكنّا إنَّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ
____________
1- شرح نهج البلاغة 11: 43 ـ 44.
2- نهج البلاغة 1: 56 ضمن الخطبة 88، شرح النهج 6: 384.
ومن خطبة له بعد انصرافه من صفّين جاء فيها:... والناس في فتن انجذم(2) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين (3) واختلف النجر(4) وتشتّت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عُصِي الرحمنَّ، ونُصِر الشيطان، وخُذِل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكَّرت معالمه، ودرست سبله، وعفَّت شركه...(5)
ومن كلام آخر له:... ما زلتُ أنتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسّمكم بحلية المغترين، سترني عنكم جلباب الدين، وبصّرنيكم صدق النيّة، أقمت لكم على سنن الحقّ في جوادِّ المَضَلَّة حيث تلتقون ولا دليل وتحتفرون ولا تميهون...(6)
دلائل ومؤشّرات
نعم، إنّ قريشاً قد جدّت في مقاطعة بني هاشم في بدء الدعوة، لكنّ الهاشميّين صمدوا ثلاث سنين في شِعب أبي طالب وتحمّلوا حصار العرب.
ثمّ أجمعت العرب على أن تشترك في قتل النبىّ، فلا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه. ومن أجل هذا قال رسول الله عن الهاشميّين مادحاً لهم: (إنهّم لم يفارقوني في جاهليّة ولا إسلام وإنّما نحن وهم شي واحد)، وشبك بين أصابعه(7).
____________
1- نهج البلاغة 1: 36 من ضمن الخطبة 122.
2- أي انقطع.
3- السواري: جمعُ ساريه، وهي العمود والدعامة.
4- أي الأصل.
5- نهج البلاغة 1: 29، ضمن الخطبة 2، شرح النهج 1: 136.
6- نهج البلاغة 1: 29، ضمن الخطبة 4، شرح النهج 1: 207.
7- سنن أبي داود 3: 146، ح 2980، سنن النسائي (المجتبى) 7: 130، ح 4137 والنص منه، مسند أبي يعلى 13: 396، 7399.
فمثلما اجتمعت العرب على محمّد (صلى الله عليه وآله) تحاربه، فإنّها قد اجتمعت على أهل بيته تضادّهم وتستأصلهم من بعده. وإنّ ما بدأوا بالإعلان عنه في عهد الرسول هو الذي اتّسع ورُسِّخ لاحقاً، ذلك أنّ غير أهل البيت قالوا بمشروعيّة الرأي، وجواز التعرّف على المصلحة، وإدراك ملاكات الأحكام، والنهي عن التدوين وغيرها من المستحدثات.
وأنت تعلم أنّ هذا كلّه قد طُبِّق عمليّاً فيما بعد; فولاية العهد غدت شرعيّة ـ بعد قولهم بأنّ رسول الله لم يستخلف أحداً ـ استناداً إلى فعل أبي بكر في الاستخلاف.
وصار التدوين مكروهاً مقيتاً لكراهة عمر له وجائزاً لتدوين ابن عبد العزيز له.
وصِيرَ إلى القول بعدم اجتماع النبوّة والإمامة وأنّ رسول الله لم يورّث اتّباعاً لِما ذهب إليه الشيخان.
ومن الطريف هنا أن ننقل كلام الإمام علىّ لعمّه العبّاس حينما بويع عثمان، إذ قال له العبّاس: ألم أقل لك؟
فقال له [علىّ:] يا عمّ! إنّه قد خَفِي عليك أمر. أما سمعتَ قوله [أي قول عمر ]على المنبر: ما كان الله ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوّة؟! فأردت أن يكذّبَ نفسَه بلسانه، فيعلم الناسُ أنّ قوله بالأمس كان كذباً باطلاً وأنّا نصلح للخلافة؟! فسكت العبّاس(1).
فلو كان حقّاً أنّ رسول الله لا يورّث فلمَ قال أبو بكر: (لقد دفعت آلة رسول الله
____________
1- علل الشرائع: 171، باب 133، ح 2، وعنه في بحار الأنوار 31: 355 ـ 356.