وألّف زرارة بن أعين كتاباً في الاستطاعة والجبر وغيرها.
ومحمّد بن عمر في التوحيد والإمامة والفقه.
ويعقوب بن إسحاق السكِّيت في إصلاح المنطق وكتاب في الألفاظ والأضداد، والألفاظ المشتركة بين معان متعدّدة.
وألّف محمّد بن النعمان البجلىّ ـ مؤمن الطاق ـ كتباً في الإمامة والمعرفة، وإثبات الوصيّة، والأوامر والنواهي، والمناظرات وغيرها.
هذا، إلى غيرهم من مؤلفي الأصحاب، وغيرها من المؤلفات فإنّ مؤلّفات هؤلاء تعدّ بالمئات إن لم نقل بالألوف، وقد أخذ المحمّدون الثلاثة ـ الكلينىّ والصدوق والطوسىّ ـ كتبهم الأربعة منها وإن كان لكلّ واحد من الأخيرين كتب أُخرى في التفسير والتاريخ والحديث و...
وقد كان جلّ الرواة عن الأئمّة في غاية العدالة والوثاقة، وموضع احترام جميع المسلمين بشتّى طوائفهم، حتّى أنَّ أصحاب الصحاح الستّة خرَّجوا لكثير منهم في كتبهم، ونصّ الرجاليّون أو بعضهم على وثاقتهم ومكانتهم العلميّة، مع قولهم (فيه تشيّع شنيع) و(صدوق ولكنّ مذهبه مذهب الشيعة) أو (شيعىّ المذهب) أو ما يشاكلها من العبارات(1).
أصحاب الكتب الأربعة وأخذهم عن الأُصول الأربعمائة
وأمّا جامعو تلك الروايات ومدوّنوها فهم أيضاً من الجلالة بمكان فقد ذكرَ محمَّد بن يعقوب الكليني ـ صاحبَ الكافي ـ غالب أصحاب التراجم كابن
____________
1- وقد ذكر السيّد عبد الحسين شرف الدين في المراجعات أسماء أكثر من مائة منهم، فراجع.
وأكَّد الأستاذ ثامر العميدىّ عدم وجود جرح واحد من الأعلام في الكلينىّ بقوله:
لم أقف على عالم من علماء الرجال من أهل السنّة قد مسّ الكلينىّ بجرح قطّ لا مُفَسَّراً ولا غير مُفَسَّر; أقول: لم يتعرّض أحدهم إليه بسوء قطّ مع ما عرفت عنهم ـ مع الأسف ـ من تجريح رجال الشيعة لمجرّد تشيّعهم، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد من الباحثين، وهذا يدلّ على اتّفاقهم على أن لثقة الإسلام الكلينىّ مكانة بين علماء الإسلام لا يمسّها أحد بسوء إلاّ كذب وافتضح أمره بين العلماء(7).
بل عدّه ابن الأثير من مجدّدي الإماميّة على رأس المائة الثالثة(8).
أمّا محمّد بن علىّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ ـ صاحب كتاب من لا يحضره الفقيه ـ فهو صاحب التصانيف الكثيرة، يضرب بحفظه المثل(9)، وهو من أُسرة علميّة جليلة القدر في الفضل، قال ابن أبي طىّ عن بيتهم: بيت العلم والجلالة(10)، كان أبوه من كبار علماء الشيعة ومصنّفيهم(11). جليل القدر، حافظ للأحاديث بصير بالرجال، ناقد للأخبار، لم ير في القمّيّين مثله في حفظه وكثرة علمه
____________
1- الإكمال 4: 575.
2- الكامل 7: 150.
3- الوافي بالوفيّات 5: 226.
4- لسان الميزان 5: 265، ت 1107.
5- القاموس المحيط 4: 363.
6- تاج العروس 9: 322.
7- دفاع عن الكافي 1: 38.
8- جامع الأصول 12: 220.
9- سير أعلام النبلاء 16: 303.
10- لسان الميزان 2: 2.
11- سير أعلام النبلاء 16: 304، ت 212.
والشيخ المفيد هو تلميذ الصدوق وأُستاذ الطوسىّ، (لقِّب بابن المعلِّم، صاحب التصانيف البديعة، وهي مائتا مصنَّف)(4)، (إليه انتهت رئاسة متكلمي الشيعة، مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطر)(5)، (وكان لابن المعلِّم مجلس نظر بداره بدرب رياح يحضره كافّة العلماء)(6)، (ويناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهيّة)(7).
(كان صاحب فنون وبحوث وكلام، واعتزال، وأدب، ذكره ابن أبي طىّ في ـ تاريخ الإماميّة ـ فأطنب وأسهب، وقال: كان أوحد [دهره] في جميع فنون العلم: الأصلين، والفقه، والأخبار، ومعرفة الرجال، والتفسير، والنحو، والشعر، وكان قوىّ النفس، كثير البرّ، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، يلبس الخشن من الثياب...)(8).
أمّا الشيخ محمّد بن الحسن الطوسىّ فهو شيخ الطائفة في زمانه صاحب التصانيف، له كتابين عُدَّا من الكتب الأربعة عند الشيعة الإماميّة.
1 ـ تهذيب الأحكام.
____________
1- الفهرست، للطوسىّ: 237، ت 710.
2- انظر مقدّمة المقنع والهداية: 22.
3- رجال النجاشىّ: 389.
4- لسان الميزان 5: 368.
5- الفهرست لابن النديم: 252.
6- المنتظم 8: 11.
7- مرآة الجنان لليافعىّ 3: 28، وشذرات الذهب 2: 200.
8- سير أعلام النبلاء 17: 344.
(أخذ الكلام وأُصول القوم عن الشيخ المفيد رأس الإماميّة، ولزمه وبرع، وعمل التفسير، وأملى أحاديث ونوادر في مجلّدين، عامّتها عن شيخه المفيد)(1).
وعدّ السبكىّ(2) والسيوطىّ(3) والكاتب الچلبىّ في كشف الظنون(4) الشيخ الطوسىّ من الشافعيّة وكأنّ الأمر قد التبس عليهم من خلال عرضه لأقوال أهل السنّة والجماعة في الفقه والتفسير.
قال الشيخ محمّد أبو زهرة ـ في كتابه الإمام الصادق ـ عن الشيخ الطوسىّ: كان عالماً على المنهاجين الإمامىّ والسنّيّ.
وقال الأستاذ عبد الحليم الجندىّ: الطوسىّ حجّة في المذهب الإمامىّ وفي مذاهب أهل السنّة(5).
كان هذا مجمل الحديث عن حياة أصحاب الكتب الأربعة، وتراهم ينقلون مرويّاتهم عن الأصول الأربعمائة، وأصحاب الأصول الأربعمائة قد دوّنوا أُصولهم عن أئمّة أهل البيت، والأئمّة نقلوا الأخبار عن كتاب علىّ وكتاب علىّ هو إملاء رسول الله وخط علىّ.
إذاً نهج التدوين والتحديث مترابط عند الشيعة لا خدشة فيه، وهذا ما يؤكّد أصالته.
وممّا يجب الإشارة إليه هو:
أنّ الأصول الأربعمائة لم تكن جامعة لكلّ ما تحدّث به الأئمّة في الفقه وغيره من
____________
1- سير أعلام النبلاء 18: 334.
2- طبقات الشافعيّة 4: 126.
3- طبقات المفسّرين: 93.
4- كشف الظنون 1: 452.
5- الإمام جعفر الصادق: 258.
قال السيّد الأمين في أعيانه: إنّ الأصول الأربعمائة قد بقي بعضها إلى العصور المتأخّرة في خزائن الكتب عند علماء الشيعة كالحرّ العاملىّ والمجلسىّ ومير لوحي المعاصر للمجلسي والميرزا حسين النورىّ وغيرهم، وتلف أكثرها ولكنّ مضامينها محفوظة في مجاميع كتب الحديث لأنّ علماءنا من أوائل المائة الرابعة إلى النصف الأوّل من القرن الخامس قد أخذوا كتبهم منها ومن غيرها ممّا جمع فيها(1).
وأنقل هنا كلام الأستاذ عبد الحليم في كتابه الإمام جعفر الصادق، وهو في معرض كلامه عن التدوين:
... لكنّ عليّاً دوّن وخلّف في شيعته طريقة التدوين، فلقد كان على ثقة من طريقته، وهو الذي يقول فيه الرسول (علىّ مع القرآن والقرآن مع علىّ ولن يفترقا حتّى يردا عَلَيَّ الحوض) إلى أن يقول:
وبالتدوين الفقهىّ استقرّ المذهب في صدور الحفظة والنقلة، ممّن يملي إلى بنيه، فبنيهم، وبخاصّة زين العابدين، وزيد والباقر والصادق، ثمّ عملت مجالس الإمام الصادق في نشره كمثل عمل التدوين في استقراره، وأدرك الأئمّة الذين تتلمذوا له وتلاميذهم أُموراً ترفع مجلس الصادق فوق المجالس، سواء مجالس أهل السنّة أو
____________
1- قال الشيخ النوري في المستدرك 1: 32، وكان عند ميرلوحي المعاصر للمجلسين الساكن معه في أصبهان ـ كتب نفيسة جليلة ككتاب الرجعة للفضل بن شاذان والفرج الكبير في الغيبة لأبي عبد الله محمد بن هبة الله بن جعفر الوراق الطرابلسي، وكتاب الغيبة للحسن بن حمزة المرعشي وغيرها ولم يطلع عليه المجلسي رحمه الله مع كثرة احتياجه إليها، فإن لعدم العثور أسباباً كثيرة سوى الفحص، منها: ضنة صاحب الكتاب كما في المورد المذكور و....
وكان الأستاذ قد قال قبل ذلك: إنّ التلمذة للإِمام الصادق قد سربلت بالمجد فقهَ المذاهب الأربعة لأهل السنّة، أمّا الإمام الصادق فمجدُهُ لا يقبل الزيادة ولا النقصان; فالإمام مبلِّغ للناس كافَّة علم جدِّه عليه الصلاة والسلام، والإمامة مرتبةٌ، وتلمذة أئمّة السنّة له تشوُّقٌ منهم لمقاربة صاحب المرتبة(2).
وقال في مكان آخر: إنّما كان مالك يجد ريح الرسول في مجلس ابن بنته، ويحسّ، أو يكاد يلمس، شيئاً مادّيّاً يتسلسل من الجدّ لحفيده، أو أشياء غير مادّيّة تملك اللبّ والعقل، فالرؤية متعة والسماع نعمة، والجوار ـ مجرد الجوار ـ تأديب وتربيب، وفي كلّ أُولئك طرائق قاصدة إلى الجنّة. وصاحب المجلس طهر كلّه، لا يتحدّث عن جدّه إلاّ على الطهارة...(3)
وفي مكان آخر قال: في هذا المجلس تتلمذ للإمام جعفر وروى عنه ـ كما يقول أرباب الإحصاءات ـ أربعة آلاف من الرواة وكتب عنه أربعمائة كاتب كلّهم يقول: قال جعفر بن محمّد.
فأىّ مجلس كان ذلك المجلس! تتراءى فيه أشياء من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، بعضها مادّيّ يجري في أصلاب رجل بعد رجل، وبعضه معنوىّ يتراءى في معانيه وفحوى مقولاته، لكلّ هؤلاء.
ليس بالمجلس لجاجة ولا حجاج عقيم، يقول للتلاميذ: من عرف شيئاً قلّ كلامه فيه، وإنّما سمّي البليغ بليغاً لأنّه يبلغ حاجته بأدنى سعيه...(4)
وبهذا أختم الحديث عن مكانة المجاميع الحديثيّة عند الشيعة الإماميّة ونظراتهم
____________
1- الإمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجندىّ: 186.
2- الإمام جعفر الصادق: 163.
3- الإمام جعفر الصادق: 160.
4- الإمام جعفر الصادق: 160.
فالحديث إذا لم يكن جامعاً للشرائط المعتبرة لا قيمة له وإن ذكره مشايخ المحدّثين كالكلينىّ أو الطوسىّ، بل يلزم أن يقترن بما يؤكّد صدروه عن المعصوم بقرائن حاليّة أو مقاليّة ممّا يوجب الوثوق به، كوجوده في كثير من الأصول الأربعمائة أو على أقلّ تقدير في أصل أو أصلين منها، بأسانيد متعدّدة معتبرة، أو وجوده في أحد الكتب المعروضة على الأئمّة ككتاب عبيد الله الحلبىّ الذي عرضه على الإمام الصادق فقال فيه: ليس لهؤلاء مثله(1).
وكتابَي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان اللذين عُرِضا على الإمام الحسن العسكرىّ(2).
أو وجوده في الأصول المعتمدة عند السلف المعاصرين للأئمّة ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله، وكتب ابن سعيد وعلىّ بن مهزيار وغيرها، حتّى وإن كانت من كتب غير الإماميّة ككتاب جعفر بن غياث القاضي وكتب الحسين بن عبد الله السعدىّ وكتاب القبلة لعلىّ بن الحسن الطاطرىّ(3).
____________
1- رجال ابن داود: 125، ت 922.
2- ذكرنا تخريجه قبل قليل عن الحدائق الناضرة وانظر الكليني والكافي: 442.
3- انظر الفائدة الرابعة من خاتمة المستدرك للمحدّث النورىّ 3: 482.
نماذج تطبيقيّة لفقه النهجين
بعد كلّ الذي قدمناه عن الفتح المبكّر لِباب التدوين عند مدرسة (التعبّد المحض) ومنعه عند مدرسة (الرأي والاجتهاد)، نقدّم الآن نماذج حيّة تطبيقيّة لفقهَي (التعبّد المحض) و(الاجتهاد والرأي) ولا نبتغي من ورائه إلاّ تجسيم كون الخلاف وقع في الفقه بعد أن كان في الخلافة من ذي قبل.
وهذا يوضّح ما قلناه في عوامل منع التدوين من قِبل الشيخين، وأنّ آثاره قد انعكست على واقع المسلمين اليوم، لأنّ التخالف في الفقه يرجع إلى التخالف في الأُصول والروايات المستقاة عند الطرفين، وحينما عرفت تاريخ السنّة وملابساتها فقد عرفت كلّ شي.
وإليك أربع مسائل من المسائل الفقهيّة المختلف فيها بين الاتّجاهين، آثرنا أن نأتي بها من أبواب مختلفة في الفقه (الإرث، الأطعمة والأشربة، الحدود، الديات) لكي يتّضح ما نقوله بأجلى صوره وأوضحها، وليتبيّن أنّ المنع الصادر عن الشيخين وأتباعهما قد أثّر تأثيراً كاملاً في جلّ أبواب الفقه الإسلامىّ إن لم نقل كلّه، إذ من آثار المنع هو القول بمشروعيّة تعدّد الآراء عند الصحابة، وبمعنى آخر: بمنع التدوين ينفتح باب الاجتهاد لا محالة، لأنّ الناس بحاجة إلى حلول في قضاياهم العامّة خصوصاً في المسائل المستحدثة، وبالاجتهاد مِن قبل الصحابة ـ سواء كان هذا
وقال الشيخ محمّد أبو زهرة: وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنّها سنّة(1).
وبهذا قد درج الاختلاف إلى الأُصول وصارت شريعة لا يمكن مخالفتها، حتّى أنّا نرى اختلاف النقل عن الصحابّي الواحد بذاته، فهذا يأخذ برأيه الأوّل والآخر برأيه الثاني.
كلّ هذه المقدّمة وضّحت لنا أنّ السنّة النبويّة عند أهل السنّة والجماعة قد مرّت بمرحلتين:
1 ـ المنع.
2 ـ التدوين.
فبالمنع شرّعت الآراء واختلطت سنّة رسول الله بما سنَّ عن الصحابة، وبالتدوين دوّنت تلك الآراء المختلفة وصارت شريعة يؤخذ بها.
أمّا مدرسة التعبّد المحض فلم تمرّ إلاّ بمرحلة واحدة وهي الأخذ عن رسول الله وما كتبه علىّ عنه! (مِن فِيْهِ بيده) ولأجله لم نرَ اختلافاً جوهريّاً في المسائل المطروحة في فقه التعبّد المحض، وإليك نصوصاً في ذلك:
____________
1- ابن حنبل لأبي زهرة: 255 ـ 252، ومالك لأبي زهرة أيضاً: 290.
1 ـ الإرث
عن محمّد بن مسلم قال: نشر أبو عبد الله صحيفة، فأوّل ما تلقاني فيها (ابن أخ وجدّ، المال بينهما نصفان).
فقلت: جعلت فداك إنّ القضاة عندنا لا يقضون لابن الأخ مع الجدّ بشي!!
فقال: إنّ هذا الكتاب بخطّ علىّ وإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) (1).
وعنه في رواية أُخرى قال: نظرت إلى صحيفة ينظر فيها أبو جعفر فقرأت فيها مكتوباً (ابن أخ وجدّ، المال بينهما سواء) فقلت لأبي جعفر: إنّ من عندنا لا يقضون بهذا القضاء ولا يجعلون لابن الأخ مع الجدّ شيئاً، فقال أبو جعفر: أما إنّه إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ علىّ، مِن فيه ليَده(2).
هذان النصّان يعالجان مسألة من مسائل الفقه الإسلامىّ في الإرث، الذي كثر فيه الخلاف والجدل.
فمحمّد بن مسلم نقل عن قضاة بلده أنّهم لا يقضون بما في كتاب علىّ، والباقر(عليه السلام) أقرّ كلامه، وقرّر أنّ القضاة في المدينة لا يقضون بما يقضي به أئمّة أهل البيت، لذلك أكّد الباقر على أنّ حكمه مأخوذ من (فيه(صلى الله عليه وآله) ليَده) وأنّ الكتاب (بخطّ علىّ وإملاء رسول الله).
فتأكيد الإمام الباقر على أوثقية مصدره ـ وأهمية التدوين عموماً وهذه المدوّنة بالذات ـ جاء ليؤكّد تخالف النهجين في الأصول، ومن يراجع مصادر فقه الشيعة الإماميّة يراهم قد أطبقوا على توريث ابن الأخ وقيامه مقام الأخ في مقاسمة الجدّ الميراث(3).
____________
1- الكافي 7: 112 باب ابن أخ وجد، ح 1، الوسائل 26: 159، ح 32714.
2- الكافي 7: 13 باب أخ وجد، ح 5، التهذيب 308 ح 1104، وسائل الشيعة 26: 16، ح 32718.
3- انظر الخلاف 4: 90 المسألة رقم 100.
فقد أخرج الطحاوىّ عن طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبىّ، قال: حدّثت أنّ علىّ بن أبي طالب كان يُنزّل بني الإخوة مع الجدّ منزلة آبائهم، ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره(1) وأخرج عبد الرزّاق بسنده إلى الشعبىّ مثله(2).
ويبدو أنّ إصرار مدرسة الاجتهاد والرأي على عدم الأخذ بقول علىّ وابن عبّاس هو كون أمر الجدّ خطيراً جدّاً من وجهة نظر الخلفاء، وذلك لاختلاف وتضارب آرائهم فيه، فلذلك عتّموا ومنعوا كلّ ما ينقل مخالفاً لاجتهاداتهم في المسألة، حتّى أنّا نرى عليّاً يتّقي من شيوع حكمه في الجدّ ويأمر ابن عبّاس بإتلاف ما كتبه إليه بهذا الصدد.
فقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الشعبىّ، قال: كتب ابن عبّاس إلى علي يسأله عن ستّة أخوة وجد فكتب إليه أنِ اجعَلْهُ كأحدهم وامحُ كتابي(3)، وفي أُخرى (وامح كتابي ولا تخلّده)(4) وهذا صريح في أنّ عليّاً كان يحاذر من بيان حكمه في المسألة ووقوع كتابه بيد من ليس بأهل.
ونقل عن عبد الله بن مسعود مثله، فعن شعبة بن التوأم الضبّيّ، قال: توفّي أخٌ لنا في عهد عمر وترك إخوته وجدّه، فأتينا ابن مسعود فأعطى الجد مع الإخوة السدس، ثمّ توفّي أخٌ لنا آخر في عهد عثمان وترك إخوته وجدّه، فأتينا ابن مسعود فأعطى الجدّ مع الإخوة الثلث، فقلنا له: إنّك أعطيت جدّنا من أخينا الأول السدس،
____________
1- فتح الباري 12: 21.
2- مصنّف عبد الرزّاق 10: 269 باب فرض الجد، ح 19066.
3- مصنف ابن أبي شيبة 6: 260، ح 31222، فتح الباري 12: 21.
4- فتح الباري 12: 21.
وكأنّ ابن مسعود يشير إلى عدم تمكّنه من الإفصاح عمّا سمعه من النبّي أو ما يراه; لما ذكر من اختلاف أقوال عمر فيه، مكتفياً بما يقضي به الخلفاء، وهذا الجواب يشبه إلى حدّ كبير جوابه لمن سأله عن صلاته مع النبىّ بمنى ركعتين ثمّ صلاته مع عثمان أربعاً، بقوله: (إن عثمان كان إماماًَ فما أخالفه، والخلاف شرّ).
فاختلاف أقوال الخليفة عمر في الجدّ، ثمّ تضارب أراء بعض الصحابة فيه، حدا ببعض الفقهاء أن يظنّ ظنّاً مغلوطاً، فقالت طائفة: (ليس للجدّ شي معلوم مع الإخوة، إنّما هو على حسب ما يقضي فيه الخليفة)(2).
نعم إنّ النهج الحاكم كان يريد تثبيت رأي الخلفاء الماضين لا غير والإصرار على مخالفة نهج علىّ وابن عبّاس، فجاء عن الحجّاج أنّه بعث إلى الشعبّي يسأله عن مسألة في الجدّ.
فقال [الشعبىّ:] قال فيها ابن مسعود وعلىّ وعثمان وابن عبّاس و...
فقال الحجّاج: فما قال فيها ابن عبّاس وإنْ كان لمُتقناً... إلى أن قال الحجّاج: مُرِ القاضي يمضيها على ما أمضاها عليه أمير المؤمنين، يعني عثمان(3).
ومن هذه النصوص اتّضح لك وضوح الرؤية ووحدتها عند علىّ وأهل بيته أخذاً من المدوّنة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، كما اتّضح لك الرؤية الغائمة عند المانعين من التدوين.
2 ـ مسألة في الصيد
روي عن الحلبّي أنّه قال: قال الصادق: كان أبي يفتي وكان يتّقي ونحن نخاف في
____________
1- المحلّي 9: 285 ـ 286.
2- المحلّي 9: 283.
3- المحلّي 9: 289.
ومعني الرواية أنّ الإمام الباقر كان يفتي خوفاً لكونه يعيش تحت ضغوط الإرهاب الفكرىّ الأموىّ، لأنّ الأمويّين قد عرفوا بولعهم بالصيد بالصقورة والبزاة كما هو المشهور عن يزيد وغيره، وحينما ارتفع الخوف ـ في أوائل العصر العبّاسىّ ـ أخذ الإمام الصادق يوضّح حكمها بقوله (أمّا الآن فإنّا لا نخاف ولا نُحلّ صيدها إلاّ أن تدرك ذكاته فإنّه...)
وإذا تصفّحنا هذه المفردة الفقهيّة رأينا الأدلّة الواردة فيها تقتصر على حلِّيَّة أكل ما صاده الكلب المعلَّم لا غير، وقوفاً عند نصّ الآية المباركة.
فقد ورد عن أبي ثعلبة الخشّنىّ، وعدىّ بن حاتم الطائىّ حلّيّة خصوص ما صاده الكلب المعلّم(3).
وحكي عن ابن عمر ومجاهد أنّه لا يجوز الصيد إلاّ بالكلب، لقوله تعالى: {وما علّمتم...} الآية(4).
على أنّ ابن حزم الأندلسىّ صرّح بأنّ السنّة النبويّة المباركة وردت في خصوص المعلّم من الكلاب ولم تذكر غيره(5).
كما أنّهم صرّحوا بضعف ما نسب إلى ابن عبّاس من قوله في تفسير الآية
____________
1- المائدة: 4.
2- الكافي 6: 207 باب صيد البزاة والصقور، ح 1، التهذيب 9: 32 ـ 33، ح 130 والنص عنه، الاستبصار 4: 73، الباب 64، ح 266.
3- المغني 9: 292، كتاب الصيد والذبائح.
4- المغني 9: 296، كتاب الصيد والذبائح.
5- المحلّي 7: 473.
وإذا أضفت كلّ هذا إلى ما ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في حلّيّة خصوص مصيد الكلب المعلّم وحرمة مصيد غيره من الجوارح، علمت مدى وضوح الحكم، إلاّ أنّ الحكّام وما أرادوه أملى على بعض المسلمين أن يقولوا ما يريدونه، خوفاً ورهبة، حتّى ضاع على مَن أتى مِن بعدهم وجه الصواب.
لذلك نرى أنّ أكثر فقهاء العامّة خالفوا هذا الحكم الواضح وأفتوا بحلّيّة مصيد البزاة والصقورة(3)، مع أنّنا لم نعثر لهم على مستند من السنّة النبويّة في هذا، بل السنّة على خلافه، وإنّما أفتوا بذلك بعد أن وسَّعوا موضوع الآية بلاحجّة ولا دليل، لا من كتاب ولا سنّة، لأنّهما مقتصران على الكلب المعلّم فقط، وقد صرّح ابن حزم بذلك(4)، وهو الظاهر من ابن قدامة أيضاً(5).
بعد هذا تعلم يقيناً أنّ التدوين الذي بدأه علىّ (عليه السلام) كان فيه الخير العميم للمسلمين لو أخذوا به، لكنَّ الظروف والملابسات هي التي جعلت، هذه المفردة تابعة لما أُريد لها لا لما ورد في الكتاب وجاءت به سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
3 ـ حدّ شارب الخمر والنبيذ
روي عن بريد بن معاوية، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ في كتاب علىّ (يضرب شارب الخمر ثمانين وشارب النبيذ ثمانين)(6).
____________
1- المجموع 9: 88.
2- المجموع 9: 88.
3- انظر المغني 9: 293.
4- المحلّي 7: 472.
5- المغني 9: 293.
6- التهذيب 10: 90، ح 348، الكافي 7: 214، باب ما يجب فيه الحد، ح 4.