الصفحة 22
يقول قائل أو قائلة: قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم! ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها. أكثر ما في هذا أن عائشة رضي الله عنها وأبا ذر وابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رضي الله عنه، قد اختلفوا هل رأى النبي (ص) ربه فقالت عائشة رضي الله عنها: لم ير النبي (ص) ربه، وقال أبو ذر وابن عباس رضي الله عنهما قد رأى النبي (ص) ربه، وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علماً والإثبات هو الذي يوجب العلم، لم تحكِ عائشة عن النبي (ص) أنه أخبرها أنه لم ير ربه عز وجل (!) وإنما تلت قوله عز وجل: لا تدركه الأبصار، وقوله: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق الرمي بالفرية على الله، كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على الله! لأن قوله: لا تدركه الأبصار، قد يحتمل معنيين على مذهب من يثبت رؤية النبي (ص) خالقه عز وجل. قد يحتمل بأن يكون معنى قوله: لا تدركه الأبصار، على ما قال ترجمان القرآن لمولاه عكرمة: ذاك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شئ. والمعنى الثاني أي لا تدركه الأبصار أبصار الناس، لأن الأعم والأظهر من لغة العرب أن الأبصار إنما تقع على أبصار جماعة، لا أحسب عربياً يجئ من طريق اللغة أن يقال لبصر امرئ واحد أبصار، وإنما يقال لبصر امرئ واحد بصر، ولا سمعنا عربياً يقول لعين امرئ واحد بصران فكيف أبصار!

ولو قلنا: إن الأبصار ترى ربنا في الدنيا لكنا قد قلنا الباطل والبهتان، فأما من قال أن النبي (ص) قد رأى ربه دون سائر الخلق فلم يقل إن الأبصار

الصفحة 23
قد رأت ربها في الدنيا فكيف يكون يا ذوي الحجا من ينفي أن النبي (ص) محمداً قد رأى ربه دون سائر الخلق مثبتاً أن الأبصار قد رأت ربها، فتفهموا يا ذوي الحجا هذه النكتة تعلموا أن ابن عباس رضي الله عنهما وأباذر وأنس بن مالك ومن وافقهم لم يعظموا الفرية على الله، لا ولا خالفوا حرفاً من كتاب الله في هذه المسألة!

فأما ذكرها (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب) فلم يقل أبو ذر وابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك ولا واحد منهم ولا أحد ممن يثبت رؤية النبي (ص) خالقه عز وجلّ أن الله كلمه في ذلك الوقت الذي كان يرى ربه فيه، فيلزم أن يقال قد خالفت هذه الآية!

ومن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه لم يخالف قوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، وإنما يكون مخالفاً لهذه الآية من يقول رأى النبي (ص) فكلمه الله في ذلك الوقت.

ابن عمر مع جلالته وعلمه وورعه وفقهه وموضعه من الإسلام والعلم يلتمس علم هذه المسألة من ترجمان القرآن ابن عم النبي (ص) يرسل إليه يسأله هل رأى النبي (ص) ربه؟ عداً منه بمعرفة ابن عباس بهذه المسألة يقتبس هذا منه، فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي (ص) قد رأى ربه، وبيقين يعلم كل عالم أن هذا من الجنس الذي لا يدرك بالعقول والآراء والجنان والظنون، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى، ولا أظن أحداً من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال: رأى النبي (ص) ربه برأي وظن، لا ولا أبو ذر ولا أنس بن مالك.


الصفحة 24
نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما في هذه المسألة: ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس، نقول: عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة، كذلك ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم النبي (ص) قد دعا النبي (ص) له أن يرزق الحكمة والعلم وهذا المعنى من الدعاء، وهو المسمى ترجمان القرآن، وقد كان الفاروق رضي الله عنه يسأله عن بعض معاني القرآن فيقبل منه وإن خالفه غيره ممن هو أكبر سناًّ منه وأقدم صحبة للنبي (ص) وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله، لأنه قد أثبت شيئاً نفته عائشة رضي الله عنها، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة، وإن غلط بعض العلماء في معنى آية من كتاب الله أو خالف سنةً أو سنناً من سنن النبي(ص) لم تبلغ المرء تلك السنن، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئاً لم يبينه كتاب ولا سنة، فتفهموا هذا لا تغالطوا...) إلى آخر كلامه.

هذا جانب من كلام ابن خزيمة أستاذ أصحاب الصحاح وإمام الأئمة، وقد أتعب نفسه وعمل المستحيل بتعبير عصرنا لكي يثبت خطأ عائشة في نفي رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) لربه بعينه!

وقد بلغ من إصراره وتطويله الموضوع وشدته على عائشة أن محقق كتابه الشيخ محمد خليل هراس المدرس بكلية أصول الدين بالأزهر لم يتحمل منه ذلك، وكتب في رده تعليقات متينة نذكر منها ما يلي:

  إن عذر عائشة رضي الله عنها أنها كانت تستعظم ذلك وتستنكره ولهذا قالت لمسروق (لقد قف شعري مما قلت) وليس من حق المؤلف أن يعلم أمه الأدب فهي أدرى بما تقول منه!


الصفحة 25
  إن عائشة رضي الله عنها لم تعين في كلامها أحداً ولكن قالت من زعم بصيغة العموم.

  لم يثبت عن ابن عباس أنه قال رآه بعينه، ولكن قال بقلبه وبفؤاده.

  كيف وجمهور الصحابة معها في إنكار الرؤية بالعين كابن مسعود وغيره ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس، أما غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤثر عنهن أنهن خالفنها في ذلك، وليس فيهن من تضارعها في الفقه والعلم.

  ولكن لا بد للمثبت أن يورد دليل الإثبات ومثبتو الرؤية لم يقدموا أدلة على ذلك، والنفي هو الأصل حتى يقوم دليل الإثبات، وقد عضدت عائشة رضي الله عنها مذهبها في النفي ببعض الآيات التي ظنت أنها تشهد له.

  هذا إنما يكون صحيحاً إذا ذكر المثبت دليلاً على إثباته وإذ لا دليل فكلام النافي هو المقدم، والنفي لا يحتاج إلى دليل.

  عجباً لإمام الأئمة كيف خانه علمه فتوهم أن المنفي هو إدراك الأبصار له إذا اجتمعت، فإذا انفرد واحد منها أمكن أن يراه! فهل إذا قال قائل: لا آكل الرمان، يكون معنى هذا أنه لا يأكل الحبات منه ولكن يأكل الحبة! يرحم الله ابن خزيمة فلقد كباً، ولكل جواد كبوة. انتهى.

ونضيف إلى ما ذكره الشيخ محمد الهراس: أنا لم نجد حديثاً في مصادر إخواننا السنة عن الرؤية في الإسراء إلا سؤال أبي ذر وسؤال عائشة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد نفى فيهما الرؤية بالعين!

وأن الذين نسبوا إليه الرؤية لم يرووا عنه حديثاً واحداً بأنه رأى ربه بعينه بل قالوا ذلك من اجتهادهم!


الصفحة 26
فالتعارض في الحقيقة بين حديث أبي ذر وعائشة بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نفى الرؤية، وبين اجتهادات أخرى ليست بأحاديث!

أما الروايات عن ابن عباس فهي في مصادرهم متعارضة ومضطربة، فلابد لهم من القول بسقوطها والرجوع إلى الأصل الذي هو عدم ثبوت ذلك عنه إلا بدليل، وقد نقل ابن خزيمة نفسه قبل هجومه على عائشة أحاديث عن ابن عباس ينفي فيها الرؤية بالعين!

  قال في ص 200: (قال أبو بكر (يعني نفسه): وقد اختلف عن ابن عباس في تأويله قوله: ولقد رآه نزلة أخرى، فروى بعضهم عنه أنه رآه بفؤاده، حدثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، قال ثنا عبد الله بن داود الخريبي عن الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ولقد رآه نزلة أخرى، قال: رآه بفؤاده.

حدثنا عمي إسماعيل، قال ثنا عبد الرزاق قال أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: ما كذب الفؤاد ما رأى، قال رآه بقلبه). انتهى.

ومن العجيب أن ابن خزيمة تغاضى في أول كلامه عن حديث عائشةالصريح عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وأصر على اعتباره قولاً واجتهاداً من عندها!

ثم عاد واعترف بأنه حديث لكنه فرض أن قول ابن عباس حديث مقابل حديث عائشة، وحكم بأن رواية ابن عباس لا بد أن تكون متأخرة عن رواية عائشة!


الصفحة 27
فمن أين حكم أن قول ابن عباس رواية، ومن أين عرف أنها متأخرة، ثم لو سلمنا أنها متأخرة فإن رواية عائشة نفي مطلق ناظر إلى روايات الإثبات ومكذب لها، ورواية ابن عباس إثبات جزئي فكيف تقدم عليها؟!

ثم من أين جاء بهذه القاعدة المطلقة في الجمع بين الروايات المتعارضة تعارض نفي وإثبات وزعم أنها تقضي بتقديم روايات إثبات الشئ والحكم بأنها ناسخة لروايات نفيه!

وهل يلتزم ابن خزيمة بقاعدته هذه في الروايات التي تنفي أن النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى بالخلافة، وبين الروايات التي تثبت أنه أوصى بها لعلي (عليه السلام) فيقول إن روايات الإثبات مقدمة على روايات النفي؟!

وهل يلتزم بأن كلام ابن عباس يجب أن يقدم دائماً على كلام عائشة لأنه أعلم منها؟! فيقدم شهادة ابن عباس بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أوصى لعلي (عليه السلام) بالخلافة من بعده وأمر المسلمين ببيعته في غدير خم في حجة الوداع، على شهادة عائشة بأن النبي لم يوصِ لأحد ولا أوصى بشئ!

لا نظن ابن خزيمة يلتزم بشئ من ذلك، ولكنه يحب إثبات رؤية الله تعالى بالعين لأنه تربى عليها وأشربها قلبه، فهو مستعد لأن يرتكب من أجلها المصادرات والتحكمات، ويقع في التناقضات الصارخة!!

  وقد أنصف الشيخ محمد عبده في تفسير المنار: 9/148 عندما قال:

(فعلم مما تقدم أن ما روي عن ابن عباس من الإثبات هو الذي يصح فيه ما قيل خطئاً في نفي عائشة إنه استنباط منه، لم يكن عنده حديث مرفوع فيه، وإنه على ما صح عنه من تقييده الرؤية القلبية معارض مرجوح بما صح من تفسير النبي (ص) لآيتي سورة النجم وهو أنهما في رؤيته (ص) لجبريل

الصفحة 28
بصورته التي خلقه الله عليها. على أن رواية عكرمة عنه لا يبعد أن تكون مما سمعه من كعب الأحبار الذي قال فيه معاوية (الراوي) إن كنا لنبلو عليه الكذب كما في صحيح البخاري. ورواية ابن إسحاق لا يعتد بها في هذا المقام فإنه مدلس وهو ثقة في المغازي لا في الحديث. فالإثبات المطلق عنه مرجوح روايةً كما هو مرجوح درايةً). انتهى.

بل حتى لو كان كلام عائشة اجتهاداً منها فهو اجتهاد مع دليله، كما قال الشيخ محمد عبده في تفسير المنار 9/139: (فعائشة وهي من أفصح قريش تستدل بنفي الإدراك على نفي الرؤية مع ما علم من الفرق بينهما، وتستدل على نفيها أيضاً بقوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، وقد حملوا هذا وذاك على نفي الرؤية في هذه الحياة الدنيا، ولكن إدراك الأبصار للرب سبحانه محال في الآخرة كالدنيا). انتهى.


*  *  *


الصفحة 29


الفصل الثاني
مذاهب المسلمين في آيات الصفات وأحاديثها





الصفحة 30

الصفحة 31

مذاهب المسلمين في آيات الصفات وأحاديثها

عندما قبل إخواننا السنة أحاديث الرؤية وأمثالها تورطوا فيها، وانقسموا في تفسيرها من القرن الأول إلى أربعة مذاهب وأكثر، وقد وُلِدَتْ هذه المذاهب العقائدية قبل أن تولد مذاهبهم الفقهية بمدة طويلة، وبقيت حاكمة على أئمة المذاهب الفقهية وأتباعهم إلى يومنا هذا!

المذهب الأول:

مذهب التأويل الذي يوافق مذهب أهل البيت تقريباً، ويجعل الأساس في تنزيه الله تعالى الآيات المحكمة في التوحيد مثل قوله تعالى: ليس كمثله شئ، لا تدركه الأبصار. ويقول بتأويل كل نص يظهر منه التشبيه أو الرؤية بالعين، لينسجم مع حكم العقل وبقية الآيات والأحاديث.

والظاهر أن المتأولين هم أكثرية علماء إخواننا السنة من مجموع القدماء والمتأخرين، ومنهم عامة الفلاسفة والمعتزلة.

المذهب الثاني:

مذهب التفويض وتحريم التأويل، ومعناه الإمتناع عن تفسير آيات الصفات وأحاديثها بل تفويض معناها إلى الله تعالى، وتحريم الكلام في معانيها مطلقاً، وهو مذهب كثير من قدامى الرواة والمحدثين، وقليل من المتأخرين.


الصفحة 32

المذهب الثالث:

مذهب تفسيرها بالمعنى اللغوي الظاهر، أي بالمعنى الحسي، والقول بأن الله تعالى له يد ووجه ورجل وجنب بالمعنى اللغوي الحسي، وهو مذهب اليهود والنصارى، وهو المذهب الذي تبنى نشره في المسلمين كعب الأحبار ووهب بن منبه ومن وافقهم من الصحابة، ثم صار المذهب الرسمي الذي تعصب له الأمويون، ثم صار مذهب من الحنابلة وقليل من الأشاعرة، ثم حاول إحياءه ابن تيمية والوهابيون، وألصقوه بالسلف وأهل السنة.

المذهب الرابع:

مذهب المتنقلين بين المذاهب، والمذبذبين، والمتحيرين.. وهم أنواع ثلاثة، وقد ذكرنا نماذج منهم في المجلدالأول من العقائد الإسلامية.

والظاهر أن لقب (المتَاولة) الذي يطلقونه على الشيعة في بلاد الشام وفلسطين ومصر، جاء من هؤلاء المجسمة الذين كانوا يكفرون الشيعة وغيرهم من المسلمين المتأولين.

ومع أن أكثرية إخواننا السنة متأولة، إلا أن نَبْزَ لقب (المتَاولة) وَسُبَّتَهُ كان من نصيب الشيعة المظلومين، وبقيت كلمة (مِتْوَالي) بكسر الميم، أسوأ في ذهن خصوم الشيعة من كلمة كافر!

وفيما يلي نعرض لهذه المذاهب بشيء من التفصيل:

المذهب الأول: مذهب المتأولين

احتج المتأولون وهم أكثرية العلماء بأن من الطبيعي في كل لغة أن نفسر ألفاظها بمعانيها المناسبة، فنحمل اللفظ على معناه الحقيقي إلا إذا منع منه مانع لفظي أو عقلي فنحمله على معناه المجازي، حسب أصول التخاطب التي يعرفها أهل الخبرة بتلك اللغة.


الصفحة 33
وقد امتازت اللغة العربية على غيرها من اللغات بفصاحتها وبلاغتها لأنها استعملت أساليب متنوعة في التعبير منها: المجاز، والكناية، والإستعارة، والتشبيه... إلخ.

وعلى هذا الأساس تعامل الصحابة ومن عاصرهم مع ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف، وفهموا النصوص التي يخالف ظاهرها تنزيه الله تعالى بأنها تعابير مجازية من تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريب صفاته تعالى وأفعاله إلى أذهان البشر، وحكموا بأن ظاهرها الحسي غير مراد، فيجب تأويلها بالمعاني المجازية، فعندما يقول سبحانه: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم، فلا يقصد باليد عضو اليد ولا شيئاً لله تعالى شبيهاً به، بل يقصد أن الله تعالى هو طرف المبايعة وقدرته وهيمنته وجلاله أعلى من المبايعين.

وهذا أمر طبيعي في اللغة حتى في حياتنا اليومية، فعندما يقول لك شخص: قرت عينك بعودة مسافرك، فإنك تشكره لأنك تفهم أن (قرت عينك) تعبير مجازي ودعاء لك بالطمأنينة والهدوء المعنوي لا المادي، ولا تقول له إنك دعوت علي بالموت وأن تقر عيني حسياً عن الحركة!

القاضي عياض ينقل إجماع المسلمين على التأويل

  قال النووي في شرح مسلم مجلد 3 جزء 5 ص 24:

(قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء ليست على ظاهرها، بل متأولة عند جميعهم).

  وقال في شرح مسلم مجلد 5 جزء 9 ص 117:


الصفحة 34
(قال القاضي عياض قال المارزي: معنى يدنو: أي تدنو رحمته وكرامته لا دنو مسافة ومماسة).

  وقال في جامع الأحاديث القدسية من الصحاح: 1/74:

(قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان وإن مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف أنها تتأول على ما يليق بحسب مواطنها، فتأول مالك بن أنس معناه: تتنزل رحمته وأمره أو ملائكته).

  وقال في: 1/160:

(إن أول ما يجب على المؤمن أن يعتقد تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، واعتقاد غير ذلك مخل بالإيمان، واتفق العلماء من أئمة المسلمين قاطبة على أن ما ورد من الكتاب والسنة في ظاهره يوهم تشبيه الله تعالى ببعض خلقه يجب الإيمان بأن ظاهره غير مراد، ولا يصح وصف الله تعالى بما يفيده هذا الظاهر من عمومه).

  وقال في: 1/167:

(قال المازني في شرح الأحاديث: هذا ما يجب تأويله لأنها تتضمن إثبات الشمال فتقتضي التحديد والتجسيم).

  وقال الذهبي في سيره: 8/243:

(وقال الطوفي: إتفق العلماء ومن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي). انتهى.

وسيأتي قول الوهابيين أن التأويل ضلال وإلحاد، فلا بد أنهم يحكمون بضلال كل هؤلاء الذين تأولوا، ومنهم أيضاً إمام الوهابيين في التجسيم ابن خزيمة الذي يوصي المفتي ابن باز بقراءة كتبه.


الصفحة 35

ابن خزيمة يؤول حديث: خلق الله آدم على صورته

روى إخواننا السنة أن النبي (صلى الله عليه وآله) سمع شخصاً يقول لآخر قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال له: لا تقبح وجهه فإن الله خلق آدم على صورته.

وقد تمسك بعض الصحابة بهذا القول وادعى أنه موافق لما عند اليهود من أن الله تعالى خلق آدم على صورته، وأن الله تعالى على صورة البشر! وروينا نحن عن أئمتنا (عليهم السلام) أن مقصود النبي (صلى الله عليه وآله) أن صورة أخيك هي الصورة التي اختارها الله تعالى لأبيك آدم (عليه السلام)، فلا تقبحها. فالضمير في (صورته) يرجع إلى المسبوب، لا إلى الله تعالى.

وقد وافقنا عدد من علماء السنة في تفسير الحديث، ومن أشهرهم ابن خزيمة صاحب الهجوم على عائشة الذي يسميه إخواننا إمام الأئمة، والذي يقول برؤية الله تعالى بالعين ويتعصب لها!

  قال في كتابه التوحيد طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ص 37:

(قال أبو بكر (يعني بذلك نفسه): توهم بعض من لم يتحر العلم أن قوله: على صورته يريد صورة الرحمن، عز ربنا وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله: خلق آدم على صورته، الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبح وجهه فزجره صلى الله عليه وسلم أن يقول: ووجه من أشبه وجهك، لأن وجه آدم شبيه وجه بنيه، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك كان مقبحاً وجه آدم صلوات الله وسلامه عليه الذي وجوه

الصفحة 36
بنيه شبيهة بوجه أبيهم، فتفهموا رحمكم الله معنى الخبر، لا تغلطوا ولا تغالطوا فتضلوا عن سواء السبيل، وتحملوا على القول بالتشبيه الذي هو ضلال.

وقد رويت في نحو هذا لفظة أغمض معنى من اللفظة التي ذكرناها في خبر أبي هريرة، وهو ما حدثنا يوسف بن موسى، قال ثنا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن، وروى الثوري هذا الخبر مرسلاً غير مسند، حدثناه أبو موسى محمد بن المثنى، قال ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقبح الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن، قال أبو بكر: وقد افتتن بهذه اللفظة التي في خبر عطاء عالم ممن لم يتحر العلم، وتوهموا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر من إضافة صفات الذات، فغلطوا في هذا غلطاً بيناً وقالوا مقالة شنيعة مضاهية لقول المشبهة، أعاذنا الله وكل المسلمين من قولهم!

والذي عندي في تأويل هذا الخبر إن صح من جهة النقل موصولاً فإن في الخبر عللاً ثلاثاً، إحداهن:

أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر. والثانية أن الأعمش مدلس لم يذكر أنه سمعه من حبيب بن أبي ثابت. والثالثة أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء.

فإن صح هذا الخبر مسنداً بأن يكون الأعمش قد سمعه من حبيب بن أبي ثابت، وحبيب قد سمعه من عطاء بن أبي رباح، وصح أنه عن ابن عمر على ما رواه الأعمش، فمعنى هذا الخبر عندنا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا

الصفحة 37
الخبر إنما هو من إضافة الخلق إليه، لأن الخلق يضاف إلى الرحمن إذ الله خلقه، وكذلك الصورة تضاف إلى الرحمن لأن الله صورها، ألم تسمع قوله عز وجل: هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه، فأضاف الله الخلق إلى نفسه إذ الله تولى خلقه إلى آخر كلامه، وكذاك قوله عز وجل: هذه ناقة الله لكم آية، فأضاف الله الناقة إلى نفسه وقال: تأكل في أرض الله، وقال: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، وقال: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فأضاف الله الأرض إلى نفسه، إذ الله تولى خلقها فبسطها، وقال: فطرة الله التي فطر الناس عليها، فأضاف الله الفطرة إلى نفسه إذ الله فطر الناس عليها، فما أضاف الله إلى نفسه على مضافين (كذا) إحداهما إضافة الذات والأخرى إضافة الخلق، فتفهموا هذين المعنيين لا تغالطوا، فمعنى الخبر إن صح من طريق النقل مسنداً: فإن ابن آدم خلق على الصورة التي خلقها الرحمن حين صور آدم ثم نفخ فيه الروح، قال الله جل وعلا: ولقد خلقناكم ثم صورناكم.

والدليل على صحة هذا التأويل أن أبا موسى محمد بن المثنى قال: ثنا أبو عامر عبدالملك ابن عمرقال: ثناالمغيرة وهو ابن عبدالرحمن، عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعاً... إلخ). انتهى.

ونحن نقبل منه تأويله لهذا الحديث لأنه موافق للمنطق وموافق لمذهبنا، ولكن الوهابيين تبنوا الحديث الذي فيه (على صورة الرحمن) ونسبوا إلى الخليفة عمر بأنه قبل مقولة اليهود بأن الله تعالى خلق آدم على صورة الله سبحانه وتعالى!


الصفحة 38
وبذلك اختاروا أن يكون (إلههم) على صورة البشر!

من تأويلات النووي

  قال في شرح مسلم بهامش الساري: 2/116:

(قوله: فلا يزال يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تعالى منه، قال العلماء: ضحك الله تعالى هو رضاه بفعل عبده ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه).

  وقال بهامش الساري: 10/249:

(وأما إطلاق اليدين الله تعالى فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه).

  وقال في شرح مسلم مجلد 2 جزء 3 ص 12:

(عن أبي ذر قال سألت رسول الله (ص) هل رأيت ربك؟ قال: نور، أنى أراه! ومعناه حجابه نور فكيف أراه، ونقل عن القاضي عياض قوله: من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً، إذ النور من جملة الأجسام، والله سبحانه وتعالى يجل عن ذلك).

  وقال في شرح مسلم مجلد 4 جزء 7 ص 6:

(قوله (ص): ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، هذا الحديث فيه مذهبان: أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق. والثاني: أنه على الإستعارة).

  وقال في شرح مسلم مجلد 4 جزء 7 ص 98:

(قوله (ص): إلا أخذها الرحمن بيمينه قال المازري: إن هذا الحديث وشبهه مما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم، فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها في الكف، ويتقدس الله سبحانه عن التجسيم).


الصفحة 39

  وقال في شرح مسلم مجلد 6 جزء 12 ص 212:

(قال القاضي عياض: المراد بكونهم عن اليمين وكلتا يديه يمين، الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة. وقال ابن عرفة: يقال أتاه عن يمينه إذا جاءه من الجهة المحمودة).

  وقال في: 8/16:

(إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يميناً.. إلخ. قال ابن عرفة: وكلتا يديه يمين فتنبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة).

  وقال في: 8/44:

(قوله (ص) أغيظ رجل على الله، قال الماوردي: أغيظ مصروف عن ظاهره لأن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالغيظ، فيتأول هنا الغيظ على الغضب).

  وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 132:

(في شرح حديث ابن عمر الآتي الذي ينص على التجسيد:

قال القاضي: ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به. وقبض النبي (ص) أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمقبوض والمبسوط وهو السماوات والأرضون، لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى. إطلاق اليدين الله تعالى متأول على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا باليدين فخوطبنا بما نفهمه، هذا مختصر كلام المازري).

  وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 60:

(قوله (ص): الله أشد فرحاً بتوبة عبده، قال العلماء: فرح الله تعالى هو رضاه، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيداً لمعنى الرضا في نفس السامع).

وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 182:


الصفحة 40
(قوله (ص): فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات والعلماء فيها على مذهبين: أحدهما: وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها ولها معنى يليق بها، وظاهرها غير مراد، قال القاضي: أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها، ولا بد من صرفها عن ظاهرها لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى).

  وقال في شرح مسلم بهامش الساري: 10/44:

(قوله (ص): فإن الله خلق آدم على صورته وهو من أحاديث الصفات، وإن من العلماء من يمسك عن تأويلها ويقول نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد، ولها معنى يليق بها، وهذا مذهب جمهور السلف، وهو أحوط وأسلم. والثاني: أنها تتأول على حسب ما يليق بتنزيه الله تعالى).

  وقال في رياض الصالحين ص 200:

(يقرب المؤمن يوم القيامة من ربه دنو كرامة وإحسان لا دنو مسافة، إنه سبحانه منزه عن المسافة).

وأسقط الوهابيون النووي عن الإمامة

  لجنة الإفتاء الوهابية: 3/163:

السؤال الثاني عشر من الفتوى رقم 4264:

س: بالنسبة للإمام النووي بعض الإخوة يقول إنه أشعري في الأسماء والصفات، فهل يصح هذا وما الدليل، وهل يصح التكلم في حق العلماء بهذه الصورة؟ ومنهم من قال: إن له كتاب يسمى بستان العارفين وهو صوفي فيه، فهل يصح هذا الكلام؟


الصفحة 41
ج: له أغلاط في الصفات سلك فيها مسلك المؤولين وأخطاء في ذلك فلا يقتدى به في ذلك، بل الواجب التمسك بقول أهل السنة وهو إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة، والإيمان بذلك على الوجه اللائق بالله جل وعلا من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، عملا بقوله سبحانه: ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، وما جاء في معناها من الآيات.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (بأسماء أعضائها).

من تأويلات القسطلاني

  قال في إرشاد الساري: 4/235:

(الغضب من المخلوقين شئ يداخل قلوبهم، ولا يليق أن يوصف الباري تعالى بذلك، فيؤول ذلك على ما يليق به تعالى، فيحمل على آثاره ولوازمه).

  وقال في إرشاد الساري: 5/319:

(عن أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: خلق الله عز وجل آدم (ع) على صورته، أي أن الله أوجزه على الهيئة التي خلقه الله عليها، وعورض هذا التفسير بقوله في حديث آخر: خلق آدم على صورة الرحمن!).

  وقال في: 7/36: (قوله (ص):

إن الله يضحك لرجلين، قال القاضي: الضحك هنا استعارة في حق الله تعالى، لأنه إنما يصح من الأجسام، والله تعالى منزه عن ذلك، وإنما المراد به الرضا).