الصفحة 114
فلماذا يطلق على ابن أُمّ كلثوم بنت جرول: الأصغر، ويقال عن ابن أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب: الأكبر؟!!

هذا تساؤل يثار ويبحث عن جواب، ولا نرى مَقْنعاً ـ بعد الوقوف على كلّ هذه الملابسات ـ بما قالوه: من أنّه سميّ الأصغر: أكبر ; كرامةً لاتصاله برسول الله، وتسمى الأكبر حقيقة: أصغر ; لأنّه ليس له نسبة برسول الله.

ومن الطبيعي لو كان هناك نزاع بين بني جهم أن يتدخّل زيد ابن أُمّ كلثوم بنت جرول ; لكونه أقرب لبني جهم من ابن فاطمة وعليّ، وذلك للعلقة الموجودة بين أولاد عمر وأولاد جهم ; لأن أمّ زيد صارت زوجة أبي جهم بن حذيفة بعد عمر بن الخطّاب.

لكنّا نرى الأمر يختلف حسب فرضهم، حيث إنّهم يذكرون أنّ زيد ابن أُمّ كلثوم بنت عليّ هو الذي تدخّل لحلّ النزاع مع أنّه كان صغيراً في ذلك الوقت، وليس بتلك المكانة التي كان يحظى بها إخوانه في بني جهم. في حين أنّ عصبيتهم القبلية كانت تدعوهم لتدخّل ابن أمّ كلثوم بنت جرول ; لأنّه هو الأكبر والأشهر والأعرف عندهم.

ولكي يتأكد لك أنّ القوم سمّوا الأكبر بالأصغر، أقرأ ما قاله ابن شبة في تاريخ المدينة:

زيد الأصغر وعبدالله قُتلا يوم صفيّن زمن معاوية، وأمّهما أُمّ كلثوم بنت جرول(1)؟

____________

1- تاريخ المدينة 2: 654.


الصفحة 115
وبنظرنا: إنّ تسليط الضوء على هذه الفترة من تاريخ العرب، وتاريخ زواج عمر من أُمّ كلثوم بنت جرول وطلاقه لها، هو اللغز الذي يمكن أن يفتح به موضوع تزويج عمر من أُمّ كلثوم بنت عليّ.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني:

فهو: إنّه لا خلاف بين الفقهاء في توريث الغرقى والمهدوم عليهم حسب تفصيل مذكور في كتب الفقه، بل الإجماع ـ بقسميّه ـ دالٌّ عليه، والنصوصُ به متواترة.

لكن هنا تساؤل مفادُهُ: هل يمكن تعميم هذا الحكم على الّذين ماتوا حتف أنفهم في يوم واحد، بحيث لا يعلم أيّهما مات قبل الآخر، أم أنّه يختص بالغرقى والمهدوم عليهم؟

ذهب بعض الفقهاء إلى عدم ذلك ; للأصل، والإجماع الذي نقله صاحب مسالك الإفهام، ولرواية القدّاح.

وهناك من شك في الإجماع:، وضَعَّف خبر القدّاح، وقال بالتوريث بناءً على أنّ العلّة قطعيّة، وهي: جهالة تقدم موت أحدهما على الآخر، كما مال إليه صاحب الرياض.

وقد علّق صاحب الجواهر على كلام صاحب الرياض بقوله:

" ومن الغريب ما في الرياض هنا من الميل إلى الأوّل [ أي التوريث ] محتجاً عليه بقوة احتمال كون العلّة المُحْتَجّ بها قطعيّة منقّحة بطريق الإعتبار، لا مستنبطة بطريق المظنة لتلحق بالقياس

الصفحة 116
المحرم في الشريعة.. "(1).

وقال الاردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان:

قال [ العلاّمة ] في المختلف: لنا أنّ الأصل عدم توريث أحدهما من صاحبه ; لعدم العلم ببقائه بعده، خرج عنه الغرقي والمهدوم عليهم ; للنصوص الدالة عليه، فيبقى الباقي على أصل المنع.

احتجّ: بأنّ العلّة الاشتباه، وهو موجود في القتل والحرق.

والجواب: المنع من التعليل بمطلق الاشتباه، فجاز أن يكون العلّة الاشتباه المستند إلى أحدهما، على أن قول ابن حمزة لا يخلو من قوة.

وأنت تعلم أنّ هذا الاحتجاج يدل على كون الأمر كذلك في مطلق الاشتباه، ولو كان الموت حتف آنفه، والظاهر أنّ لا قائل به، بل نقل الإجماع في شرح الشرائع على عدم القائل به.

وتؤيّده رواية القدّاح، عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: ماتت أمّ كلثوم بنت عليّ (عليه السلام) وابنها زيد بن عمر بن الخطّاب في ساعة واحدة لا يدرى أيّهما هلك قبل، فلم يورث أحدهما من الآخر، وصلى عليهما جميعاً.

ولكنها ضعيفة مع مخالفتها لبعض الاُصول(2).

وعلى كُلّ حال، فإنّ عمدة من قال بعدم التوريث هو الأصل،

____________

1- جواهر الكلام 39: 309 ـ 311.

2- الفائدة والبرهان 11: 520.


الصفحة 117
لا رواية القدّاح، فلو كانت معتبرةً عندهم لما وصلت نوبة الاستدلال إلى الأصل.

وللوقوف على تشعّبات هذه المسألة يمكنك مراجعة كتاب (فقه الصادق) للسيد صادق الروحاني(1)، لأنّ فيه مزيد بيان.

قال المحقّق السبزواري في آخر كتاب (كفاية الاحكام) عند ذكره الأحكام المتفرقه لهذا الباب:

" مسائل: الأوّلى: من شروط الإرث عند الأصحاب العلم بحياة الوارث بعد موت الموروث، فلو علم موتهما معاً لم يرث أحدهما من الآخر، ولو اشتبه التقدّم والتأخر والمعية لم يرث المشتبه عندهم، إلاّ فيما استثنى، ونقل في المسالك الإجماع على ذلك، وقد روى القدّاح عن الصادق عليه السّلام عن أبيه قال: ماتت أُمّ كلثوم بنت عليّ...

إلى أنّ يقول:

وفي ثبوت الإجماع تأمّل، والرواية ضعيفة، ولم يذكر الأصحاب احتمال القرعة هاهنا، وهو احتمال صحيح إن لم يثبت اجماعٌ على خلافه، كما هو الظاهر... "(2).

وبهذا، فقد عرفت أنّ هناك من يذهب إلى إمكان سراية أحكام ميراث الغرقى والمهدوم عليهم إلى مَن مات حتف أنفه لاتّحاد العلّة في الجميع ـ وهو الاشتباه ـ إذ لا يُدرى أيّهما مات قبل الآخر، وهذا

____________

1- فقه الصادق 34: 311.

2- كفاية الاحكام: 307.


الصفحة 118
يرشدنا إلى إمكان تخطي رأي المشهور، وخصوصاً لو قسنا ما نقوله مع ما جاء عن العامّة في هذا الفرع وأمثاله.

فإنك لو راجعت كتب الصحاح والسُنن عند العامّة لوقفت على نصوص كثيرة عن زيد بن ثابت وغيره، توكّد على عدم التوريث، في حين جاء عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وعليّ بن أبي طالب ما يشير إلى توريث أحدهما من الآخر، نترك بسط الكلام عن هذا الموضوع إلى حينه.

وبهذا فقد وقفنا على عدّة أمُور:

الأوّل:

الشّك في أصل وقوع الزواج، وعلى فرض وقوعه الشّك في ولادة زيد، وعلى فرض ولادته أيّهما هو؟

الثاني:

التشكيك في أنّ يكون زيد وأُمّه قد ماتا في يوم واحد. إذ لا نعرف سبب الموت: هل كان بسبب هدم الحائط أو الغرق؟ أو أنّ بني عدي ضربوا زيداً، أو أنّ عبدالملك بن مروان سمّهما؟ أو...

الثالث:

مسالة التوارث بين الاُمّ والابن وإمكان تخالفه مع فقه أهل البيت.

الرابع:

إنّ قضية الزواج من أوّلها إلى آخرها تضجّ بالإشكالات والتناقضات: في كيفية الخطبة، والتزويج، والولادة، ومن هو المزوِّج، وما هو المهر، وهل كان برضاً أم غصباً، ومن هم أزواج أُمّ كلثوم بنت عليّ و...

وعليه، فقد اتّضح عدم إمكان أن يلزمنا الآخر بهاتين الروايتين وأمثالهما، والاستدلال على ضوئهما بولادة زيد من عمر بن الخطّاب

الصفحة 119
وأُمّ كلثوم، لأنّ الروايات التي أرادوا الاستدلال بها على الإنجاب كانت هذه، وهي غير صحيحة بنظرنا، ومخالفة للحقائق التاريخية والأصول الشرعية عند الشيعة الإمامية.

أمّا عندهم.

  فقد صرّح الزرقاني: بأنّ عمر قد مات عنها قبل بلوغها(1). وخصوصاً لو أخذنا بنظر الاعتبار اختلاف النصوص.

  ففي مختصر تاريخ دمشق: مات زيد وهو صغير(2).

  وفي آخر: أنها ولدت له زيداً ورقية(3).

  وفي ثالث: فاطمة وزيداً(4).

  وفي رابع: عاش حتى صار رجلاً(5).

  وفي خامس: إنّ لزيد بن عمر عقباً(6).

  وفي سادس قتل بلا عقب(7).

إلى غيرها من الاقوال.

____________

1- شرح المواهب اللدنيّة 7: 9.

2- مختصر تاريخ دمشق 9: 160.

3- سير أعلام النبلاء 3: 501، تركة النّبي: 95، الذرية الطاهرة: 118، تاريخ الطبري 3: 270، تاريخ دمشق 19: 482.

4- المعارف: 185.

5- أنظر: تاريخ دمشق 9: 489، 484، الكامل في التاريخ 3: 373، سير أعلام النبلاء 3: 502.

6- هامش تاريخ دمشق 19: 484.

7- سير أعلام النبلاء 3: 502، الطبقات الكبرى 8: 463.


الصفحة 120
وانت تعلم بأنّ ما جاء في كيفية الصلاة على الجنائز كانت رواية عامية، وقد ذكرها فقهاء الإمامية في كتبهم استشهاداً لا استدلالاً، فلا يمكنهم أن يلزمونا بولادة زيد وموته مع أُمّه في يوم واحد طبق محكي الخلاف، وكذا لا يمكن على ضوئه إثبات كون زيد هو ابن لأم كلثوم بنت فاطمة.

أمّا رواية القدّاح فهي الاُخرى متروكة عند أعلامنا ; لجهالة جعفر بن محمّد القمي، ومخالفتها لبعض اصول المذهب.

وقد تكون جملة (بنت عليّ) أو (بنت فاطمة) في هذه الأخبار هي من توضيحات الراوي ذكرها تبرّعاً من عند نفسه، وقد يكون الراوي قد تأثّر بالاشاعات والمؤثّرات الخارجية فأضاف هذه الزيادة، ولو علم بأنّ كلّ ذلك تحريف وتزوير لما فعل ذلك.

بعد كلّ هذا نقول: هذه الأقوال تشكّكنا في صحّة الأخبار المنقولة عن حادثة زيد بن عمر، وموته هو وأُمّه في يوم واحد، وكذا ما نقل من مسألة التوريث بينهما.

4 ـ عدة المتوفّى عنها زوجها:

" روى الكليني عن حميد بن زياد، عن ابن سماعة، عن محمّد بن زياد، عن عبدالله بن سنان، ومعاوية بن عمّار بن أبي عبدالله، قال: سألته عن المرأة المتوفّى عنها زوجها، أتعتدُّ في بيتها، أو حيث شاءت؟

قال: بل حيث شاءت، إنّ عليّاً لمّا توفّي عمر أتى أمّ كلثوم فانطلق بها

الصفحة 121
إلى بيته "(1).

وفي آخر:

" فأخذ بيدها فانطلق بها إلى بيته "(2).

فهذه الرواية هي الأُخرى لا تدلّ على الإنجاب.

فإن قيل: إنّها تدلّ على التزويج، وهو كاف لإثبات المراد.

قلنا: بأن تفسير الخبر جاء معه بقوله في الخبر الآخر: (ذلك فرج غُصبناه)(3) أو (غُصبنا عليه)(4)، وأقصى ما يمكن في الدلاله هو وقوع التزويج عن إكراه، لا عن طيب خاطر.

وهذا لا يفيد شيئاً، بل يشير إلى المنافرة بين عليّ وعمر لا الأخّوة بينهما كما يريدون القول به.

  بل الشيخ المجلسي ذهب إلى أكثر من ذلك، وقال: إنّ هذين

____________

1- الكافي 6: 115 ح 1، وأنظر تهذيب الأحكام 8: 161، والإستيعاب 3: 252 كذلك، وفي السنن الكبرى للبيهقي 7: 436 وكنز العمّال 9: 694 عن الشعبي قال: نقل عليّ رضي الله عنه أُمّ كلثوم بعد قتل عمر رضي الله عنه بسبع ليال، ورواه الثوري في جامعه وقال: لأنها كانت في دار الامارة.

2- الكافي 6: 115 ح 2، وفي النوادر للراوندي: 186، عن جعفر الصادق عن ابيه (عليه السلام): نقل عليّ بن أبي طالب ابنته أُمّ كلثوم في عدّتها حين مات زوجها عمر بن الخطّاب، لأنها كانت في دار الإمارة.

3- الكافي 5: 346 ح 2، وسائل الشيعة 2: 561 ح 26349 بحار الأنوار 42: 106.

4- الاستغاثة 1: 78 و 81، شرح الأخبار 2: 507، رسائل المرتضى المجوعة الثالثة: 149 و 150، الصراط المستقيم 3: 130.


الصفحة 122
الخبرين [ أي خبر زرارة(1) وهشام(2) ] لا يدلان على وقوع تزويج أُمّ كلثوم من عمر، لمنافاتهما لما جاء في الخرائج والجرائح عن الصفار...(3).

  واحتمل آخر: بأنّ جملة: (ذلك فرج غُصبناه) جاءت على سبيل المجاراة مع من يدعي ذلك، وليس لها دلالة على وقوع التزويج.

  واحتمل ثالث: أنّ الجملة: (ذلك فرج غُصبناه) استفهام استنكاري من الإمام (عليه السلام)، وهي الأخرى لا دلالة لها على وقوع الزواج من أُمّ كلثوم.

  وقرأ رابع الجملة هكذا: " ذلك فرجٌ عَصَبْنَاهُ " و" ذلك فرج عَصَبْنَا عليه ".

وبنظرنا: إنّ كثيراً من هذه الأقوال هي خلاف الظهور، بل في كلام الإمام ما يشير إلى الإكراه والجبر، وهو لا يدلّ على أكثر من وقوع العقد، إذ المتوفى عنها زوجها تجب عليها العدّة وإن لم يدخل بها.

على أنّه ليس في تلك الأخبار دلالة على أنّ أُمّ كلثوم هي ابنة فاطمة، فقد تكون ابنته من غير فاطمة.

____________

1- الكافي 5: 346 ح 1 بسنده عن زرارة، عن الصادق (عليه السلام) وفيه: "إن ذلك فرجٌ غُصبناه".

2- الكافي 5: 346 ح 2 بسنده عن هشام بن سالم، عن الصادق (عليه السلام)، وفيه: أنّ عمر هدَّد باتهام عليّ بالسرقة وقطع يده إن لم يزوّجه ابنته أمّ كلثوم.

3- أنظر: الخرائج والجرائح 2: 825 ـ 826 ومرآة العقول 20: 42.


الصفحة 123
وهذا القول هو الآخر بعيد ; لأنّ علياً لم يتزوّج في زمن فاطمة بامرأة أُخرى، فلا يعقل أن تكون له بنت مؤهلة للزواج من عمر، إلاّ أن نقول بأنّها ربيبته من امرأة أخرى، والربيبة تعد في الشرع من حيث محرميتها بمنزلة البنت، وعند العرب بمنزلة البنت مطلقاً حتى في الإرث وغيره.

وعليه، فلا دلالة لهذا الخبر على الدخول والانجاب كذلك، وخصوصاً لو قلنا بتنافيه مع ما رواه القطب الراوندي عن الصّفار باسناده إلى عمر بن أذينة.

وأنّ فقهاءنا حينما قالوا بجواز اعتداد المرأة في غير بيت زوجها قالوا بذلك طبقاً لروايات كثيرة في الباب عندهم، لا لما جاء في خبر تزويج أُمّ كلثوم فقط.

5 ـ الوكالة في التزويج:

مرّت عليك نصوص العامّة في إيكال الإمام عليّ بن أبي طالب أمر زواج أُمّ كلثوم لابنيه الحسن والحسين(1)، لكنّ روايات أهل البيت تشير إلى أنّ الإمام قد وكّل أمرها لعمّه العبّاس اتقاءً للحرج(2).

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: لماذا يوكّل الإمام في أمر زواج أُمّ

____________

1- مجمع الزوائد 4: 274، الأوسط 6: 357، حياة الصحابة 2: 527، السنن الكبرى للبيهقي 7: 139.

2- الكافي 5: 346، الاستغاثة: 91، بحار الأنوار 42: 93، المجموعة الثالثة من رسائل المرتضى: 149، مرآة العقول 20: 44.


الصفحة 124
كلثوم ابنيه، وفي آخر عمه العبّاس ولا يزوّجها هو بنفسه، وعلى أي شيء يدلّ هذا؟

ألم يكن الأنسب ـ إن صحّ الخبر ـ أن تكون الوكالة لعمه العبّاس من ابنيه الحسن والحسين؟

وهل تعقل بأنّ الحسن والحسين قد أغضبا والدهما عليّاً ـ كما جاء في روايات العامّة ـ.

بل كيف بعلي يغضب من قول الحق وابناه سيّدا شباب أهل الجنة يقولان ذلك، ورسول الله قال عن عليّ: إنّه مع الحقّ والحقّ معه(1)، أمّا لو قلنا بأنّ كلامهما كان باطلاً ـ والعياد بالله ـ فكيف يقولان الباطل؟!

ألا تذهب معي إلى أنّ تلك النصوص وضعت للتعريض بعلي والحسن والحسين؟!

إنّ مسألة التوكيل إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على عدم رضا الإمام بهذا الزواج، لكنّ العسر والحرج هما العاملان اللذان ألجئاه (عليه السلام) إلى ذلك.

ولو راجعت مجمل حياة عمر بن الخطّاب لوقفت على غلظته في الأمور، وضربه ونفيه وحبسه للصحابه، وهو الذي يتّفق مع ما جاء في روايات مدرسة أهل البيت من أنّ عمر قد هدد عليّاً بقطع يده بدعوى السرقة، أو رجمه بدعوى الزنى، وأنّه لبّس ذلك على عامة النّاس

____________

1- أنظر الاحتجاج للطبرسي 1: 191.


الصفحة 125
بدعوى القربى إلى رسول الله.

إنها مسألة تحتاج إلى تدبّر وتفكّر، فعُد معي أخي القارىء إلى ما روته الشيعة لتقف على ما ورائيات الحديث:

عن أبن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: لما خطب عمر إلى أمير المؤمنين قال له: إنّها صبية، فأتى العباس فقال مالي؟ أبي بأس؟

قال له: وما ذاك؟

قال: خطبتُ إلى ابن أخيك فردّني، أما والله لأعوِّرنَّ زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلاّ هدمتها(1)، ولأقيمن عليه شاهدين أنّه سرق ولأقطعن يمينه.

فأتاه العبّاس فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعله إليه(2).

وروى الكوفي في الاستغاثة قال: حدثنا جماعة من مشايخنا الثقات، منهم جعفر بن محمّد بن مالك الكوفي، عن أحمد بن المفضل، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبدالله بن سنان، قال: سألت جعفر بن محمّد عن تزويج عمر من أُمّ كلثوم، فقال: ذلك فرج غصبنا عليه.

وهذا الخبر مشاكل لما رواه مشايخنا أن عمر بعث العبّاس إلى عليّ صلوات الله عليه فسأله أن يزوّجه أمّ كلثوم، فامتنع عليّ من ذلك،

____________

1- لاحظ محاولة عمر من قبل ذلك قلع ميزاب العبّاس بن عبد المطلب عن الكعبة، راجع سير أعلام النّبلاء 2: 96.

2- النوادر لأحمد بن عيسى الأشعري: 130 ح 332، الكافي 5: 356 ح 2.


الصفحة 126
فلما رجع العبّاس إلى عمر يخبره بامتناع عليّ (عليه السلام) وأعلمه بذلك، قال: يا عبّاس أيانف من تزويجي [ والله لئن لم يزوجني ] لأقتلنه.

فرجع العبّاس إلى عليّ (عليه السلام) فأعلمه بذلك، فأقام علي (عليه السلام) على الامتناع، فأخبر العبّاسُ عمرَ، فقال له: يا عبّاس احضر يوم الجمعة في المسجد وكن قريباً مني لتعلم أنّي قادر على قتله.

فحضر العبّاس المسجد، فلمّا فرغ عمر من الخطبة، قال: أيها النّاس إنّ ها هنا رجلاً من عليّة أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد زنى وهو محصن، وقد اطّلع عليه أمير المؤمنين وحده، فما أنتم قائلون؟

فقال النّاس من كلّ جانب: إذا كان أمير المؤمنين قد اطّلع عليه فما حاجته أن يطلع عليه غيره.

فلمّا انصرف عمر قال للعبّاس: امضِ إليه فأعلمه ما قد سمعت، فوالله لئن لم يفعل لأفعلن.

فصار العبّاس إلى عليّ (عليه السلام) فعرّفه ذلك.

فقال عليّ (عليه السلام): أنا أعلم أنّ ذلك ممّا يهون عليه، وما كنتُ بالذي أفعل ما تلتمسه أبدا.

فقال العبّاس: إن لم تفعل أنتَ فأنا أفعل، وأقسمتُ عليك ألا تخالف قولي وفعلي.

فمضى العبّاس إلى عمر فأعلمه أن يفعل ما يريد من ذلك.

فجمع عمر النّاس فقال: إنّ هذا العبّاس عمّ عليّ، وقد جعل إليه أمر ابنته أُمّ كلثوم، وقد أمره أن يزوّجني منها، فزوّجه العبّاس، وبعث

الصفحة 127
بعد مدة يسيرة فحولها إليه(1).

كانت هذه بعض النصوص الدالة على توكيل العبّاس في أمر التزويج، وهي قد تتفق مع الأحداث آنذاك.

أما نصوص أهل السُنّة في توكيل الحسن والحسين فهي بعيدة عن الواقع بعد الأرض عن السماء، وخصوصاً ما جاء من قولهما لعلي (عليه السلام): يا أبتاه، مَن بعد عمر!! صحب رسول الله وتوفّي وهو عنه راض، ثم ولي الخلافة بعده، فقال له أبوه: صدقت(2)...

وفي آخر: إنّ الحسن والحسين قالا لعلي ـ حيث أمرهما بتزويجه بقوله: زوِّجا عمّكما ـ: هي امرأة من النساء تختار لنفسها.

فقام عليّ مغضباً، فأمسك الحسن بثوبه، وقال: لا صبر لي على هجرانك يا أبتاه، قال: فزوّجاه(3).

إنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) لا يخفى عليهما قول أبيهما:

أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرحى... حتى إذا مضى الأوّل لسبيله أدلى بها إلى فلان بعده... حتى إذا مضى إلى سبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم(4)...

كما لا يخفى عليهما ظلم عمر لأبيهما وامّهما وهجومه على

____________

1- الاستغاثة: 78 ـ 79، وعنه في مستدرك وسائل الشيعة 14: 443 ـ 444.

2- ذخائر العقبى: 170.

3- المعجم الأوسط 6: 357، السنن الكبرى للبيهقي 7: 114.

4- نهج البلاغة 1: 31، الخطبة الشقشقية الرقم 3.


الصفحة 128
دارهم(1) واسقاطهم لمحسناً(2).

إن سيرة عليّ والحسنين تأبى أشدّ الإباء هذه الفرية، خصوصاً إذا رأيت بعين الاعتبار قول الحسين (عليه السلام) وهو صبي صغير لأبي بكر: انزل عن منبر أبي(3)....

خصوصاً وأنّ الخُلق العلوي الحسني الحسيني أرفع من أن تصدر منه مثل هذه المشادّات التي كانت تصدر من غيرهم.

وقد كانت لبني هاشم وأهل البيت مناكحات ومزاوجات كثيرة مع بعض الصحابة وأولادهم لم نعهد في واحدة منها مثل هذا الهرج والمرج الذي صوّروه في قضية أمّ كلثوم، وهذا كلّه يدلّ على ما صنعته السياسة القرشية الأموية في التاريخ والشريعة.

وعلى فرض وقوع هذا الزواج المفترض، فإنّ علماء الشيعة خرجوا من هذه المشكلة بأنّ الزواج يأتي على ظاهر الإسلام، فمن شهد الشهادتين يزوَّج إلاّ الناصبي، والأخير لا يُزوّج إلا عند العسر والحرج، إذ دلّت نصوص على ذلك.

وقد روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال في جواب من قال له: قد أتيت ذنباً لا يغفر الله لك.

قال: وما هو؟

قال: زوَّجتَ ابنتك رجلاً من بني أُميّة.

____________

1- الإمامة والسياسة 1: 19.

2- البدء والتاريخ 5: 20، الفصل: 17.

3- تاريخ دمشق 30: 307، شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 6: 42.


الصفحة 129
فقال أبو عبدالله: أسوتي في ذلك رسول الله قد زوج ابنته ز ينب، أبا العاص بن ربيعة، وزوّج عثمان بن عفان أُمّ كلثوم فتوفيت، فزوّجه رقية بناته (صلى الله عليه وآله).

وخطب عمر إلى عليّ ابنته أُمّ كلثوم، فردّه، فأمّا العبّاس فشكا عليه وتوعد بني عبدالمطلب، فأتى العبّاس عليّاً فقال: يا بن أخي! قد ترى ما نحن فيه، وقد توعدك عمر لردّك إيّاه وتوعّدنا.

ولم يزل به حتّى جعل أمرها إليه، فزوجها العبّاس منه.

فالأفضل والأعلى تزويج أهل الموافقة ومَن لا ينصب العداوة لآل رسول الله، ونكاح المؤمن أفضل من نكاح غيره، ولا باس عند الضرورة بنكاح أهل الخلاف من المسلمين، وكذلك النكاح فيهم، وليس ذلك بمحرّم كمناكحة المشركين، ولكن الفضل والاختيار في مناكحة أهل الموافقة، وبعد ذلك المستضعفين "(1).

فهذه النصوص لو جُمعت إلى كلام الإمام عليّ لعرفت مغزى كلامه (عليه السلام) وأخذه بيدها ; لأنّه كان قد زوّجها مُكرها، وكما قال الإمام الصادق: (فرج غُصبناه)، ويؤيد ذلك ما حكي عن الإمام عليّ أنّه " لمّا توفّى عمر أتى أُمّ كلثوم فانطلق بها إلى بيته ". وهذا يعني عدم قبول الإمام ببقاء أُمّ كلثوم في بيت عمر ودار الإمارة للحظة واحدة.

وإنّ جعل الإمام عليّ أمر ابنته هذه دون غيرها إلى العبّاس هو الآخر يشير إلى عدم الرضا بل كرهه لهذا الزواج.

____________

1- انظر: هامش دعائم الإسلام 2: 200. نقله عن مختصر الآثار.


الصفحة 130
كانت هذه نظرة عابرة إلى الأخبار التي أراد الآخر أن يلزمنا بها في وقوع الزواج، وقد وقفت على عدم دلالتها على المقصود، إذ أنّ النصوص الموجودة عندهم ـ الدالّة على وقوع هذا الزواج ـ تشير إلى درجة كبيرة من النزول الخلقي عند خليفة المسلمين عمر بن الخطّاب، وهذا ما لا يرضاه أتباعه، أمّا النصوص الموجودة عندنا فتشير إلى الإكراه والإجبار، وربما هو الآخر قد لا يفيدهم.