وروى أبو داود في سننه ص 418:
(إن عرشه على سمواته لهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب، قال ابن بشار في حديثه: إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته، وساق الحديث.
وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة، وجبير بن محمد بن جبير، عن أبيه، عن جده، والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح، وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني. وقال في هامشه: أط الرحل: صوت أي أصدر صوتاً هو كصوت الطقطقة).
وقال ابن الأثير في النهاية: 1/54:
(الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، أي أنه ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله).
وفيما ذكرناه من حديث طقطقة العرش كفاية، وقد روتها مصادر كثيرة مثل: فردوس الأخبار للديلمي: 1/220، ومجمع الزوائد: 10/398، وكنز العمال: 1/224 و: 2/73 و: 10/ 363 و367 و: 14/469.
ومن الواضح لمن له أدنى اطلاع أن مقولات التجسيم وأحاديثه ظهرت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وأن أصلها من يهود المدينة وكعب الأحبار، ثم ظهرت من بعض الصحابة بصورة أحاديث نبوية، ثم تعصب لها بعض إخواننا حتى جعلوها مذهباً.
وقد اختصت بروايتها وتصحيحها مصادر إخواننا السنة، ولم ترو مصادرنا منها شيئا، بل روت رد أهل البيت (عليهم السلام) لها واستنكارهم إياها!
وقد اقترب الشيخ محمد زاهد الكوثري وهو باحث من علماء الأزهر من الحقيقة عند ما اعترف بأن جذور التشبيه والتجسيم إنما هي من رواة إخواننا السنة، ولكنه حمل مسؤليتها لمجسمي التابعين ومن بعدهم، ولم يجرأ على نسبة رواياتها إلى الصحابة.. قال في مقدمته لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي:
(للمحدثين ورواة الأخبار منزلة عليا عند جمهرة أهل العلم، لكن بينهم من تعدى طوره وألف فيما لا يحسنه، فأصبح مجلبة العار لطائفته بالغ الضرر لمن يسايره ويتقلد رأيه!
ومن هؤلاء غالب من ألف منهم في صفات الله سبحانه، فدونك مرويات حماد بن سلمة في الصفات تجدها تحتوي على كثير من الأخبار التالفة يتناقلها الرواة طبقة عن طبقة، مع أنه قد تزوج نحو مائة امرأة من غير أن يولد له ولد منهن، وقد فعل هذا التزواج والتنكاح في الرجل فعله بحيث أصبح في غير حديث ثابت البناني لا يميز بين مروياته الأصلية وبين ما دسه في كتبه أمثال ربيبه ابن أبي العوجاء وربيبه الآخر زيد المدعو بابن حماد، بعد أن كان جليل القدر بين الرواة قوياً في اللغة، فضل بمروياته الباطلة كثير من بسطاء الرواة.
ويجد المطالع الكريم نماذج شتى من أخباره الواهية في باب التوحيد من كتب الموضوعات المبسوطة، وفي كتب الرجال، وإن حاول أناس الدفاع عنه بدون جدوى، وشرع الله أحق بالدفاع من الدفاع عن شخص، ولا سيما عند تراكب التهم القاطعة لكل عذر.
وفعلت مرويات نعيم بن حماد أيضاً مثل ذلك بل تحمسه البالغ أدى به إلى التجسيم كما وقع مثل ذلك لشيخ شيخه مقاتل بن سليمان.
تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل في آن واحد ولا سيما النقض لعثمان بن سعيدالدارمي السجزي المجسم فإنه أول من اجترأ من المجسمة بالقول إن الله لو شاء لاستقر على ظهربعوضة فاستقلت به بقدرته، فكيف على عرش عظيم!!
وتابعه الشيخ الحراني (ابن تيمية) في ذلك كما تجد نص كلامه في غوث العباد المطبوع سنة 1351 بمطبعة الحلبي. وكم لهذا السجزي من طامات مثل إثبات الحركة له تعالى وغير ذلك!
وكم من كتب من هذا القبيل فيها من الأخبار الباطلة والآراء السافلة ما الله به عليم، فاتسع الخرق بذلك على الراقع وعظم الخطب إلى أن قام علماء أمناء برأب الصدع نظراً ورواية وكان من هؤلاء العلماء الخطابي، وأبو الحسن الطبري، وابن فورك، والحليمي، وأبو إسحاق الاسفرايني، والأستاذ عبد القاهر البغدادي، وغيرهم من السادة القادة الذين لا يحصون عدداً). انتهى.
وهكذا يعترف المنصفون من علماء إخواننا السنة بأن ما في صحاحهم من أحاديث الرؤية والتشبيه والتجسيم ترجع كلها أو جلها إلى حماد بن سلمة
ولكنهم لا يجرأون على الصعود إلى الصحابة الذين تبنوا كعباً وأفكار كعب ونشروها بين المسلمين بل وألبسوها ثوباً إسلامياً!!
متى تحولت عقيدة كعب في تجسيم الله تعالى إلى مذهب
قال الشهرستاني في الملل والنحل: 1/ 93 طبع الحلبي القاهرة 1968:
(إعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية: من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية. ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون، سمي السلف صفاتية، والمعتزلة معطلة، فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات، واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر، فاقترفوا فيه فرقتين، فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك، ومنهم من توقف في التأويل وقال عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شئ، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شئ منها وقطعنا بذلك، إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى، ومثل قوله: خلقت بيدي، ومثل قوله: وجاء ربك، إلى غير ذلك، ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها
ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا: لا بد من إجرائها على ظاهرها، والقول بتفسيرها كما وردت، من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر، فوقعوا في التشبيه الصرف، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف، ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم، بل في القرائين منهم إذ وجدوا في التوراة ألفاظا تدل على ذلك). انتهى.
هذا النص من الشهرستاني (469 - 548) يدل على أن المجسمة أخذوا شكل مذهب ولكنه كان محدوداً وطارئاً على علماء إخواننا السنة، وأنهم ظهروا متأخراً وتجاوزوا ما رسمه القدماء من تحريم تفسير آيات الصفات وأحاديثها، ففسروها بظاهر اللغة ووقعوا في التجسيم!
ولذلك شبههم بالقرائين اليهود الذين كان التشبيه فيهم خالصاً على حد قوله، وهو يشير بذلك أن التجسيم في هؤلاء المسلمين كان مخلوطاً غير خالص، وذلك لخوفهم من المسلمين!
وشهادة الشهرستاني هذه تتوافق مع شهادة ابن خلدون التالية وغيره ممن أرخ لنشوء هذا المذهب، أو هذا الدين الذي آمن بمادية الله تعالى!!
قال ابن خلدون في مقدمته ص 462:
(وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها، ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها، ثم وردت في القرآن آيٌ أخرى قليلة توهم التشبيه،
وجمع فريق بين الدليلين بتأويلهم، ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم: جسم لا كالأجسام، وليس ذلك بدافع عنهم، لأنه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كان بالمعقولية الواحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم إسماً من أسمائه، ويتوقف مثله على الإذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك، وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات، جهة لا كالجهات، نزول لا كالنزول، يعنون من الأجسام، واندفع ذلك بما اندفع به الأول ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي، لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها، مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن). انتهى.
الفصل الثالث
الحنابلة والتجسيم
الجمود على الألفاظ أرضية التجسيم
تدل مصادر الكلام والسير على أن أنصار مذهب التجسيم أكثر ما كانوا من أتباع الدولة، ومن الحشوية الذين يتشبثون بكل ما يروى بدون فهم، وسيأتي كلام ابن الجوزي أنه (عمَّ جَهَلَةَ الناقلين وعموم المحدثين) وكثر هؤلاء في الحنابلة من بين المذاهب.
وقد حاول بعضهم أن يبرئ الحنابلة من التجسيم، ولكنه أمر ثابت عن كثير منهم، بل هو معروف عنهم حتى أن الزمخشري نقل هذه الأبيات في الكشاف: 2 /573 طبع مصر عام 1307:
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به | أكتمه، كتمانه لي أَسْلَمُ |
فإن حنفياً قلت قالوا بأنني | أبيح الطلا وهو الشراب المحرم |
وإن حنبلياً قلت قالوا بأنني | ثقيل حُلُوليٌّ بغيضٌ مجسِّمُ |
وقال الفخر الرازي في المطالب العالية مجلد 2 جزء 2 ص 25:
(الفصل الثالث في إقامة الدلائل على أنه تعالى يمتنع أن يكون جسماً.
لأهل العلم في هذا الباب قولان: فالجمهور الأعظم منهم اتفقوا على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الجسمية والحصول في الحيِّز، وقال الباقون إنه متحيز وحاصل في الحيز، وهؤلاء هم المجسمة.
والموضع الثاني من مواضع الإختلافات: أن المجسمة اختلفوا في أنه هل يصح عليه الذهاب والمجيء والحركة والسكون، فأباه بعض الكرامية وأثبته قوم منهم، وجمهور الحنابلة يثبتونه).
وقال في المطالب العالية مجلد1 جزء 1 ص 26:
(إن المجسمة اختلفوا في أنه هل يصح عليه الذهاب والمجيء، القائلون بأنه نور ينكرون الأعضاء والجوارح مثل الرأس واليد والرجل، وأكثر الحنابلة يثبتون هذه الأعضاء والجوارح).
وقال الخطابي في معالم السنن: 4/302:
(مذهب العلماء والأئمة الفقهاء أن يجروا مثل هذه الأحاديث (أحاديث الصفات) على ظاهرها وأن لا يريغوا لها المعاني ولا يتأولوها لعلمهم بقصور علمهم عن دركها، وقد زل بعض شيوخ أهل الحديث حين روى حديث النزول ثم أقبل يسأل نفسه عليه فقال: إن قال قائل ينزل ربنا إلى السماء؟ قيل له ينزل كيف شاء، فإن قال هل يتحرك؟ فقال: إن شاء، وإن شاء لم يتحرك). انتهى.
وقد تبنى الخطابي بكلامه المذكور مذهب التفويض، وإن عبر بإجراء الصفات على ظاهرها، أي بإبقائها على ظاهرها بدون تفسير، وإنما أوردنا كلامه هنا لنبين أن هذا التعبير الذي جاء على لسان بعض المفوضة، كان البذرة لولادة المذهب الثالث، والقشة التي تمسك بها أصحابه فادعوا أن تعابير القدماء بإبقاء الآيات والأحاديث على ظاهرها، والتوقف على ظاهرها،
ويظهر من آخر نص الذهبي التالي، أن الغزالي قاد موجة ضد التجسيم والمجسمين، قال في سيره: 17/558: (قلت: فهذا المنهج هو طريقة السلف، وهو الذي أوضحه أبو الحسن وأصحابه، وهو التسليم لنصوص الكتاب والسنة، وبه قال ابن الباقلاني، وابن فورك، والكبار إلى زمن أبي المعالي، ثم زمن الشيخ أبي حامد، فوقع اختلاف وألوان، نسأل الله العفو). انتهى.
وهو يدل على أن اتجاه التجسيم إنما قوي في عصر السلاجقة على يد أبي المعالي الجويني النيشابوري المعروف بإمام الحرمين المتوفى سنة 478 هـ الذي طرده أهل نيشابور منها، ثم تبناه السلاجقة وعينوه شيخا في المدرسة النظامية ببغداد، فتبنى في آخر عمره هذا المذهب بعد أن كان متأولاً.
ثم جاء الغزالي بعده فخالفه وأحدث موجة لمصلحة المتأولين، وإن كان الملاحظ أن الغزالي حاول إرضاء المجسمة في عدد من تفسيراته.
ويحسن مراجعة كتاب (العقائد الإسلامية) المجلد الثاني فقد عقدنا فيه فصلاً عن مكانة المشبهين والمجسمين في مصادر السنيين.
الفصل الرابع
ابن تيمية مجدد تجسيم الحنابلة
ابن تيمية مجدد تجسيم الحنابلة
قال ابن بطوطة في رحلته ص 90:
(وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة قي الدين بن تيمية كبير الشام، يتكلم في الفنون، إلا أن في عقله شيئاً، وكنت إذ ذاك دمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من ملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا! ونزل ربعة من ربع المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته!).
وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 170:
(قال ابن تيمية في كتابه الموافقة 1118 بهامش منهاج سنته (فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد).
وقال ابن تيمية في تفسيره: 6/386:
(ولهذا صار للناس فيما ذكر الله في القرآن من الاستواء والمجيء ونحو ذلك ستة أقوال: طائفة يقولون: تجري على ظاهرها، ويجعلون إتيانه من جنس إتيان المخلوق ونزوله من جنس نزولهم، وهؤلاء المشبهة الممثلة، ومن هؤلاء من يقول: إذا نزل خلا منه العرش فلم يبق فوق العرش.
وطائفتان واقفتان، منهم من يقول ما ندري ما أراد الله بهذا، ومنهم من لا يزيد على تلاوة القرآن.
وعامة المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف يبطلون تأويل من تأول ذلك بما ينفي أن يكون هو المستوي الآتي. لكن كثيراً منهم يرد التأويل الباطل ويقول: هو مما يكتم تفسيره!) انتهى.
وقال ابن تيمية في تفسيره: 6/118:
(والمقصود هنا أن علوه من صفات المدح اللازمة له فلا يجوز اتصافه بضد العلو البتة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (أنت الأول فليس قبلك شئ، أنت الآخر
وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير هذا الموضع، وما في الكتاب والسنة من قوله: أأمنتم من في السماء، ونحو ذلك، قد يفهم منه بعضهم أن السماء هي نفس المخلوق العالي، العرش فما دونه، فيقولون: قوله في السماء بمعنى على السماء كما قال: ولأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل وكما قال: فسيروا في الأرض، أي على الأرض، ولا حاجة إلى هذا، بل السماء اسم جنس للعالي لا يخص شيئاً، فقوله: في السماء أي في العلو دون السفل، وهو العلي الأعلى فله أعلى العلو وهو ما فوق العرش، وليس هناك غير العلي الأعلى سبحانه وتعالى). انتهى.
وقال في الرسالة التدمرية ص 39:
(إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شئ عليم وعلى كل شئ قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك، والنفي كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم، وينبغي العلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، و العدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحا أو كمالا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح...
وكذلك قوله: لا تدركه الأبصار، إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية لأن المعدوم لا يرى، وليس في
وقال في الرسالة التدمرية ص 47:
(إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد؟ فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهره، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً!
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل). انتهى.
وقال في الرسالة التدمرية ص 72:
(فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ متأول، بمعنى أنه مصروف عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالخلق. فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لا بد وأن يكون له تأويل يخالف ظاهره لكن إذا قال هؤلاء: إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو أنها تجري على المعاني الظاهرة منها كانوا متناقضين، وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهناك معنى في سياق واحد من غير بيان كان تلبيساً،
وبهذا التقسيم: يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب).
وقال في الرسالة التدمرية ص 55:
(ثم قد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضاً فوق الأرض وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسموات فوق الأرض وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شئ ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه أو عرشه، أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الإفتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات، وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأولى، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن، فهذه الجملة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك). انتهى.
قال في الرسالة التدمرية ص 75:
(فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل: كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم يقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قديسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لا ينفيه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند، ونحو ذلك
وقال في الرسالة التدمرية ص 90:
(والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل، إذ ذاك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد، وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء و الحزن هو مستلزم الضعف والعجز، الذي ينزه عنه سبحانه، بخلاف الفرح والغضب: فإنه من صفات الكمال!).
وقال في الرسالة التدمرية ص 95:
(والمقصود هنا أن منها (صفات الله تعالى) ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي، كما أرشد إلى ذلك قوله: ألا يعلم من خلق، وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل (عند المحققين) أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل، عند المحققين منهم، بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل، وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل، كما أثبته بذلك الأئمة مثل أحمد بن حنبل وغيره ومثل عبد العالي المكي، وعبد الله بن سعيد بن كلاب، بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك، وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين، بتقسيم دائر بين النفي والإثبات كما
مقومات مذهب ابن تيمية
هذه جملة نصوص لابن تيمية من تنظيراته لمذهبه، وسيأتي عدد آخر منها، ويكفي لكشف التجسيم فيها أن نسجل هنا النقاط التالية:
أولاً: يرفض ابن تيمية تفويض تفسير الصفات إلى الله تعالى لأنه (من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) وكأن الإمتناع عن تفسير (وجه الله ويد الله) يعني في ذهنه إنكار وجود الله عز وجل!!
ثانياً: يوجب ابن تيمية حمل صفات الله تعالى الواردة في القرآن والسنة على ظاهرها الحقيقي في اللغة أي المعنى المادي الحسي، ويرفض حملها على المجاز، لأنه لا مجاز في القرآن والحديث!
ثالثاً: الله تعالى في مذهبه، موجود فوق العالم ليس فوقه شئ إلا الهواء كما سيأتي منه، ولكن تحته شئ هو هذا العالم (ولم يقل تحتك) وهو موجود على عرشه وربما ينزل إلى العالم، وهو يرى بالعين لأن الرؤية لا تتوقف (إلا على أمور وجودية فيكون الموجود الواجب القديم أحق بها من الممكن المحدث). وقد ذكر دليلاً على استغناء الله تعالى عن العالم يضحك حتى عوام الناس، وهو أن وجود كل عالٍ مستغنٍ عن وجود ما هو أسفل منه!!
فأغصان الشجرة عنده مستغنية عن جذعها، والطابق الأعلى مستغن عن الأسفل!!
خامساًً: دافع ابن تيمية عن مذهبه بأنه ليس تشبيهاً لله تعالى بخلقه، لأنه قال له وجه حسي ولم يقل كوجه الإنسان أو غيره، وقال له يد حسية ولم يقل كيد الإنسان أو غيره وذلك كاف عنده للخروج عن تهمة التشبيه!
ثم خرج عن التشبيه احتياطاً بأمر آخر فقال نحمل النصوص على ظاهرها الحسي ونقول (الظاهر اللائق بالله تعالى) وليس على ظاهرها غير اللائق!
سادساً: ثم تقدم ابن تيمية خطوة جريئة في إثبات التشبيه فقال (هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لا ينفيه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية) لا أكثر!
ويقصد بذلك أن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة إنما نفت عن الله تعالى الند والشريك والمثل والكفء، ولم تنف عنه الشبيه الذي نفاه من فسر قوله تعالى (ليس كمثله شئ) وهم أكثر المسلمين من الشيعة والسنة والفلاسفة والمعتزلة، فلا مانع أن ننفي عنه تعالى المثل الذي نفته النصوص، ولا ننفي عنه تشبيهه بخلقه!! فما المانع أن يكون شبيها بخلقه ما دام هو لم ينف ذلك؟!!
وهكذا يجاهر ابن تيمية بأن قوله تعالى (ليس كمثله شئ) يعني نفي المثلية فقط! ولا يعني نفي الشبيه، فإن لله شبيها عنده هو آدم... وشبيهاً آخر هو.. ابن تيمية!!
وهكذا يقرر ابن تيمية أن تشبيه الله تعالى بخلقه لا مانع منه، والتفسير بالتجسيم يجب أن يكتم!!
وأن معبوده موجود في منطقة فوق السماء التي نراها، وأنه وجود مادي جالس على العرش، وأنه متناه من جهة تحت، أما من جهة فوق فليس فوقه شئ إلا الهواء! وأنه يتحرك وينزل بذاته إلى الأرض!
ولا يقول إنه يصعد كما قال أستاذه ابن خزيمة.. إلى آخر مقولاته الغريبة تعالى الله وتقدس عنها! وستأتي بقية جوانب مذهبه في الرد على أتباعه الوهابيين، إن شاء الله.