الصفحة 516

الإمام علىّ بن موسى (الرضا)(عليهما السلام)

كانت كتب أهل البيت(عليهم السلام)محفوظة عندهم إماماً عن إمام. وأهمّ تلك الكتب كتاب علىّ(عليه السلام) كما عرفت، والجفر والجامعة وقد وصل هذا الكتاب إلى الإمام الرضا(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام).

أما عن الجفر فقد روى الكشي في رجاله عن نصر بن قابوس: أنّه كان في دار الإمام الكاظم، فأراه ابنه الإمام الرضا وهو ينظر في الجفر فقال: هذا ابني علي والذي ينظر فيه الجفر(1).

وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الحسن (عليه السلام) ، وعن أبيه عن ابن فضال قال: عرضت كتاب علي على أبي الحسن (عليه السلام) فقال: هو صحيح، قضى أمير المؤمنين في دية جراحة الأعضاء(2).

وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الحسن (عليه السلام) ، وعنه عن أبيه عن ابن فضال قال: عرضت الكتاب على أبي الحسن (3).

وعن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن فضال ومحمد بن عيسى، عن يونس جميعاً قالا: عرضنا كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين على أبي الحسن الرضا(عليه السلام) فقال: هو صحيح(4).

بلى، قد بدأ في زمن الرضا وما بعده عصر جديد، وهو عصر التصنيف والتأصيل والتوثيق للمدوّنات التي يُدّعى أو يفترض أنّها نقلت مطالب كتاب علىّ وأحكام الدين التي نقلها أهل البيت(عليهم السلام)، فكان أصحاب الأئمّة يجمعونها

____________

1- رجال الكشي: 382.

2- تهذيب الأحكام 10: 292، ح 1135.

3- الكافي 7: 327، ح 7.

4- الكافي 7: 330، ح 1. و7: 327 ح 9 وعنه في وسائل الشيعة 27: 85.


الصفحة 517
ويعرضونها على الأئمّة(عليهم السلام) لتوثيق المنقولات.

وقد كان ابتداء هذا المسير بشكل ملحوظ في عهد الرضا(عليه السلام) ، فعن ابن فضّال، ومحمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن، قالا: عرضنا كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين(عليه السلام) على أبي الحسن الرضا(عليه السلام) ، فقال: هو صحيح.

وعن عبد الله الجعفىّ، قال:

دخلت على الرضا(عليه السلام) ومعي صحيفة أو قرطاس فيه (عن جعفر: أنّ الدنيا مثّلت لصاحب هذا الأمر في مثل فلقة الجوزة) فقال: يا حمزة ذا والله حقّ فانقلوها إلى أديم(1). فهنا يُرى أنّ المروىّ عن جعفر الصادق(عليه السلام) جي به ليستوثق من صحّته عن طريق الإمام الرضا، إما بأن يعرضه(عليه السلام) على ما في كتاب علىّ المحفوظ عنده كما يظهر في الحديث الأوّل. أو يكون أعمّ من ذلك، بأن يرى مطابقته مع ما أخذه عن آبائه، ومهما كان الأمر فإنّ المقصود والهدف هو توثيق المرويات عن الأئمّة الثلاثة الباقر والصادق والكاظم والتي تنتهي بطبيعة مسلك أهل البيت إلى عليّ(عليه السلام) ثمّ إلى النبىّ(صلى الله عليه وآله).

وعن حمزة بن عبد الله الجعفرىّ، عن أبي الحسن، قال: كتبت في ظهر قرطاس (أنّ الدنيا متمثّلة للإمام كفلقة الجوزة) فدفعته إلى أبي الحسن [الرضا ]، وقلت: جعلت فداك; إنّ أصحابنا رووا حديثاً ما أنكرته، غير أنّي أحببت أن أسمعه منك، قال: فنظر فيه ثمّ طواه، حتّى ظننت أنّه قد شَقَّ عليه، ثمّ قال: هو حقّ فحوّله في أديم (2).

وقد اهتم الإمام الرضا كثيراً بأمر التدوين حتّى كان يقدِّم الدواة لمن يريد أن يدوّن خدمة للعلم والدين، فعن علىّ بن أسباط، قال: سمعت أبا الحسن الرضا(عليه السلام)

____________

1- الكافي 7: 330، كتاب الديات، ح 1، الاستبصار 4: 299، الباب 179 في دية الجنين، ح 3.

2- بصائر الدرجات: 428، الباب 14، ح 4.


الصفحة 518
يقول: كان في الكنز الذي قال الله {وكان تحتَهُ كنزٌ لهما}(1)...

فقلت: جعلت فداك أُريد أن أكتبه، قال: فضرب والله يده إلى الدواة ليضعها بين يدي، فتناولت يده فقبلتها وأخذت الدواة فكتبته(2).

هذا مع أنّ الرضا كان يُؤكّد أنّ ما يقوله إنّما هو الحقّ الموروث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّ التراث الصحيح عنده(عليه السلام) ، قال يعقوب بن جعفر: كنت مع أبي الحسن [الرضا] بمكّة فقال له رجل: إنّك لتفسّر من كتاب الله ما لم نسمع به!!

فقال أبو الحسن(عليه السلام): علينا نزل قبل الناس، ولنا فُسِّر قبل أنْ يُفسّر في الناس، فنحن نعرف حلاله وحرامه... فهذا علم ما قد أنهيته إليك وأدّيته إليك ما لزمني، فإن قبلت فاشكر، وإن تركتَ فإنّ الله على كلّ شي شهيد(3).

وعن عبد السلام بن صالح الهروىّ قال: سمعت الرضا يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا.

فقلت له: وكيف يُحيي أمركم؟

قال: يتعلَّم علومنا ويعلِّمها الناس، فإن الناس لو علِموا محاسن كلامنا لا تَّبعونا(4).

وعن ابن أبي نصر، قال، قلت للرضا: جعلت فداك أنّ بعض أصحابنا يقولون: نسمع الأثر يُحكى عنك وعن آبائك فنقيس عليه ونعمل به؟

فقال: سبحان الله; لا والله ما هذا من دين جعفر(عليه السلام) ، هؤلاء قوم لا حاجة بهم إلينا، قد خرجوا من طاعتنا وصاروا في موضعنا، فأين التقليد الذي كانوا يقلّدون

____________

1- الكهف: 82.

2- الكافي 2: 59، باب فضل اليقين، ح 9.

3- بصائر الدرجات: 218، الباب 8، ح 4.

4- معاني الأخبار: 180 باب معنى قول الصادق من تعلم علما ليماري به السفهاء، ح 1، عيون أخبار الرضا 2: 275، الباب 63، ح 69.


الصفحة 519
جعفراً وأبا جعفر؟! قال جعفر: لا تعملوا على القياس فليس من شي يعدله القياس إلاّ والقياس يكسره(1).

وللإمام كلامٌ عن الذين وقعوا في الشبهة والْتبس عليهم أمر الدين يقول فيه: إن هؤلاء القوم سنح لهم الشيطان، اغترّهم بالشبهة، ولبّسَ عليهم أمرَ دينهم، وأرادو الهدى من تلقاء أنفسهم، فقالوا: لِمَ، ومتى، وكيف، فأتاهم الهلك من مأمن احتياطهم، وذلك بما كسبت أيديهم {وما ربّك بظلام للعبيد} ولم يكن ذلك لهم ولا عليهم، بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه، لأنّ الله تعالى يقول في كتابه {ولو ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم} يعني آل محمّد(عليهم السلام)، وهم الذين يستنبطونه من القرآن ويعرفون الحلال والحرام وهم الحجّة لله على خلقه(2).

وللإمام صحيفة رواها عن آبائه تسمّى بـ (صحيفة الرضا) وقد طبعت عدة مرّات.

وله أيضاً الرسالة الذهبيّة التي كتبها للمأمون العبّاسىّ، فأمر المأمون بكتابتها بماء الذهب، ولذلك سمّيت بالذهبيّة ـ وقيل في سبب التسمية شي آخر ـ وقد طبعت هذه الرسالة عدّة طبعات.

كلّ هذا، غير ما أملاه(عليه السلام) على أصحابه وعلى فقهاء ومتفقهي المسلمين آنذاك، إذ كانت للإمام مجالس تدريس وإملاء.

روى علىّ بن علىّ الخزاعىّ ـ أخو الشاعر دعبل بن علىّ الخزاعىّ ـ قال:

____________

1- قرب الإسناد: 356 ـ 357ح 1275.

2- وسائل الشيعة 27: 171ح 33519 عن تفسير العيّاشىّ 1: 260، ح 206، وانظر جامع أحاديث الشيعة 1: 232.


الصفحة 520
حدّثنا أبو الحسن علىّ بن موسى الرضا(عليه السلام) بطوس، إملاءً في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر(1).

وهذا صريح بوجود مجالس كان يملي بها الإمام الرضا العلوم الإسلامية على علماء وحفّاظ المسلمين، وأنّه كان يهتّم بالتدوين والمدوّنات.

الإمام محمّد بن علىّ (الجواد)(عليهما السلام)

واصل الإمام الجواد مسيرة التدوين وحفظ المدوّنات والسعي الحثيث لضبطها وإبقائها، وقد عقد الخلفاء مجالس مناظرة لإفحامه، أو التقليل من شأنه العلمىّ باعتبار صغر سنّة، فلم يفلحوا في شي من ذلك، بل صار العكس حين انبهر به وبعلمه الفقهاء وعامّة المسلمين، وقد اشتهر عنه(عليه السلام) اهتمامه بالمسائل العقائديّة بجنب اهتمامه بالفقه والتدوين نظراً للظروف التي كان يعيشها ولم تقتصر جهود الإمام العلميّة على إدارته لمجالس المناظرة والمطارحة، بل راح يواصل مسيرة التوثيق التي ذكرناها، فكان على كامل الاطّلاع بما في كتاب علىّ(عليه السلام) وما نقل عنه الباقر والصادق (عليهما السلام).

فعن محمّد بن الحسن بن أبي خالد، قال: قلت لأبي جعفر الثاني: جعلت فداك; إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله، وكانت التقيّة شديدة فكتموا كتبهم فلم تُروَ عنهم، فلّما ماتوا صارت الكتب إلينا؟

فقال(عليه السلام): حدّثوا بها فإنّها حقّ(2).

فهنا يتجلّى الاضطهاد الفكرىّ وبالأخص اضطهاد التدوين من قبل خلفاء بني أُمية وبني العبّاس إلى درجة يصل الأمر معها إلى أنّ واحداً من المقرّبين من الإمام الجواد يشّك، أو يريد أن يتيقّن من صحّة تلك المروّيات التي لم يعدها من قبل نتيجة

____________

1- أمالي الطوسىّ 1: 359، 361، وانظر رجال النجاشىّ: 277 رقم 727.

2- الكافي 1: 53، باب النوادر، ح 15.


الصفحة 521
للاضطهاد الفكرىّ والعقائدىّ.

وهنا يتجلّى دور الإمام في كونه ميزاناً لمعرفة الصحيح من غيره والحقّ من الباطل من المدوّنات والمروّيات، ويغلب على الظنّ أنّ الإمام كان قد رآها مطابقة لما في كتاب علىّ وكتب آبائه فلذلك قال للسائل (حدّثوا بها فإنّها حقّ)، فالسائل واحد، والإمام يجيب بلفظ الجمع (حدّثوا)، ممّا يفيد أنّ البليّة كانت عامّة لجميع أصحابه وأنّ الكثير من المروّيات والمدوّنات ما زالت دون توثيق عندهم نتيجة للكبت والقهر والإرهاب.

فالإمام كان يعرف مدوّنات آبائه ـ رسماً ومحتوىً ـ فيبكي ويضع الخطّ على عينيه ويقسم إنّه خطّ أبيه دَفعاً لاحتمال كونه كتاباً آخر زُوِّر على الإمام الرضا (عليه السلام).

قال إبراهيم بن أبي محمود: دخلت على أبي جعفر ومعي كُتُبٌ إليه من أبيه، فجعل يقرأها ويضع كتاباً كبيراً على عينيه ويقول: خطّ أبي والله، ويبكي حتّى سالت دموعه(1).

وروى أحمد بن أبي خلف قال: كنت مريضاً، فدخل عليّ أبو جعفر يعوذني عند مرضي فإذا عند راسي كتاب يوم وليلة، فجعل يتصفحه ورقة ورقة، حتى اتى عليه من اوله إلى اخره، وجعل يقول: رحم الله يونس، رحم الله يونس، رحم الله يونس(2).

وقد روى الأربلي في كشف الغمة عن الجواد(عليه السلام) عن علي(عليه السلام) قال: في كتاب علي بن أبي طالب(عليه السلام) إن ابن آدم أشبه شي بالمعيار، إما راجح بعلم ـ وقال مرة: بعقل ـ أو ناقص بجهل(3).

____________

1- رجال الكشّيّ: 475.

2- رجال الكشي 2: 484/913 وعن في وسائل الشيعة 27: 100.

3- كشف الغمة 2: 346.


الصفحة 522
ثمّ إنّ الإمام كان يؤكد على أهمّيّة التدوين، وأنّه أَوْقَعُ في النفوس من مجرّد النقل، بل أوثق في نفس المنقول له، خصوصاً وأنّ في القارئين للمدوّنات مَن يعرف خطّ الإمام(عليه السلام).

فعن عبد العزيز بن المهتدي أنّه سأل الإمام الجواد عن يونس بن عبد الرحمن؟ فكتب إليه بخطّه (أُحبّه وأترحّم عليه وإن كان يخالف أهل بلدك)(1).

ولقد وردت رسائل وكتب عن الإمام إلى أصحابه، فعن أحمد بن محمّد بن عيسى قال: بعث إلىَّ أبو جعفر غلامه معه كتابه، فأمرني أن أصير إليه... إلى أن يقول: قال: احمل كتابي إليه ومُرْهُ أن يبعث إلىّ بالمال، فحملت كتابه إلى زكريّا بن آدم فوجّه إليه بالمال(2).

وعن الحسن بن شمعون قال: قرأت هذه الرسالة على علىّ بن مهزيار، عن أبي جعفر الثاني بخطّه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا علىّ! أحسن الله جزاك(3)... وللإمام(عليه السلام) كتاب آخر لعلّي بن مهزيار كتبه إليه ببغداد(4)، وكتاب آخر كتبه إليه بالمدينة(5).

وعنه، قال: كتبت إليه أنّ لك معي شيئاً فمُرني بأمرك فيه إلى من أدفعه؟ فكتب إلىَّ: قبضتُ...(6)

وعن محمّد بن أحمد بن حماد المروزىّ، قال: كتب أبو جعفر إلى أبي...(7)

____________

1- رجال الكشّيّ: 413. والظاهر أن المقصود بالبلد البصرة كما في شرح أصول الكافي للمازندراني 7: 6. وذلك أن أهل البصرة كانوا آنذاك من العثمانية أتباع الرأي والاجتهاد. وأعداء التعبّد والتدوين.

2- الاختصاص: 87، رجال الكشّيّ: 497.

3- الغَيبة للشيخ: 349.

4- رجال الكشّيّ: 460 ـ 461.

5- رجال الكشّيّ: 460 ـ 461.

6- رجال الكشّيّ: 427.

7- رجال الكشّيّ 468.


الصفحة 523
وعن عبد الجبار النهاوندي ـ في خبر طويل ـ منه: فخرج إلىَّ مع كتبي كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمّد بن علىّ الهاشمىّ العلوىّ لعبد الله بن المبارك...(1)

وقد جمع الشيخ عزيز الله العطاردىّ أحاديث الإمام الجواد، وطبعت تحت اسم (مسند الإمام الجواد).

الإمام علىّ بن محمّد (الهادىّ)(عليهما السلام)

كان كتاب علىّ(عليه السلام) عند هذا الإمام الهمام، ينقل عنه آثار رسول الله وسنّته المباركة للمسلمين، كما كان ذلك دأب أسلافه الأئمّة الصالحين الأبرار، وقد بلغ من عناية هذا الإمام بتبليغ الأحكام والمروّيات التي في كتاب علىّ(عليه السلام) أنّه حرص على نقل بعض ما في الكتاب وهو في مرض الموت، من علّته التي سُمّ فيها(عليه السلام).

فعن أبي دعامة قال: أتيت علىّ بن محمّد بن علىّ بن موسى عائداً في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة، فلمّا هممت بالانصراف، قال لي: يا أبا دعامة! قد وجب حقّك أفلا أُحدِّثك بحديث تُسَرُّ به؟

قال: فقلت له: ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله.

قال: حدّثني أبي محمّد بن علىّ، قال حدّثني أبي علىّ بن موسى، قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد، قال: حدّثني أبي محمّد بن علىّ، قال: حدّثني أبي علىّ بن أبي طالب، قال: حدّثني رسول الله!: اكتب يا علىّ.

قال: قلت: وما أكتب؟

قال لي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقرته القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى به اللسان وحلّت به المناكحة).

____________

1- رجال الكشّيّ: 476.


الصفحة 524
قال أبو دعامة: فقلت: يا بن رسول الله! ما أدري والله أيّها أحسن، الحديث أم الإسناد!!

فقال(عليه السلام): إنّها صحيفة بخطّ علىّ بن أبي طالب(عليه السلام) بإملاء رسول الله! نتوارثها صاغراً عن كابر(1).

وفي هذه الرواية ما يوحي بأنّ كلّ أو أغلب ما يرويه أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) هو من كتاب علىّ(عليه السلام) وإن لم يصرّحوا بذلك مفردةً مفردةً، بل صرّحوا بذلك بوجه العموم، وقد خفي هذا على بعض الجهّال فاتّهموا الصادق(عليه السلام) من قبل بأنّه (صحفىّ) ولم يدروا أنّها صحف متلَقّاة عن رسول الله بخطّ علّي.

وقد واصل الإمام علىّ الهادىّ عمليّة التوثيق للمروّيات والمدوّنات عن آبائه وأجداده لكي تصل الأحاديث خالصة ناصعة إلى الأجيال القادمة.

قال محمّد بن عيسى: أقرأني داود بن فرقد الفارسىّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث(عليه السلام) وجوابه بخطّ يده،فقال: نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك، وأحاديث قد اختلفوا علينا فيها، كيف العمل بها على اختلافها; والردّ إليك وقد اختلفوا فيه؟ فكتب إليه وقرأته (ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا أنّه قولنا فردّوه إلينا)(2).

فالإمام هنا يوجب على أصحابه إرجاع المروّيات أو المختلف فيها والمشكوك في صحّة نسبتها من المدوّنات والمروّيات إلى أئمّة أهل البيت ليوثّقوا الصحيح ويتركوا المفترى منها على الأئمّة(عليهم السلام) أو التي أصابها الغلط والاشتباه أو...

وقد روى بعض أصحاب الإمام الهادي(عليه السلام) عنه تفسيراً باسم (الأمالي في تفسير القرآن) وهو مطبوع متداول، وإن شكّك بعض الأعلام في نسبة هذا الكتاب

____________

1- مروج الذهب 4: 85 ـ 86.

2- مختصر بصائر الدرجات: 75، وانظر بصائر الدرجات: 544، ح 26.


الصفحة 525
إليه.

وذكر السيّد الأمين للإمام الهادىّ كتاباً في (أحكام الدين) ورسالة في الردّ على أهل الجبر والتفويض(1).

وروى كلٌّ واحد من أبي طاهر(2)، وعيسى بن أحمد بن عيسى(3)، وعلىّ بن الريّان(4)، نسخة عن الإمام علي الهادي(عليه السلام).

وقد جمع الشيخ عزيز الله العطاردىّ أحاديث الإمام علىّ الهادىّ في كتاب وطُبع باسم (مسند الإمام الهادىّ).

الإمام الحسن بن علىّ (العسكرىّ)(عليهما السلام)

انصبّت جهود الإمام العسكري(عليه السلام) في مصبَّين رئيسيين:

أوّلهما أهمّيّة تبليغ خاصّة أصحابه بما يتعلّق بولده محمّد المهدىّ، وأنّه القائم بعده بأمر الإمامة والتبليغ.

والمصبّ الثاني، هو التدوين والتوثيق للمدوّنات، من خلال عرضها على كتاب علىّ(عليه السلام) أو ما أخذه عن آبائه وأجداده(عليهم السلام). والذي يهمّنا هنا هو ثاني المصبّين لمساسه بالموضوع المبحوث عنه.

فعن سعد بن عبد الله الأشعرىّ، قال: عرض أحمد بن عبد الله بن خانبه كتاباً على مولانا أبي محمّد الحسن بن علىّ بن محمّد صاحب العسكر(عليه السلام) فقرأه، وقال: صحيح فاعملوا به(5).

____________

1- أعيان الشيعة 1: 380 وانظر الذريعة 5: 80، المورد 312.

2- رجال النجاشىّ: 460 رقم 1256.

3- رجال النجاشىّ: 297 رقم 806.

4- رجال النجاشىّ: 278 رقم 731.

5- فلاح السائل: 183. قال الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة 1: 9: روي أنه عرض على الصادق كتاب عبيد الله بن علي الحلبي فاستحسنه وصححه، وعلى العسكري كتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان فاثني عليهما.


الصفحة 526
وقد أصبح هذا الكتاب الذي قرّر صحّة ما فيه الإمام العسكرىّ مصدراً للراغبين في العلم الصحيح، والمروّيات الموثّقة، فصاروا يقابلون على ذلك الكتاب ما عندهم من مدوّنات.

فعن الحسن بن محمّد بن الوجناء أبي محمّد النصيبىّ، قال: كتبنا إلى أبي محمّد(عليه السلام) نسأله أن يكتب أو يُخْرِج إلينا كتاباً نعمل به; فأخرج إلينا كتاب عمل، قال الصفوانىّ: نسخته. فقابل به كتاب ابن خانبه زيادة حروف أو نقصان حروف يسيرة. وذكر النجاشي: ان كتاب عبيدالله بن علي الحلبي عرض على الصادق (عليه السلام) فصححه واستحسنه(1).

فالإمام العسكرىّ أخرج إليهم كتاب عمل، يبدو أنّ فيه أُمّهات المسائل ومهمّاتها، وهذا ما يعني كثرة اهتمامه(عليه السلام) بالتدوين، إذ مع وجوده(عليه السلام) بينهم، قدّر أهمّيّة التدوين وشموليّته وعموم فائدته، فأخرج لهم كتاب عمل.

ويظهر اهتمام أصحاب الإمام بالتدوين وتوثيق المدوّنات من خلال استنساخ الصفوانىّ لذلك الكتاب، ومن ثمّ مقابلته بكتاب ابن خانبه الذي قوبل من قبل ووثّق من قبل الإمام، وبذلك تصبح عمليّة التوثيق مهمّة جدّاً عند أهل البيت(عليهم السلام)علّموها أصحابهم وأتباعهم لحفظ المدوّنات.

وعن الملقب بتوراء: ان الفضل بن شاذان كان وجهه إلى العراق إلى حيث به أبو محمد الحسن بن علي العسكري فذكر انه دخل على أبي محمد [العسكري] فلما اراد ان يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء له، فتناوله أبو محمد (عليه السلام) ونظر فيه، وكان الكتاب من تصنيف الفضل، فترجم عليه، وذكر أنه قال: اغبط اهل

____________

1- رجال النجاشىّ: 244. وسائل الشيعة 27: 102.


الصفحة 527
خراسان لمكان الفضل بن شاذان وكونه بين اظهرهم(1).

وسئل الإمام العسكرىّ عن كتب بني فضّال، فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال(عليه السلام) خذوا بما رووا وذروا ما رأوا(2).

فأولاد فضّال كانوا قد دوّنوا أحاديث أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، لكنّهم انحرفوا من بعد انحرافاً عقائديّاً في الإمامة، فكان ذلك مبعث شكّ في مرويّاتهم السالفة التي رووها عن الأئمّة وقد ملأت بيوت من استنسخوها، وهذا يدّل على احتفاظ أتباع أهل البيت بالمدوّنات والاستفادة منها، وحرصهم على التحقُّق من صحّتها، فكان جواب الإمام متلّخص بصحّة مرويّاتهم، فيؤخذ بها، ويترك ما ارتأوه من أُمور مخالفة للمنهج الصحيح الذي يسير عليه أهل البيت(عليهم السلام).

وعن داود بن القاسم الجعفرىّ، قال: عرضت على أبي محمّد ـ صاحب العسكر ـ كتاب يوم وليلة، ليونس، فقال لي: تصنيف مَن هذا؟

فقلت: تصنيف يونس مولى آل يقطين.

فقال: أعطاه الله بكلّ حرف نوراً يوم القيامة(3).

وفي آخر: فنظر فيه وتصفحه كله ثم قال: هذا ديني ودين ابائي كله وهو الحق كلّه(4).

وعن بورق البوشجاني قال: خرجت إلى سر من راى ومعي كتاب يوم وليلة فدخلت على أبي محمد [العسكري] واريته ذلك الكتاب وقلت له: ان رايت ان تنظر فيه، وتصفحه ورقه ورقه فقال: هذا صحيح ينبغي ان تعمل به(5).

____________

1- رجال الكشي 2: 820 / 1027 وعنه في وسائل الشيعة 27: 101.

2- الغَيبة، للطوسىّ: 390، ح 355.

3- رجال النجاشىّ: 447 رقم 1208، وسائل الشيعة 27: 102، ح 33324.

4- رجال الكشي 2: 484 / 915 وعنه في وسائل الشيعة 27: 100.

5- رجال الكشي 2: 537/1023.


الصفحة 528
هذا وقد ورد عن الإمام العسكرىّ تفسيراً للقرآن الكريم، طبع مراراً باسم (تفسير الإمام العسكري).

وعن ابن معاذ الجويمىّ نسخة منسوبة للإمام(1)، ولأبي طاهر الزرارىّ جدّ أبي غالب ومحمّد بن الريّان بن الصلت، ومحمّد بن عيسى القمّيّ مسائل حكوها عنه (عليه السلام) (2).

وكتب إليه أصحابه يسألونه عن مسائل في الأحكام والعقائد، فأجابهم عليها، منها ما كتب إليه محمّد بن الحسن الصفّار(3)، وعبد الله بن جعفر(4)، وإبراهيم بن مهزيار(5)، وعلىّ بن محمّد(6) الحصينىّ، ومحمّد بن الريّان(7)، والريّان بن الصلت(8)، وعلىّ بن بلال (9)، وحمزة بن محمّد(10)، ومحمّد بن عبد الجبار(11).

الإمام محمّد بن الحسن(عليهما السلام) (المهدىّ)

إنّ الإمام المهدىّ ورث علوم آبائه وأجداده كما ورث كتاب علىّ وغيره من الكتب التي كانت عندهم، وقد صرّح أئمّة أهل البيت بأنّ ما في كتاب علىّ أو مصحف فاطمة أو غيرهما من مدوّنات عصر الرسالة يكون عند محمّد المهدىّ، وأنّه

____________

1- رجال النجاشي: 304، الرقم 831، الذريعة 24: 152 رقم 777.

2- انظر رجال النجاشىّ: 347 رقم 937، و370 رقم 1009، و371 رقم 1010، 280 رقم 740.

3- انظر الفقية 3: 499 و508، التهذيب 7: 150.

4- الكافي 6: 35، الفقيه 3: 488، مكارم الأخلاق: 263، والكافي 5: 447، والفقيه 3: 476.

5- الكافي 4: 310، الفقيه 2: 444.

6- الكافي 4: 310، الفقيه 2: 445.

7- الكافي 1: 409.

8- التهذيب 4: 139.

9- الفقيه 4: 179.

10- الكافي 4: 181.

11- الكافي 3: 399، الاستبصار 1: 385، التهذيب 2: 207.


الصفحة 529
عند حكمه لا يحكم بالقران وبما في تلك الصحف.

فعن حمران بن أعين، عن أبي جعفر، قال: أشار إلى بيت كبير، وقال: يا حمران! إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ علىّ وإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ولو ولّينا الناس لحكمنا بينهم بما أنزل الله، لم نَعْدُ ما في هذه الصحيفة(1).

وقد صرّح الأئمّة ببقاء كتاب علىّ وصحيفة علىّ عندهم وأنّها لا تبلى، بل يتوارثونها واحداً بعد واحد.

إذ مرَّ عليك خبر أبي بصير، قال: أخرج إلىّ أبو جعفر صحيفة فيها الحلال والحرام والفرائض، قلت: ما هذه؟ قال: هذه إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ علىّ بيده، قال: فقلت فما تبلى؟ قال: فما يبليها؟! قلت: وما تدرس؟ قال: وما يدرسها؟!(2)

وعن الحسن بن وجناء النصيبىّ، قال في حديث طويل في رؤيته الحجّة، محمّد بن الحسن في سامرّاء: ثمّ دفعَ إلىَّ دفتراً فيه دعاء الفرج وصلاة عليه، فقال: بهذا فادعُ، وهكذا صلِّ عَلَيَّ، ولا تعطه إلاّ محقّي أوليائي..(3).

وفي حديث آخر أنّ الإمام طلب من أحد أصحابه وأصحاب أبيه أن يريه خاتماً كان قد أعطاهُ الإمام العسكرىّ إياه، قال: فأخرجته إليه، فلمّا نظر إليه استعبر وقبّله، ثمّ قرأ كتابته، فكانت (يا الله يا محمّد يا علىّ)، ثمّ قال: بأبي يداً طالما جُلْتَ فيها(4).

على أنّ الإمام المهدىّ بسبب بقائه مستتراً لمدّة تقارب 70 عاماً لم يستطع نشر الأحكام والتدوين بشكل علنىّ إلاّ أنّه كان يكاتب أصحابه ويكاتبونه ويسألونه

____________

1- بصائر الدرجات: 163، باب 12، ح 5. وغيره الكثير ممّا في معناه.

2- بصائر الدرجات: 164، باب 12، ح 9.

3- كمال الدين: 443 ـ 444، الباب 43، ح 17.

4- كمال الدين: 445 الباب 43، ح 19، يعني بأبي فديت يدَ أبي محمد العسكري التي طالمَا جُلْتَ أيّها الخاتم فيها.