الصفحة 500
صواب إلاّ أخذوه منّا أهل البيت، ولا أحد من الناس يقضي بحقّ ولا عدل ألاّ ومفتاح ذلك القضاء وبابه وأوّله وسننه أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب، فإذا اشتبهت عليهم الأُمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطأوا والصواب من قبل علىّ بن أبي طالب إذا أصابوا.(1)

هذا وقد كانت عند محمّد الباقر (عليه السلام) كتب كثيرة أُخرى، أخذها عن آبائه وأجداده وعن خالصي الصحابة، كما أملى الكثير الكثير ممّا ورثه من العلم فكتبت عنه المدوّنات.

قال محمّد عجاج الخطيب: وكان عند محمّد الباقر بن علىّ بن الحسين (56 ـ114 هـ) كتب كثيرة سُمِعَ بعضها منه ابنه جعفر الصادق وقرأ بعضها(2).

وقال عبد الله بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب: كنت أختلف إلى جابر بن عبد الله، أنا وأبو جعفر معنا ألواح نكتب فيها(3).

وواضح أنّ جابراً كان موصى من النبىّ أن يوصل بعض الوصايا إلى الباقر(عليه السلام).

وقد روى أبو الجارود العبدىّ عن الإمام الباقر كتاباً في تفسير القرآن(4)، وعند عدّة من أصحابه كُتبٌ ونسخ أًخرى عنه (عليه السلام) (5) وقد دوّن الكثير من أصحابه ما حدّث به وقاله.

____________

1- أمالي المفيد: 96، المجلس 11، ح 6.

2- السنّة قبل التدوين: 354 ـ 355.

3- تقييد العلم: 104. قال الصادق (عليه السلام) في رواية طويلة: أن الإمام الباقر كان يحدثهم عن رسول الله، فقال: أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أكذب من هذا، يحدّث عمن لم يره. فلما رأى الإمام الباقر ما يقولون حدثهم عن جابر بن عبد الله الأنصاري فصدّقوه، وكان جابر والله يأتيه يتعلم منه. (انظر رجال الكشي 1: 222، والكافي 1: 469 ـ 470 باب مولد أبي جعفر، ح 2). ويبدو أنّ الذين انتقدوا الإمام الباقر في تحديثه عن رسول الله كانوا لا يعرفون مدى أهمية المدونات وكتاب علي وطرق علم الإمام.

4- الفهرست لابن النديم: 36، تأسيس الشيعة: 327، الإمام الصادق 1: 552.

5- انظر رجال النجاشىّ: 151 رقم 396 و397 وص 178 رقم 468، وتأسيس الشيعة: 285.


الصفحة 501

الإمام جعفر بن محمّد (الصادق)(عليهما السلام)

وأمّا الإمام جعفر بن محمّد فإنّه قد أكّد على التدوين، وكان بين الفينة والأُخرى يظهر كتاب علىّ (عليه السلام) إلى أصحابه وللسائلين، خصوصاً إذا ما اختلف في مسألة من المسائل.

فعن أبي بصير المرادىّ، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شي من الفرائض، فقال لي: ألا أخرج لك كتاب علىّ؟

فقلت: كتابُ علىّ لم يدرس؟!

فقال: إنّ كتاب علىّ (عليه السلام) لا يدرس، فأخرجه فإذا كتاب جليل، وإذا فيه (رجل مات وترك عمَّهُ وخالَهُ، فقال: للعمّ الثلثان وللخال الثلث)(1).

فأبو بصير وهو من المقرّبين لأئمّة آل البيت(عليهم السلام) ومن الآخذين عنهم يظّن أنّ كتاب علىّ قد درس نتيجة منع أبي بكر عن المدوّنات، أو لعلّ عمر أحرقه فيما أحرق من كتب الصحابة، أو لعلّ معاوية تتبّعه بعد مقتل الإمام علىّ فأتلفه، لكنّ الإمام يجيبه بضرس قاطع (إنّ كتاب علىّ لا يدرس)، وذلك تقريراً لحقيقة أنّ هذا الكتاب هو أغلى شي عند أئمة أهل بيت فيستحيل أن يدرس أو يتلف، بل هو محفوظ عندهم يتوارثونه ويحفظونه كابراً بعد كابر.

على أنّه لا يخفى أنّ الإمام هو الذي ابتدأ السائل بأن يريه كتاب علىّ، وهو ما يؤكّد حرصه على أن يقع (كتاب علىّ) موقعه اللازم في فقه المسلمين ونفوسهم، فلذلك كان يكثر من الاعتداد به وإظهاره.

ولكثرة اهتمام الإمام جعفر الصادق بالمدوّنات والكتب قيل عنه بأنّه صحفىّ،

____________

1- الكافي 7: 119، باب ميراث ذوي الأرحام، ح 1، التهذيب 9: 324 الباب 30، ح 2.


الصفحة 502
فاعتزّ بتلك النسبة وقال: نعم أنا صحفىّ، قرأت صحف آبائي إبراهيم وموسى(1).

وعن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: دخل علىّ أُناس من أهل البصرة فسألوني عن أحاديث كتبوها، فما يمنعكم من الكتاب، أَما إنّكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا(2).

وفي الكافي عن عدة من اصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن ظريف، عن أبيه ظريف بن ناصح، عن عبدالله بن ايوب عن أبي عمرو المتطبب قال: عرضت على أبي عبدالله يعني كتاب ظريف في الديات.

وروى الصدوق والشيخ باسانيدهما وذكرا أنه عرض على أبي عبدالله وعلى الرضا(3)

ويؤكّد ما ذكرناه ـ من تأكيد الأئمّة على المواريث (الفرائض) والقضاء والشهادات ـ ما رواه محمّد بن مسلم، قال: سألته عن ميراث العلم ما بلغ؟ أجوامع هو من العلم أم فيه تفسير كلّ شي من هذه الأُمور التي يتكلّم فيها الناس مثل الطلاق والفرائض؟ فقال: إنّ عليّاً (عليه السلام) كتب العلم كلّه، القضاء والفرائض.....(4).

فعدول الإمام عن الطلاق إلى القضاء بعد ذكر العلم كلّه، فيه إشارة إلى ما تقدّم من كثرة حصول التحريف والتبديل في هذين البابين، وهذه نكتة ذكر الخاصّ بعد العامّ، لأنك قد عرفت أنّ عمر بن الخطّاب كان يجهل الكثير من أحكام القضاء، وكان يجهل حكم الجدّة والكلالة وغيرهما، وكان يتّكل كثيراً على قضاء الآخرين كعلىّ بن أبي طالب وغيره، وكان الأئمّة يؤكدّون على إخراج كتاب علىّ في القضاء

____________

1- انظر علل الشرائع 1: 89، الباب 81، ح 5. لأنَّ المأثور عن أهل البيت(عليهم السلام) بأنّهم قد عرفوا علم الأنبياء وكانت عندهم صحفهم (انظر بصائر الدرجات).

2- جامع أحاديث الشيعة 1: 298، كتاب عاصم بن حميد الحنّاط: 33.

3- الكافي 7: 324 ح 9 والفقيه 4: 54 ح 194 والتهذيب 10: 295 / 1141.

4- بصائر الدرجات: 163، باب الأئمة أن عندهم الصحيفة الجامعة، ح 7.


الصفحة 503
والمواريث لما أصاب المسلمين في هذين من تبدل واختلاط.

وقد كان الإمام جعفر الصادق يعتزّ بوجود صحيفة علىّ والجفر(1) عنده، وأنّهما من مكنون علم النبّي! فعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذُكِرَ له وقيعة ولد الحسن، وذكرنا الجفر، فقال: والله إنّ عندنا لجلدي ماعز وضأن، إملاء رسول الله! وخطّ علىّ، وأنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، أملاها رسول الله! وخطّها علىّ(عليه السلام) بيده وإنّ فيها لجميع ما يحتاج إليه حتّى أرش الخدش.(2)

وبعد هذا نعلم أنّ الإمام جعفر الصادق كان رأس الهرم في البناء التدوينىّ عند أئمّة أهل البيت، وأنّه كان جلّ اعتماده على كتاب علىّ وباقىّ كتب آبائه عن رسول الله! وما ورثوه من صحف الأنبياء والمرسلين.

والعجيب في الأمر أنّ أتباع مدرسة المنع ظلّوا يعيبون على أصحاب المدوّنات حتّى عصور متأخّرة، ويعتبرون أنّ الأخذ عن الرجال هو العلم أمّا النقل عن النصوص المكتوبة المدوّنة فهو العيب إذ مرَّ عليك رمي أبي حنيفةَ للصادق بأنّه صحفي، لكنّ الصادق كان يقول لهم ولغيرهم: ما لهم ولكم؟! وما يريدون منكم وما يعيبونكم؟!... أما والله إنّ عندنا ما لا نحتاج إلى أحد والناس يحتاجون إلينا، إنّ

____________

1- عنْوَنَ الملاّ كاتب الچلبي في كشف الظنون 1: 591 علم الجفر والجامعة... إلى أن قال: وهذا علم توارثه أهل البيت ومن ينتمي إليهم ويأخذ منهم من المشايخ الكاملين وكانوا يكتمونه عن غيرهم كل الكتمان، وقيل لا يقف في هذا الكتاب حقيقة إلا المهدي المنتظر خروجه في آخر الزمان، وورد هذا في كتب الأنبياء السالفة كما نقل عن عيسى عليه السلام نحن معاشر الأنبياء نأتيكم بالتنزيل وأما التأويل فسيأتيكم به البارقليط [أي علي ]الذي سيأتيكم بعدي...ـ ثم قال ـ قال ابن طلحة: الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو يخطب بالكوفة على المنبر، والآخر أسره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمره بتدوينه فكتبه علي رضي الله عنه حروفاً متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر يعني في رَق قد صبغ من جلد البعير فاشتهر بين الناس به لأنه وجد فيه ما جرى للأولين والآخرين. والناس مختلفون في وضعه وتكسيره فمنهم من كسره بالتكسير الصغير وهو جعفر الصادق وجعل في خافية الباب الكبير ا ب ت ث إلى آخرها والباب الصغير أبجد إلى قرشت و....

2- بصائر الدرجات: 174، باب في الأئمة أنهم اعطوا الجفر والجامعة، ح 10.


الصفحة 504
عندنا الكتاب بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخَطَّهُ علىّ (عليه السلام) بيده، صحيفة طولها سبعون ذراعاً فيها كلّ حلال وحرام(1).

وقد اشتهرت كتب الصادق التي أخذها عن آبائه وأجداده، وكتبه التي أملاها على أصحابه عند الخاصّة والعامّة.

قال ابن عدّي: ولجعفر أحاديث ونسخ، وهو من ثقات الناس كما قال يحيى بن معين، وقال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين(2).

ونقل محمّد عجاج الخطيب كلام صاحب التهذيب بقوله: كان عند جعفر الصادق بن محمّد الباقر (80 ـ 148هـ) رسائل وأحاديث ونسخ، وكان من ثقات المحدثين(3).

والإمام جعفر بن محمّد أكبر عقليّة فقهيّة عرفها المسلمون آنذاك، أدرك بثاقب بصيرته الخطر المقبل الذي يحدق بالمسلمين فيما يتعلّق بأهمّيّة التدوين، فقال للمفضّل بن عمر الجعفىّ:

اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج، لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم(4).

وهذا هو عين التواصل والتوافر الذي قلناه عند علماء أهل البيت، فالإمام الحسن(عليه السلام) ـ كما تقدّم ـ كان يأمرهم بالكتابة فيما إذا منعوا من الرواية نتيجة للإرهاب الفكري الأموىّ، وكذلك جاء الإمام الصادق بنفس الفكرة الحاضّة على العناية بالمدوّنات، لأنّ الزمان كان زمان تلك المأساة التي تجدّدت أو أوشكت أن

____________

1- بصائر الدرجات: 169، باب (13)، ح 14.

2- تهذيب التهذيب 2: 88، ت 156.

3- السنّة قبل التدوين: 358.

4- الكافي 1: 52، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب، ح 11.


الصفحة 505
تتجددّ في العصر العبّاسىّ، لكنهّا بشكل وإطار آخر، إذ أنّ منع التدوين في العصر العبّاسىّ كاد يكون مرتفعاً، إلاّ أنّ الإشكاليّة كانت في أنّ انفتاح الحكّام العبّاسييّن على الأُمم المجاورة من الفرس والأتراك وغيرهم، والترف الذي بدت بوادره في عصر المنصور ووصل أوجَه في زمن الرشيد، كان له أشدّ الأثر في صرف الناس عن العلم الإلهي، وانصرافهم إلى اللهو والمجون، أو إلى علوم فرعيّة أُخرى، بل أصبح الارتباط النفسىّ والعقائدىّ أمراً متعسّراً، والحصول على العلم الحقيقىّ في مثل تلك الأمواج المتلاطمة أمراً يكاد يكون مستحيلاً.

فمن هنا أكدّ الإمام جعفر الصادق على ضرورة حفظ المدوّنات لكي يأنسوا بنور تلك الكتب في ظلمات الاختلاف والسياسات.

وقد ورد النصّ عن الصادق بأنّه وأصحابه كانوا لا يضيّعون حتّى فرصةً واحدة يمكن استغلالها بالتدوين، فقد ورد أنّ الصادق (عليه السلام) قال لأحد أصحابه: إنّك لا تحفظ، فأين صاحبك الذي يكتب لك؟

فقلت: أظنّ شغله شاغل، وكرهت أن أتأخّر عن وقت حاجتي.

فقال الصادق لرجل في مجلسه: اكتب له(1).

هذا، وقد دوّن أصحابه ما قاله في أُصول وكتب، وكان (عليه السلام) له رسائل كتبَها، بعضها ردود على الملحدين(2)، وبعضها أجوبة لأسئلة عبد الله النجاشىّ (والي الأهواز)(3)، وبعضها بيانات لبعض الأحكام الشرعيّة سمّيت ب (الجعفريّات) أو (الأشعثيّات) نسبة إلى راويها ابن الأشعث(4).

____________

1- دلائل الإمامة، للطبرىّ: 555.

2- انظر الذريعة 2: 484 وهو كتاب الاهليجة في التوحيد، وقد أوردها المجلسىّ في البحار 1: 15، 32، 55.

3- أوردها ابن زهرة الحلبىّ في أربعينه: 46، ح 6.

4- طبع هذا الكتاب عدّة مرات بطبعات مختلفة.


الصفحة 506
وقال يحيى بن سعيد: أملى عَلَيَّ جعفر الحديث الطويل ـ يعني في الحجّ ـ(1).

الإمام موسى بن جعفر (الكاظم)(عليهما السلام)

سار الإمام موسى بن جعفر على نهج آبائه وأجداده في التدوين وحفظه لمدوّناتهم، وبالخصوص كتاب علىّ (عليه السلام) ، لكنّ التدوين في عصره الشريف يكاد يتّخذ شكلاً آخر، وهو شكل المكاتبات السرّيّة التي كان يكاتب بها أصحابه ويجيبهم عن مسائل دينيّة من وراء قضبان حديد هارون الرشيد العبّاسىّ، فقد مكث الإمام الكاظم في السجن سبع سنوات على ما في بعض الروايات وعلى بعضها خمسة عشر عاماً، وهذه المدّة الطويلة من الحبس تفرز بطبيعة الحال أُسلوب المكاتبة، فلذلك كان الإمام يكاتب أصحابه ويكاتبونه ولم يكتف بدخول بعض أصحابه إليه سرّاً وسؤالهم إياه عن مسائل دينهم برغم ما في الكتابة من خطورة احتمال عثور السلطات عليها. هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية فقد كثر اللهو والفساد والترف المادّيّ والفكرىّ في حكومة هارون الرشيد ممّا أدّى بكثير من الصالحين والأتقياء إلى الانزواء واتخّاذ أُسلوب التصوّف والانعزال وما يقرب من هذه المناحي العلميّة التي سرعان ما انقلبت إلى مناحىَ فكريّة طرحت أفكاراً خطيرة في المسلمين، وذلك ما حدا بالإمام أن يركّز اهتمامه في هذا المجال ويظهر معنى الزهد الحقيقىّ والمسار الصحيح في النهج الإسلامىّ، فنرى بشر الحافي ينقلب من حالة الترف والفساد إلى حالة راقية من الزهد والتقوى بفضل تفهيم الإمام الكاظم.

كلّ هذه الأُمور; ـ السجن، وتصحيحُ الانحرافات، ومعالجة المذاهب المستجدّة ـ جعلت الفقه الكاظمىّ يذهب قليلاً خلف الأضواء التي تركّزت على هذه الجوانب التي ذكرناها.

____________

1- انظر تهذيب التهذيب 2: 88.


الصفحة 507
ومع كلّ تلك التيّارات نجد ملامح التدوين واضحة عن الإمام الكاظم، إلاّ أنّها ـ والإنصاف يقال ـ أقلّ ممّا هي عليه عند الإمامين الباقر والصادق.

فقد نقل موسى بن إبراهيم أبو عمران المروزىّ البغدادىّ ما أسنده الكاظم عن آبائه عن أجداده عن النبىّ من مسائل، سمعها من الإمام الكاظم (عليه السلام) عندما كان في سجن هارون العبّاسىّ وقد ذكر هذا المسند كلّ من الطوسىّ والنجاشي(1).

وذكر هذا المسند أيضاً الچلبىّ في كشف الظنون، وقال: ورواه أبو نعيم الأصفهانىّ، وروى عنه هذا المسند موسى بن إبراهيم(2). وقد طبع هذا الكتاب عدّة طبعات.

هذا وأن كتاب علي كان موجوداً عند الإمام الكاظم وقد عرّفه الإمام الصادق للمفضل بن عمر بـ (صاحب كتاب علي) وقد روى النعماني في الغيبة عن عبد الواحد، عن أحمد بن محمد بن رباح، عن أحمد بن علي الحميري، عن الحسن بن أيوب، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي، عن [جماعة ]الصائغ، قال: سمعت المفضل بن عمر يسأل أبا عبد الله (عليه السلام): هل يفرض الله طاعة عبد ثم [يكتمه ]خبر السماء؟ فقال له أبو عبد الله: الله أجل وأكرم وأرأف بعباده وأرحم من أن يفرض طاعة عبد ثم [يكتمه ]خبر السماء صباحاً ومساءاً، قال: ثم [طلع ]أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): [أيسرك ]أن تنظر إلى صاحب كتاب علي، فقال له المفضل: وأي شي يسرني إذاً أعظم من ذلك؟ فقال: هذا هو صاحب كتاب علي(3).

وفي النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري: سمعت ابن أبي عمير، عن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتعة؟ قال: وما أنت وذاك وقد أغناك الله

____________

1- انظر الفهرست للطوسىّ: 244 الترجمة 722، رجال النجّاشي: 407 رقم 1082.

2- كشف الظنون: 1682.

3- الغيبة للنعماني: 327، ح 4 وفيه بدل (جماعة بن سعد الصائغ) حماد الصائغ وبدل (يكتمه) يكنه وبدل (طلع) اطلع وبدل (أيسرك) يسرك. وعنه في خاتمة المستدرك 4: 113.


الصفحة 508
عنها، قلت: إنما أردت أن أعلمها، قال: [هي ]في كتاب علي (عليه السلام) قد تزيدها وتزداد؟ فقال: وهل يطيّبه إلاّ ذاك(1).

وقد أخذ علي بن جعفر العلم عن أخيه موسى بن جعفر، ودوّنه في كتاب اسمه (مسائل علىّ بن جعفر) وقد طبع هذا الكتاب عدّة مرّات وطبع أخيراً في مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم، هذا مع أنّ هناك رسائل وكتب أُخرى رواها عنه أصحابه.

وقد عارض الإمام الكاظم الأٌصول المستجدّة ـ كالقياس والأخذ بالرأي ـ في مثل قوله لسماعة بن مهران(2) ولمحمّد بن حكيم، وإليك نصّ خبر ابن حكيم: قال: قلت لأبي الحسن موسى: جعلت فداك فَقِهْنا في الدين وأغنانا الله بكم عن الناس حتّى إنّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه إلاّ وتحضره المسألة ويحضر جوابها فيما مَنَّ الله علينا بكم فربّما ورد علينا الشي لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شي، فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به.

فقال: هيهات، هيهات، في ذلك ـ والله ـ هلك من هلك يا بن حكيم...(3)

وفي رواية أُخرى أنًّ أبا يوسف سأل الإمام عن المحرم يظلل؟

قال: لا.

قال: فيستظّل بالجدار والمحمل ويدخل البيت والخباء؟

قال: نعم.

قال: [الراوي:] فضحك أبو يوسف شبه المستهزئ.

____________

1- النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري: 78، ح 199 وفي الكافي 5: 452، باب أنه يجب أن يكف عنها [زواج المتعة ]من كان مستغنياً، ح 1، نزيدها وتزداد بدل (قد تزيدها وتزداد).

2- اختصاص المفيد: 281، بصائر الدرجات: 321، الباب 15، ح 1، مستدرك وسائل الشيعة 17: 259، ح 21282.

3- المحاسن 1: 212، ح 89، الكافي 1: 56، ح 9، الوسائل 27: 86، ح 33280.


الصفحة 509
فقال له أبو الحسن: يا أبا يوسف إنّ الدين ليس بالقياس كقياسك وقياس أصحابك، إنّ الله عزّ وجلّ أمر في كتابه بالطلاق وأكّد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج، وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله، وأبطلتم الشاهدين فيما أكّد الله عزّ وجلّ وأجزتم طلاق المجنون والسكران. حجّ رسول الله فأحرم ولم يظلل، ودخل البيت والخباء واستظلّ بالمحمل والجدار ففعلنا كما فعل رسول الله، فسكت(1).

وقد كان (كتاب علىّ) محفوظاً أيضاً عند الإمام الكاظم، وقد عمل به وأراه لأصحابه وغيرهم، خصوصاً في المسائل الخلافية كما سلف.

فعن حماد بن عثمان، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل ترك أُمّه وأخاه، فقال: يا شيخ تريد على الكتاب؟

قال: قلت: نعم.

قال: كان علىّ (عليه السلام) يعطي المال الأقرب فالأقرب.

قال: قلت: فالأخ لا يرث شيئاً؟

قال (عليه السلام): قد أخبرتك أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعطي المال الأقرب فالأقرب(2).

إنّ جواب الإمام كان ببيان القاعدة دون التفصيل، لأنّ السامع كان قد فهم التفصيل والمراد، والإمام (عليه السلام) لم يصرّح بالحكم خوفاً من الحكّام وأتباعهم الذين يترصّدونه فيما ينقله عن آبائه وأجداده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ويلاحظ أنّ الإمام وثّق جوابه بالمبادرة إلى عرض الكتاب على السائل، زيادة في تحقيق الاطمئنان عند السائل وأنّه (عليه السلام) لا يجيب كما يجيب الآخرون من عنديّاتهم.

____________

1- الكافي 4: 353، باب الظلال للمحرم، ح 15.

2- الكافي 7: 91 باب ميراث الأبوين، ح 2، التهذيب 9: 270، ح 981.


الصفحة 510
وإذا استقرأنا تاريخ (كتاب علىّ) عند الأئمة وجدناه يتدرج قليلاً قليلاً حتّى يبرز بشكل ملحوظ في فقه الإمام الباقر (عليه السلام) والإمام جعفر الصادق، ثمّ ينحسر عند الإمام الكاظم، ثمّ يبدأ يتدرج قليلاً قليلاً كما كان من بعد عصر الإمام الكاظم(عليه السلام) ، وذلك لأنّ الفقه الصحيح والمروّيات النبويّة التي نقلها آل محمّد وأعلموا المسلمين كافّة بوجود كتاب علىّ عندهم وأنّهم ينقلون العلم منه وممّا ضارعه من الكتب، كانت هذه الأُمور قد تكاملت وشكّلت مدرسة واضحة المعالم في فترة هؤلاء الأئمة الثلاثة:، فكان إبرازهم المكثّف بالشكل الذي ذكرناه لكتاب علىّ إنّما هو لأجل الترسيخ والنشر للعلوم وقد حصل معظمه في عصر هؤلاء الأئمّة الثلاثة.

بقي شي

هو أنّ إبراز الأئمّة لكتاب علىّ كان يكثر بشكل ملحوظ في باب الإرث والقضاء والشهادات، فما هو سرّ هذا الاختصاص؟

إنّ تتّبع المسير يدلّنا على حقيقة خطيرة تؤكّد ما ذهبنا إليه ـ وأصّلناه في كتابنا هذا ـ من أنّ احتياج الخلفاء للزعامة الدينيّة مع قصورهم في هذا المجال كان من العوامل الأساسية التي حدت بهم إلى منع التحديث والتدوين، مضافاً إلى أنّ المطّاطيّة الموجودة في الرأي والاجتهاد كانت تخدمهم كثيراً في الأوقات الحرجة، والذي يثبت هذه الحقيقة هو كثافة المنقولات عن كتاب علىّ في باب الإرث وباب القضاء والشهادات.

إذ أنّ أوّل اختلاف فقهىّ حصل بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، كان الاختلاف بين فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وبين الخليفة أبي بكر، ذلك الاختلاف الذي أثار ضجّة كبيرة بقيت آثارها حتّى اليوم.


الصفحة 511
فحين كانت فدك بيد الزهراء وانتزعها أبو بكر من يد وكيلها جاءت 3 تطلبها منه وادّعت بمشهد من المسلمين أنّها نِحلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها، ـ على ما هو عليه الأمر في واقع الحال ـ فطلب أبو بكر منها أن تأتي بالشهود فجاءت بعلىّ والحسن والحسين (عليهما السلام) وأُمّ أيمن أو أُمّ سلمة.

فاضطرّ أبو بكر في ذلك المجلس إلى ردّ شهاداتهم معلّلاً بعلل لم تكن مقبولة عند الزهراء لعدم مطابقتها مع كتاب الله ولا سنّة رسول الله، فكان هذا أوّل خلاف بين المسلمين في القضاء والشهادات. ثمّ لمّا ردّ أبو بكر الشهود وأبطل شهاداتهم، حاججته فاطمة الزهراء ـ تنزّلاً ـ بأنّ فدكاً إن لم تكن نحلةً لها فلتكُنْ إرثاً، واستدلّت عليه بعمومات آيات الإرث، فقالت له فيما قالت في خطبتها الشهيرة الرائعة: وأنتم الآن تزعمون أن لا إرثَ لنا { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}(1).. يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرِثُ أبي، لقد جئت شيئاً فريّا، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم; إذ يقول: {وورث سليمانُ داود }(2)، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريّا إذ قال: { فهب لي من لدنك وليّاً * يرثني ويرثُ من آل يعقوبَ}، وقال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}، وقال: { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين}، وقال: { إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين}(3). وزعمتم أن لا حظوة لي...(4)

وهنا اضطرّ الخليفة إلى الادّعاء ولوحده أنّه سمع النبّي يقول: (نحن معاشر

____________

1- المائدة: 50.

2- النمل: 16.

3- البقرة: 180.

4- الاحتجاج 1: 138، باب احتجاج فاطمة عليها السلام لما منعوها فدك، وانظر شرح نهج البلاغة 16: 209 ـ 253.


الصفحة 512
الأنبياء لا نورِّث درهماً ولا ديناراً)، وهذا ثاني اختلاف لأنَّ الزهراء عارضتة بعمومات الإرث في القرآن وأنّ داود ورّث سليمان، ووو... وحسبنا في إثبات بطلان دعواه ما أعطاه هو بنفسه للزبير بن العوّام ـ صهره على ابنته أسماء أُمّ عبد الله بن الزبير ـ ومحمّد بن مسلمة وغيرهما من متروكات النبّي(صلى الله عليه وآله) (1)، ومن هنا يمكننا استنتاج أنّ هذين البابين من الفقه قد مُنيا أكثر من غيرهما بالتبديل تارة، وبالجهل تارة أُخرى.

والذي يؤكّد هذه الحقيقة هو امتداد التغييرات في هذين البابين، فقضيّة قتل خالد بن الوليد لمالك بن النويرة وزناه بامرأته، كانت امتداداً لسياسة التجهيل وفتح باب الرأي في باب القضاء، حتّى أنّ أبا بكر اختلق قضيّة (تأوّل فأخطأ) للخروج من ذلك المأزق القضائىّ، مع أنّ خالداً لم يستطع إنكار الدخول بامرأة مالك لشهادة الجيش بذلك، وفيهم العدول الثقات.

وحصل مثل ذلك في زمن خلافة عمر بن الخطّاب، فقد اختصم علىّ والعبّاس عند عمر ـ وفي حديث آخر عند أبي بكر ـ في ميراث رسول الله، فحكم بدابّة رسول الله وسلاحه وخاتمه لعلىّ، فاعتُرض عليه بأنّه كان قد أيّد من قبل مرويّة أبي بكر في عدم توريث الأنبياء، فما باله الآن يورِّث عليّاً والعبّاس من النبّي؟ فلذلك اضطرّ عمر إلى نهرهما وعدم التدّخل في حلّ تلك القضيّة، وهذا هروب من الخليفة في بابي الإرث والقضاء والشهادات حتّى عطّلت الحدود.

وقد حصلت في زمن حكومة عمر أيضاً مسألة زنا المغيرة بن شعبة وشهادة الشهود، ثمّ التواطؤ مع الشاهد الأخير لدرء الحدّ عن المغيرة، مع أنّ شهادة ثلاثة شهود على الزنا وإن لم يثبت بها الزنا إلاّ أنّه يثبت بها التعزير لخلوته بامرأة محصنة

____________

1- انظر ما نشرته مجلّة (الرسالة المصريّة) في عددها 518 من السنّة 11 في ص 457، وانظر النصّ والاجتهاد: 124.


الصفحة 513
رأوه متبطّنها، وسمعوا نخيرهما، ورأوا في فخذيهما تشريم جدري، ووو...، لكنّ شيئاً من ذلك لم يلتزمه الخليفة، بل ضرب به عرض الحائط، وهذا أيضاً اجتهاد في باب القضاء والشهادات وتعطيل لإقامة الحدود.

ومثل ذلك كان في زمن خلافة عثمان بن عفّان، في قضيّة الوليد حين شرب الخمر وصلّى بالناس وهو سكران، وقد تمّ الشهود كُمُلاً، فأراد عثمان درء الحدّ عنه لو لا إصرار علىّ والمسلمين على إقامة ذلك الحدّ، ومن يطالع أدلّة عثمان بن عفّان لتبرئته وتهديده الشهود يتيقّن ممّا قلنا، حتّى أنّ أُمّ المؤمنين عائشة قالت (إنّ عثمان قد أبطل الحدود وأخاف الشهود)(1).

وكذلك استمرّ التحريف في الإرث حتّى أعطى عثمان فدكاً والعوالي لمروان بن الحكم مخالفاً بفعله ما ادّعته الزهراء ـ في أنّها نحلة أو إرث لها ـ وما قاله الخليفة أبو بكر في أنّها للمسلمين.

وهكذا استمرّت الحالة وتأزّمت حتّى وصل الأمر بيزيد أن يفعل ما يشاء من المحرّمات ويشرب الخمر على رؤوس الأشهاد دون أن يقيم عليه معاوية الحدّ أو ينهاه عن التظاهر بالفسق والفجور على أقلّ تقدير.

هذا مع أنّ الأموييّن، ومعاوية بالخصوص، قاتل علياً بحجّة (الإرث) وأنّه وارث عثمان بن عفّان، لمجرّد كونهما مشتركين في النسب الأعلى، مع أنّ ابن عثمان كان حيّاً وهو ولىّ الدم دون معاوية، إلاّ أنّ معاوية حرّف حقائق الإرث وانطلت ادّعاءاته على مسلمي الشام حتّى قاتلوا وقُتِلوا بناءً على هذا التحريف الشنيع في الإرث. وهذا التحريف كان له نظير في السقيفة حين أخذت قريش الخلافة من الأنصار بدعوى الأقربيّة، وتركوا عليّاً بحجّة أنّهم أيضاً عشيرة النبّي وهم أقوى على الإدارة منه، مع أنّهم شيوخ وعلىّ أصغر منهم سنّاً!!!

____________

1- أنساب الأشراف 5: 34، تاريخ الطبري 4: 276.


الصفحة 514
وجاء العبّاسيّون فجاءت الطامّة الكبرى في الإرث والقضاء والشهادات، لأنّ المنازعين للعبّاسيّين ـ وهُم العلويّون ـ أقرب للنبّي نسباً من العباسيّين، وذلك ما يبطل دعواهم بأنّهم أحقّ بالخلافة وإرث النبىّ من غيرهم، فلذلك جدّوا في تحريف قوانين الإرث وبدّلوا مفاهيم ونصوص كتاب الله والسنّة النبويّة المباركة حتّى إنّ العبّاسيّين دفعوا مروان بن أبي حفصة لأن يقول:


أنّى يكون وليس ذاك بكائنلبني البنات وراثة الأعمام

فأجابه شاعر الشيعة تَلقّياً من أئمّته(عليهم السلام) ـ وفي بعض المصادر أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) هو الذي أجاب هذا التحريف الإرثىّ ـ بقوله:


لِمَ لا يـكون وإنّ ذاك لكائنلـبـنـي البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من إرثهوالـعـمّ مـتـروك بغير سهام
مـا للطليق وللتراث؟ وإنّماسجد الطليق مخافة الصمصام(1)

كما ورد أيضاً أنّ هارون الرشيد دخل إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة، فقال: السلام عليك يا ابن العمّ، فقال الإمام موسى الكاظم: السلام عليك يا أبه، فاغتاظ هارون الرشيد من ذلك(2).

وفي مجلس آخر سأل الرشيد الإمام الكاظم: بمَ تدّعون أنّكم أولاد رسول الله وورثته دوننا وكلّنا أبناء عمّ؟

فقال الإمام الكاظم للرشيد: أرأيت لو أنّ رسول الله خطب إليك ابنـتك أكنت تزوّجه؟

فقال الرشيد: إي والله! وأفتخر بذلك على العرب والعجم.

____________

1- عيون أخبار الرضا 1: 189، الباب 43، ح 2، كما روي الشعر بعبارات مشابهة كما في الاحتجاج 2: 167، الصراط المستقيم 1: 67 وقد نسبه ابن جبر في نهج الإيمان: 386 لابن أبي العوجاء.

2- انظر روضة الواعظين: 216، الفصول المختارة: 36.


الصفحة 515
فقال الإمام الكاظم(عليه السلام): ولكنّه لو خطب ابنتي لا يسعني أن أزوّجه لأنّه أبي، فأُفحم هارون الرشيد(1). ومثله قضيّة يحيى بن عبد الله بن الحسن مع الرشيد(2)، وكان ذلك من الأسباب التي دعت الرشيد للإيقاع بالإمام موسى الكاظم(عليه السلام) ويحيى وغيرهما من آل البيت(عليهم السلام).

فلاحظ هذا التواصل في التحريف في الإرث والقضاء والشهادات، حتّى أنّ الرشيد أرسل إلى أبي يوسف القاضي في أمر أهمّه وذلك هو أنّ الأمين كان قد شرب الخمر فرآه هارون الرشيد وبعض مَن في قصره، فوقع الرشيد في مأزق ومحذور أخلاقىّ أمام المسلمين، فإن تركَ هذا الحدّ شاع ذلك وفسَدَ ادّعاؤه إمرة المؤمنين، وفي الجانب الآخر فإنّه لا يريد إقامة الحدّ على ولىّ عهده والمرشّح لإمرة المؤمنين من بعده، فلذلك استعان بأبي يوسف القاضي فأخرج له مخارج ضعيفة تُضحِك ذات الثكل، فسجد هارون الرشيد شكراً، وأعطى لأبي يوسف مالاً جزيلاً(3).

وهل بعد هذا التحريف في باب القضاء والشهادات من التحريف؟! من هنا ومن هذا الاستعراض السريع فهمنا سرّ تأكيد الأئمّة على هذين البابين، مع أنّ طبيعة الحكّام المتأخّرين كانت تدعوهم إلى بعض التصرّفات كسلب أموال الناس، ولا يمكن ذلك إلاّ بالتلاعب بالمواريث وقوانين الأموال، وكذلك شرب الخمور ومجالس اللهو والغناء والطرب كان يعوزها أحكام تنصّ على ما يُوجِدُ المبرّر لهم في عدم إقامة الحدود بإبطال الشهود وتغيير القضاء، والفقه الصحيح يفنّد كلّ تلك المزاعم والمدَّعيات، كما يفنّد المزاعم القائلة بأنّ خليفة الله في الأرض يغفر الله له كلّ ما يفعله وأنّه غير محاسب!!

____________

1- انظر عيون أخبار الرضا 2: 80، الاحتجاج 2: 164، الوسائل 20: 363، ح 25837.

2- مقاتل الطالبيّين: 310 ـ 313.

3- انظر القصّة في نشوار المحاضرة 1: 252.