قال: نعم، حتّى بلغ قذذه ـ وهي ر يش السهم ـ.
قال له عمر: اذهب مغيرة فقد ذهب نصفك.
ثمّ دعا الثالث، فقال له: على ما تشهد؟
فقال: على مثل شهادة صاحبي.
فقال له عمر: اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك.
ثمّ كتب إلى زياد ـ وكان غائباً ـ فقدم، فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار، فلمّا رآه مقبلاً قال: إني أرى رجلاً لا يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين، ثمّ إنّ عمر رفع رأسه إليه فقال: ما عندك يا سلح الحُباري؟ فقيل: إنّ المغيرة قام إلى زياد فقال: لا مخبأَ لعطر بعد عروس.
فقال له المغيرة: يا زياد! اذكر الله تعالى، واذكر موقف يوم القيامة، فإنّ الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي، إلاّ أن تتجاوز إلى ما لم ترَ ممّا رأيت، فلا يحملنّك سوء منظر رأيتَهُ على أن تتجاوز إلى ما لم ترَ، فوالله لو كنت بين بطني وبطنها لما رأيت أن يسلك ذكري فيها.
قال: فدمعت عينا زياد واحمرَّ وجهه وقال: يا أمير المؤمنين! أمّا أن أحقّ ما أَحقَّ القومُ فليس عندي، ولكنيّ رأيت مجلساً، وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً، ورايته مستبطنها.
فقال عمر: رأيته يدخل كالميل في المكحلة.
فقال عمر: رأيت يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟
فقال: لا.
فقال عمر: الله أكبر، قم إليهم فاضربهم.
فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين ضربة، وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد، ودرأ الحد عن المغيرة.
فقال أبو بكرة بعد أن ضُرِبَ: أشهد أنّ المغيرة فَعَلَ كذا وكذا، فهمَّ عمر أن يضربه حدّاً ثانياً، فقال له عليّ بن أبي طالب: إن ضربته فارجم صاحبك، فتركه، واستتاب عمر أبا بكرة فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي؟
فقال: أجل.
فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيتُ في الدنيا.
فلمّا ضُربوا الحدَّ قال المغيرة: الله أكبر، الحمدُ لله الذي أخزاكم.
فقال عمر: بل أخزى الله مكاناً رأوك فيه.
وأخرج ابن شيبة في كتاب " أخبار البصرة ": أن أبا بكرة لمّا جُلِد، أمرت أُمُّه بشاة فذبحت وجعلت جلدها على ظهره، فكان يقال: إنّ ذاك من ضرب شديد.
وحكى عبدالرحمن ابن أبي بكرة: أنّ أباه حلف أن لا يكلّم زياداً ما عاش، فلمّا مات أبو بكرة أوصى أن لا يصلي عليه زياد، وأن يصلّي عليه أبو برزة الأسلمي، وكان النبيّ آخى بينهما، وبلغ ذلك
ثمّ إن أمّ جميل وافقت عمر بن الخطّاب بالموسم، والمغيرة هناك، فقال له عمر [ معرّضاً به ]: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة؟
قال: نعم، هذه أُمّ كلثوم بنت عليّ [ معرّضاً بعمر لتفكيره بها وإصراره على الزواج منها ].
فقال عمر: أتتجاهل عَلَيَّ؟ والله ما أظنّ أبا بكرة كذب عليك، وما رأيتكَ إلاّ خفت أن أُرمى بحجارة من السماء(1).
وهذا النص يرشدنا إلى أُمور كثيرة، منها مكان وتاريخ هذه المقولة ـ فهي في مكّة أيام موسم الحج ـ وقد تكون قبل الزواج المدّعى لعمر من أُمّ كلثوم.
وسواء كان هذا الكلام من المغيرة قبل التزويج أم بعده، ففيه تعريض بعمر بن الخطّاب والإمام عليّ بن أبي طالب معاً، لأنّ تشبيه أمّ كلثوم بنت عليّ بأُمّ جميل الفاحشة! فيه ما لا يخفى من الانتقاص لأمير المؤمنين كما أنّ في كلامه أكبر التعريض بعمر بن الخطّاب، لأنّ المشاجرة كانت بين عمر بن الخطّاب والمغيرة بن شعبة.
فلمّا عرّض عمر بالمغيرة أراد المغيرة أن يجيبه بأنك لم تكن بأقل
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 238، وفيات الاعيان 6: 364 ـ 367، والمتن منه وهو ايضاً في الإيضاح لابن شاذان: 552، والصراط المستقيم 3: 248.
فإنّ إصرارك الزائد على التزويج بها يشكّك الجميع في حسن نواياك ومقاصدك التي تدعيها، لأنك لو أردت التزويج بها، فإنّ ذلك سوف لن يكون إلاّ بالقوة والإكراه، خصوصاً حينما كان غطاؤك ودعواك هو الحصول على القربى.
فلو كنت مُحّقاً فيما تدّعيه لكان عليك أن تحقّقه بالعقد فقط دون الدخول والايلاد، وأن تكتفي بسببيتك من خلال ابنتك حفصة لرسول الله إذ بذلك حُزت السبب والصلة معاً.
كانت هذه قراءة سريعة لما في كتب الجمهور، وهي ترجع الأمر إلى طلب عمر الجنس بدعوى القربى، وإن كان ورائها أمور سياسية اُخرى، وهي إن صحّت تسجّل ظلامة أُخرى لأهل البيت تضاف إلى قائمة الظالمين.
فلو أراد الباحث دراسة مسألة الزواج من أُمّ كلثوم كان عليه دراسة ظروف هذا الزواج وملابساته، إذ أنّ فتح هذا الملف سيكلّف الخليفة وانصاره الكثير، حيث وقفت على بعض اهدافه، وقد تكون هناك أهداف سياسية اُخرى سيقف عليها المطالع في مطاوي كلمات الشيعة.
مجمل ما تقوله الشيعة:
والآن مع مجمل ما تقوله الشيعة الإمامية بهذا الصدد، حيث إنّ الذي ذهب منهم إلى وقوع الزواج علّل وقوعه بأنّه كان عن جبر وإكراه لا عن طيب خاطر، واستدل على كلامه بأدلة:
منها ما رواه أبو القاسم الكوفي: أنّ عمر بعث العبّاس إلى عليّ يسأله أن يزوّجه بأُمّ كلثوم، فامتنع.
فأخبره بامتناعه فقال: أيأنف من تزويجي؟، والله، لئن لم يزوّجني لأقتلنّه.
فأعلم العبّاس عليّاً (عليه السلام) بذلك، فأقام على الامتناع.
فأعلم عمر بذلك، فقال عمر: احضَرْ في يوم الجمعة في المسجد، وكُن قريباً من المنبر لتسمع ما يجري، فتعلم أنّي قادر على قتله إن أردت.
فحضر، فقال عمر للناس: إن هاهنا رجلاً من أصحاب محمّد وقد زنى، وقد اطّلع عليه أمير المؤمنين وحده، فما أنتم قائلون؟
فقال الناس من كلّ جانب: إذا كان أمير المؤمنين اطّلع عليه فما الحاجة إلى أن يطّلع عليه غيره؟! ليمض في حكم الله.
فلمّا انصرف عمر قال للعبّاس: امضِ إلى عليّ فأعلمه بما قد سمعته، فوالله، لئن لم يفعل لأفعلن.
فأعلم العبّاس عليّاً بذلك.
فقال (عليه السلام): أنا أعلم أن ذلك يهون عليه، وما كُنتُ بالذي يفعل ما يلتمسه أبداً.
وقد ورد في نصّ آخر: أنّه أمر الزبير أن يضع درعه على سطح عليّ، فوضعه بالرمح، ليرميه بالسرقة(2).
وقال في أعلام الورى: قال أصحابنا: إنما زوّجها منه بعد مدافعة كثيرة، وامتناع شديد، واعتلال عليه بشيء بعد شيء حتّى ألجأته الضرورة إلى أن ردّ أمرها إلى العبّاس بن عبد المطّلب، فزوّجها إياه(3).
وعن كتاب الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام): لمّا خطب عمر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له (عليه السلام): إنّها صبية.
قال فأتى العبّاس فقال: ما لي؟ أبي بأس؟!
فقال له: وما ذاك؟
قال خطبتُ إلى ابن أخيك فردَّني...
ـ وفي نصّ المرتضى: فدافعني وصانعني وأنف من مصاهرتي، أما والله لأعوّرن زمزم، ولأهدمنّ السقاية، ولاتركت لكم يابني هاشم منقبة إلاّ هدمتها، ولأقُيمن عليه شهوداً يشهدون عليه بالسرقة، وأحكم عليه بقطعه، فأتاه العبّاس فأخبره، وسأله أن يجعل الأمر إليه،
____________
1- الإستغاثة: 78، والصراط المستقيم 3: 130، شرح الأخبار 2: 507.
2- الصراط المستقيم 3: 130.
3- أعلام الورى 1: 397، وعنه في بحار الأنوار 42: 93.
وعن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، وحمّاد، عن زرارة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في تزويج أُمّ كلثوم، فقال: إنّ ذلك فرج غصبناه(2).
كانت هذه بعض النصوص التي استدل بها من ادّعى وقوع الزواج من أُمّ كلثوم، لكن في إطار الجبر والإكراه وعن تقيّة لا غيره، ويتجلى ذلك بوضوح من جواب ابي عبد الله (عليه السلام): "وتقبلون أن علياً أنكح فلاناً بنته!؟" وقوله أيضاً: "ان قوماً يزعمون ذلك لا يهتدون إلى سواء السبيل والرشاد"(3) والآن مع
____________
1)النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري: 130، الكافي 5: 346، الوسائل 20: 561، مرآة العقول 20: 44 و 45، رسائل المرتضى المجموعة الثالثة: 149.
2- الكافي 5: 346، وعنه في وسائل الشيعة 20: 561 حديث 26349 وبحار الأنوار 42: 106 وراجع الاستغاثة: 78 عن عبد الله بن سنان.
3- الخرائج والجرائح 2: 825.
البحث الفقهي
1 ـ كيفيّة الصلاة على جنازة امرأة وطفل
قال الزيلعي في نصب الراية: أخرج أبو داود والنسائي عن عمّار بن أبي عمّار، قال: شهدت جنازة أُمّ كلثوم، وابنها، فجُعل الغلام ممّايلي الإمام، فأنكرت ذلك، وفي القوم ابن عبّاس، وأبو سعيد، وأبو قتادة، وأبو هريرة، فقالوا: هذه السُنّة، قال النووي رحمه الله: وسندهُ
وفي رواية البيهقي: وكان في القوم الحسن، والحسين، وأبو هريرة، وابن عمر، ونحو من ثمانين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1).
قال النووي ـ شرحاً لكلام صاحب المهذّب ـ: والسُنّة أن يقف الإمام فيها عند رأس الـرجل وعند عجـيزة المـرأة... ـ: وروى عمّار بن أبي عمّـار أنّ زيد بن عمـر بن الخـطّاب وأُمّه أُمّ كلثـوم بنـت عليّ ـ رضي الله عنهم ـ ماتا، فصلّى عليهما سعيد بن العاص، فجعل زيداً ممّا يليه وأُمّه ممّا تلي القبلة، وفي القوم الحسـن والحسين و...(2).
وفي سُنن أبي داود عن عمّار مولى الحارث بن نوفل انه شهد جنازة أُمّ كلثوم وابنها، فجعل الغلام ممّايلي الإمام، فأنكرت ذلك، وفي القوم ابن عبّاس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة فقالوا: هذه السُنّة(3).
وفي سُنن النسائي عن نافع قريب من ذلك(4).
____________
1- نصب الراية 2: 317.
2- المجموع 5: 224.
3- سُنن أبي داود 2: 77 باب 56 ح 3193، مسند ابن الجعد 1: 98، 114، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنّفه 3: 197، عن عمّار مولى بني هاشم في الباب 140 في جنائز الرجال والنساء الحديث 8.
4- سُنن النسائي 4: 71، السنن الكبرى للنسائي 1: 641 ح 2105، السنن الكبرى 4: 33، المصنّف لعبدالرزاق 3: 465 ح 6337، المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود: 142 ح 545، سُنن الدارقطني 2: 66.
2 ـ التكبير على الجنازة:
روى البيهقي بسنده عن الشعبي، قال: صلّى ابن عمر على زيد بن عمر وأُمّه أُمّ كلثوم بنت عليّ، فجُعل الرجل ممّايلي الإمام، والمرأة من خلفه، فصلّى عليهما أربعاً، وخلفه ابن الحنفية والحسين بن عليّ وابن عبّاس...(1).
وفى نصّ عن عامر قال: مات زيد بن عمر وأُمّ كلثوم بنت عليّ، فصلّى عليهما ابن عمر، فجُعل زيداً ممّا يليه وأُمّ كلثوم ممّا يلي القبلة، وكبر عليهما اربعاً.
وفي آخر: عن ابن عمر أنّه صلّى على أُمّ كلثوم بنت عليّ وابنها زيد، وجعله ممّا يليه، وكبّر عليهما أربعاً(2).
3 ـ ميراث الغرقى:
ذكر الترمذي في باب ميراث الغرقى، عن نعيم بن خالد، عن عبدالعزيز بن محمّد، حدثنا جعفر، عن أبيه: أنّ أُمّ كلثوم وابنها زيداً ماتا في يوم واحد، فالتقت الصائحتان في الطريق، فلم يرث كلّ واحد منهما من صاحبه...(3).
____________
1- السنن الكبرى 4: 38، تاريخ دمشق 19: 492، الإصابة 8: 466 ت 12237.
2- أنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 8: 464.
3- سُنن الدارمي 2: 379، ومثله في المستدرك على الصحيحين 4: 346، السنن الكبرى للبيهقي 6: 222، سُنن الدارقطني 4: 40، 45، من كتاب: الفرائض والسير، بسنديه: عن عبد الله بن عمر بن حفص، وجعفر بن محمّد عن أبيه.
4 ـ عدّة المتوفّى عنها زوجها:
عن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم أنّه قال: إنما نقل عليّ (عليه السلام) أُمّ كلثوم حين قتل عمر، لأنّها كانت مع عمر في دار الإمارة(1).
وعن الشعبي، قال: نقل عليّ (عليه السلام) أُمّ كلثوم بعد قتل عمر بن الخطّاب بسبع ليال، ورواه سفيان الثوري في جامعه، وقال: لأنّها كانت في دار الإمارة(2).
5 ـ الوكالة في التزويج:
روى الطبراني في الأوسط، بسنده عن الحسن بن الحسن بن عليّ: أنّ عمر بن الخطّاب خطب إلى عليّ أُمّ كلثوم، فقال إنها تصغر عن ذاك.
فقال عمر: إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة، إلاّ سببي ونسبي، فأحببت أن يكون لي من رسول
____________
1- الآثار لأبي يوسف 1: 143. وأنظر المصنّف لابن أبي شيبة 4: 133، عن الحكيم، ومصنف لعبدالرزاق 7: 30، رواه بسند آخر عن معمر عن أيوب أو غيره أنّ عليّاً...، ومثله في النوادر: 186، عن جعفر عن أبيه.
2- الأُمّ 7: 182، السنن الكبرى للبيهقي 7: 436،المصنّف لابن أبي شيبة 4: 133، الباب 175 ح 5.
فقال عليّ للحسن والحسين: زوّجا عمَّكما.
فقالا: هي امرأة من النساء، تختار لنفسها.
فقام عليٌّ وهو مغضب، فأمسك الحسن بثوبه، وقال: لا صبر على هجرانك يا ابتاه.
لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلاّ روح بن عبادة، تفرد به سفيان عن وكيع(1).
وهناك مسائل أخرى في الشريعة، كجمع الرجل بين زوجة الرجل وبنته(2) والهدية(3) والصداق(4) وغيرها، سنتعرض إليها ضمن بياننا لهذه الفروع الخمسة إن شاء الله تعالى.
____________
1- المعجم الأوسط 6: 357، وعنه في مجمع الزوائد 4: 272، السنن الكبرى 7: 64.
2- مرت مصادره في القول الخامس قبل قليل.
3- صحيح البخاري 3: 222 / كتاب الجهاد والسير ـ باب حمل النساء القرب إلى النّاس في الغزو، وكذا في كتاب المغازي 5: 36، باب ذكر أُمّ سليط، كنز العمال 13: 623، شرح النهج 12: 76.
4- سنذكر مصادر الصداق لاحقاً.
أخبارٌ في كتب الشيعة
هناك أخبار في كتب الشيعة الإماميّة تشابه ما نقلته كتب العامّة، فلنبحث عن ملابسات تلك الأخبار، وهل أنّها أخبار معتمدة شيعيّة، أمّ أنّها كانت لأهل السنّة ثم دخلت في المصادر الحديثية الشيعية، ثم منها إلى الفقه.
1 ـ 2 صلاة الجنائز، وكيفية التكبير على الميت
قال الشيخ الطوسي في كتابه " الخلاف ":
" مسأله 541: إذا اجتمع جنازة رجل وصبيّ وخنثى وامرأة، وكان الصبيّ ممّن يُصلّى عليه، قدمت المرأة إلى القبلة، ثمّ الخنثى، ثمّ الصبي.
إلى أن يقول:
.... دليلنا: اجماع الفرقة وأخبارهم. وروى عمّار بن ياسر قال: أُخرجت جنازة أُمّ كلثوم بنت عليّ (عليه السلام) وابنها زيد بن عمر، وفي الجنازة الحسن والحسين (عليهما السلام)، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وأبو هريرة، فوضعوا جنازة الغلام ممّا يلي الإمام، والمرأة وراءَهُ، وقالوا: هذا هو السُنّة "(1).
____________
1- الخلاف 1: 722، كتاب الجنائز مسألة: 541
ولنا فيه مسائل:
الأولى:
إنّ ما رواه الشيخ عن عمّار بن ياسر مرسل، إذ ليس له طريق إليه، وبتتبعنا في كتب الحديث عند الشيعة والعامّة، لم نحصل على خبر يروى بهذا المضمون عن عمّار بن ياسر إلاّ ما حكاه الشيخ في هذه المسألة.
بل كلّ ما في الأمر هو وجودها عند العامّة عن عمّار بن أبي عمّار؟
فنتساءل: هل هذا هو عمّار بن ياسر، أم غيره؟ وهذا ما نوضّحه لك بعد قليل.
بل كيف يكون المعنيّ به عمّار بن ياسر، ذلك الصحابي الجليل الملازم عليّاً، إذ لو كان ذلك لاحتُمل أن يكون الإمام عليّ حاضراً جنازة ابنته أُمّ كلثوم كذلك! لكنّا نرى الخبر يقول: (في الجنازة الحسن والحسين) وليس فيه ذكر الإمام عليّ.
مع العلم بأنّ عمّار بن ياسر كان قد استشهد تحت لواء عليّ بن أبي طالب في صفين، فلا يُعقل أن يروي واقعة قد حدثت في خلافة بعض بني أُميّة؟!
الثانية:
ان الخبر آنف الذكر يخالف ما نقل عن زواج عبدالله بن جعفر من أُمّ كلثوم بعد زينب بنت عليّ، لأن النصّ يقول في زوجته زينب: " فماتت عنده "(1).
ومن المعلوم أن وفاة السيّده زينب كان إمّا في سنة 62(2). أو 65(3) أو 67(4) في حين أنّ خبر الصلاة على أُمّ كلثوم كان قبل السنة الرابعة والخمسين من الهجرة يقيناً(5).
الثالثة:
من الثابت المعلوم أن الشيخ الطوسي أتى بهذا الخبر في كتابه (الخلاف) استشهاداً والزاماً للآخرين لا استدلالاً به، لأنّه كان قد قال ـ بعد ذكره للمسألة ـ:
" دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم، وروى عمّار بن ياسر قال: أخرجت... ".
____________
1- السنن الكبرى للبيهقي 7: 70 و 71.
2- وفاة زينب الكبرى للشيخ جعفر النقدي: 142.
3- معالي السبطين: 689، مع بطلة كربلاء لمغنية: 90، أعلام النساء 1: 508.
4- نزهة الأنام في محاسن الشام 2: 347 و 381 للبدري، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم كما في معالي السبطين للحائري: 690.
5- للمزيد أنظر أعيان الشيعة 13: 12.
مضافاً إلى ذلك أنّا نعلم أن الكتب الفقهية عند الشيعة الإمامية كتبت على نحوين.
أوّلهما: وفق الأصول الحديثية والرجالية الشيعية، فلا يُتعرّضُ فيها إلى آراء المذاهب الأخرى.
وثانيهما: بملاحظة آراء أهل السُنّة والجماعة مع ما للشيعة من أدلة، وهذا ما يسمى بالفقه المقارن أو فقه الخلاف.
فكتاب الشيخ الطوسي " الخلاف " هو من القسم الثاني، إذ لم نره يذكر خبر عمّار بن ياسر في كتابه المبسوط، أو النهاية، أو التهذيب، أو غيرها من كتبه الفقهية الحديثية الفتوائية، بل ذكرهُ في كتابه (الخلاف) وهو المعني بفقه الخلاف، وهذا يؤكّد بأنّه جاء بهذا الخبر إلزاماً للآخرين، أو استشهاد به على ما ذهب إليه.
وعليه، فدليل الشيخ في هذه المسألة هو: إجماع الفرقة المحقّة،
____________
1- تهذيب الأحكام 3: 323 ح 10006 و 10008، الإستبصار 1: 471 ح 1823 و 1825.
2- الكافي 3: 175 ح 5، تهذيب الأحكام 3: 323 ح 10007، الإستبصار 1: 472 ح 1824.
3- الكافي 3: 174 ح 2، تهذيب الأحكام 3: 322 ح 1004، الإستبصار 1: 472 ح 1827.
الرابعة:
إنّ عمّاراً هذا ليس بأبن ياسر، بل هو عمّار بن أبي عمّار مولى بني هاشم، وفي بعض النصوص مولى الحارث بن نوفل، وعمّار بن أبي عمّار تابعي، وليس بصحابي، وقد روى عن أبي هريرة وابن عبّاس، وخرّج له أبو داود في سُننه(1) والبيهقي(2) والنسائي وغيرهم.
وعليه، فإنّ الشيخ الطوسي ذكر خبر عمّار في الخلاف بعد ذكره دليل الشيعة، وذلك للاستشهاد به، لا الاستدلال.
وبنظري أنّ الخطأ والتصحيف الواقع في كتاب (الخلاف) جاء من قِبَل النساخ وقَبْلَ العلاّمة الحلي، إذ لا يعقل أن لا يعرف الشيخ الطوسي ـ وهو الإمام الرجالي المحدّث ـ أنّ عمّار بن ياسر قد استشهد في صفّين وأنّه لا يُعقل أن يُحدّث بأمر وقع في خلافة بعض بني أُميّة؟!
نعم، إنّ أوّل من توجّه إلى أنّ عمّاراً هذا ليس بابن ياسر هو العلاّمة الحلي (ت 726 هـ) في كتابه منتهى المطلب، وهو من كتب فقه الخلاف.
فقد قال العلاّمة الحلّي في " مختلف الشيعة " ـ والذي يختص بنقل
____________
1- سُنن ابي داود 2: 77 ح 3193، وفيه: عمّار مولى الحارث بن نوفل.
2- السنن الكبرى 4: 33.
وقال في " منتهى المطلب ":
"... لنا: رواه الجمهور عن عمّار بن أبي عمّار قال: شهدت جنازة أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وابنها زيد بن عمر، فوضع الغلام بين يدي الإمام، والمرأة خلفه، وفي الجماعة الحسن والحسين (عليهما السلام) وابن عبّاس وابن عمر وثمانون نفساً من الصحابة، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هذه السُنّة.
ومن طريق الخاصة: ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما قال... "(2).
وقال في " تذكرة الفقهاء "، وعند ذكره بعض الفروع: (ب/ لو اجتمع الرجل والمرأة، قال أصحابنا: يجعل رأس المرأة عند وسط الرجل ليقف الإمام موضع الفضيلة فيهما، وكذا لو اجتمع... ـ إلى ان يقول ـ:
وفي اخرى: " يسوّى بين رؤوسهم كلّهم، لأنّ أُمّ كلثوم بنت عليّ (عليه السلام) وزيداً ابنها توفّيا معاً فأخرجت جنازتهما فصلى عليهما أمير المدينة، فسوى بين رؤوسهما
____________
1- مختلف الشيعة للعلاّمة الحلّي 2: 315.
2- منتهى المطلب للعلاّمة الحلي 7: 357.
وأنت ترى نباهة العلاّمة الحلّي وعدم تخطيه عن منهجه في كتابيه، فإنّه حينما يذكر الخبر في (مختلف الشيعة) ـ وهو المعني بفقه الإمامية واختلاف أعلام الطائفة فيه ـ، يذكر خبر الخلاف عن عمّار بن ياسر ; أمانة منه في النقل، لكنّه حينما يقارن المسألة مع كتب العامّة، نراه يشير إلى أنّ المحكيّ عن عمّار بن ياسر مرويٌ في كتب الجمهور عن عمّار بن أبي عمّار التابعي، مولى بني هاشم، لا ابن ياسر الصحابي.
وهذا يرشدنا إلى ضرورة الاعتناء بفقه الخلاف ودراسته في الحوزات العلمية، لكي نضيف إلى فقهنا ما يؤيدنا من فقه العامّة ; نأتي به استشهاداً لا استدلالاً، وهو يعمق استدلالنا وحجّتنا، لأنّ كثيراً من الفروع الفقهية لو قيست مع أمثالها في كتب العامّة لعُرفت من خلالها أمورٌ كثيرة خافية علينا اليوم، لأنّ فقهنا مهيمن وناظر على فقه العامّة، الذي تأثر بالسلطة والسياسة و... بشكل كثير.
إذاً دراسة الأفكار والعقائد والآراء المطروحة في زمن صدور النصّ له الارتباط الكامل في فهم المسائل المختلف فيها عند المسلمين اليوم.
وعليه، فلا يمكن للاخر أن يستدلّ علينا بورود خبر عمّار بن ياسر وأمثاله في " مسالك الأفهام " أو " مجمع الفائدة والبرهان " أو
____________
1- تذكرة الفقهاء، للعلاّمة الحلّي 2: 66.
وقفة مع خبر عمّار:
إنّ هناك عللاً خفية في ـ خبر عمّار بن ياسر = عمّار بن أبي عمّار في محكي الخلاف ومرويّ العامّة، يجب الإشارة إلى بعضها:
أحدها: الاختلاف في زيد بن عمر، وهل أنّه مات غلاماً أم رجلاً؟
وهل هناك فرق بينهما في الاستدلال؟
ثم هل أنّه وأُمّه ماتا في يوم واحد، أم على التعاقب؟
الثاني: ما المراد من قول عمّار بن أبي عمّار: (قالوا إنها السُنّة)؟
هل يعني لزوم جعل المرأة قبلة الغلام، والغلام قبلة الإمام؟ أم أنّهم أرادوا شيئاً آخر؟
وكيف كان التكبير في خبره؟ ولماذا لم يذكره؟
هل كان التكبير على الميت أربعاً ـ كما صلّى ابن عمر عليهما ـ؟ أم خمساً ـ كما عليه إجماع أهل البيت ـ؟
وما هو حكم الصلاة على المرأة؟ هل السُنّة في أن يكون الإمام عند رأسها ـ كما تقوله الشيعة(1) ـ؟ أم عند وسطها أو عجيزتها ـ كما
____________
1- انظر في ذلك وسائل الشيعة 3: 618، الباب 27.