والمراد بسببه هو: سبب الله الممدود والموصول بين السماء والأرض، بنص " اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي "(3).
على أننا اليوم بالضرورة والوجدان لا نرى أولاداً نسبيّين لرسول الله إلاّ أولاد فاطمة الزهراء من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وهذه من نبوءات رسول الله ودلائل نبوته.
وعليه فان هذه النصوص وغيرها تشكّكنا في مدّعى عمر بن الخطّاب، بل توصلنا إلى أن الأمر لم يكن كما يصوّره أتباع مدرسة الخلفاء، لأنّ العلل والأسباب التي ذكرها عمر ـ أو ذكروها له ـ في التزويج لا تتفق مع ما يهدف إليه عمر من هذا الزواج.
عمر وتزوجه من النساء:
إنّ شدّة وغلظة عمر بن الخطّاب لا يمكن لأحد أن ينكرها(4)، حتّى
____________
1- صحيح مسلم 6: 3، مسند أحمد 5: 93، 90، سُنن أبي داود 2: 309.
2- مسند أحمد 4: 172، سُنن ابن ماجة 1: 51، سُنن الترمذي 5: 324، مصنّف ابن ابي شيبة 7: 515، الأدب المفرد: 85.
3- مسند أحمد 3: 18، 27، 59، مصنف ابن أبي شيبة 7: 176، المعجم الكبير للطبراني 3: 66 وعنه السيوطي في الدر المنثور 2 - 60.
4- بل أصبحت مثلاً يقاس به، فمن خطبة لعثمان بن عفان، وبعد ان كثر اعتراض الامة عليه، قال: "... ألا فقد والله عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعَكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم..." انظر تاريخ الطبري 3: 377.
واللطيف في الأمر أن طه حسين يصف عائشة: كانت شديدة كعمر، انظر مجموعته الكاملة 4: 454.
ففي تاريخ الطبري:.. قال المدائني خطب ـ أي عمر ـ أُمّ كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة، وأرسل فيها إلى عائشة، فقالت: الأمر إليك.
فقالت أُمّ كلثوم: لا حاجة لي فيه.
فقالت لها عائشة: ترغبين عن أمير المؤمنين.
قالت: نعم، إنه خشن العيش، شديد على النساء، فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته.
فقال: أنا اكفيك.
فأتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين! بلغني خبرٌ، أعيذك بالله منه.
قال: وما هو؟
قال: خطبتَ أُمّ كلثوم بنت أبي بكر؟
____________
1- أنساب الأشراف: 189 كما في (دراسة نقدية لمرويات عمر بن الخطّاب) ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1: 241.
قال: أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟
قال: لا واحدة، ولكنها حدثة، نشأت تحت كنف أُمّ المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك.
قال: فكيف بعائشة وقد كلّمتها؟!
قال: أنا لك بها وأدلك على خير منها أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب، تعلق منها بنسب من رسول الله.
وفي نّص آخر: إن رجلاً من قريش قال لعمر بن الخطّاب: ألا تتزوج أُمّ كلثوم بنت أبي بكر، فتحفظه بعد وفاته، وتخلفه في أهله؟
فقال عمر: بلى، إني لأحبّ ذلك، فاذهب إلى عائشة، فاذكر لها ذلك، وعد إليّ بجوابها.
فمضى الرسول إلى عائشة فأخبرها بما قال عمر، فأجابته إلى ذلك وقالت له: حبّاً وكرامة.
ودخل عليها بعقب ذلك المغيرة بن شعبة فرآها مهمومة، فقال لها: مالك يا أُمّ المؤمنين؟! فأخبرته برسالة عمر، وقالت: إنّ هذه جارية حدثة، وأردت لها ألين عيشاً من عمر، فقال لها: عليَّ أن أكفيك.
وخرج من عندها، فدخل على عمر، فقال: بالرفاء والبنين، فقد بلغني ما أتيته من صلة أبي بكر في أهله، وخطبتك أُمّ كلثوم.
فقال: قد كان ذاك.
فقال له: متى كنت عند عائشة، واصدقني؟!
فقال: آنفاً.
فقال عمر: أشهد أنهم كرهوني، فضمنتَ لهم أن تصرفني عمّا طلبتُ، وقد أعفيتهم.
فعاد إلى عائشة فأخبرها بالخبر، وأمسك عمر من معاودة خطبتها(1).
قال المدائني: وخطب [ عمر ] أُمَّ أبان بنت عتبة بن ربيعة، فكرهته وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابساً ويخرج عابساً(2).
وجاء في أُسد الغابة عن الحسن: أن عمر بن الخطّاب خطب إلى
____________
1- اعلام النساء، كحاله 4: 250.
2- تاريخ الطبري 2: 370، الكامل في التاريخ 3: 451، 455، البداية والنهاية 7: 157. وفي المعارف لابن قتيبة: 175 والبدء والتاريخ 5: 79: أن عمر خطب أُمّ كلثوم بنت أبي بكر، وذلك بعد وفاة أبي بكر، خطبها من عائشة فأنعمت له بها، لكنّ أُمّ كلثوم كرهته، فاحتالت حتى أمسك عنها، فتزوجها طلحة بن عبيدالله فولدت له زكريا وعائشة... الخ.
وانظر كذلك كنز العمال 13: 626 "ح" 37590،عن ابن عساكر 25: 96، والروضة الفيحاء في تواريخ النساء: 303.
فكلّ الّذين ردّوا عمر علّلوا ذلك بأنّه خشن العيش، يدخل عابساً ويخرج عابساً، وينظر إلى النساء نظرة جاهلية، ويتعامل معهن كأنّهن عبيد، وإليك ما يؤكد صحّة مقولة القوم القرشيين، الذين خطب منهم عمر فردوه، حيث:
فقد أخرج ابن ماجه القزويني عن الأشعث بن قيس أنّه قال: ضفت عمر ليلةً، فلمّا كان في جوف الليل قام إلى أمرأته يضربها، فحجزت بينهما، فلما أوى إلى فراشه قال لي: يا أشعث!! احفظ عنّي شيئاً سمعته من رسول الله: لا يُسأل الرجل فيم يضرب امرأته، ولا تنم إلاّ وتراً، ونسيت الثالثه(2).
وقد مرّ عليك قبل قليل ما قالته أمّ أبان بنت عتبه بن ربيعة حينما خطبها عمر بن الخطّاب بعد أن مات عنها يزيد بن أبي سفيان، فقالت: لا يدخل إلاّ عابساً ولا يخرج إلاّ عابساً، يغلق بابه ويقلّ خيره(3).
وما قالته أُمّ كلثوم بنت أبي بكر حينما خطبها عمر " فقالت أُمّ كلثوم: لا حاجة لي فيه.
فقالت لها عائشة: ترغبين عن أمير المؤمنين؟!
____________
1- أُسد الغابة في معرفة الصحابة 4: 65.
2- سُنن ابن ماجه 1: 693، مسند أحمد 1: 20. كنز العمال 16: 498 و 483 ح 45566.
3- عيون الاخبار 4: 17، تاريخ الطبري 5: 17، الكامل لابن الاثير 3: 55.
وروى عليّ بن يزيد: أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تحت عبدالله بن أبي بكر، فمات عنها واشترط عليها أن لا تتزوّج بعده، فتبتلت وجعلت لا تتزوج، وجعل الرجال يخطبونها وجعلت تأبى.
فقال عمر لوليها: اذكرني لها، فذكره لها، فأبت على عمر أيضاً.
فقال عمر: زوّجنيها، فزوجه إياها.
فأتاها عمر، فدخل عليها، فعاركها حتّى غلبها على نفسها، فنكحها، فلمّا فرغ قال: أفُ، أُف، أفُ، أففّ بها، ثمّ خرج من عندها وتركها لا يأتيها، فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال فإنّي سأتهيأ لك(2).
هذا وقد حمل محبّو الخليفة الخبر الأخير على أنّه أراد بيان حكم شرعي، وهو: عدم جواز التبتل في النكاح، أو عدم جواز أخذ المال على أن لا تتزوج، في حين نعلم أنّ عاتكة كانت ثيّباً، والمرأة الثيّب هي مالكة لأمرها، ولا ولاية لأحد عليها، وعلى فرض ثبوت الولاية عليها، يجب أن يُجمع رضاها إلى رضا وليّها.
لكن النص السابق يشير وبوضوح إلى أن عاتكة لم ترضّ بهذا النكاح، وأنّ عمر أكرهها على ذلك وتجاوز عليها بدون أذنها لأنّه " دخل عليها فعاركها حتّى غلبها على نفسها، فنكحها، فلما فرغ قال:
____________
1- تاريخ الطبري 5: 17. الكامل في التاريخ 3: 55 البداية والنهاية 7: 57، و 93 وج 6: 365.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد 8: وعنه في كنز العمال 13: 633.
على أنّ خبر ابن سعد في الطبقات يدل على أنّ عمر بن الخطّاب كان طامعاً فيها، راغباً بها، لا أنّه فعل ذلك كي يوضّح حكماً شرعياً وهو حرمة التبتّل، لأنه كان قد طلبها قبل ذلك من وليّها فقال " اذكرني لها، فذكره لها، فأبت على عمر أيضاً ".
وهو يشير إلى ما قلناه، ويوضّح بأنّ وراء نكاح عاتكة شيئاً آخر غير ما يبرّره علماء مدرسة الخلفاء.
فهو لو كان يريد الوقوف أمام التبتل أو تشريع شيء جديد للزمه أن يحقّق ذلك بشكل آخر غير المغالبة ونكاحها بنفسه ثمّ قوله: أُف، أُف، أُف.
وأريد هنا ان أُنبه إلى بعض المفارقات في نصوص التزويج عن عمر وعليّ، وهي بنظري تسيء إلى عمر بن الخطّاب أكثر من أن تخدمه ; لأنّها تؤكّد على أنّ الإمام عليّاً شارك الآخرين بالرأي، فاستشار الإمامين الحسن والحسين(1) وعقيلاً(2) وعمّه العباس(3)في تزويجه أُمّ كلثوم.
____________
1- ذخائر العقبى: 169 و 170، سيرة ابن إسحاق: 248، الذرية الطاهرة: 159، حياة الصحابة 2: 527، كنز العمال 16: 532، مجمع الزوائد 4: 272، السنن الكبرى 7: 64.
2- المعجم الكبير 3: 44 و 45، مجمع 4: 271، 272، ذخائر العقبى: 170 الذرية الطاهرة: 160.
3- ذخائر العقبى: 170، الذرية الطاهرة: 160
إنّ عمر لو كان حقّاً يريد الزواج مباركاً من عاتكة لكان عليه أن يرسل إليها بعض النساء من أهل بيته بعد العقد برضاها ليأتوا بها إلى عِشّ الزوجية بإعزاز وإكرام لا أن يغالبها ويعاركها، إذ أنّ هذا الفعل لا يصدر إلاّ من رعاع الناس، فكيف بخليفة المسلمين!
نحن وإن كنّا لا نقبل بتلك الروايات القائلة بأنّ الإمام أمير المؤمنين زوّج عمر بعد أن استشار الإمام الحسن والحسين وعقيلا والعباس، لكنّا نؤكّد أنّ هذه النصوص مختلقة على لسان هذا أو ذاك، وهي تسيء بالدرجة الكبرى للخليفة وأتباعه.
وعليه، فالنصوص السابقة وضّحت لنا بأنّ النساء لم يكنّ يرغبن في التزويج بعمر بن الخطّاب، فلو جمعت تلك النصوص إلى نصّ الطبري في تزويج أُمّ كلثوم بنت أبي بكر، لعرفت أن الجميع كانوا يهابونه، ويخافون بطشه، وحتّى عائشة بنت أبي بكر ـ زوجة الرسول ـ فإنّها كانت تخافه وتهابه، ولمّا امتنعت أختها أُمّ كلثوم من الزواج من عمر استولى عليها الخوف، فارسلت إلى عمرو بن العاص ـ أو إلى المغيرة بن شعبة ـ تستعين بهما لحلّ المشكلة.
ولو تدبّرت وتعمّقت في كلام عمرو بن العاص لعرفت أنّه هو الآخر كان يهاب عمر ويخاف بطشه، إذ لينه في الخطاب وأُسلوبه في الاستعطاف ليشير إلى أنّ عمرو بن العاص أراد أن يستعطف الخليفة من خلال أخيه أبي بكر فقال له:
أنظر إلى كلام عمرو بن العاص ومخطّطه الجديد، وهو الداهية، كيف أراد بتلك الكلمات الخفيفة أن يخلق شيئاً من الرقّة المشوبة بالحسّ السياسي ليزجّها زجّاً في قساوة عمر بن الخطّاب، وأن يستبدل أمّ كلثوم بنت أبي بكر بأمّ كلثوم بنت عليّ؟! لأنّه لو حقّق ذلك لما خاف على بنت عليّ بن أبي طالب كما كان يخاف على بنت أبي بكر، بل لو سطا عمر على أُمّ كلثوم بنت عليّ لآذى علياً، وكان في ذلك سرور لأمثال: عمرو بن العاص و...
ولا أدري كيف بعمرو بن العاص، وعمر بن الخطّاب يخافان أن يخلفا أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليهما، ولا يخافان رسول الله في بنته وبنت بنته؟!
وعلى أي شيء يمكن حمل هذه النفسية؟
وهل إنّ ذكر هذه النصوص والمواقف في كتب القوم تعدُّ ميزة لأصحاب رسول الله؟
بل كيف بأُمِّ كلثوم بنت عليّ لو خالفت عمر، وقد وقفت على عدم إِطاقة أمثال عمرو بن العاص أن يردّوه عن خلق من أخلاقه؟!
نعم، إن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة قد استغلا علاقة عمر
فقال له المغيرة: إلاّ أنّك يا أمير المؤمنين رجل شديد الخلق على أهلك، وهذه صبية، حديثة السّن، فلا تزال تنكر عليها الشيء فتضربها، فتصيح، فيغمك ذلك وتتألم له عائشة، ويذكرون أبا بكر، فيبكون عليه، فتجدّد لهم المصيبة في كلّ يوم.
وقد مرّ عليك كلام عمرو بن العاص: ولكنّها حدثة، نشأت تحت كنف أُمّ المؤمنين في لين ورفق وفيك غلظة...
ولمّا عاتب عمر بن الخطّاب عمراً بقوله:
" فكيف بعائشة وقد كلمتها.
قال [ عمرو بن العاص ]: أنا لك بها، وأدلّك على خير منها أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب... ".
فكلام عمرو بن العاص: " أدلّك على خير منها " لم ياتِ اعتقاداً منه بكون أُمّ كلثوم بنت عليّ هي خير من أُمّ كلثوم بنت أبي بكر، وإن كان ذلك من المسلّمات عند المسلمين، لأنّها أقرب قرابة وألصق رحماً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل في كلامه إشارة إلى أن أُمّ كلثوم بنت عليّ هي خير من بنت أبي بكر لتعهّد الخدمة في بيت عمر، لأنّه لو ضربها أو سطا بها لكان في ذلك سرور لمخالفي عليّ بن أبي طالب واعدائه، أمثال: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، و...
فعمرو بن العاص حينما اقترح على عمر بأن يأخذ أمّ كلثوم بنت
"... وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها... ".
وبعد كلّ هذا، فقد اتضح لك بأنّ هذا الاقتراح من عمرو بن العاص لم يأت عن حُسن نية، بل جاء عن سوء نية!
نعم، إنّ ابن العاص أطرّ حقده الدفين ضدّ عليّ وبنيه بإطار الناصح الأمين إذ قال: " أنا لك بها وأدلّك على خير منها "، لكنّ هذا الأمر لا ينطلي على المتدبّر الحكيم، بل إنّ الباحث المحقّق ـ بل كلّ مطالع في النصوص ـ يعرف بأنّ عمرو بن العاص كان الموجّه والمنظر لعمر بن الخطّاب للدخول إلى بيت وحرم عليّ بن أبي طالب، أي أنّه رسم لعمر المنهج وأعطى له المبرّر كي يصل إلى هذا الزواج، وبذلك خدم سيّده ونال من عدوه في آن واحد.
ونحن حينما قلنا قبل قليل بأنّ الجميع كانوا يهابون عمر بن الخطّاب ويخافون بطشه، لا نعني بذلك عدم إمكان أن ينجو أحد من قراره.
فقد نجت أُمّ أبان بنت عتبة.
وأُمّ كلثوم بنت أبي بكر.
والقوم من قريش الذين خطب منهم عمر بن الخطّاب فردّوه.
لكنّ هذا الأمر لا يمكن تصوّره واحتماله في مخالف سياسي لعمر بن الخطّاب كعليّ بن أبي طالب، وخصوصاً لمّا علمنا بأنّ أُصول هذا المخطط رسمه عمرو بن العاص أو المغيرة بن شعبة وأمثالهما، ممّن يبغون من وراء مثل تلك المناورات هدفاً، بل أهدافاً سياسية.
نعم، إن أُمّ كلثوم بنت أبي بكر نجت ـ إن صحّت نجاتها ـ من الزواج من عمر بمسعى عمرو بن العاص أو المغيرة بن شعبة، مع وقوفنا على خوف عائشة من عقبى مخالفة اختها لهذا الزواج ; لقولها لأمّ كلثوم " ترغبين عن أمير المؤمنين!! ".
هذا، ومن الطبيعي أن لا تكون منزلة عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء عند عمر بن الخطّاب كمنزلة أبي بكر بن أبي قحافة وعائشة بنته؟! وهذا هو الذي جعل الداهيتين!! يدعوانه على الإقدام على الزواج من بنت عليّ وأن يترك بنت أبي بكر.
قول عمر بين الحقيقة والادّعاء:
ولو تدبّرت في نصوص زواج عمر من أُمّ كلثوم، لرأيتها ذات مرامي سياسية أكثر من كونها ذات أبعاد اعتقادية أو عاطفية؟
____________
1- حيث أقدم عليها بعد وفاة زوجها عقيب غزوة أحد فردته، انظر مسند أحمد 6: 313، والسنن الكبرى للنسائي 3: 286، وتاريخ بغداد 11: 355.
فلو كان عمر يريد القرابة حقّاً وكان يعتبر نفسه الوحيد " على ظهر الأرض يرصد من حسن صحابتها ما لا يرصده أحد " فهل يأتي حُسن صحبته لها بالكشف عن ساقها، أو ضمها إلى صدره، أو تقبيلها، أو...
وهل أنّ أُمّ كلثوم بنت عليّ كانت من الإماء والوصائف اللواتي يُبتغى منهنّ غلظ السوق وصحّة الأبدان ليكُنّ أبلغ في المتعة وأقدر على الخدمة؟!
أم أنّها كانت كريمة بني هاشم، وبنت رسول الله وعليّ الكرار وفاطمة البتول، وهي الحرّة الأبيّة التي ادّعى عمر أنّه يريد أن يتقرب بزواجه منها إلى الله ورسوله!!
وهل حقّاً أن عمر رصد بفعلته هذه ما لا يرصده أحد من الرجال؟!
وما يعني كلامه آنف الذكر إذاً لو قسناه مع ما فعله معها حسب النصوص المارة؟! وعلى أي شيء يدل؟
ولو أحبّ عمر أن يحفظ رسول الله في ولده، وأراد التزويج ببنت فاطمة وعليّ، فهل يجوز له اختيار الزواج بهذه الصورة المشينة؟
بل هل يصحّ تزيين عليّ بنته وإرسالها إلى رجل اجنبي طامع فيها؟
وعلى فرض أنّ عليّاً كان موافقاً على هذا الزواج ; فإن التزيين يأت مع لحاظ كونها مؤهّلة للزواج، وإنّ ذلك من شأن النساء لا الرجال، ولذلك كلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله) النساء بتجهيز فاطمة الزهراء
وإذا كان عليٌّ غير راغب في تزويج ابنته لعمر ـ وفق النصوص ـ فهل يصحّ أن يزيّن ابنته ويرسلها إليه؟!
وبنظرنا أنّ عمر بن الخطّاب لو كان يريد القرابة ونيل شفاعة الرسول في الآخرة حقاً، لما أقدم على زواجه من طفلة صغيرة لم تبلغ الحلم، بهذا الشكل المزري!
لقد روى المسوّر بن محزمة أنّ رسول الله قال: فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما قبضها، وأنّه ينقطع يوم القيامة الأنساب والاسباب إلاّ سببي نسبي(1).
ألا يكون في فعل عمر هذا ـ مع أُمّ كلثوم، ومواقفه الاُخرى من فاطمة ـ ما يقبض ويغضب الله ورسوله وفاطمة؟؟
وقد يكون في كلام الرسول الأعظم ـ الذي سيأتي بعد قليل ـ تعريضا ـ إن لم يكن تصريحاً ـ به وبأمثاله الذين اساءوا إلى القربى والعترة وخانوا رسول الله:
فعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول:
ما بال رجال يقولون إنّ رحم رسول الله لا تنفع قومه، بلى والله إنّها موصولة في الدنيا والآخرة، وإنّي يا أيّها الناس فرطكم على الحوض، فإذا جئتم قال رجل: يا رسول الله أنا
____________
1- مسند أحمد 4: 332، مستدرك على الصحيحين 3: 158، وفيه زيادة: وصهري، الجامع الصغير 2: 208 ح 5834، السنن الكبرى للبيهقي 7: 64، فضل آل البيت للمقريزي: 64.
بل إلى أي مدى يمكن تصحيح ما قاله علماء مدرسة الإجتهاد والرأي وأنصار الخلفاء لتبرير فعلة عمر بن الخطّاب، من أنّه لم يقصد من تقبيله لها وضمّها إلى صدره، أو كشفه عن ساقها، الريبة والجنس و... لأنّها لم تكن في سنّ من يُطمع فيها، ولم تبلغ بعد، والخليفة أجل وأكرم من هذا الفعل القبيح(2).
فلو صحّ ذلك، فماذا نقول عمّا أدركته السيّده أُمّ كلثوم من فعل وقصد عمر، حين تعامله معها، وهي المعنية بالأمر؟
وهل أنّ فهم أعلام العامّة ـ وبعد ألف عام ـ هو الأقرب إلى الصواب، أم فهم السيّده أُمّ كلثوم، وهي المعنية بالأمر، والعارفة بلحن وقصد عمر بن الخطّاب في الخِطاب؟!
وعلى أي شيء يدل قولها لأبيها " أرسلتني إلى شيخ سوء ".
____________
1- مجمع الزوائد 10: 364، مستدراك الحاكم 4: 75، مسند أحمد 3: 18، مسند أبي يعلى 2: 434، وغيرها..
وفي المعجم الاوسط 5: 203 ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا تنفع، ليس كما زعموا، أني لاشفع واشفع حتّى من اشفع له ليشفع حتّى إن ابليس ليتطاول في الشفاعة والتوصية.
2- قال ابن حجر 2: 457: وتقبيله وضمّه لها على جهة الإكرام ; لأنّها لصغرها لم تبلغ حداً يشتهى حتى يحرم ذلك، ولولا صغرها لما بعث بها أبوها. (انظر ملحقات احقاق الحق 18: 551 والصوارم المهرقه: 220).
ألا تدل هذه الفقرات على أنّ الصبية البريئة (أُمّ كلثوم) قد فهمت مطامع غريزية في نفس عمر بن الخطّاب، حاول تبريرها والإغماض عنها والتعتيم عليها بعض الكتّاب والمؤرخين؟
فرضان في تحديد سنّ أُمّ كلثوم:
وهل تساءلت أخي القارئ عن سنّ هذه الطفلة في ذلك التاريخ؟
وهل كانت ممّا يطمع فيها أم لا؟
فلو قبلنا بولادتها في آخر عهد رسول الله، يكون عمرها حينما أرسلها الإمام عليّ ـ حسب نصّ الطبري وغيره ـ في حدود السابعة من العمر؟
أمّا لو قلنا بولادتها في السنة السادسة من الهجرة، فيكون عمرها حين الزواج إحدى عشرة سنة، وهي ممّا يُطمع فيها، ويصحّ الزواج منها(1).
وبنظرنا أنّ كلا الفرضين يسيئان إلى الخليفة عمر بأضعاف ما يسيئان إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
فلو قلنا ببلوغها وأن الإمام عليّاً أرسلها بعد البلوغ، فذلك مخالف للشرع الأقدس، فضلاً عن أنّ غيرة الإنسان العربي تأبى أن يزيّن
____________
1- سير اعلام النبلاء 3: 500.
فالف ضربة على جسد مسلم غيور، كعلي بن أبي طالب، أهون من القول بهذا الكلام المزري! هذا أولاً.
وثانياً: أنّ تأكيد الإمام عليّ (عليه السلام) على صغر سنها واستهجان الناس لهذا الزواج(1) من قبل عمر خير دليل على عدم صحة كلام الذهبي، لأن الإمام والناس في ذلك العصر هم أعرف ببلوغ أُمّ كلثوم وصلاحيتها للزواج، أم لا.
أمّا لو قلنا بأنها كانت صبية(2) ـ حسبما قالته المصادر ـ فهي الاُخرى لا تتفق، لأنّ التزيين ليس من مهامّ الرجال، بل هي من مهمّة النساء فقط، وهو يكون ـ حسبما عرفت ـ بعد حصول الموافقه على التزويج، وبعد وقوع العقد، لا مع الكراهية، وقبل العقد، على أنّها لو كانت صبية لا يُرغب في مثلها فلا معنى لتزيينها وإرسالها لمَن يرغب في نكاحها مزينة، ناهيك عن أنّ الكشف عن ساق الصبية يدل على انحطاط فاعِله بلا ريب.
فأسالك بالله: هل تقبل نفسك مثل هذا التصرّف ـ أي الكشف عن الساق والتقبيل والضمّ إلى الصدر قبل العقد والزواج ـ من شيخ في
____________
1- مناقب الإمام عليّ لابن المغازلي: 110، وانظر تاريخ بغداد 6: 182 كذلك.
2- مر عليك كلام الإمام عليّ "أنها لم تبلغ" أو (لانها صغيرة) أو (أنها صبية) إلى غيرها من النصوص الدالة على صغرها.
فعمر هو أبو حفصة، وحفصة زوجة رسول الله، فيكون هو والِدُ زوجة جدّ هذه الصبية، وهو رسول الله محمّد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرينَ.
فنحن لو قبلنا هذه النصوص وأردنا الإستدلال بها على التزويج للزمنا قبول تواليه الفاسدة، وإن لم نقبلها فانتفى التزويج والإستدلال به.
ولنا أنّ نتأمل فيما نسب إلى الإمام عليّ في تلك النصوص وقوله لأُمّ كلثوم: " إنّه زوجكِ " ألم يكن نسبة هذا القول إلى عليّ هو للازدراء به وتصحيح موقف عمر، والوصول إلى الأمرين معاً؟
فلو قبلنا شرعية النظر قبل الزواج، فهل التقبيل والكشف عن الساق والضمّ إلى الصدر بريبة هو ممّا جوّزه الشرع كذلك؟
____________
1- مثل زينب بنت مظعون الجمحية، وأُمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومية، تزوّجها بعد استشهاد خالد بن سعيد بن العاص بموقعة مرج الصفر ببلاد الشام وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة تزوّجها بعد وفاة زوجها بطاعون عمراس، وجميلة بنت ثابت الأنصارية، هذا وقد ذكر عبد السلام بن محسن آل عيسى في كتابه (دراسة نقدية لمرويات عمر) 1: 223 - 241 ط السعودية اسم 14 امرأة تزوّجها عمر واسماء بعض اللواتي خطبهن.
وعلى فرض صحّة الخبر، فالإمام أرسلها إليه، لقناعته بأنّ عمر لو رآها بهذا السّن والصغر لاشمأزَّ من اقتراحه، وممّن اقترح عليه التزويج بها، ولَما رضى بالتزويج بطفلة، كأُمّ كلثوم، لم تبلغ الحلم بعد؟
ولا أدري كيف تصدق صدور هذه النصوص على لسان الإمام عليّ بن أبي طالب، وهو المسلم الغيور والعربي الأبي؟ وتصحيح مقولته: " إنه زوجك "؟
بل يتردّد السؤال على خاطري بشكل آخر: كيف يمكن الجمع بين كراهة الإمام عليّ في تزويج أُمّ كلثوم لعمر، وبين تزيينه لها وأرسالها له؟! إنها من المتناقضات حقاً.
بل كيف يمكن تصديق هذا الأمر، وكلاهما في المدينة؟! إذ كان يمكن لعمر أن يراها في طريقه إلى دار الإمارة أو بالعكس، ولو تصوّر أنّ هناك عسراً في مشاهدتها في بيت عليّ بن أبي طالب، أو في طريقه إلى دار الإمارة أو السوق، فإنّه كان بإمكانه إرسال ابنته
____________
1- مجمع الزوائد 4: 271 عن المعجم الكبير للطبراني 3: 44 وفيه قول عمر: ويح عقيل سفيه أحمق.
وهل أنّ هذه النقاط تعتبر نقاط قوة في زواج عمر من أُمّ كلثوم، أم هي نقاط ضعف؟
أترك القارئ والسامع للحكم على النصوص بالوضع أو الكذب، أو الصحة والسقم، أو أي شيء آخر يرتضيه.
كلام المغيرة بن شعبة في مكّة:
وأنتقل به إلى كلام المغيرة بن شعبة في مكّة وكيفية تعريضه بالخليفة عمر! وأنّه أراد بقوله إيقافنا وإيقاف الآخرين على حقائق كثيرة في هذا السياق، وهي خافية لحد هذا اليوم على الكثير من الناس، لكنّ قبل أن نأتي بكلامه نذكر خبره حينما كان أميراً على الكوفة من قبل عمر بن الخطّاب، كمقدمة لما نريد قوله:
فقد كان المغيرة يخرج كلّ يوم في نصف النهار من دار الإمارة ويلقاه أبو بكرة فيقول: أين يذهب الأمير؟
فيقول: في حاجة.
فيقول: إنّ الأمير يُزار ولا يزور.
وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أُمّ جميل بنت عمرو، وزوجها: الحجاج بن عتيك بن الحارث الجشمي.
فنزل أبو بكرة فجلس حتّى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا.
قال: وذهب المغيرة ليصلّي بالناس الظهر، ومضى أبو بكرة، فقال: لا والله تصلّي بنا وقد فعلت ما فعلتَ.
فقال النّاس: دعوه فليصلّ، فإنّه الأمير، واكتبو بذلك إلى عمر.
فكتبوا إليه فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً، المغيرة والشهود، فلمّا قدموا عليه جلس عمر فدعا بالشهود والمغيرة.
فتقدّم أبو بكرة، فقال له [ عمر ]: رأيته بين فخذيها؟
قال: نعم، والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها.
فقال له المغيرة: قد الطفت في النظر.
فقال أبو بكرة: لم آلُ أن أُثبت ما يخزيك الله به.
فقال عمر: لا والله، حتّى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المِرُوَد في المكحلة.
فقال: نعم، أشهد على ذلك.
فقال: فاذهب عنك مغيرة ذهب ربعك.
ثمّ دعا نافعاً، فقال: علامَ تشهد؟