البحث العقائدي
سؤالان
هنا سؤالان يطرحان نفسيهما، وقد تطرف السمعاني في طرح الثاني منهما:
الأول:
هل أنّ الإمام عليّاً زوّج أُمّ كلثوم عن طيب خاطر، أم أنّ تزويجه إياها كان عن إكراه وتقية؟
الثاني:
لو كان عمر كافراً، فكيف بالإمام ـ أو وكيله ـ يزوّجان الكافر، أَلا يكون الإمام معرّضاً ابنته للزنا؟
جواب السؤال الأول:
ادّعى الجاحظ بأنّ الزواج كان عن طيب خاطر، فقال في كتابه العثمانية:
ثّم الذي كان من تزويجه أمّ كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله من عمر بن الخطّاب طائعاً راغباً.
وعمر يقول: إنّي سمعت رسول الله يقول: إنّه ليس سبب ونسب إلاّ [ وهو ] منقطع إلاّ نسبي.
قال: إنّي والله ما أريدها لذاك(1).
فأرسلها إليه، فنظر إليها قبل أن يتزوّجها، ثمّ زوّجها إيّاه، فولدت له زيد بن عمر، وهو قتيل سودان مروان(2).
ويُردّ على الجاحظ باُمور:
الأول: إنّ رسول الله لم يزوّج ابنته فاطمة من أبي بكر وعمر وهو مختار، فكيف بعلي يزوج أمّ كلثوم من عمر مختاراً وعن طيب نفس؟ وهو يقف على فارق السن والكفاءة بينهما، فلو زوّجها مختاراً كان قد خالف بذلك ما رجّحه رسول الله من عدم تزويجهم.
الثاني: إنّ عمر نفسه كان يأبى تزوّج الشيخ الكبير بالشابة، كما ستاتي قضيته في ذلك، مضافاً إلى أنّ من البعيد جدّاً أن يُزوّج عليٌّ بنته مختاراً من شخص لا يتكافأ معها من جميع الجهات، خصوصاً مع وجود شباب من بني هاشم ـ أبناء أخيه جعفر أو من غيرهم ـ يرغبون في الزواج من ابنة عليّ، فكان على عليّ ـ إن كان مختاراً ـ أن يزوجها منهم لا من عمر.
بل ليس لعمر أن يقدم على أمّ كلثوم أو يصرّ على الزواج منها، وعليّ يقول له: حبستهن لاولاد أخي جعفر(3). فقد يكون في كلام
____________
1- حسب النصوص التي مَرّت عليك يتضح خلاف هذه الدعوى، فإنه ضمّها وقبّلها وكان طامعاً بها.
2- العثمانية: 236 و 237.
3- الطبقات لابن سعد 8: 463، وفيه: حبست بناتي على بني جعفر... وهو ايضاً في تاريخ دمشق 19: 486، والإصابة 8: 1465.
وهذا ليشير إلى أن الإمام كان قد أُمر بحبسهن لأولاد أخيه جعفر، فكيف بعمر يصرّ بالزواج من احداهن، وهو الذي كان قد يلزم الآخرين بأن ينكح الرجل لمته من النساء، وأن تنكح المراة لمتها من الرجال، وأُمّ كلثوم ليست من لمة عمر يقيناً، وخصوصاً من جهة الحسب.
فعن المجاشع الأسدي أنّه قال اُتي عمر بن الخطّاب بامرأة شابّة زوّجوها شيخاً كبيراً فقتلته، فقال: أيّها النّاس! اتّقوا الله، ولينكح الرجل لمته من النساء، ولتنكح المرأة لمتها من الرجال، يعني شبهها(2).
فكيف خالف عمر هذه القاعدة؟! أكان مصداقاً للآية الكريمة {آتَأُمُرُونَ النّاسَ بِالبِرَّ وتَْنسوْنَ أَنْفُسَكُمْ}(3) إنّه تساؤل فقط؟!
الثالث: إنّ هناك روايات صدرت عن أهل البيت تُصرّح بأنّ علي بن ابي طالب زوّجها مُكرهاً، وقد مرّ عليك قسمٌ من تلك الروايات، وفي نصوص أهل السُنّة ـ المارة سابقاً ـ ما يؤكد ذلك، إذ أنّ قول
____________
1- من لا يحضره الفقيه 3: 393 باب الأكفاء ح 4384.
2- تاريخ مدينة 2: 769، كنز العمال 15: 716 ح 42857.
3- البقرة: 44.
كلّ هذه النصوص والسير التاريخي ينقض كلام الجاحظ، ويثبت بأنّه لو كان قد زوّجها فقد زوّجها مُكرهاً لا عن طيب خاطر.
أمّا جواب السؤال الثاني:
فقد قال السمعاني في الأنساب: لو كان أبو بكر وعمر كافرين لكان عليّ بتزويجه أُمّ كلثوم من عمر كافراً أو فاسقاً، معرّضاً ابنته للزنا ; لأن وطء الكافر للمسلمة زنا محض(4).
ونحن قبل الخوض في الإجابة عن كلام السمعاني نقول: ليس الهدف فيما نقوله هنا هو المساس بشخصية عمر بقدر ما يكون بيان وجهة نظر علماء الشيعة في جواب هذا الإشكال، وأنّ ما فرضه السمعاني لا يستلزم كفر عمر ولا وقوع الزنا، بالتقريب الآتي:
أولاً: أنّ القول بالكفر عام ولا يختص بعدم الاعتقاد بالله أو الإرتداد عن الدين، فقد يشمل ما قاله الإمام عليّ حينما سئل عن
____________
1- الطبقات الكبرى 8: 464.
2- الكافي 5: 346، رسائل المرتضى ـ المجموعة الثالثة: 149.
3- الذرية الطاهرة: 114، ذخائر العقبى: 167.
4- الأنساب للسمعاني 1: 207.
قال: كفروا بالأحكام، وكفروا بالنعم، كفراً ليس ككفر المشركين الذين دفعوا النبوة ولم يقروا بالإسلام، ولو كانوا كذلك ما حلّت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم(1).
ثانياً: من المعلوم أنّ الأحكام الشرعية تجري على الظواهر لا البواطن، فإن كان في نفسِ شخص كفرٌ أو نفاق أو ما شابه ذلك، فليس على المكلّف أن يرتّب على ذلك الآثار الشرعية، وإنّما تجري الأحكام على ظاهر الإسلام.
وهناك الكثير من المنافقين تركهم الرسول الأكرم وهو يعلم ما في أنفسهم من غلٍّ للإسلام والمسلمين، وقد علم بتظاهر المرأتين عليه(2)، وتآمر أصحاب العقبة على رميه من أعلى عقبة هرش(3)، و... فلم يقتل أحداً منهم، بل كان يتألّفهم على الإسلام ويترضّاهم، ويعطيهم من حطام الدنيا من الإبل والشاة والأغنام دون المؤمنين، كلّ ذلك لأنّه مأمور بالتعامل مع النّاس بظواهر الأُمور لا ببواطنها، فحاله حال بقيّة الأنبياء، إذ أنّ نبي الله نوح ونبي الله لوط كانا يتعاملان مع
____________
1- دعائم الإسلام 1: 388، وعنه في مستدرك الوسائل 11: 66 / الحديث 12440.
2- صحيح البخاري 6: 69، 70،7: 46، صحيح مسلم 4: 192، مسند أحمد 1: 48، سُنن النسائي 7: 13،و 71، الدر المنثور 6: 242،و 239، كنز العمال 2: 530،و 533.
3- مسند أحمد 5: 453، المعجم الأوسط 4: 146، وعنه في مجمع الزوائد 1: 110، 6: 195، تفسير ابن كثير 2: 387.
وجاء عن رسول الله: إنّما أقضي بينكم بالبينات والأَيْمان، فأيّما رجل قطعت له من أخيه شيئاً فإنّما قطعت له قطعة من النار(1).
وفي آخر: إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ ولعل أحدكم أَلْحَنُ بحجّته من بعض، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فأخذه فإنّما قطع له قطعة من النار(2).
وقد جاء هذا الجواب في كلمات علماء الشيعة، إذ قال الشيخ الطوسي (ت 460 هـ) في تمهيد الأصول:
وقد استقر في الشرع أنّ من أظهر الشهادتين جازت مناكحته وإنّ كان على ظاهر اعتقاد يحكم عليه بالكفر به، وعمر كان مظهراً للشهادتين، فلذلك جاز تزويجه.
وأدّل دليل على أنّ الصواب في ذلك فعله (عليه السلام)، مع قيام الدلالة على عصمته وأنّ أفعاله حجّة، لأنّه لو كان غير جائز لما جاز منه (عليه السلام) ذلك(3).
وقال في كتابه الإقتصاد:
على أنّه من أظهر الشهادتين وتمسك بظاهر الإسلام يجوز مناكحته، وها هنا أمور متعلّقة في الشرع بإظهار كلمة الإسلام
____________
1- الكافي 7: 414، تهذيب الاحكام 6: 229، معاني الاخبار: 279.
2- صحيح البخاري 3: 162 و 8: 62، صحيح مسلم 5: 129 سنن أبن ماجة 2: 777، السنن الكبرى للبيهقي 10: 143، 149.
3- تمهيد الأصول: 386 ـ 387.
وقال الحلبي (ت 447 هـ) في تقريب المعارف:
على أنّ حال عمر في خلافه لا تزيد على حال عبد الله بن أبي السلول وغيره من المنافقين، وقد كانوا يناكحون في زمن النّبي لإظهار الشهادتين وانقيادهم للملة، وهذه حال عمر... فكما لم يمنع ذلك من مناكحتهم، فكذلك هذا(2).
وعليه بما أنّ ظاهر عمر بن الخطاب هو الإسلام، إذ يشهد أنّ لا اله إلا الله وأنّ محمّد رسول الله فيمكن تزويجه هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ من يقول: إنّ نصبهم كان ظاهراً معلناً محرزاً، فإنّه يقول: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، إنّما جاراهم وعاملهم وفق الظاهر ولم يعاملهم على ما هم عليه في الواقع من النصب، حفاظاً على هدف أسمى، وهو: أن يبقوا على ظاهر الإسلام خير من تمحى شعائره إلى الأبد:
مستدلين بما جاء في كتابه (عليه السلام) إلى أهل مصر: حتى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم...(3).
____________
1- الإقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد: 340 ـ 341.
2- تقريب المعارف: 224.
3- أنظر: الغارات 1: 305، شرح نهج 17: 151 و 6: 95، المسترشد: 412.
فلو حرّم رسول الله او الامام علي مناكحتهم وتورثهم وتغسيلهم وتدفينهم لأعلنوا الكفر الصراح ولأعادوا الإسلام إلى الجاهلية المحضة، وبعبارة أخرى: إنّه (عليه السلام) رجّح الأهم على المهم في سيرته معهم.
وثالثاً: إنّ الزواج من أُمّ كلثوم ـ على فرض وقوعه ـ كان على نحو الاكراه لا عن طيب خاطر، فيكون المكرِه هو الزاني لا البنت ووليّها.
فإنّ القائل بالتزويج من الشيعة يذهب إلى أنّ الإمام قد أجاز هذا العقد ; للحرج والتقية، وقد سئل مسعود العياشي عن أُمّ كلثوم، فقال: كان سبيلها سبيل آسية مع فرعون(3).
إذا، هو من قبيل قوله تعالى: { إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ
____________
1- إشارة إلى قوله تعالى { ومَا مُحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّات أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَِلَن يَضُرَّ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ } آل عمران: 144.
2- راجع: صحيح البخاري 8: 151، صحيح مسلم 4: 1793، مسند أحمد 1: 406.
3- الصراط المستقيم 3: 130.
وليس ببعيد أن يكون سببه الإكراه والجبر، لأنّ تاريخ السلطويين حدّثنا بوقوع مثل ذلك الإكراه كثيراً، وإليك مثالين لذلك:
الأوّل: أكره الحجّاج الثقفي أسماء بن خارجه الفزاري، وسعيد بن قيس الهمداني ـ وهما من أنصار عليّ أمير المؤمنين ـ على تزويج ابنتيهما من رجل أوديّ خامل العشيرة من اتباع الحجّاج.
فقد روى ابن الكلبي عن أبيه، عن عبدالرحمن بن السائب، قال: قال الحجّاج يوماً لعبد الله بن هاني، وهو رجل من بني أَوْد ـ حي من قحطان ـ:... والله ما كافأتك بعد! ثمّ أرسل إلى أسماء بن خارجة سيّد بني فزارة: أن زَوَّجْ عبدالله بن هاني بابنتك.
فقال: لا والله ولا كرامة!
فدعا بالسياط.
فلما رأى الشرّ قال: نعم أزوجه.
ثمّ بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني ـ رئيس اليمانية ـ: زوِّج ابنتك من عبدالله بن أود.
فقال: ومن أوْد! لا والله لا أزوجه ولا كرامة!
فقال: عليّ بالسيف.
فقال: دَعني حتى أشاور أهلي، فشاورهم، فقالوا: زَوِّجه! ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق، فزوجَّه.
فقال الحجّاج لعبدالله: قد زوّجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان وعظيم كهلان، وما أوْدُ هناك!
قال: وما هي.
قال: ما سب أمير المؤمنين عبدالملك في ناد لنا قط.
قال: منقبة والله.
قال: وشهد مِنا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلاً، ما شهد منا مع أبي تراب إلاّ رجل واحد، وكان والله ما علمته امْرَأ سوء، قال: منقبة والله.
قال: ومنا نسوة نَذَرْن، إن قُتل الحسين بن عليّ أن تنحر كلّ واحدة عشر قلائص، ففعلن.
قال: منقبة والله.
قال: وما هنا رجل عُرِضَ عليه شتمُ أبي تراب ولعنه إلاّ فعل وزاد ابنيه حسناً وحسيناً وأمهما فاطمة.
قال: منقبة والله(1).
الثاني:
وقفت أخيراً ـ أثناء بحثي عن حياة أجدادي وأعمامي وأبنائهم في كتب النسب ـ على واقعة أدمت قلبي، كانت قد وقعت لإحدى بنات عمومتي، وذلك بعد قيام الطالبيّين في المدينة والعراق وخراسان في عهد المهدي والرشيد، وسجن الرشيد للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام).
____________
1- شرح نهج البلاغة 4: 61.
كان هذا نصّ أبو نصر البخاري.
وقال العمري النسابة: وأمّا زينب فذكر صاحب المبسوط العمري إنّ الرشيد زف زينب بنت عبد الله من الحسين الأصغر، فدخل خادم ليربطها بتكة، فرفسته فدقت له ضلعين، فخاف الرشيد وردها من غدها إلى الحجاز، وأجرى عليها أربعة آلاف دينار في السنة، وأدّرها المأمون بعد ذلك(2).
وقال ابن الطقطقي مثل ذلك(3).
نعم، قد يكون في اعتقاد الحجاج بن يوسف وقبله عمر بن الخطّاب بأنّ في مثل هذا التزاوج يقع التآلف والتآخي، وأن العداوة
____________
1- أنظر معالم أنساب الطالبيّن في شرح كتاب (سر الأنساب العلوية): 223.
2- المجدي: 409.
3- الأصيلي: 283.
قال الشافعي: لمّا تزوج الحجّاج بن يوسف ابنة عبد الله بن جعفر، قال خالد بن يزيد بن معاوية، لعبد الملك بن مروان: أتركت الحجّاج يتزوج ابنة عبد الله بن جعفر؟
قال: نعم، ما بأس بذاك.
قال: أشدّ البأس والله.
قال: وكيف؟
قال: والله ـ يا أمير المؤمنين ـ لقد ذهب ما في صدري على الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير.
قال: فكأنّه كان نائماً فأيقظه.
قال: فكتب إليه يعزم عليه في طلاقها، فطلّقها(1).
لكن الموجودة في البداية والنهاية لابن كثير في حوادث سنة 80 هـ، ترجمة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: " حتى زوج (عبد الله بن جعفر) الحجّاج بنت رسول الله، وكان الحجّاج يقول: إنّما تزوجها لأذل بها آل أبي طالب... "(2).
اذاً، لم يكن الزواج في مثل هذه الأمور زواجاً أصيلاً واقعياً، بل امتزجت بمسائل سياسية يجب أن تؤخذ بنظر الإعتبار وأن تلحظ في
____________
1- تاريخ دمشق 12: 125، البداية والنهاية 9: 141، مختصر تاريخ دمشق 6: 205.
2- البداية والنهاية 9: 42.
وثالثاً: إنّ القول بوقوع التزويج لا يضر بعقائد الشيعة على جميع التقادير.
وإليك بعض أقوالهم:
قال الشيخ المفيد في جواب المسائل السرويّة:
" ثمّ إنّه لو صحّ [ أي التزويج ] لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدّمين على أمير المؤمنين.
أحدهما: أنّ النكاح إنّما هو على ظاهر الإسلام الّذي هو الشهادتان، والصلاة إلى الكعبة، والإقرار بجملة الشريعة، وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان، ويكره مناكحة من ضمّ إلى ظاهر الإسلام ضلالاً يخرجه عن الإيمان، إلاّ أنّ الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضالّ مع إظهار كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك، وأمير المؤمنين كان مضطراً إلى مناكحة الرجل، لأنّه تهدده وتواعده، فلم يأمنه على نفسه وشيعته، فأجابه إلى ذلك ضرورةً.
كما أنّ الضرورة تشرع إظهار كلمة الكفر، وليس ذلك بأعجب من
____________
1- ان أولاد النبي يتزوجون في الناس ولا يزوجون فيهم إلا اضطراراً، انظر المناقب لابن شهرآشوب 2: 42.
وقال الشريف المرتضى في كتابه الشافي: "... وأما تزويجه بنته فلم يكن ذلك عن اختيار.
ثمّ ذكر رحمه الله الأخبار السابقة الدالّة على الاضطرار، ثمّ قال:
على أنّه لو لم يجرِ ما ذكرناه لم يمتنع أن يزوّجه (عليه السلام) لأنّه كان على ظاهر الإسلام والتمسك بشرائعه، وإظهار الإسلام يرجع إلى الشرع فيه، وليس ممّا تحظره العقول، وقد كان يجوز في العقول أن يبيحنا الله تعالى مناكحة المرتدين على اختلاف ردّتهم، وكان يجوز أيضاً أن يبيحنا أن ننكح اليهود والنصارى، كما أباحنا عند أكثر المسلمين أن ننكح فيهم، وهذا إذا كان في العقول سائغاً فالمرجع في تحليله وتحريمه إلى الشريعة.
وفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حجّة عندنا في الشرع، فلنا أن نجعل ما فعله أصلاً في جواز مناكحة مَن ذكروه، وليس لهم أن يلزموا به على ذلك مناكحة اليهود والنصارى وعبّاد الأوثان، لأنّهم إن سألوا عن جوازه في العقل فهو جائز، وإن سألوا عنه في الشرع فالإجماع
____________
1- المسائل السروية: 91، وعنه في بحار الأنوار 42: 107.
وقد قال الشريف المرتضى أيضاً جواباً لما وجه إليه بهذا الصدد:
" إعلم أنا قد بينا في كتابنا (الشافي) في الجواب عن هذه المسألة، وأزلنا الشبهة المعترضة بها، وأفردنا كلاماً استقصيناه واستوفيناه في نكاح أُمّ كلثوم، وانكاح بنته (صلى الله عليه وآله) من عثمان بن عفان، ونكاحه هو أيضاً عائشة وحفصة، وشرحنا ذلك فبسطناه.
والذي يجب أن يُعتمد في نكاح أُمّ كلثوم، أنّ هذا النكاح لم يكن عن اختيار ولا إيثار، ولكن بعد مراجعة ومدافعة كادت تفضي إلى المخارجة والمجاهرة.
فانه روي: أن عمر بن الخطّاب استدعى العبّاس بن عبدالمطلب فقال له: مالي؟ أبي بأس؟
فقال له: ما يجب أن يقال لمثله في الجواب عن هذا الكلام.
فقال له: خطبتُ إلى ابن اخيك عليِّ بنته أُمّ كلثوم، فدافعني ومانعني وأنف من مصاهرتي، والله لأعورن زمزم، ولأهدمّن السقاية، ولا تركت لكم يا بني هاشم منقبة إلاّ وهدمتها، ولأقيمنّ عليه شهوداً يشهدون عليه بالسرقه وأحكم بقطعه.
فمضى العبّاس إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخبره بما جرى، وخوّفه من المكاشفة التي كان (عليه السلام) يتحاماها ويفتديها بركوب كلّ صعب وذلول، فلمّا رأى ثقل ذلك عليه، قال له العبّاس: ردَّ أمرها إليّ حتّى أعمل أنا
____________
1- الشافي: 215، وبحار الأنوار 42: 108.
وهذا إكراه يحل له كلّ محرّم، ويزول معه كلّ اختيار، ويشهد بصحّته ما روى عن أبي عبدالله (عليه السلام) من قوله وقد سئل عن هذا العقد؟ فقال (عليه السلام): ذلك فرج غصبنا عليه.
وما العجب من أن تبيح التقية والإكراه والخوف من الفتنة في الدين ووقوع الخلاف بين المسلمين، لمن هو الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) والمُستخلف على أمّته، أن يمسك عن هذا الأمر ويخرِجَ نفسه منه، ويظهر البيعة لغيره، ويتصرف بين أمره ونهيه، وتنفذ عليه أحكامه، ويدخل في الشورى التي هي بدعة وضلال وظلم ومحال، ومن أن يستبيح ـ لأجل هذه الأمور المذكورة ـ عليٌّ ما لو ملك اختياره لما عقد عليه...؟
وقد تبيح الضرورة أكل الميتة وشرب الخمر، فما العجب ممّا هو دونها؟
فأمّا من جحد... وقوع هذا العقد وأنها ولدت أولاداً من عمر [ فليس بمصيب، لأنّ ذلك ] معلوم مشهور، ولا يجوز أن يدفعه إلاّ جاهل أو معاند، وما الحاجة بنا إلى دفع الضرورات والمشاهدات في أمر له مخرج من الدين(1).
ولم يكن الأمر بشدة وضراوة ما قاله الشريف المرتضى على منكر إيلادها أولاداً، بحيث لو أنكر أحد الإيلاد لأنكر ضروريّاً من
____________
1- رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة: 149 150.
وقد مرّ عليك كلام الزرقاني المالكي في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية وغيره، حيث ذهبوا إلى وقوع التزويج لكنّ عمر مات قبل الدخول بها.
ونحن في مناقشتنا لنصيّ زرارة وهشام السابِقَين(1) ونصّ المتوفّى عنها زوجها(2) لم نقف على وقوع إيلاد أُمّ كلثوم، فكيف اعتبر الشريف المرتضى أنّ ولادتها أولاداً من عمر أمرٌ معلوم مشهور؟!
وخصوصاً لو أضفنا إليه كلام الشيخ المجلسي وغيره من إنكار وقوع الزواج(3) رأساً فضلاً عن الإيلاد.
نعم، إنّ ذلك مشهور عند مدرسة الخلفاء، لكنّ إثباته يحتاج إلى مزيد دراسة وتحقيق، وإنّما رجونا في هذه الرسالة التنبيه على أن القول بوقوع الزواج لا يضرّ المعتقد الشيعي بقدر ما يضر الطرف الآخر لأن له مخرج من الدين عندنا وليس له مخرج من الدين عندهم وعند عمر بن الخطّاب على وجه الخصوص، وما حكيناه عن الآخرين لم يكن على حدّ التبّني بل ذكرناه على نحو التنزل والافتراض.
وبهذا، فقد اتضح لك: أنّ القول بوقوع الزواج لا يضرّ بنا، لكن
____________
1- انظر الكافي 5: 346 ح 1 و 2 باب تزويج أُمّ كلثوم.
2- انظر الكافي 6: 115 ح 1 و 2، والنوادر للراوندي: 186 كذلك.
3- لمنافاة ذلك لخبر الخرائج والجرائح 2: 825 ـ 826.
فلم ينكره محقِّقٌ مُحَقَّقاً، فأخبارُنا به متواترة في نكاحها وعدّتها فضلاً عن أخبار العامّة واتّفاق السير.
فرواه زرارة وهشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام)، وعقد الكليني له باباً، وروى عن زرارة كون ذلك غصباً، وروى عن هشام، قال: قال الصادق (عليه السلام): لمّا خطب عمر قال له أمير المؤمنين: إنّها صبية، فلقي عمر العبّاس فقال له: مالي، أبي بأس؟ أما والله لأعوِّرنَّ زمزم ولا أدع لكم(1)..
فكلامه ـ رحمه الله ـ غير صحيح على إطلاقه، حيث إنّ الأخبار ليست متواترة كما قاله، بل أقصى ما يمكن القول عنها: هي مستفيضة، وهناك كثير من المحقّقين قد أنكروا وقوع الزواج مستدلّين بأخبار وأدلة مذكورة في كُتبهم(2).
إذ قال الشيخ الطوسي (ت 460 هـ) في جواب من إدعى وقوع التزويج: قلنا: في أصحابنا من أنكر هذا التزويج، ومنهم من
____________
1- قاموس الرجال 12: 216.
2- انظر (السر المختوم في رد زواج أم كلثوم)، و(افحام الاعداء والخصوم بتكذيب ما افتروه على سيدتنا أم كلثوم)، و(تزويج أم كلثوم بنت أمير المؤمنين وإنكار وقوعه) وامثالها.
أمّا ما قاله " بأن الأخبار متواترة في نكاحها وعِدتها " فهو الآخر غير صحيح، حيث شكّ البعض من العامّة والخاصة في وقوع الزواج والدخول بها حسبما اتضح لك سابقاً، وإنّ خبر تزويج عمر بجنّية كاف لتضعيف كلام التستري.
وقد مرّ عليك كلام المجلسي في مرآة العقول ـ بعد أن أتى بخبر زرارة وهشام ـ قال:
" أقول: هذان الخبران لا يدلاّن على وقوع تزويج أُمّ كلثوم رضي الله عنها... ضرورة وتقية وورد في بعض الأخبار ما ينافيه مثل ما رواه القطب الراوندي عن الصفّار..."(2).
أما ما روي عن الإمام عليّ من أنّه لمّا توفي عمر أتى أُمّ كلثوم فانطلق بها إلى بيته. فليس فيها دلالة على أنّها كانت بنتاً له من فاطمة، فقد تكون ربيبته من أسماء أو من غيرها، وعليه فلا تتفق كتب السير على هذا الكلام حسبما ادعاه الشيخ التستري، ولا اعتبار لأخبار العامّة عند الشيخ نفسه، فكيف قال الجملة السابقة وبضرس قاطع؟!
____________
1- الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد: 340 ـ 341، تمهيد الأصول: 386 ـ 387.
2- مراة العقول 20: 42.