نصوص في التزويج
تزوّجها عمر بن الخطّاب وهي جارية لم تبلغ، فلم تزل عنده إلى أن قُتل، وولدت له: زيد بن عمر ورُقيّة بنت عمر ـ إلى أن يقول ـ:
أخبرنا أنس بن عياض الليثي، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه: أنّ عمر بن الخطّاب خطب إلى عليّ بن أبي طالب ابنته أمّ كلثوم.
فقال عليّ: إنّما حبست بناتي على بني جعفر.
فقال عمر: أنكحنيها يا عليّ، فوالله ما على ظهر الأرض رجل يرصد من حسن صحابتها ما أرصد.
فقال عليّ: قد فعلت.
فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين بين القبر والمنبر، وكانوا يجلسون ثَمّ عليّ وعثمان والزبير وطلحة وعبدالرحمن بن عوف، فإذا كان الشيء يأتي عمر من الآفاق جاءهم فأخبرهم ذلك واستشارهم فيه.
وفيه أيضاً:
قال محمّد بن عمر وغيره: لمّا خطب عمر بن الخطّاب إلى عليّ ابنته أمّ كلثوم قال: يا أمير المؤمنين!! إنّها صبيّة.
فقال: إنّك والله ما بك ذلك، ولكن قد علمنا ما بك. فأمر عليّ بها فصُنّعت، ثمّ أمر ببرد، فطواه وقال: انطلقي بهذا إلى أمير المؤمنين فقولي: أرسلني أبي يقرئك السلام، ويقول إن رضيت البُرد فأمسكه، وإن سخطته فردّه.
فلمّا أتت عمر قال: بارك الله فيك وفي أبيك قد رضينا.
قال فرجعت إلى أبيها فقالت:
____________
1- الطبقات الكبرى 8: 463. رفئوني، أي قولوا لي: بالرفاء والبنين، وهذا كان من رسوم الجاهلية، وقد نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقد روى الكليني في الكافي 2: 19 بإسناده عن البرقي رفعه قال: لمّا زوّج رسول الله فاطمة (عليها السلام) قالوا: بالرفاء والبنين، فقال (صلى الله عليه وآله): لا، بل على الخير والبركة.
وفي مسند احمد 3: 451 بسنده عن سالم بن عبدالله عن عبدالله بن محمّد بن عقيل، قال: تزوج عقيل بن أبي طالب فخرج علينا، فقلنا: بالرفاء والبنين.
فقال: مه، لا تقولوا ذلك فان النبي قد نهانا عن ذلك وقال: قولوا: بارك الله لك، وبارك الله عليك، وبارك لك فيها.
وفي الإصابة، وغوامض الأسماء المبهمة، والنص للأوّل: عن ابن أبي عمر المقدسي، حدثني سفيان، عن عمرو، عن محمّد بن عليّ: إن عمر خطب إلى عليّ ابنته أُمّ كلثوم فذكر له صغرها، فقيل له: إنه ردك، فعاوده فقال له عليّ: أَبعثُ بها إليك، فإن رضيتَ فهي امراتك، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقيها.
فقالت: مه، لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك(2).
وفي المنتظم لابن الجوزي وتاريخ دمشق لابن عساكر، والنصّ للأول:
أنبأنا الحسين بن محمّد بن عبدالوهاب بإسناده عن الزبير بن بكّار، قال: كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه خطب أمّ كلثوم إلى عليّ بن أبي طالب.
فقال له عليّ: صغيرة.
فقال له عمر: زوّجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده احد.
فقال له عليّ: أنا ابعثها إليك، فإن رضيتَها زوّجتكها.
فبعثها إليه ببرد وقال لها: قولي: هذا البرد الذي قلت لك.
____________
1- الطبقات الكبرى 8: 464، المنتظم 4: 237، تاريخ بن عساكر 19: 486.
2- الإصابة في تمييز الصحابة 8: 465، غوامض الأسماء المبهمة 2: 787.
فقالت له: أتفعل هذا؟! لولا أنّك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، ثمّ خرجت، وجاءت أباها فأخبرته الخبر، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء.
فقال: مهلا يا....(1).
وفي رواية الطـبري: إّن علـيّاً أرسـل ابنـته إلى عمـر فقال لها: انطلقـي إلى أمـير المؤمنين فقولي له: إن أبي يقرئك السلام، ويقول لك قد قضـيتُ حاجـتك التي طلـبت، فأخـذهـا عمر فضـمّها إليه، فقال: إنّي خطـبتها إلى أبيها فـزوّجنيهـا.
قيل: يا أمير المؤمنين، ما كنت تريد إليها؟ إنها صبية صغيرة.
فقال: إني سمعت رسول الله يقول: كلّ سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي...(2).
وذكر الخطيب البغدادي بإسناده عن عقبة بن عامر الجهني: خطب عمر بن الخطّاب إلى عليّ بن أبي طالب ابنته من فاطمة، وأكثر تردده إليه، فقال: يا أبا الحسن ما يحملني على كثرة تردّدي إليك إلاّ
____________
1- المنتظم 4: 237، تاريخ دمشق لابن عساكر 19: 482، الطبقات الكبرى 8: 464، مختصر تاريخ دمشق 9: 159 - 160، الفتوحات الإسلامية 2: 455، شرح نهج البلاغة 12: 106، سير أعلام النبلاء 3: 501، الاستيعاب 4: 1954 - 1955، المستدرك على الصحيحين 3: 153 ح 4684.
2- ذخائر العقبى: 169 عن الدولابي في الذرية الطاهرة: 114، سيرة ابن اسحاق: 233.
فقام عليّ فأمر بابنته من فاطمة فزُيِّنت، ثم بعث بها إلى أمير المؤمنين عمر، فلمّا رآها قام إليها فأخذ بساقها، وقال: قولي لأبيك قد رضيتُ قد رضيتُ، قد رضيت، فلما جاءت الجارية إلى أبيها، قال لها: ما قال لك أمير المؤمنين؟! قالت: دعاني وقبلّني فلمّا قمت أخذ بساقي وقال: قولي لأبيك قد رضيت، فأنكحها إيّاه، فولدت له: زيد بن عمر بن الخطّاب فعاش حتّى كان رجلاً ثمّ مات(1).
وروى الزرندي الحنفي في نظم درر السمطين(2) وابن الجوزي في المنتظم(3) والنص للاول:
إن عمر بن ـ الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ خطب إلى عليّ ـ رضي الله عنه ـ ابنته أُمّ كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4).
وقال عليّ: إنّها صغيرة.
فقال عمر: زوّجنيها يا أبا الحسن، فإنّي أرغب في ذلك، سمعت رسول الله يقول: كلّ نسب وصهر ينقطع إلا ما كان من نسبي وصهري.
فقال عليّ: إنّي مرسلها إليك تنظر إليها، فأرسلها إليه، وقال لها:
____________
1- تاريخ بغداد 6: 180.
2- نظم درر السمطين: 235.
3- المنتظم 4: 238.
4- لم يكن في النصوص السابقة أنّها من فاطمة بنت رسول الله، فتأمل.
فأتته، فقالت له ذلك، فقال: نعم، رضي الله عنك، فزوّجه إياها في سنة سبع عشرة من الهجرة، وأصدقها ـ على ما نقل ـ أربعين الف درهم، فلمّا عقد بها جاء إلى مجلس فيه المهاجرين والأنصار وقال: ألا تزفّوني؟! وفي رواية: ألا تهنئوني؟!.
قالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟
قال: تزوجت أُمّ كلثوم بنت عليّ، لقد سمعت رسول الله يقول: كلّ نسب وسبب منقطع إلاّ نسبي وسببي وصهري، وكان به (صلى الله عليه وآله) السبب والنسب فأردت أن أجمع إليه الصهر، فزفّوه ودخل بها في ذي القعدة من تلك السنة(1).
وْقال اليعقـوبي في تاريخـه: وفي هذه السـنة (أي سنة سبع عشرة) خطب عـمـر إلى علـيّ بـن أبي طالـب أُمّ كلثـوم بنت عليّ، وأمهـا فاطمـة بنـت رسـول الله.
فقال عليّ: إنها صغيرة.
فقال: إني لم أرد حيث ذهبت، ولكني سمعتُ رسول الله يقول: كلّ نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله(2).
____________
1- انظر الاستيعاب 4: 1954 - 1955.
2- تاريخ اليعقوبي 2: 149.
البحث التاريخي
أولاهما:
الوقوف على نظرة العامّة إلى الخليفة والخلافة، وهل أنّ الخليفة عندهم منصوص عليه من قبل الله ورسوله أم لا؟
ثانيهما:
ما هي تصوّراتهم عن الخليفة، هل أنّه معصوم أم أنّه إنسان عادي يصيب ويخطئُ؟
أمّا المقدمة الأوّلى:
من الثابت المشهور عن العامّة أنّهم لا يعتقدون بلزوم كون الخليفة منصوصاً عليه من قبل الله ورسوله، بل إنّ أمر الخلافة عندهم راجعٌ إلى الأمة، فتحصل تارة ببيعة أهل الحلّ والعقد أو ببيعة اثنين، أو واحد، وأُخرى بالشورى، وثالثة بالإجماع، و... فمن أنُتخب صار أماماً للمسلمين وخليفة لرسول الله!!
أمّا المقدمة الثانية:
فهم لا يقولون بعصمة الخلفاء، بل نراهم يحدّدون ويحصرون عصمة الرسول فيما يبلّغه عن الباري جل شأنه فقط، ومعنى كلامهم: أنّهم يذهبون إلى تخطئة الرسول الأكرم في الموضوعات الخارجية،
هذا بصرف النظر عن واقع الخليفة، فالسير التاريخي والوقائع والنصوص أكدّت لنا خطأ الخلفاء وجهلهم في كثير من الأحكام والمواقف، لكنّنا لا نرتضي جرّ هذا القول ـ وبالمعكوس ـ على ساحة الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله) والقول بأنّه كان يخطئُ أو يجتهد في الأحكام الشرعية، لأنّه (صلى الله عليه وآله) كان متصلاً بالوحي، يأخذ تعاليمه ومواقفه منه، فلا حاجة به للاجتهاد والإفتاء طبق الظن والتخمين.
نعم، إنهم قالوا بهذا القول كي يرفعوا بضبع بعض الصحابة من خلال الهبوط بمنزلة ومستوى الرسول الأمين، فتراهم يذهبون إلى أن الله تعالى عاتب رسوله على أخذ الفداء من أسرى بدر، وأنَّ العذاب قرب نزوله، ولو نزل لما نجا منه إلاّ عمر.
بهذه النصوص والأقوال أنزلوا الرسول المصطفى إلى منزلة رجل عادي يخطئ ويصيب، ويسبّ ويلعن، ثمّ يطلب الرحمة لمن سبّهم.
ونحن قد أجبنا عن هذه الافتراءات وأمثالها ـ شارحين كيفية نشوء فكرة اجتهاد النبي، ومن ثمّ تأطُّر مدرسة الاجتهاد والرأي عند العامّة، والأسباب والدواعي الكامنة وراء تناقل مثل هذه الأقوال ـ في كتابنا (منع تدوين الحديث) فمن أحب فليرجع إليه.
إذاً يمكن للباحث ـ وبمطالعة سريعة لتاريخ صدر الإسلام ـ الوقوف على اُمور كثيرة صدرت من قبل الشيخين، ومن تبعهم من الخلفاء، كعثمان ومعاوية و... بُنيت على المصلحة الوهمية والرأي
وتعطيل عمر بن الخطّاب لسهم المؤلفة قلوبهم(2) مع أنّ الله قد فرضه لهم في كتابه العزيز بقوله {... لِلْفُقَراءِ وَالمَساكِينِ وَالعامِلِينَ عَلَيْها وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ }(3).
وتشريعه للطلاق ثلاثاً(4) مع أنّ الباري جل شأنه قال: { الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَاِمْساكٌ بِمَعْرُوف أَو تَسرِيحٌ بِاِحْسان }(5).
وابتداعه لصلاة التراويح مع اعتقاده بأنّها بدعة وقوله عنها: نعمت البدعة هي(6).
وحرق عثمان للمصاحف مع ثبوت نهي الرسول عن حرق التوراة(7) فكيف بالقرآن العزيز؟
____________
1- تاريخ الطبري 2: 503، البداية والنهاية 6: 355، أسد الغابة 1: 588، الكامل في التاريخ 2: 358.
2- فتح القدير للشوكاني 2: 373.
3- التوبة: 60.
4- صحيح مسلم 4: 183، المستدرك على الصحيحين 2: 196، مسند احمد 1: 314.
5- البقرة: 229.
6- صحيح البخاري 2: 707 / باب فضل من قام رمضان ح 1906، موطا مالك 1: 114 / باب ما جاء في رمضان ح 250، تاريخ المدينة 2: 713، الطبقات الكبرى 5: 59، تاريخ اليعقوبي 2: 140.
7- كما في حديث عائشة، أنظر: الكامل في الضعفاء 1: 77.
فهل كانوا كذلك؟ وإذا كانوا كذلك فكيف يمكن رفع التعارض بين مواقفهم إذاً؟ ومن هو المحق:
هل إنّ عمر هو المحقّ في تهديده لخالد وقوله له: ارئاءً؟! قتلت أمـرءاً مسلماً ثمّ نـزوت على امراته والله لأرجمنّك بأحجـارك، ولا يكلّـمه خالـد بن الوليد ولا يظنّ إلاّ أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمـر فيه حتى دخل على أبي بكر، فلمّا...(1).
أم أن أبا بكر هو المحقّ في قوله: يا عمر! (تأول فأخطأ)(2)فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين(3).
ولماذا يصرّ أبو قتادة الانصاري على موقفه من خالد.
ومن هو المحق أبو قتادة، أم أبو بكر في نهيه له؟(4) وماذا يعني منطق الخليفة الأوّل (تأوّل)؟ وكون أعدائه (المسلمين) من الكافرين؟ هل جاء هذا الموقف لاحتياجه إلى خالد
____________
1- تاريخ الطبري 2: 273، الاصابة 2: 55، سير اعلام النبلاء 1: 378.
2- الاصابة 5: 755.
3- تاريخ الطبري 3: 241، البداية والنهاية 6: 241، أسد الغابة 1: 588 وغيرها.
4- الكامل في التاريخ 2: 358.
وكيف ساغ لابي بكر أن ينهى أبا قتادة عن التعرّض لخالد مع أنّ اعتراض أبي قتادة كان نابعاً من القرآن الكريم والسُنّة المطهرة؟
وماذا يمكننا أن نقول في المؤلفه قلوبهم؟
ومن هو المحق في القرار: هل هو أبو بكر أم عمر؟ فقد جاء في كتب التاريخ: إن أبا بكر كتب إلى عمر بأنّ يعطي المؤلفة قلوبهم حقَّهم، فلما أتوه مزق الكتاب وقال: إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤُمن ومن شاء فليكفر، ولا حاجه لنا بكم.
فرجعوا إلى أبي بكر وقالوا: هل أنت الخليفة أم عمر؟ قال: هو إن شاء الله(1).
وبعد هذا، كيف يمكن لغيرنا أن يصحّح المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر(2) مع ما يراه من الاختلاف بين مواقفهم.
ولو صحّ هذا الخبر، فلماذا نرى تخلف كثير من الصحابة عما شرعه الشيخان؟ وتخطئتهم لهما في ما اجتهدا فيه في بعض الأحيان؟!
وما يعني ذلك؟
ألم تكن مواقفهم ـ المخطئة للشيخين وتصريحات الشيخين بأنّهما
____________
1- انظر الدر المنثور 4: 224 في تفسير الآية 60 من سورة التوبة، وتفسير المنار 10: 96.
2- مسند احمد 5: 382، سُنن الترمذي 5: 271.
بل كيف بالخليفة يسأل عن الأحكام لو كان هو الإمام المقتدى المأمور بطاعته والاقتداء به؟
كلّ هذه النصوص تؤكّد على أن المصالح التي صوّرها الاعلام في مدرسة الخلفاء لم تكن شرعية وحقيقية بالمعنى الصحيح للكلمة، بل هي مصالح وهمية تصورها الخلفاء وانصارهم ومنها وعليها سرى وجرى التشريع الحكومي لاحقاً.
بعد أن اتّضح لك جواب السؤالين السابقين وعُرف أن الخليفة ليس بمعصوم وأن الله لم ينصبه، وقد أخطأ بالفعل في كثير من الأمور، وأنّ المصالح التي تصوّرها لم تكن حقيقية عامة للجميع، بل كثير منها وهمية، أو هي مصالح خاصة فئوية.
فلابد الآن من دراسة مدّعى عمر بن الخطّاب في هذا الأمر، وهل حقاً أنه كان يريد التقرب إلى رسول الله إذ سمع منه (صلى الله عليه وآله): (كلّ سبب أو نسـب منقـطع إلا سـببي ونسـبي)(1) أم أنه جعلها وسـيلة لامـر آخـر.
وهل إنّ اقتراح الزواج يرتبط بأمر سياسي، أم اجتماعي، أم عاطفي، أم غير ذلك؟
____________
1- السنن الكبرى 7: 64، المعجم الكبير للطبراني 3: 145، 11: 194، الاوسط للطبراني 6: 357، ورواه أيضاً التيمي في مجمع الزوائد 4: 271.
عمر ودعوى القرابة:
نحن لو درسنا سيرة عمر بن الخطّاب قبل وبعد الإسلام لوقفنا على حقيقة أُخرى غير ما يصوره أصحاب السير والتراجم، ولرأيناها تنافي المدّعى كمال المنافاة، لأنّه كان يصرّ في معركة بدر على لزوم قتل كلّ قريب قريبَهُ، وقد طلب بالفعل من رسول الله أن يقتل عمَّه العباس، ومن عليّ أن يقتل أخاه عقيل و.. مع أنّ رسول الله كان يؤكد له بأنّهما جاءا مكرهين للمعركة(1).
وهذه صورة واحدة عن موقفه مع قرابة رسول الله ومفهوم القرب والقرابة عنده في أوائل الإسلام، وعدم وجود ميزة للقرابة عنده.
ولا يخفى عليك بأنّ هذه الرؤية كانت هي السائدة على القرشين ومنهم عمر، فقد ورد في بعض الأخبار: إنّ صفية بنت عبد المطلب مرت على ملا من قريش فإذا هم يتفاخرون ويذكرون الجاهلية، فقالت: منا رسول الله.
فقالوا: إنّ الشجرة لتنبت في الكبا ـ أي المزبلة ـ.
فجاءت إلى النّبي فأخبرته فقال (صلى الله عليه وآله): هجّر يا بلال بالصلاة، فحمد الله وأثنا عليه ثم قال على المنّبر بغضب: أيّها النّاس أنسبوني.
فقالوا: أنت رسول الله ومحمّد بن عبد الله.
فقال: أجل، أنا محمّد بن عبد الله وأنا رسول الله، فما بال اقوام
____________
1- تفسير ابن كثير 4: 352.
وإليك الآن صورة أُخرى تنبئك عن مدى اعتقاد عمر بمنزلة القربى واحترامه للقرابة، تلك الصورة التي وجدناها في خبر تعامله مع صفّيه عمّة رسول الله في المدينة المنوّرة وبعد أن قطع الإسلام شوطاً كبيراً واستحكم، واستقرت مفاهيمه العامّة استقرار كبيراً. ومنها وجوب مودة ذي قُرباه، ومع ذلك لم يأبه عمر:
فقد أخرج الهيثمي عن ابن عبّاس قال:
توفّى ابنٌ لصفّية عمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبكت عليه وصاحت، فأتاها النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال لها: يا عمّة ما يبكيك؟
قالت: توفّي ابني.
قال: يا عمّة، من تُوفيِّ له ولد في الإسلام فصبر، بنى الله له بيتاً في الجنّة، فسكتت.
ثمّ خرجت من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستقبلها عمر بن الخطّاب فقال: يا صفية قد سمعت صراخك، إنّ قرابتك من رسول الله لا تغني عنك من الله شـيئاً، فبكـت، فسـمعها النبيّ وكان يكرمها ويحـبها، فقال:
يا عمّة أتبكين وقد قلتُ لكِ ما قلتُ!!
قالت: ليس ذلك أبكاني يا رسول الله، استقبلني عمر بن الخطّاب فقال:
____________
1- ينابيع المودة 2: 348.
قال: فغضب النبيّ، وقال: يا بلال هجّر بالصلاة.
فهجّر بلال بالصلاة، فصعد النبيُّ المنبرَ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع، كلّ سـبب ونسـب منقـطع يـوم القيامـة إلاّ سـببي ونسـبي، فأنها موصـولـة في الـدنـيا والاخـرة(1).
ومرة أُخرى اعترض على أُمّ هاني بنت أبي طالب بقوله: إعلمي أنّ محمّداً لايغني عنك شيئاً، فجاءت إلى النّبي فأخبرته فقال (صلى الله عليه وآله): ما بال اقوام يزعمون أنّ شفاعتي لا تنال أهل بيتي وأنّ شفاعتي تنال " حا " و" حكم "(2).
فنحن لو قسنا مدّعى عمر اليوم في الزواج مع ما قاله في نأنأة الإسلام وفي عزّته لحصلنا على نتائج لا ترضي محبّيه وأنصاره، بل تشكّك الجميع في صحّة دعواه.
أمّا لو أحسنّا الظن بمدّعاه وقلنا أنّه حقاً كان يريد القرابة، لانه عرف منزلتهم لمّا غضب النبي وهجّر بلال بالصلاة...
____________
1- مجمع الزوائد 8: 216، وينابيع المودة 2: 190. ورسول الله بمقولته تلك (ما بال اقوام) أراد الإشارة إلى القبائل المناهضة للرسالة وإنّ هذا الفكر هو فكرٌ لمجموعة منهم ولا يختّص بعمر بن الخطّاب لوحده، والحديث يُدل على القرابة الدينية في اطار الشفاعة وهذا ما سنوضحه لاحقاً.
2- سبل الهدى والرشاد 1: 254 و 11: 4 و"حا" و"حكم" قبيلتان من اليمن.
فَإِنْ كُنْتَ بِالشُّورَى مَلَكْتَ أُمُورَهُمْ | فَكَيْفَ بِهذَا وَالْمُشِيرُونَ غُيَّبُ |
وَإِنْ كنْتَ بِالْقُرْبَى حَجَجْتَ خَصِيمَهُمْ | فَغَيْرُكَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ وأَقْرَبُ |
بل كيف نقبل دعوى اهتمامه بالقرابة، وهو لا يولّي أحداً منهم السرايا والبلدان أيام حكومته.
بل بمَ يمكن تصحيح مدعاه وأنّه يريد بزواجه من أُمّ كلثوم التقرّب إلى رسول الله عن طريق بنته فاطمة الزهراء، في حين نراه يقول لمن اعترض عليه عند هجومه على دار فاطمة الزهراء: إن فيها فاطمه، قال: وإن(1).
فهل يمكن الجمع بين هذه المواقف وبين ما يدّعيه عن القرابة والقربى اليوم؟
____________
1- الامامة والسياسة 1: 19.
بل إذا كانت القرابة لها هذه السمة المعنوية في الدنيا والاخرة حسب اعتراف عمر؟ فكيف به لا يحترم ابنة رسول الله، التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها(2)؟ ويقول مستنقصاً مكانتها: وإن!!
إنّ عدم تفهّمهم لتلك الخصائص الإلهية ـ أو عدم ترتيبهم الآثار عليها ـ إنّما يكمن وراءه موروث قديم، وهو: احترام الرئيس ما دام حيّاً، ولا يعار للبنت أهمية، إلاّ بمقدار كونها امراة لا توازي الرجل ولا تساويه، بل ليس لها أن تطالب بشيء من حقوقها الشرعية، وقد يكون وراء هذا الأمر مصالح وأهداف سياسية أُخرى لا يريدون الكشف عنها.
وقد رأيتَ أنّ بعض النصوص تدّعي أنّ عمر كان يريد " النسب والسبب " رغم افتراض أنّه من قريش، وله نسب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبذلك احتجّ في السقيفة، كما أنّ له سبباً من جهة ابنته حفصة، فلا يبقى لمدّعاه مجال من المصداقية.
نعم، في نصوص أُخرى التصريح بأنّه أراد المصاهرة ; وإذا صحّ
____________
1- سُنن ابي داود 3: 147 ح 2984، السنن الكبرى للبيهقي 6: 345، سُنن النسائي 7: 129.
2- انظر تهذيب الكمال 35: 250 عن البخاري 6: 158 ـ باب ذب الرجال عن ابنته ـ وفيه: فإنّما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها، صحيح مسلم 7: 141، أبي داود 1: 460، الترمذي 5: 359.
فكما كان عثمان ذا نورين كان يمكن لعمر أن يكون ذا نور واحد، لكنّ التاريخ لم يحدّثنا أنه حاول تلك المصاهرة من إحدى بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير فاطمة!!
نعم، أقدم عمر على خطبة فاطمة الزهراء ربّما منافسة لعلي فرّده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانتهى كلّ شيء(1).
هذا كلّه بغض النظر عن أنّ القوم وعمر لم يفهموا كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) على وجهه الصحيح، أو فهموه وحرّفوه، لأنّ مراد رسول الله هو: إن نسبه في إطار المفهوم الديني هو الباقي. وذلك من خلال عليّ والحسنين وولد الحسين ; وهم الأئمّة الإثنا عشر، الذين لا يزال الدين
____________
1- روى النسائي بإسناده عن بريدة بن الخصيب قال: خطب أبو بكر وعمر(رضي الله عنه)فاطمة، فقال رسول الله: إنها صغيرة، فخطبها عليّ فزوجها منه. وقد صحح الألباني هذا الخبر في صحيح النسائي 2: 678.
وعلق السندي على الخبر بقوله:... ففيه أن الموافقة في السنّ أو المقاربة مرعية، لكونها أقرب إلى المؤالفة، نعم قد يترك ذاك لما هو أعلى منه كما في تزويج عائشة (رض).
لكن الأمر لم يكن كما قاله السندي بل أغلب النصوص تصرح بأن رسول الله كان ينتظر بها القضاء وأمر الله تعالى إلى من يزوجه انظر الطبقات 8: 19، مجمع الزوائد 9: 204 ـ 212، المعجم الكبير 3: 34.