فقال له معاوية: مه، يا ابن أبي معيط إنه لا رأي لك.
فقال له الوليد: أنه لا رأي لكَ، أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك؟ تتعلم منها وتقضي بقضاءه؟! فعلام تقاتله؟
فقال معاوية: ويحك أتأمرني أن أحرق علماً مثل هذا؟ والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح.
فقال الوليد: إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله؟
فقال معاوية: لولا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه، ثم سكت هنية، ثم نظر إلى جلسائه فقال: إنا لا نقول، إن هذه من كتب علي بن ابي طالب، ولكنا نقول: أن هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن نقضي بها ونفتي(1).
فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أُمية حتى ولي عمر بن عبد العزيز فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب.
فلما بلغ علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد ذلك عليه(2).
قال أبو إسحاق(3): فحدثنا بكر بن بكر، عن قيس بن الربيع، عن ميسرة بن
____________
1- في شرح النهج وبحار الأنوار (ننظر فيها ونأخذ منها).
2- في شرح نهج البلاغة 6: 73 وبحار الأنوار (اشتد عليه حزناً).
3- المراد به صاحب الغارات إبراهيم بن محمد الثقفي.
لقد عثرت عثرة لا اعتذر | سوف أكيس بعدها وأستمر |
قلنا: [ما بالك] يا أمير المؤمنين؟ سمعنا منك كذا؟
قال: إني استعملت محمد بن أبي بكر على مصر فكتب إلي أنه لا علم له بالسنة، فكتبت إليه كتاباً فيه السنة، فقتل واخذ الكتاب(1).
وهذا النص يوضح مدى خوف الإمام علي بن أبي طالب من تحريف معاوية بن أبي سفيان للسنة النبوية المطهرة حيث تراه(عليه السلام) يتأسف ويشتد حزناً لما سمع بوقوع الكتاب بيد معاوية.
فاطمة الزهراء بنت محمّد المصطفى(عليهما السلام)
كان عند السيّدة فاطمة كتابٌ أخذته عن أبيها، ذكره الفريقان.
فجاء في كتب أهل السنّة والجماعة كما نقل الخرائطىّ عن مجاهد قوله: دخل أُبىّ بن كعب على فاطمة ابنة محمّد فأخرجت إليه كربة فيها كتاب (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)(2).
وقال القاسم بن الفضيل، قال لنا محمّد بن علىّ: كتب إلىَّ عمر بن عبد العزيز: أن انسخ وصيّة فاطمة، فكان في وصيّتها الستر الذي يزعم النّاس أنّها أحدثته، وأنّ رسول الله دخل عليها فلمّا رآه رجع...(3).
وذكر ابن بابويه القمّيّ ـ من الشيعة ـ بسنده إلى الإمام الصادق أنّه قال: كنت
____________
1- الغارات للثقفي 1: 251 ـ 254.
2- مكارم الأخلاق، للخرائطىّ: 43 رقم 317 طبعة القاهرة، مكتبة السلام.
3- مسند أحمد 6: 283، ح 26464، مكارم الأخلاق، للخرائطىّ: 37.
وفي الكافي: أنّ الصادق (عليه السلام) أجاب عن مسألة سئل فيها اعتماداً على كتاب فاطمة(عليها السلام) وقد اشتهر كتاب فاطمة بالمصحف وهذا هو الذي استغلّه المغرضون للتشنيع على أنصار مدرسة أهل البيت، مع العلم أنّ كلمة (مصحف) و(صحيفة) كانتا تطلقان منذ الصدر الأوّل الإسلامىّ على كلّ كتاب، ولا يختصّ بكتاب الله عزّ وجلّ حتّى يلزم تصحيح ما يقولونه.
قال الشيخ طاهر الجزائرىّ: لمّا توفّي النبىّ بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده (صلى الله عليه وآله) في موضع واحد وسمّوا ذلك المصحف(2).
الإمام الحسن بن علىّ (المجتبى)(عليهما السلام)
كانت عند الإمام الحسن صحيفة أبيه الإمام علىّ بن أبي طالب، يحتفظ بها وينقل عنها علوم محمّد (صلى الله عليه وآله) ، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: سألت الحسن بن علىّ عن قول علىّ في الخيار، فدعا بربعة، فأخرج منها صحيفة صفراء مكتوب فيها قول علىّ في الخيار(3)، فيمكن أنّ يرشدنا هذا النصّ إلى أمرين:
الأوّل: وجود خلاف بين الصحابة في الخيار ممّا دعا ابن أبي ليلى أن يسأله عن قول علىّ فيه.
الثاني: اشتهار أصالة فقه علىّ بين المسلمين ممّا دعا ابن أبي ليلى إلى أن يطلب قول الإمام علىّ من الإمام الحسن اعتقاداً منه بوجود كتاب علىّ عنده.
____________
1- انظر الكافي 1: 242، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام، ح 8.
2- معرفة النسخ: 31 و145، توجيه النظر: 6، ومضمون هذا النصّ مجاف للحقيقة كما علمت، لكنّ الشاهد لنا فيه هو أنّ كلمة (المصحف) تطلق على غير القرآن.
3- العلل لأحمد بن حنبل 1: 346.
فعن شرحبيل بن سعد، قال: دعا الحسن بن علىّ بنيه وبني أخيه، قال: يا بنىّ وبني أخي! إنّكم صغارُ قوم، يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلّموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه فليكتبه وليضعه في بيته(1).
فالإمام أوصى أبناءه وأبناء أخيه بتحمّل العلم منذ الصبا لينتفعوا به ولينفعوا الآخرين، وذلك لصيرورة العلم على حافّة الضياع وخطر الهاوية.
وعن أبي عمرو بن العلاء، قال: سئل الحسن بن علىّ عن الرجل يكون له ثمانون سنة يكتب الحديث؟
قال: إنّه يحسن أن يعيش(2).
ولا أدري أنّه لو لم تكن حفظت لنا تلك المدوّنات إلى اليوم، فماذا كان مصير التشريع الإسلامىّ.
إنّنا نرى الاختلاف وضياع الأحكام مع وجود المدوّنات المتأخّرة زماناً، فكيف بنا لو لم يكن هناك تدوين أصلاً؟!
الإمام الحسين بن علىّ (الشهيد)(عليهما السلام)
من الثابت عند أئمّة أهل البيت وشيعتهم أنّ كتاب الإمام علىّ دخل في حيازة الإمام الحسين بعد وفاة أخيه الإمام الحسن، والإمام الحسين لمّا حضره الذي
____________
1- التاريخ الكبير 8: 408، ت 3501، سنن الدارمي 1: 140، ح 511 والنص منه، تاريخ بغداد 6: 399، ت 3454، المدخل إلى السنن الكبرى: 371، ح 632، تهذيب الكمال 6: 242، جامع بيان العلم وفضله 1: 82.
2- شرف أصحاب الحديث: 69 رقم 146.
وهذا الكتاب غير الكتاب الذي أمّنه رسول الله عند أُمّ سلمة وأوصاها أن تعطيه لخليفته من بعده، بشرط أن يطلبه منها، فظلّت محافظة عليه إلى أن بايع الناس عليّاً، فجاء علىّ إليها وسألها الكتاب فسلّمته إليه(3).
وجاء عن علىّ بن الحسين أنّه قال: أتى محمّد بن الحنفيّة الحسين بن علىّ فقال: أعطني ميراثي من أبي، فقال له الحسين: ما ترك أُبوك إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطاياه ـ قال: فإنَّ الناس يزعمون فيأتون فيسألوني فلا أجد بدّاً من أن أُجيبهم ـ قال: فأعطني من علم أبي. قال: فدعا الحسين (عليه السلام) فذهب فجاء بصحيفة تكون أقلّ من شبر أو أكبر من أربع أصابع، قال: فملأت شجره ونحوه علماً؟(4).
فالكتاب المؤمَّن من قبل رسول الله عند أُمّ سلمة لم يكن نفس ما أملاه على علىّ بن أبي طالب فإنّه كان في الأوّل ما يحتاج إليه الخليفة في حكومته وكان ما في الثاني يدور في مدار التشريع وأخبار الأمم و...
ولأهمّيّة هذا الكتاب حرص الإمام الحسين ـ وهو في أشدّ الظروف قساوة ـ على أن يوصل هذا العلم إلى من يقوم بعده، ومن هنا تسفر الحقيقة عن أن أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة كانت من أوائل المسلمات اللواتي حافظن على التدوين وأدركن
____________
1- بصائر الدرجات: 168، الباب 13، ح 9، و183، الجزء الرابع، ح 3، الكافي 1: 290، باب ما نص الله عز وجل ورسوله على الأئمة واحداً فواحداً، ح 3، مناقب بن شهرآشوب 3: 308، فصل في المفردات.
2- بصائر الدرجات: 182، الجزء الرابع، ح 1، و187، ح 20 والنص منه.
3- مناقب ابن شهرآشوب 1: 317، بصائر الدرجات: 186، الجزء الرابع، ح 16 وح 23.
4- بصائر الدرجات: 179، باب قول أمير المؤمنين بأحكامه...، ح 29.
نعم، إنّ الإمام الحسين كان من دعاة التدوين والتحديث، وممّا يؤيّد ذلك ما جاء في خطبته بمنى: أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإني أُريد أن أسألكم عن شي، فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبت فكذبوني اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، فمن أمنتموه من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أتخوّف أن يندرس هذا الحق ويذهب(1).
وجاء عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) عن المحرم يموت كيف يصنع به، فحدّثني أنّ عبد الرحمن بن الحسن بن علىّ مات بالأبواء مع الحسين بن علىّ وهو محرم، ومع الحسين عبد الله بن العبّاس، وعبد الله بن جعفر، فصنع به كما صنع بالميّت وغطّى وجهه ولم يمسّه طيباً، قال: وذلك في كتاب علىّ (عليه السلام) (2).
وقد جاء: أنّ لأخيه محمّد بن الحنفيّة ـ كذلك ـ مسنداً في الحديث(3)، وهذا يدلّل على أنّ أولاد الإمام علىّ كانوا من أصحاب المدوّنات وقد اهتمّوا بالكتابة حفاظاً على السنّة المطهّرة وزيادة لتوثيق ما ينقلونه عن النبىّ.
الإمام علىّ بن الحسين (السجّاد)(عليهما السلام)
أُثِر عن الإمام السجّاد عدّة رسائل أشهرها: رسالة الحقوق(4)، والصحيفة(5)
____________
1- الاحتجاج 2: 19 باب احتجاج الحسن عليه السلام على معاوية في الإمامة عن سليم بن قيس: 320 باختلاف.
2- تهذيب الأحكام 5: 383، ح 1337 كتاب الحجّ.
3- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 550 عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة.
4- طبعت هذه الرسالة مكرّراً وعليها شروح كثيرة.
5- هي الأخرى مطبوعة ولها شروح كثيرة.
فمن المحتمل أن يكون ما قرأ فيها أبو حمزة هو جزء من الصحيفة الكاملة السجّاديّة، لأنّ الكلام في الصحيفة لا يقتصر على الزهد ففيه أُمور أُخرى.
وقد يكون جزء من كتاب علي بسنده (عليه السلام) إذ أن كتاب علي بن أبي طالب كان عنده، فعن علي بن الحسين أنه سئل عن رجل أوصى بشي من ماله، قال: الشي في كتاب علي (عليه السلام) واحد من ستة(2).
وروى الكليني بسنده عن الصادق (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين إذا أخذ كتاب علي فنظر فيه قال: من يطيق هذا؟
قال: ثم يعمل به.(3)
وعن ابن اذينه عن ابان بن أبي عيّاش قال: هذه نسخة كتاب سليم بن قيس العامري، ثم الهلالي دفعه إلى ابان بن أبي عيّاش وقراه وزعم انه قراه على علي بن الحسين: قال: صدق سليم، هذا حديث نعرفه(4).
هذا، وقد روى محمّد الباقر وزيد بن علىّ والحسين الأصغر ـ أبناء الإمام السجّاد ـ رسالة عن أبيهم في أحكام الحجّ(5).
واشتهر عن ولديه الإمام زيد والإمام الباقر اهتمامهما بأمر التدوين، إذ عدّ مقدّم
____________
1- انظر الكافي 8: 14، باب صحيفة علي بن الحسين، ح 2، الفهرست للطوسىّ: 68 رقم 138.
2- الكافي 7: 40، باب من أوصى بشي من ماله، ح 1 و2، الفقيه 4: 204، باب الوصية بالشي من المال، ح 5473، معاني الأخبار: 217، باب معنى الشي من المال يوصى به الرجل، ح 1.
3- الكافي 8: 163، ح 172.
4- رجال الكشي 1: 321/167 وعنه في وسائل الشيعة 27: 101.
5- طبعت هذه الرسالة بمطبعة الفرات، بغداد، بتقديم العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستانىّ، منسوباً إلى الإمام زيد.
وقال الأستاذ محمّد عجاج الخطيب مثله:... وعلى هذا يكون (المجموع) من أهمّ الوثائق التاريخيّة التي تثبت ابتداء التصنيف والتأليف في أوائل القرن الثاني الهجرىّ، بعد أن استنتجنا هذا من خلال عرضنا لمصنفات ومجاميع من غير أن نرى نموذجاً مادّيّاً يمثّل أُولى تلك المصنّفات، اللّهمّ إلاّ موطّأ مالك الذي انتهى من تأليفه قبل منتصف القرن الهجرىّ الثاني، فيكون المجموع قد صنّف قبله بنحو ثلاثين سنة، ومن الواضح أنّ المجموع المطبوع جمع بين الفقه والحديث، فهو يضمّ المجموعين الفقهىّ والحديثىّ ولكنهما ليسا منفصلين(2).
ونقل الأستاذ أسد حيدر عن كتاب (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة)، قوله: (ولزيد بن علىّ مدوّنة فقهيّة اكتشفت بين المخطوطات القديمة في المكتبة الأمبروزيّة بميلانو، الخاصّة ببلاد العرب الجنوبيّة، وهذا المخطوط يعدّ أقدم مجموعة في الفقه الإسلامىّ، وعلى كلّ حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلّق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامىّ(3).
وقد طبع هذا الكتاب باسم (مسند الإمام زيد بن علىّ).
إلاّ أنّك قد عرفت أنّ الحقّ هو وجود مدوّنات منذ عصر رسول الله وهي أقدم من مجموع الإمام زيد، وأنّ النموذج المادّيّ للمدوّنات يرجع إلى القرن الأوّل الهجرىّ ويتمثّل برسالة الحقوق والصحيفة السجّاديّة ـ التي دوّنها أبو حمزة الثمالىّ
____________
1- مفاتيح كنوز السنّة، مقدّمة الشيخ أحمد شاكر (غ).
2- السنّة قبل التدوين: 371.
3- انـظـر الإمـام الصـادق والمـذاهـب الأربـعـة 1: 550 عـن تمهيـد لتـاريـخ الفلسـفة الإسلاميّة:200.
والجدير ذكره هنا أنّ مدوّنات الإمام السجّاد بثقلها الأكبر تنحو منحىً جديداً في ثقافة المسلمين المدَّونة، وقد فتحت مجالاً ما زال ضخماً في تراث المسلمين ألا وهو (الدعاء) و(الحقوق) فإنّ هذين المجالين هما من أهمّ وأعرق ما عهده المسلمون من ثقافة، وذلك معالجةً منه لما كان ضروريّاً جدّاً في عصره الشريف، لأنّ الأخلاق الإسلاميّة والحقوق المترتّبة للفرد وللمجتمع كادت تمسخ في العهد اليزيدىّ وما بعده فكان تدوين ما يعالج ذلك بمثابة تدوين لأمراض المرحلة وعلاجاتها، وتوثيق لتاريخ مرحلة مهمّة من المشرّعات الإسلاميّة ولعلم غضّ من العلوم الإسلاميّة.
وهذا يزيد في توثيق مدوّنات الإمام زيد بن علىّ ـ لو صحّ الانتساب إليه ـ والإمام محمّد بن علىّ الباقر، فإنّ فيهما الكثير ممّا أخذاه عن أبيهما عن آبائه.
وذكر ابن الصفوان أنّ لزيد كتاباً في (القلّة والجماعة) كان يستعمله في محاججة خصومه ويلجأ إليه(1).
قال ناجي حسن في مقدّمة تحقيقه لكتاب (الصفوة) للإمام زيد: تنسب إلى زيد بضع عشرة رسالة في موضوعات مختلفة، كعلم الكلام، والتفسير، والفقه والأخبار(2).
وقد عدّ المؤيدىّ الحسنىّ في كتابه (التحف، شرح الزلف) أسماء كتب للإمام زيد(3) لم نقف عليها عند الآخرين.
وقال الأستاذ عبد الحليم الجندىّ: ألّف عمرو بن أبي المقدام جامعاً في الفقه يرويه عن الإمام زين العابدين(4).
____________
1- التحف شرح الزلف، للسيّد مجد الدين المؤيدىّ: 30، ثورة زيد بن علىّ، لناجي حسن: 35.
2- الصفوة (مقدّمة المحقّق): 9.
3- انظر التحف: 30.
4- الإمام جعفر الصادق، لعبد الحليم الجندىّ: 202.
فترى هذا التوافر والتواصل من أئمّة أهل البيت منصبّاً على التدوين والتحديث والكتابة، إذ ظهر لك أنّهم كانوا يدوّنون ويأمرون أبناءهم بالتدوين ويحثّون أصحابهم عليه، مع الأخذ بنظر الاعتبار عصر الإمام السجّاد بالخصوص، فإنّه من أحرج الأزمنة على علماء آل محمّد لكونه بعد واقعة الطفّ، فبروز مدوّنات قيّمة عن ذلك العصر الإسلامىّ بفضل مدرسة التدوين ما هو إلاّ معجزة من المعاجز في تاريخ الثقافة الإسلاميّة.
الإمام محمّد بن علىّ (الباقر)(عليهما السلام)
إنّ عصر الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) يعدّ العصر الذهبىّ بالنسبة لنشر أحكام مدرسة التدوين، وذلك لما أعدّ الله تعالى في تلك البرهة من ظروف سياسيّة، شُغِلت بها الحكومات ـ من قيام دولة وسقوط أٌخرى وغيرها ـ ممّا فتح المجال لأصحاب مدرسة التدوين في أن يدوّنوا ويحدّثوا ويبرزوا ما عندهم من مدوّنات دون أىّ وجل.
وكان من الطبيعىّ أن يكون القسط الأوفر ومكان الصدارة لكتاب علىّ وباقي مدّونات أهل البيت، باعتبارها أهمّ وأقدم وأوثق المصادر المدوّنة في العلوم الإسلاميّة، لأنّها كتبت على عهد الرسول وبأمر منه، فممليها الرسول وكاتبها علىّ بن أبي طالب، وحافظها سبطا رسول الله الذين أذهب الله عنهم الرجس، وهذه الميزات لم تجتمع في مدوّنة قطّ بعد كتاب الله.
اعتماداً على هذا الأساس وانطلاقاً ممّا ذكرنا نستطيع تفهّم سرّ إكثار الإمامين الباقر والصادق من إبراز كتاب علىّ (عليه السلام) لأصحابهم ولأتباع مدرسة المنع
والنكتة الأهمّ هي أنّ عصر الإمامين كان عصر النشاط العلمىّ وكثرة العلماء والمتصدّين للفتيا والنظر، فقد رُوي أنّه كان في وقت واحد أربعة آلاف راو كلُُّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد، وذلك في زمن تأصيل المذاهب، فكان الإمام يرى ضرورة تفنيد الرأي الآخر وترجيح كفّة الميزان لصالح نهج (التعبّد المحض) وذلك بإبراز المستمسك الكتبىّ المتبقي من عهد الرسول والذي لا يختلف في وثاقته مسلمان، فلذلك أكثر الامامان من إبراز (كتاب علىّ) إبطالاً لزعم الزاعمين وتثبيتاً لما يقولونه عن رسول الله بلا تغيير ولا تبديل ولا تأثّر بالسياسة وأدوارها.
فجاء عن الباقر فيما قاله لزرارة: يا زرارة! إياك وأصحاب القياس في الدين، فإنّهم تركوا علم ما وُكِّلُوا به وتكلّفوا ما قد كفوه، يتأوّلون الأخبار ويكذبون على الله، وكأنّي بالرجل منهم ينادى من بين يديه، فيجيب من خلفه، وينادى من خلفه فيجيب من بين يديه، فقد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدين.(1)
وقد مرَّ عليك خبر عذافر الصيرفىّ، إذ قال فيه: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر، فجعل يسأله ـ وكان أبو جعفر له مكرماً ـ فاختلفا في شي فقال أبو جعفر: يا بنىّ قمْ، فأخرجَ كتاباً مدروجاً عظيماً، ففتحه وجعل ينظر حتىّ أخرج المسألة، فقال أبو جعفر: هذا خطّ علىّ وإملاء رسول الله، وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمّد اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً فوالله لا تجدون العلم أوثق
____________
1- أمالي المفيد: 52.
فيلاحظ في هذه الرواية، أنّ الحكم كان من العلماء المتصدّين ولذلك (كان أبو جعفر له مكرماً)، وكذلك صاحباه سلمة بن كهيل وأبو المقدام، ويعضد هذا ما كتبه عنهم الرجاليّون.
كما يلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) أخرج كتاب علىّ (عليه السلام) لإيضاح ما جاء به الرسول في مسألة اختلفوا فيها لقول الراوي: (فاختلفا في شي).
وأمّا قوله (فأخرج كتابأ مدروجاً عظيماً) فيؤكّد ما قلناه من أنّ كتاب علىّ(عليه السلام) كان كتاباً عظيماً وأنّه بمنزلة دائرة معارف للعلوم الإسلاميّة، وأنّ أهل البيت(عليهم السلام)كانوا يهتّمون به، ولذلك وضعوه في (الدُرْج) حفاظاً عليه وحرصاً على سلامته.
وفي نصّ آخر عن محمّد بن مسلم، قال: نشر أبو جعفر صحيفة، فأوّل ما تلقاني فيها: (ابن أخ وجدّ، المال بينهما نصفان)، فقلت: جعلتُ فداك إنّ القضاة عندنا لا يقضون لابن الأخ مع الجدّ بشي، فقال: إن هذا الكتاب بخطّ علىّ وإملاء رسول الله!(2).
فلما وقع بصرُ محمّد بن مسلم عليه لفت نظره، ولفته إلى أنّ القضاة الحكومييّن لا يقضون بذلك، فما هو سرّ ما في هذه الصحيفة؟ فلذلك أجابه الإمام بأنّ ما في تلك الصحيفة لم يكن من المدوّنات المتأخّرة زماناً والتي لعب النسيان والغلط والتحريف فيها ما شاء أن يلعب، بل هي صحيفة من إملاء النبىّ وخطّ علىّ فهي سليمة قطعاً عن التحريف والغلط.
وفي نصّ آخر عن ابن عيينة البصرىّ، قال: كنت شاهداً عند ابن أبي ليلى، وقضى في رجل جعل لبعض قرابته غلّة دار ولم يوقِّت لهم وقتاً، فمات الرجل،
____________
1- رجال النجاشىّ: 360، الرقم 966.
2- الكافي 7: 112، باب ابن الأخ والجد، ح 1.
فقال له محمّد بن مسلم الثقفىّ: أما إنّ علىّ بن أبي طالب (عليه السلام) قضى ـ في هذا المسجد ـ بخلاف ما قضيتَ، قال وما علمك؟
قال: سمعت أبا جعفر يقول: قضى علىّ بن أبي طالب (عليه السلام) بردّ الحبيس وإنفاذ المواريث.
فقال ابن أبي ليلي: هو عندك في كتاب؟
قال: نعم.
قال: فأرسل وائتني به.
فقال محمّد بن مسلم: على أن لا تنظر في الكتاب إلاّ في ذلك الحديث.
قال: لك ذاك.
قال: فأراه الحديث عن أبي جعفر في الكتاب فردّ قضيّتَه(1).
ويتّضح في هذا النصّ أنّ ابن أبي ليلى كان رجلاً يحبّ الوقوف على كتاب علىّ، فإنّه علم أنّ قول محمّد بن مسلم بذاته ليس بحجّة، وكما أنّه فقيه فإنّ ابن أبي ليلي أيضاً فقيه!، ولكلّّ رأيه، فلذلك قال له: (ما علمك بذلك)؟
وبعد أن يجيبه محمّد بن مسلم بأنّ ذلك قول محمّد الباقر (عليه السلام) ، لا يكتفي بذلك بل يطلب منه أن يرى ذلك في (كتاب) وذلك لعلمه بأهمـّيّة المدوّنات أوّلاً، ولأنّه كان قد سـمع قطعاً بكتاب علي (عليه السلام) فأحبّ أن يتأكّد من ذلك الكتاب وأن يراه.
ونكتة أُخرى هي أنّ محمّد بن مسلم يشترط على ابن أبي ليلى أن لا يرى إلاّ
____________
1- الكافي 7: 35، باب ما يجوز في الوقف والصدقة، ح 27، من لا يحضره الفقيه 4: 245، ح 5581.
والحقّ أنّ ابن أبي ليلى قد أذعن للحقّ وردّ قضيّته الأُولى، وقضى وفق ما في كتاب علىّ (عليه السلام) ، وهذه المفردة، مفردة نابضة دالّة على أهمّيّة التدوين وفائدته، فلو كانت كلّ المروّيات والأحكام قد دوّنت بهذا الشكل لما بقي من الاختلاف إلاّ الجزء اليسير اليسير الذي يمكن إلحاقه بالعدم.
وفي بصائر الدرجات: عن عبد الملك قال: دعا أبو جعفر (الباقر) بكتاب علي فجاء به جعفر ـ مثل فخذ الرجل مطوي ـ فإذا فيه أنّ النساء ليس لهنّ من عقار الرجل إذا هو توفّي عنهن شي، فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا والله خَطّهُ علىّ بيده وأملاهُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
وفي الكافي عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة وَلَد الزنا تجوز؟ فقال: لا.
فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز فقال: اللّهمّ لا تغفر له ذنبه، ما قال الله للحكم{إنّه لذكر لك ولقومك }فليذهب الحكم يميناً وشمالاً فوالله لا يؤخذ العلم إلاّ من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل.(2)
وروى محمّد بن مسلم عن الباقر قوله: أما إنّه ليس عند أحد من الناس حقّ ولا
____________
1- بصائر الدرجات: 185، باب في الأئمة عليهم السلام وأنه صارت إليهم كتب رسول الله وأمير المؤمنين، ح 14.
2- الكافي 1: 400، باب أنه ليس شي من الحق في يد الناس، ح 5، البصائر: 29، باب ما أمر النّاس أن يطلبوا العلم، ح 3.