وبهذا عرفت أنّ التواصل التدوينىّ عند أئمّة أهل البيت ابتدأ بكتابة علىّ بن أبي طالب وتدوينه، واستمرّ جيلاً بعد جيل حتّى الإمام محمّد المهدىّ، ومن ثمّ جمع المدوّنات أصحاب الأئمّة وعلماؤهم.
وقد عرفت إصرارهم وتأكيدهم ـ خصوصاً بعد إمامة الإمام الكاظم ـ على مسألة التوثيق للمدوّنات، وإن كانت عمليّة التوثيق عمليّة أصيلة قديمة، طالما أكد عليها الأئمّة ومارسوها، ووثّقوا ما عرضه أصحابهم عليهم، لكنّ الثقل الأكبر للتوثيق والذي كان ملحوظاً بنسبة عالية، كان في عصر الإمام الرضا ومَن بعده من الأئمّة.
وقبل ختام هذا المقطع من البحث يجدر بنا أن ننبّه على سبب مهمّ في تأخّر المدوّنات والتدوين عند أتباع مدرسة الاجتهاد والرأي، ذلك السبب هو: أنّ بعض المحيطين بالنبّي(صلى الله عليه وآله) كانوا يتعاملون معه! كتعاملهم مع سائر البشر بلا فارق بتاتاً، ولذلك كانوا ينادونه من وراء الحجرات، وكانوا يثقلون عليه بإطالة الجلوس عنده، وكانوا يعتقدون أنّه يخطئ ويصيب وقد يتكلّم في الغضب ما لا يتكلّمه في حالة الرضا ووو...
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنت أكتب كلّ شي أسمعه من رسول الله! أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شي تسمعه من رسول الله،
قال: فأمسكتُ، فذكرت ذلك لرسول الله! فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ. وأشار بيده إلى فمه(1).
فإنّ ما نصّت عليه هذه الرواية هو أنّ (قريش) كانت هي الناهية عن التدوين، بحجّة أنّ النبىّ قد يقول غير الصواب عند الغضب والعياذ بالله.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قلت يا رسول الله! أكتب كلّ ما أسمع منك؟
قال: نعم.
قلت: في الرضا والغضب؟ قال: نعم، فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلاّ الحقّ(2).
ونفس هذه الفكرة كانت رائجة وشائعة وظلّت سارية المفعول حتّى في عصر الأئمّة، فكان البعض يتصوّر أنّ الإمام قد ينقل أو يقول في الغضب ما يخالف ما ينقله في حالة الرضا، وكأنّهم كانوا يظنّون أنّ الأئمّة كسائر الفقهاء وأصحاب الفتيا والاجتهاد الذين تتبدّل آراؤهم وفق الظروف واختلاف اطّلاعهم على الأدلّة.
لكنّ أئمّة أهل البيت كانوا يجيبون ويقولون كما أجاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وذلك ما لم يجرؤ أحد من أئمّة المسلمين ادّعاؤه، دون أئمّة أهل البيت الذين كانوا على ثقة عالية جدّاً ـ واصلة إلى مرحلة اليقين ـ بصحّة مرويّاتهم وأحكامهم، فكانوا يأمرون أصحابهم بالتدوين لأنّهم لا يقولون إلاّ الحقّ.
فعن حمزة بن عبد المطلّب، عن عبد الله الجعفىّ، قال دخلت على الرضا(عليه السلام) ومعه صحيفة أو قرطاس فيه عن جعفر (أنّ الدنيا مثّلت لصاحب هذا الأمر في مثل
____________
1- مسند أحمد 2: 162، ح 6510، سنن الدارمي 1: 136، ح 484، سنن أبي داود 3: 318، ح 3646، المستدرك على الصحيحين 1: 187، ح 359، والنص منه.
2- عوالي اللئالئ 1: 68، ح 120.
ويعضد هذا الذي قلناه ورود الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت، ومفادها جميعاً أنّهم لا يقولون إلاّ الحقّ، ولا يفتون برأي ولا اجتهاد.
فعن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه قال: لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا، ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبّيه فبيَّنَها لنا(2).
وعن داود بن أبي يزيد الأحول، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول: إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّها آثار من رسول الله!، أصلُ علم نتوارثه كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضّتهم(3).
وعن قتيبة قال: سأل رجلٌ أبا عبد الله عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟
فقال(عليه السلام): مَهْ! ما أجبتُكَ فيه من شي فهو عن رسول الله! لسنا من (أرأيت) في شي(4).
وهذا التواصل في التدوين والثقة المطلقة بأنّ المنقولات هي عين ما قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، لا نجدُه عند أىّ مدرسة إسلاميّة غير مدرسة أهل البيت التي هي أساس التدوين وأساس بناء مدرسة التعبّد المحض. وبعد هذا للمنصف أن يختار ما شاء من مرويّات بعد اتّضاح الحال.
وبعد هذا يحقّ لي أن أنقل كلام الدكتور مصطفى الأعظمىّ عن الشيعة، بقوله: (... أمّا الشيعة والموجود منهم حاليّاً في العالم الإسلامىّ أكثرهم من الإثني عشريّة،
____________
1- بصائر الدرجات: 428، باب في قدرة الأئمة، ح 2، الاختصاص للمفيد: 217، ومثله نقل عن حمزة بن عبد الله الجعفري عن أبي الحسن عليه السلام انظر بصائر الدرجات: 428، ح 4.
2- بصائر الدرجات: 319، باب في الأئمة عندهم اُصول العلم، ح 2.
3- بصائر الدرجات: 299، ح 3.
4- الكافي 1: 58، ح 21 باب البدع والرأي والمقاييس.
____________
1- دراسات في الحديث النبوىّ 1: 25.
مع الأصول الأربعمائة
اعتاد شيعة آل البيت ـ وكما قلنا ـ كتابة أقوال أئمّتهم في كتب، حتّى عُدُّوا بعملهم هذا من أوائل المدوّنين في الفقه الإسلامىّ، قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق عند ذكره مَن دوَّن الفقه:... وعلى كلّ حال فإنّ ذلك لا يخلو من دلالة على أنّ النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة، لأنّ اعتقادهم العصمة في أئمّتهم، أو ما يشبه العصمة كان حريّاً أن يسوقهم إلى الحثّ على تدوين أقضيتهم، وفتاواهم(1).
والأمر كما قاله الأستاذ وخصوصاً على عهد الإمامين الباقر والصادق، أي بعد انتهاء الحكم الأموىّ وابتداء الحكم العبّاسىّ الذي روّج أو ادّعى سياسة الانفتاح في أوّليّات سنينه، وبتعبير آخر: في فترة الشيخوخة الأمويّة والطفولة العبّاسيّة.
فالإمامان قد استفادوا من هذه الفرصة خصوصاً لمّا رأوا إقبال قبائل بني أسد، ومخارق، وطىّ، وسليم، وغطفان، وغفار، والأزد، وخزاعة، وخثعم، ومخزوم، وبني ضبّة، وبني الحارث، وبني عبد المطّلب عليهم وإرسال فلذات أكبادها إليهم للتعليم(2).
وقد عدّ المزّيّ في ترجمة الإمام الصادق من تهذيب الكمال: سفيان بن عيينة ومالك بن أنس وسفيان الثوري والنعمان بن ثابت ـ أبا حنيفة ـ وسليمان بن بلال،
____________
1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 3: 497 عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامىّ: 252.
2- انظر جعفر بن محمّد، سيّد الأهل.
ونقل عن أبي العبّاس بن عقدة بسنده إلى الحسن بن زياد قوله: سمعت أبا حنيفة وقد سئل عن أفقه مَن رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة، بعث إلَيَّ فقال: يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر فهىّ له من مسائلك الصعاب قال: فهيات له أربعين مسألة...، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بَصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر فسلّمت، وأذِن لي...(2) الخبر.
وقال الشيخ محمّد أبو زهرة في مقدّمة كتابه الإمام الصادق ـ الذي ألّفه بعد كتب سبعة أُلّفت عن أئمّة المسلمين، وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعىّ، وابن حنبل، وابن تيميّة، وابن حزم، وزيد ـ قال: أمّا بعد فإنّنا قد اعتزمنا بعون الله وتوفيقه أن نكتب في الإمام الصادق، وقد كتبنا عن سبعة من الأئمّة الكرام، وما أخّرنا الكتابة عنه [أي الإمام الصادق] لأنّه دُونَ أحدهم، بل إنّ له فضل السبق على أكثرهم، وله على الأكابر منهم فضلٌ خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه ويراه أعلم الناس باختلاف الناس(3)، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، ومن كان له فضل الأستاذيّة على أبي حنيفة ومالك فحسب ذلك فضلاً، ولا يمكن أن يؤخّر عن نقص، ولا يقدّم غيره عليه عن فضل، وهو فوق هذا حفيد زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره، فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهرىّ وكثيرون من التابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر
____________
1- انظر تهذيب الكمال 5: 75.
2- تهذيب الكمال 5: 79 ولتفصيل هذا الخبر راجع (وضوء النبىّ: 349 ـ 352).
3- وللشيخ أبي زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلاميّة: 693 تعليقة على مطارحة أبي حنيفة مع الصادق فراجع.
وفي حلية الأولياء: لقد أخذ عن الصادق جماعة من التابعين، منهم يحيى بن سعيد الأنصارىّ، وأيّوب السختيانىّ، وأبو عمرو بن العلاء، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، وشعبة بن الحجّاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة وغيرهم..(2).
وقد علمت مما تقدّم أنّ هذا العِلم الضخم والأحاديث المتلقّاة من أئمّة أهل البيت قد دوّنت من قبل أصحابهم في صحف، وكان سهم الإمامين الصادق والباقر هو الأكبر، وقد أُطلق على هذه المجاميع تارة اسم (نسخة) وأُخرى (كتاب) وثالثاً (أصل) ورابعاً (رسالة) وغيرها.
روى السيّد رضي الدين علىّ بن طاووس في مهج الدعوات، بإسناده عن أبي الوضّاح محمّد بن عبد الله بن زيد النهشلىّ، عن أبيه أنّه قال: كان جماعة من أصحاب أبي الحسن (الكاظم) من أهل بيعته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق أبو الحسن بكلمة أو أفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك(3).
وقال الشيخ البهائىّ في مشرق الشمسين: قد بلغنا عن مشايخنا (قدس سرّهم) أنّه كان من دأب أصحاب الأصول أنّهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمّة حديثاً بادروا إلى إثباته في أُصولهم لئلاّ يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيّام(4).
وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين من رواشحه: قد كان من
____________
1- الإمام الصادق: 2 ـ 3.
2- حلية الأولياء 3: 198 ـ 199، الرقم 242.
3- مهج الدعوات: 219 ـ 220، وعنه في مستدرك الوسائل 17: 292، ح 21382 وفيه خاصة بدل أصحاب.
4- حبل المتين: 274.
قال الأستاذ عبد الحليم الجندىّ:
كان أوّل المستفيدين بالتدوين الباكر أُولئك الذين يلوذون بالأئمّة من أهل البيت فيتعلّمون شفاهاً أو تحريراً، أي من فم لفم أو بالكتابة، فما تناقلته كتب الشيعة من الحديث، هو التراث النبوىّ في صميمه... في حين لم يجمع أهل السنّة هذا التراث إلاّ بعد أن انكبّ عليه علماؤهم قرناً ونصف قرن حتّى حصلوا ما دوّنوه في المدوّنات الأولى، ثمّ ظلّوا قروناً أُخرى، يجوبون الفيافي والقفار في كلّ الأمصار... إلى أن يقول: وإذا لاحظنا أنّ من الرواة من قيل إنّه روى عشرات الآلاف من الحديث عن الإمام، تجلّت كفاية التراث الموثوق به عند الشيعة لحاجات الأمّة.
وإذا لاحظنا توثيق الشافعىّ ومالك وأبي حنيفة ويحيى بن معين وأبي حاتم والذهبىّ للإمام الصادق ـ وهم واضعوا شروط المحدّثين وقواعد قبول الرواية وصحّة السند ـ فمن الحقّ التقرير بأنّ حسبنا أن نقتصر على التفتيش عن رواة السنّة عن الإمام الصادق.
والشيعة يكفيهم أن يصلوا بالحديث إلى الإمام، لا يطلبون إسناداً قبل الإمام جعفر، بل لا يطلبون إسناداً قبل الأئمّة عموماً، لأنّ الإمام بين أن يكون يروي عن الإمام الذي أوصى له، وبين أن يكون قرأ الحديث في كتب آبائه، إلى ذلك، فإنّ ما يقوله سنّةٌ عندهم، فهو ممحَّصٌ من كلّ وجه، فليست روايته للحديث مجرّد شهادة به، بل هي إعلان لصحّته.
وإذا كان ما رواه الصادق، رواية الباقر، ورواية السجّاد عن الحسين عن الحسن أو عن علىّ عن النبىّ، فهذا يصحّح الحديث على كلّ منهج، فالثلاثة
____________
1- الرواشح السماويّة: 98.
ولا مرية كان منهج علىّ ومن تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين، منع المساوئ المنسوبة إلى بعض الروايات، وأقفل الباب دون افتراء الزنادقة والوضّاعين، فالسبق في التدوين فضيلة الشيعة، ولمّا أجمع العلماء بعد زمان طويل على الالتجاء إليه كانوا يسلّمون بهذه الفضيلة بالإجماع لعلىّ وبنيه، والسنّة شارحة للكتاب العزيز، وهو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة فهي كمثله حقيقة بالكتابة.
إنّما كان المحدّثون من أهل السنّة في القرون الأولى مضطرّين لسماع لفظ الحديث من الأشياخ، أو عرضه عليهم، لأنّ السنن لم تكن مدّونة فكانت الرحلة إلى أقطار العالم لتلقّي الحديث على العلماء، وسيلتهم الأكيدة(1).
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عن الصادق من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل(2).
قال الشيخ الطبرسىّ في إعلام الورى: ولم ينقل عن أحد من سائر العلوم ما نقل عنه، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات فكانوا أربعة آلاف رجل(3).
وقال في القسم الأول: وروى عن الصادق من أهل العلم أربعة آلاف إنسان، وصنّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب هي معروفة بكتب الأصول رواها أصحابه وأصحاب أبيه من قبله، وأصحاب ابنه موسى الكاظم(4).
____________
1- الإمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجندىّ: 203 ـ 204.
2- الإرشاد 2: 179 وعنه في المناقب لابن شهرآشوب 3: 237.
3- إعلام الورى 1: 535، الباب 5: الفصل 4.
4- إعلام الورى 2: 200، الفصل 3 من القسم الأول.
قال ابن شهرآشوب في المناقب: نقل عن الصادق من العلوم ما لا ينقل عن أحد وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الثقات على اختلافهم في الآراء فكانوا أربعة آلاف(2).
وقال المحقّق الحلّيّ في المعتبر: فإنّه انتشر عنه من العلوم الجمّة ما بهر به العقول، حتى غلا فيه جماعة وأخرجوه إلى حد الالهية، وروى عنه جماعة من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل....، وكتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمُّوها أُصولاً(3).
وقال الشهيد في الذكرى: إنّ أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف ودوَّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والشام والحجاز وخراسان(4).
وقال الشيخ حسين والد العلاّمة البهائىّ: ودوَّن العامّة والخاصّة ممّن تبرّز بعلمه من العلماء والفقهاء أربعة آلاف.
وقال أيضاً: قد كتب من أجوبة مسائل الإمام الصادق فقط، أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، تسمّى الأصول في أنواع العلوم(5).
وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين: والمشهور أنّ الأصول الأربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من رجال أبي عبد الله الصادق، بل وفي مجالس
____________
1- روضة الواعظين: 207.
2- المناقب 3: 237.
3- المعتبر 1: 26 باب في حجية فتوى الأئمة.
4- الذكرى: 6.
5- وصول الأخيار إلى أُصول الأخبار: 60، وعنه في الذريعة 2: 129.
وقال الشهيد الثاني في شرح الدراية: استقرّ أمر المتقدّمين على أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمّوها أُصولاً، فكان اعتمادهم عليها، ثمّ تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، وألحقها جماعة في كتب خاصّة، تقريباً على المتناوِل، وأحسن ما جمع منها (الكافي) و(التهذيب) و(الاستبصار) و(من لا يحضره الفقيه).
وقد جاءت أسماء بعض أصحاب هذه المدوّنات في كتاب الرجال لعبد الله بن جبلة الكنانىّ المتوفّى سنة 219 هـ و(مشيخة) الحسن بن محبوب المتوفّى سـنة 224 هـ (، و(الرجال) للحسن بن فضّال المتوفّى 224 هـ، و(الرجال) لولده علىّ بن الحسن، و(الرجال) لمحمّد بن خالد البرقىّ، و(الرجال) لولده أحمد بن محمّد بن خالد الذي توفّي سنة 274 هـ، و(الرجال) لأحمد العقيقىّ المتوفّى 280 هـ، وغيرهم.
وقال الشيخ محمد تقي المجلسي في (روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه) 14: 327 وعند شرحه لمشيخة الفقيه قال: أحمد بن الحسين بن عبدالملك الاودي يقع غالباً في طريق الحسن بن محبوب عنه ويشتبه بغيره لو لم يذكر الجد... إلى ان يقول: والظاهر انه يحتاج إلى الطريق اصلاً لانه لا ريب في انه كان امثال هذه الكتب التي كان مدار الطائفة عليها كانت مشتهرة بينهم زائداً على اشتهار الكتب الاربعة عندن، ولا ريب في ان الطريق لصحة انتساب الكتاب إلى صاحبه فإذا كان الكتاب متوتراً فالتمسك باخبار الاحاد الصحيحة كان...
ثم يقول:... والمراد بكتاب المشيخة، الكتاب الذي صنفه الحسن بن محبوب والغة من اخبار الشيوخ من اصحاب أبي جعفر وأبي عبدالله وأبي الحسن صلوات
____________
1- الرواشح السماويّة: 98.
فرتب الحسن بن محبوب اخبار الشيوخ على ترتيب أبواب الفقه وكان منثوراً لم يكن مثل هذه الكتب التي لنا ثم جمع هذا الشيخ على ترتيب اسماء الشيوخ بأن جمع على ترتيب اسم زرارة مثلاً وذكر اخباره مرتباً اولاً، ثم ذكر اخبار محمد بن مسلم مرتباً ثانياً وهكذا وكانت فائدة هذا الترتيب عندهم اكثر لانهم لو ارادوا خبر زرارة مثلاً كانت مجتمعه في مكان ويمكن مقابلته مع اصلا زرارة وان كان الترتيب الاول عندنا احسن، ولهذا جعل مشايخنا الثلاثة كل كتابه مع ما وجدوه في اصول آخر في كتبهم الاربعة ولما كان هذا الترتيب احسن وكانوا يقابلون مع الاصول ويجدون الجمع موافقاً تركوا تلك الاصول واعتمدوا على هذه الكتب.
وأيضاً قال المجلسي: وكانت هذه الاصول عند اصحابنا ويعملون عليها مع تقرير الائمة الذين في ازمنتهم سلام الله عليهم اياهم على العمل بها وكانت الاصول عند ثقة الإسلام، ورءيس المحدثين، وشيخ الطائفة اجمعوا منها هذه الكتب الأربعة ولما احرقت كتب الشيخ وكتب المفيد ضاعت اكثرها وبقي بعضها. لكن لما كان هذه الاربعة كتب موافقة لها وكانت مرتبة بالترتيب الحسن ما اهتموا غاية الاهتمام بشان نقل الاصول ثم ذكر المجلسي بعض الاسباب في عدم ذكر الرجالين اصحاب الاصول في كتبهم الرجالية فقال:... واما لبعد العهد بين ارباب الرجال وبين اصحاب الاصول وغيرهم من اصحاب الكتب التي تزيد على ثمانين الف كتاب كما يظهر من التتبع. نقل انه كان عند السيد المرتضى (رضي الله عنه) ثمانون الف مجلد من مصنفاته
وقال الشيخ الطوسىّ في مقدّمة الفهرست (... وإنّي لا أضمن الاستيفاء، لأنّ تصانيف أصحابنا وأُصولهم تكاد لا تنضبط لكثرة انتشار أصحابنا في البلدان)(2).
ونقل السيّد الأمين في أعيان الشيعة عن الحافظ أحمد بن عقدة الزيدىّ الكوفىّ أنّه أفرد كتاباً فيمن روى عنه، جمع فيه أربعة آلاف رجل وذكر مصنّفاتهم، ولم يذكر جميع من روى عنه.
فهذه المزايا هي التي دعت الشيعة أن تهتمّ بأُصولها قراءة ورواية وحفظاً وتصحيحاً، لأنّ فقهها وحديثها قد استقي منها.
الشيعة واستقاؤها من الأصول
قال محمّد بن علىّ بن بابويه في مقدّمة كتاب (من لا يحضره الفقيه):
(... ولم أقصد فيه قصد المصنّفين إلى إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به، وأحكم بصحّته، وأعتقد أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي عزّ وجلّ.
وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل، وإليها المرجع، مثل: كتاب حريز بن عبد الله السجستانىّ، وكتاب عبيد الله بن علىّ الحلبىّ، وكتب علىّ بن مهزيار الأهوازىّ، وكتب الحسين بن سعيد، ونوادر أحمد بن محمّد بن عيسى، وكتاب نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله، وجامع شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد، ونوادر محمّد بن أبي عمير، وكتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقىّ، ورسالة أبي إلىّ، وغيرها من الأصول والمصنّفات، التي طُرقي إليها معروفة في فهرست الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي وبالغت في ذلك جهدي، مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه، ومستغفراً
وقال المحقّق الحلّيّ في المعتبر:
روى عن الصادق(عليه السلام) من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل، وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جمّ غفير، كزرارة بن أعين وأخويه: ـ بكير، وحمران وجميل بن درّاج، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية، والهشامين، وأبي بصير، وعبيد الله، ومحمّد وعمران الحلبيَّين، وعبد الله بن سنان، وأبي الصباح الكنانىّ، وغيرهم من أعيان الفضلاء، حتّى كُتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف سمّوها أُصولاً.
ثمّ قال: كان من تلامذة الجواد(عليه السلام) فضلاء، كالحسين بن سعيد وأخيه الحسن، و[أحمد بن ]محمّد بن أبي نصر البزنطىّ، وأحمد بن محمّد بن خالد البرقىّ، وشاذان بن الفضل القمّيّ، وأيّوب بن نوح بن درّاج، وأحمد بن محمّد بن عيسى، وغيرهم ممّن يطول تعدادهم، وكتبهم الآن منقولة بين الأصحاب، دالّة على العلم الغزير(2).
ثمّ قال: اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر علمه وفضله، وعُرف تقدّمه في نقل الأخبار، وصحّة الاختيار، وجودة الاعتبار.
واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم، وعليه اعتمادهم، فممّن اخترت نقله: الحسن بن محبوب، و[أحمد بن] محمّد بن أبي نصر البزنطي، والحسين بن سعيد، والفضل بن شاذان، ويونس بن عبد الرحمن، ومن المتأخّرين: أبو جعفر محمّد بن علىّ بن بابويه، ومحمّد بن يعقوب الكلينىّ...(3).
قال ابن إدريس الحلّيّ في مستطرفات السرائر، باب الزيادات، فيما انتزعه
____________
1- من لا يحضره الفقيه 1: 2 ـ 4.
2- المعتبر 1: 26 ـ 27، وانظر خاتمة الوسائل 30: 109.
3- المعتبر 1: 33.
ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطىّ، صاحب الرضا(عليه السلام).
ومن ذلك: ما أورده أبان بن تغلب، صاحب الباقر والصادق(عليهما السلام) في كتابه.
ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب جميل بن درّاج.
ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب السيارىّ، واسمه أبو عبد الله، صاحب موسى الرضا(عليه السلام).
ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا علي بن محمّد الهادىّ(عليه السلام) والأجوبة عن ذلك.
ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب المشيخة، تصنيف الحسن بن محبوب; السرّاد; صاحب الرضا(عليه السلام). وهو ثقة عند أصحابنا، جليل القدر، كثير الرواية، أحدُ الأركان الأربعة في عصره.
ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب نوادر المصنّف، تصنيف محمّد بن علي بن محبوب. وكان هذا الكتاب بخطّ شيخنا أبي جعفر الطوسىّ، فنقلت هذه الأحاديث من خطّه.
ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب (من لا يحضره الفقيه)، لابن بابويه.
ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب (قُرب الإسْناد) تصنيف محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميرىّ.
وما استطرفناه، من كتاب جعفر بن محمّد بن سنان; الدهقان.
ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب (تهذيب الأحكام).
ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين.
ومن ذلك: ما استطرفناه، من رواية أبي القاسم ابن قولويه.
وممّا استطرفناه، من كتاب (المحاسن)، تصنيف أحمد بن أبي عبد الله; البرقىّ.
ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب (العيون والمحاسن) تصنيف المُفيد.
انتهى(1).
قال الشيخ البهائىّ في (الوجيزة):
(جميع أحادينا ـ إلاّ ما ندر ـ ينتهي إلى أئمّتنا الاثني عشر (عليهم السلام)، وهم ينتهون فيها إلى النبىّ(صلى الله عليه وآله) ، فإنّ علومهم مقتبسة من قلب المشكاة، وما تضمّنته كتب الخاصّة من الأحاديث المرويّة من أئمّتهم، تزيد على ما في الصحاح الستّة للعامّة بكثير، كما يظهر لمن تتبّع كتب الفريقين.
وقد روى راو واحد ـ وهو أبان بن تغلب ـ عن إمام واحد ـ أعني الصادق ـ ثلاثين ألف حديث.
وقد كان جَمَعَ قدماء محدّثينا ما وصل إليهم من كلام أئمّتنا: في أربعمائة كتاب تُسمّى (الأصول).
ثمّ تصدّى جماعة من المتأخّرين شكر الله سعيهم لجمع تلك الكتب وترتيبها، تقليلاً للانتشار، وتسهيلاً على طالبي تلك الأخبار، فألّفوا كتباً مضبوطة، مهذّبة مشتملة على الأسانيد المتّصلة بأصحاب العصمة (عليهم السلام) كالكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، ومدينة العلم، والخصال، والأمالي، وعيون الأخبار، وغيرها(2).
وقد صرّح الشيخ حسن في المنتقى والمعالم بأنّ أحاديث الكتب الأربعة وأمثالها
____________
1- السرائر 3: 563 ـ 648، وقد طبع مستقلاً باسم (مستطرفات السرائر).
2- الوجيزة: 6 ـ 7 وعنه في خاتمة الوسائل 30: 200 وله كلام في مشرق الشمسين: 269ـ 270 فراجع.
وقال الكفعمىّ في الجنّة الواقية:
(هذا كتاب محتو على عوذ، ودعوات، وتسابيح، وزيارات،... مأخوذة من كتب معتمد على صحّتها مأمون بالتمسّك بوثقى عروتها(2).
وقد شهد علىّ بن إبراهيم القمّيّ بثبوت أحاديث تفسيره وأنّها مرويّة عن الثقات عن الأئمّة(3).
وذكر السيّد رضي الدين ابن طاووس في كتبه ما يدلّ على أنّ أكثر الكتب المذكورة وغيرها من أمثالها من أُصول أصحاب الأئمّة كانت عنده ونقل منها شيئاً كثيرا(4)، وكذا الشهيد في الذكرى والكفعمىّ في المصباح قد صرّحا بأنّ كثيراً من أُصول القدماء وكتبهم كانت موجودة، عندهم(5).
حتّى وصل الأمر بالشيخ الحرّ العاملىّ أن يقول في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه (وسائل الشيعة) وهو بصدد عدّ مصادر الكتاب:... وغير ذلك، وأمّا ما نقلوا منه ولم يصرّحوا باسمه، فكثير جدّاً، مذكور في كتب الرجال، يزيد على ستّة آلاف وستمائة كتاب على ما ضبطناه(6).
وعلى كلّ حال فقد نبغ جماعة من تلامذة الأئمّة وخصوصاً في زمن الصادِقَين في شتّى العلوم ودوّنوا ما تلقّوه عنهم في كتب، وقد أشار علماء الرجال والتراجم إلى مصنّفاتهم كابن النديم والكشّيّ والنجاشىّ وغيرهم.
فألّف هشام بن الحكم كتاباً في الألفاظ، والردّ على الزنادقة، وفي التوحيد،
____________
1- منتقى الجمان 1: 27.
2- الجنّة الواقية: 3 ـ 4.
3- تفسير القمّيّ 1: 4، كما في خاتمة الوسائل 30: 202.
4- انظر خاتمة الوسائل 30: 213.
5- انظر خاتمة الوسائل 30: 213 أيضاً.
6- وسائل الشيعة 30: 165 الخاتمة.