لا أدري كيف لا يُتعجَّب من إيتاء الكتاب والحكمة والمُلك لآل إبراهيم ويُتَعَجَّبُ من أن يُؤتى آل محمّد مثلما أوتي آل إبراهيم؟! قال الحقّ سبحانه وتعالى: {أمْ يَحْسُدون الناسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}(2).
قال علىّ بن أبي طالب: والله ما تنقم قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا(3).
وقد مرّ عليك رسالة معاوية لمحمّد بن أبي بكر: (...فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه وخالَفه، على ذلك اتّفقا واتّسقا...)(4).
إنّ ما أُريد التأكيد عليه هو أنّ الفقه قد مُنِيَ بمحنة انفعاله بالدوافع السياسيّة، والمواقف الحكومية، وأنّ الأحكام الدينيّة صارت لا تُعرَفُ لخلفيّات خاصّة أملتها السلطات ـ والخلفاء أصحاب الرأي ـ.
وننقل هنا نصّاً عن (الاعتصام) رواه عن ابن العربىّ ـ وهو يكشف عمّا ذكرناه ـ قال ابن العربىّ: كان شيخنا أبو بكر الفهرىّ يرفع يدَيه عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وهو مذهب مالك والشافعىّ، وتفعله الشيعة، فحضر عندي يوماً في مَحْرَس ابن الشواء بالثغر موضع تدريسي، عند صلاة الظهر ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدّم إلى الصفّ الأوّل، وأنا في مؤخّره قاعداً على طاقات البحر،
____________
1- انظر شرح نهج البلاغة 16: 214.
2- النساء: 54.
3- نهج البلاغة 1: 82، من ضمن الخطبة 33.
4- جمهرة رسائل العرب 1: 477 عن مروج الذهب 2: 60، شرح النهج 3: 190.
فلمّا رفع الشيخ الفهرىّ يدَيه في الركوع وفي رفع الرأس منه، قال أبو ثمنة وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقىّ كيف دخل مسجدنا؟! قوموا إليه فاقتلوه وارموا به إلى البحر فلا يراكم أحد!!
فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله! هذا الطرطوشىّ فقيه الوقت، فقالوا لي: ولِمَ يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبىّ (صلى الله عليه وآله) يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.
وجعلت أُسكّتهم وأُسكّنهم، حتّى فرغ من صلاته، وقمت له إلى المسكن من المحرس، ورأى تغيّر وجهي فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك، وقال: ومن أين لي أن أُقتل على سُنَّة؟!
فقلت: ولا يحلّ لك هذا؟ فإنّك بين قوم إن قمتَ بها قاموا عليك، وربّما ذهب دمُك.
فقال: دع هذا الكلام، وخُذ في غيره(1).
فابن العربىّ قد دعا أُستاذه الشيخ الفهرىّ إلى التقيّة، بَيْدَ أنّ الأستاذ كان يحبّ القتل على السنّة!
ومن أمثلة الانفعال بالدوافع السياسيّة ما نراه في موقف البخارىّ في اختياره الروايات والرواة; فالبخارىّ ـ ومثله مسلم ـ قد رويا عن مروان بن الحكم وأبي سفيان ومعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن عمرو بن العاص والنعمان بن بشير بكثرة كاثرة، ولكنّهما لم يرويا عن الحسن والحسين سِبْطَي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يحتج البخاري بجعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أصلاً!!
____________
1- الاعتصام 1: 358، تفسير القرطبي 19: 281 والمتن منه.
فإنّه روى عن أبي هريرة أربعمائة وستّة وأربعين حديثاً.
وعن عبد الله بن عمر مائتين وسبعين حديثاً.
وعن عائشة أربعمائة واثنين وأربعين حديثاً، ولم يروِ عن فاطمة الزهراء بنت الرسول إلاّ حديثاً واحداً! ولم يروِ عن علىّ إلاّ تسعة وعشرين حديثاً! ترى.. لماذا تقلّ نسبة أحاديث علىّ عن أحاديث أبي هريرة في صحيحه؟ فإنّه روى عن أبي هريرة 446، في حين لم يروِ عن علىّ بن أبي طالب إلاّ 29 حديثاً؟!
أكان أبو هريرة أو عبد الله بن عمرو بن العاص أخصّ من علىّ برسول الله؟! أم كان علىّ من الصحابة الذين وصفهم أبو هريرة بكثرة الاشتغال بالتجارة عن التلقّي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
كلا، إنّ الأمر لَيرجع إلى غير ذلك، إنّه تحكيم الروح القرشيّة في الشريعة.
فعن المقداد أنّه قال لعبد الرحمن بن عوف يوم الشورى: يا عبد الرحمن! أما والله لقد تركتَه ـ أي تركتَ عليّاً ـ وإنّه من الذين يَقْضُون بالحقّ وبه يَعْدِلون.
فقال: يا مقداد! والله لقد اجتهدتُ للمسلمين!
فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أُتىَ إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! إنىّ لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول إنّ أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل، أما والله لو أجد عليه أعواناً!
فقال عبد الرحمن: يا مقداد! اتَّقِ الله فإنّي خائف عليك الفتنة!
فقال رجل للمقداد: رحمك الله، مَن أهل هذا البيت؟ ومن هو الرجل؟
فقال المقداد: أهل البيت بنو عبد المطّلب، والرجل علىّ بن أبي طالب(1).
____________
1- تاريخ الطبرىّ 5: 38، الكامل في التاريخ 3: 37 (ذكر قصّة الشورى).
وفي تاريخ دمشق بسنده عن مالك بن أنس، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عبد الله بن عباس أخبره أنه كان يقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر...(2).
وفي ذخائر العقبى عن ابن عباس قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف. أخرجاه، وعن أبي رافع قال: كان ابن عباس خليطاً لعمر كأنه من أهله وكان يقرئه القرآن. خرجه أبو خاتم(3).
بلى كان من نتائج هذه الشورى الظالمة أن صار الأمر لعثمان ثم لمعاوية ثم ليزيد، ولما تسنم معاوية الصغير ظهر الخلافة احس بما جرته هذه الشورى من ظلامة على أهل البيت، ـ بعد أن خطب خطبته المعروفة التي اعتزل فيها عن الخلافة ـ، قال الراوي: فقال له مروان بن الحكم وكان تحت المنبر: أسنّة عمرية يا أبا ليلى؟! فقال اغدو عني، أعن ديني تخدعني... على أنه [أي عمر ]كان حين جعلها شورى وصرفها عمن لا يشك في عدالته ظلوماً(4).
وجاء عن رسـول الله أنّه قال في خطـبة الـوداع: يا أيّها الناس! خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا تجاحَفَـت قريش على المُلك وكان عن دين أحدكم
____________
1- صحيح البخاري 8: 152.
2- تاريخ دمشق 30: 280.
3- ذخائر العقبى: 243.
4- سمط النجوم العوالي للعاصمي الشافعي 3: 213.
بين الاتّجاهين
وبعد هذا كلّه فإنّ ترك التحديث والأخذ بالقرآن بمفرده كان الحدّ الفاصل بين الاتّجاهين، لقوله: (فلا تحدّثوا عن رسول الله، فمَن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله)!
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد كانت تذهب إلى مشروعيّة اجتهاد الرسول. وأمّا مدرسة التعبّد المحض فتنكره; لكونه مبنيّاً على الظنّ، وشتّان ما بين الفرض والتخمين وبين الجزم واليقين!
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد تقول إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يوص من بعده. وأمّا مدرسة أهل البيت فتنصّ على وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلىّ وأهل بيته من بعده.
ومنها: أنّ قريشاً ومدرسة الاجتهاد منعت من تدوين سنّة رسول الله. وأمّا مدرسة أهل البيت فقد دوّنت ذلك ودعت إليه رغم كلّ الظروف.
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد قالت: (حسبنا كتاب الله) ولا (ألبس بكتاب الله شيئاً) وأمّا مدرسة أهل البيت فتقول عن القرآن إنّه حمّال ذو وجوه(2)، ولا يمكن فهم حقائقه وتفصيله إلاّ عن طريق السنّة وتفسير من خصّه الله بالعلم.
ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد لا ترتضي عرض كلام الصحابىّ على القرآن، بل ترى قوله وعمله مخصِّصاً للقرآن، وأمّا مدرسة أهل البيت فتدعو إلى لزوم عرض كلامهم على القرآن وطرح ما خالف القرآن فجاء عنه (عليه السلام): (إذا حدّثتكم بشي
____________
1- رواه أبو داود 3: 137 حديث رقم 2958.
2- نهج البلاغة 3: 136، الخطبة 77، من وصية له عليه السلام لعبد الله بن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج فمن ضمن ما قال له: لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون...، وانظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1: 444.
ومنها: أنَّ مدرسة الاجتهاد قالت بالتصويب في الأحكام الشرعيّة، لاعتقادهم بعدالة الصحابة، أمّا مدرسة أهل البيت فهي مخطِّئَة لما عرفت.
ومنها: إن مدرسة الاجتهاد قالت بصحة ما في البخاري ومسلم، وأما مدرسة التعبد لم تقل بصحة جميع ما روي في الكافي والكتب الأربعة.
ومنها: أنَّ مدرسة الاجتهاد نفت العدالة في كثير من الأحكام الشرعيّة، كالقضاء و... حتّى العبادات، فإنَّهم قد جوَّزوا الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر، أمّا مدرسة أهل البيت فلم ترضَ ذلك. وغيرها.
____________
1- المحاسن 1: 269، الباب 37، ح 358، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (الباقر) عليه السلام: إذا حدثناكم بشي... الخ، الكافي 1: 59، باب الرد إلى الكتاب والسنة، ح 5.
2- الاستبصار للطوسي 1: 190، باب 112، ح 9668.
تأصيل النهجين في العهد الأمويّ
لما استقرّ أمر التدوين عند أصحاب (التعبّد المحض) ـ رغم محاولات طمس معالمه ـ رأى نهج (الاجتهاد) ضرورة مسايرة الركب وتقديم شي في هذا السياق، كيلا يواجه مشكلة مستقبليّة في التشريع، لأنّ تأخير التدوين يعني الضياع والاندثار.
فلذا جدّ أنصار هذه المدرسة لرسم البديل الذي يستطيع مواجهة مدرسة التعبّد المحض، إذ أمر هشام بن عبد الملك ـ وفي آخر عمر بن عبد العزيز ـ ابن شهاب الزهرىّ المتوفّى 124 بتدوين السنّة.
1 ـ الخلفاء والتدوين
فعن معمّر، عن الزهرىّ، أنّه قال: كنّا نكره كتابة العلم، حتّى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين(1).
وفي آخر: استكتبني الملوك فاكتتبتهم، فاستحيت الله إذ كتبتها للملوك أن لا أكتبها لغيرهم(2).
وفي ثالث: عن أبي المليح أنّه قال: كنّا لا نطمع أن نكتب عند الزهرىّ حتّى أكره
____________
1- تقييد العلم: 107، الطبقات الكبرى 2: 389، وانظر الدرامي 1: 122، ح 404، والحلية 3: 363، البداية والنهاية 9: 341.
2- جامع بيان العلم وفضله 1: 77.
وفي كتاب (الأضواء) أنّ ابن شهاب كان مخالفاً لهشام لكن لم يلبث أن صار حظيّاً عنده، فحجّ معه وجعله معلّم أولاده(2).
والذي يشكّكنا في سلامة وعفويّة هذا الأمر وصدق نيّة الخلفاء هو كون الناهين عن التدوين على عهد رسول الله من قريش، وهم الذين نهوا عبد الله بن عمرو بن العاص من تدوين حديث الرسول، مع وقوفنا على موقفهم من الحديث في زمن الخليفة عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان متابعةً وتأييداً لهؤلاء الخلفاء، ومع معرفتنا لمواقف أبي سفيان ومعاوية ويزيد من الرسول والرسالة.
فلو تأنّينا فيما فعله أبو سفيان بقبر حمزة ـ عمّ النبىّ ـ وقوله ـ وهو يرفس قبر حمزة ـ يا أبا عمارة! إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف صار في يد غلماننا يتلعّبون به(3) وفي قول معاوية للمغيرة لمّا دخل الكوفة لعرفنا الكثير.
فعن المغيرة: أنّه طلب من معاوية ترك إيذاء بني هاشم لأنّها أبقى لذكره، فأجابه معاوية: هيهات! هيهات! أىّ ذكر أرجو بقاءه؟ مَلَك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر.
ثمّ مَلَك أخو عدىّ، فاجتهد، وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكرهُ، إلاّ أن يقول قائل: عمر وإنّ ابن أبي كبشة ـ يعني النبىَّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) ـ ليصاح به كلّ يوم خمس مرّات! أشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
____________
1- حلية الأولياء 3: 363.
2- أضواء على السنّة المحمّديّة، لأبَي ريّه: 260.
3- شرح نهج البلاغة 16: 136.
وقال لمّا دخل الكوفة: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا وقد أعرف إنّكم تفعلون ذلك، ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون(2).
فكيف يجوز إذاً أخذ الأحكام من مصدر هذا قَدْره ومنزلته عند النبىّ، ومن أُناس هذا موقفهم من رسالته، مع معرفتنا بأنَّ منهم من لُعِن على لسان رسول الله؟! أم كيف تطمئن نفوسنا بمرويّاتهم ونأتمنهم على كنوز السنّة مع عرفاننا مكرهم وخداعهم وبثّهم روح العصبيّة والتفرقة بين المسلمين؟!
أم كيف صارت السنّة تدوّن عن إكراه! ويلزم الأخذ بها على الصعب والذلول بعد أن كان منع التدوين بسبب الإكراه وعقوباته الشديدة.
جاء في شرح مسلم، للنووىّ: أنّ بشير العدوىّ جاء إلى ابن عبّاس فجعل يحدّث ويقول، قال رسول الله، قال رسول الله، فجعل ابن عبّاس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه.
فقال: يا بن عبّاس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أُحدثك عن رسول الله ولا تسمع!!
فقال ابن عبّاس: إنّا كنّا مرّة إذا سمعنا رجلاً يقول (قال رسول الله) ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف(3).
____________
1- شرح النهج 5: 130 عن الموافقيات للزبير بن بكار والمتن عنه، المسترشد للطبري: 680. 2- مصنف ابن أبي شيبة 6: 187، ح 30556، تاريخ دمشق 59: 150، سير أعلام النبلاء 3: 147، البداية والنهاية 8: 131.
3- صحيح مسلم 1: 13، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، ح 7، تهذيب الكمال 4: 186.
فقد ورد أنّ هشام بن عبد الملك طلب من الزهرىّ أن يروي أنّ قوله تعالى: {والذي تولّى كِبْرُهُ له عذاب اليم}(1) نزل في علىّ.
في حين نراه يحدّث معمّراً حديثاً في علىّ ويقول له: اكتم هذا الحديث واطوه دوني، فإنّ هؤلاء (أي الأمويّين) لا يعذرون أحداً في تقريظ علىّ وذكره.
قلت: فما بالك ادّعيت مع القوم يا أبا بكر!! وقد سمعت الذي سمعت؟!
قال: حسبك يا هذا! إنّهم أشركونا في أموالهم فانحططنا لهم في أهوائهم(2).
وقد جاء في رسالة الإمام علىّ بن الحسين ـ زين العابدين ـ للزهرىّ ما يجسّم حاله وما وقع فيه من مأزق مع الحكومة آنذاك وإليك نصّه:
(كفانا الله وإيّاك من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحتَ بحال ينبغي لمن عرفك أن يرحمك.. فقد أثقلتك نعم الله بما أصحَّ من بدنك، وأطال من عمرك. وقامت عليك حجج الله بما حمَّلك من كتابه; وفقَّهك فيه من دينه وعرَّفك فيه من سنّة نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله)... فانظر أىّ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها وعن حججه عليك كيف قضيتها.
ولا تحسبنَّ الله قابلاً منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير، هيهات! هيهات! ليس كذلك أخذ على العلماء في كتاب إذ قال: (لتبيّننه للناس ولا تكتمونه)(3). واعلم أنَّ أدنى ما كتمت، وأخفَّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم; وسهّلت له طريق الغىّ بدنوّك منه حين دنوت; وإجابتك له حين دعيتُ.. فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غداً
____________
1- النور: 11.
2- المناقب لابن المغازلىّ: 142 ح 186، جواهر المطالب 1: 243.
3- آل عمران: 187.
وقد كان معاوية قد بذل أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب لقاء وضعه لـ(رواية) مفادها أنّ قوله تعالى: {ومن الناس من يَشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}(3) قد نزلت في ابن ملجم قاتل علىّ، ففعل سمرة ذلك(4).
فوضْعُ الحديث لم يكن مستهجناً في عهد معاوية ولم يكونوا يخافون الله ولا يتّقونه حقّ تقاته في وضع ما يفيدهم وتكذيب ومنع ما لا يعجبهم.
قال المدائنىّ: وظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا من مجلسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتّى
____________
1- مريم: 59.
2- تحف العقول: 274.
3- البقرة: 207.
4- شرح النهج 4: 73، شواهد التنزيل 1: 132.
وقال الدهلوىّ في رسالة الإنصاف:
(ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغير استحقاق، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطّروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وكان بقي من العلماء من الطراز الأوّل، فكانوا إذا طُلِبُوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار ـ غير العلماء ـ إقبال الأمة عليهم مع إعراضهم، فاشتروا طلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفقه الله...)(2).
وجاء في مناقب الإمام أبي حنيفة، للمكّي: أنّه لمّا دعي ليسأل عن مسألة فقهيّة من قِبَل أحد الأمويّين، قال أبو حنيفة: فاسترجعت نفسي لأنّي أقول فيها بقول علىّ (رضي الله عنه) وأدين الله به، فكيف أصنع؟
قال: ثمّ عزمت أن أصْدُقهُ وأفتيه بالدين الذي أدين الله به، وذلك أنّ بني أُميّة كانوا لا يفتون بقول علىّ ولا يأخذون به ـ إلى أنّ يقول ـ وكان علىّ لا يذكر في ذلك العصر باسمه، والعلامةُ عنه بين المشايخ أن يقولوا: قال الشيخ، ومنعوا الناس أنّ يسمّوا أبناءهم باسمه، ويتعرّض للبلاء من سمَّى ابنه عليّاً(3).
وجاء قريب من هذا عن الحسن البصرىّ، فعن يونس بن عبيد، قال: سألت
____________
1- شرح نهج البلاغة 11: 46 عن المدائني في كتاب (الأحاديث).
2- انظر رسالة الإنصاف في دائرة المعارف لفريد وجدي مادة (جهد).
3- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 396 عن مناقب الإمام أبي حنيفة 1: 117.
قال: يا ابن أخي! لقد سألتني عن شي ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك منّي ما أخبرتك، إنّي في زمان كما ترى ـ وكان في عمل الحجّاج ـ كلُّ شي سمعتني أقول: قال رسول الله، فهو علىّ بن أبي طالب، غير أنّي في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً(1).
وعن الشعبىّ: ماذا لقينا من آل أبي طالب؟ إن أحببناهم قُتلنا، وإن أبغضناهم دخلنا النار(2).
قال الشيخ أبو جعفر الإسكافىّ: إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علىّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم علي ذلك جُعْلاً يُرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير(3).
وقال ابن عرفة ـ المعروف بنفطويه ـ: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُميّة، تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم(4).
نعم، إنّ هذه المواقف هي التي دعت الإمام الباقر أن يصرّح بقوله (بلية الناس علينا عظيمة، إنْ دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا)(5).
وعن الإمام علىّ بن الحسين: ما زلتم تقولون فينا حتّى بغَّضتمونا إلى الناس(6).
____________
1- تهذيب الكمال 6: 124، تدريب الراوي 1: 204.
2- عيون الأخبار لابن قتيبة 2: 112 كما في كتاب الإمام جعفر الصادق: 107.
3- شرح النهج 4: 63، المعرفة والتاريخ، للبسيوىّ، ترجمة أبي هريرة.
4- النصائح الكافية: 89، شرح النهج 11: 46، وراجع فجر الإسلام: 213.
5- إرشاد المفيد 2: 168، المناقب لابن شهرآشوب 4: 206، إعلام الورى بأعلام الهدى 1: 508.
6- الطبقات الكبرى 5: 214، تاريخ دمشق 41: 392، تهذيب الكمال 20: 387، البداية والنهاية 9: 122.
اللّهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك... إلى أنّ يقول:... حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين، يرون حكمك مبدّلاً، وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيّك متروكة و...(1) وقال أيضاً وهو يشرح اختلاف الأمَّة:
وكيف بهم؟
وقد خالفوا الآمرين، وسبقهم زمان الهادين، ووُكلوا إلى أنفسهم، يتنسَّكون في الضلالات في دياجير الظلمات.
وقد انتحلت طوائف من هذه الأمَّة مفارقة أئمة الدين والشجرة النبويّة ـ أَخْلاَصِ الديانة ـ، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانيّة، وتغالوا في العلوم، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته، وتحلّوا بأحسن السنّة، حتّى إذا طال عليهم الأمد، ـ وبَعُدَتْ عليهم الشُقَّةُ، وامتُحنوا بمحن الصادقين ـ رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى، وعلم النجاة....
وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوه بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا، يقحمون في أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قَبَس نور من الكتاب، ولا أثرة علم من مظانّ العلم، بتحذير مثبطين زعموا أنَّهم على الرشد من غيّهم.
وإلى من يفزعُ خَلَفُ هذه الأمّة؟!
وقد درست أعلام الملّة والدين بالفُرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً، والله تعالى
____________
1- الصحيفة السجّاديّة: 351 الدعاء 150، من دعائه عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة.
فمَنِ الموثوقُ به على إبلاغ الحجّة؟ وتأويل الحكمة؟ إلاّ إلى أهل الكتاب، وأبناء أئمّة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتجّ الله بهم على عباده، ولم يَدَع الخلق سدى من غير حجّة.
هل تعرفونهم؟
أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات، وافترض مودّتهم في الكتاب؟!(2)
وقال (عليه السلام) لرجل شاجره في مسألة شرعيّة فقهيّة:
(يا هذا! لو صرت إلى منازلنا، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أفيكون أحد أعلم بالسنّة منّا)(3).
وقال أيضاً:
(إنَّ دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، لا يُصابُ إلاّ بالتسليم. فمن سلَّم لنا سَلِمَ، ومن اقتدى بنا هُدِي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك).
نعم (4)إنّ الأمّة الإسلاميّة قد منيت بالتحريف، فجاء في تاريخ المذاهب الإسلاميّة لابن زهرة قوله:... لابدّ أن يكون للحكم الأموىّ أثر في اختفاء كثير من آثار علىّ في القضاء والإفتاء، لأنّه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر، وأن يتركوا العلماء يتحدّثون بعلمه، وينقلوا فتاواه وأقواله، وخصوصاً ما يتّصل بأساس
____________
1- آل عمران: 105.
2- كشف الغمّة، للأربلىّ 2: 98 ـ 99.
3- نزهة الناظر، للحلوانىّ: 45.
4- كمال الدين: 324، ب 31، ح 9.