الصفحة 106
هذا عن أكبر عالمين عند الوهابيين في عصرنا، وسنذكر المزيد من نصوصهم عن مذهبهم في التجسيم.


*  *  *

أما إمام الوهابيين فلم أطلع له على بحث معمق في التوحيد أو الصفات، وكتابه (التوحيد) يبدو أنه ألفه على عجل، حيث سرد فيه أحاديث في موضوعات متعددة تتعلق بموضوعات متنوعة من التوحيد، ووضع بعد كل حديث أو أكثر فهرساً مختصراً لما استفاده من أفكار، وسمى ذلك (مسائل) ولم أجد فيه حول الصفات إلا موردين فقط ولكنهما كافيان لإثبات أن معبوده مادي أعاذنا الله!

المورد الأول في ص 130، ونذكر نصه كاملاً لإختصاره، قال:

(باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات وقول الله تعالى: وهم يكفرون بالرحمن.. الآية، قال البخاري في صحيحة علي: حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض حين سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال: ما فرق هؤلاء، يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه). انتهى.

ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم (وهم يكفرون بالرحمن). فيه مسائل:

الأولى: عدم الإيمان بجحد شئ من الأسماء والصفات.

الثانية: تفسير آية الرعد.


الصفحة 107
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.

الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر.

الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك وأنه أهلكه). انتهى كلام إمام الوهابيين.

ويبدو بالنظرة الأولى أن استشهاده بحديث علي (عليه السلام) وحديث ابن عباس كان أمراً عادياً، ولكن المطلع على عقائد المجسمين واستدلالهم يطمئن بأنه يقصد التجسيم المحض الوارد في خبر أم الطفيل، الذي حكم بكذبه عدد من علماء الجرح والتعديل من إخواننا السنة، وبعضهم صححه فتأوله أو فوضه، ولكن المجسمة صححوه واعتبروه من العلم الذي يكتم عن العامة، ويبقى محصوراً بين خاصة الخاصة!!

  قال الذهبي في سيره: 10/602:

(فأما خبر أم الطفيل، فرواه محمد بن إسماعيل الترمذي وغيره: حدثنا نعيم، حدثنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة بن عامر، عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في صورة كذا، فهذا خبر منكر جداً، أحسن النسائي حيث يقول: ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله! وهذا لم ينفرد به نعيم، فقد رواه أحمد بن صالح المصري الحافظ، وأحمد بن عيسى التستري، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن ابن وهب قال أبو زرعة النصري: رجاله معروفون.

قلت: بلا ريب قد حدث به ابن وهب وشيخه وابن أبي هلال، وهم معروفون عدول، فأما مروان، وما أدراك ما مروان؟ فهو حفيد أبي سعيد بن

الصفحة 108
المعلى الأنصاري، وشيخه هو عمارة بن عامر بن عمرو بن حزم الأنصاري، ولئن جوزنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أدرى بما قال، ولرؤياه في المنام تعبير لم يذكره صلى الله عليه وسلم، ولا نحن نحسن أن نعبره، فأما أن نحمله على ظاهره الحسي فمعاذ الله أن نعتقد الخوض في ذلك بحيث أن بعض الفضلاء قال: تصحف الحديث، وإنما هو: رأي رئية بياء مشددة، وقد قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون. وقد صح أن أبا هريرة كتم حديثاً كثيراً مما لا يحتاجه المسلم في دينه، وكان يقول: لو بثثته فيكم لقطع هذا البلعوم، وليس هذا من باب كتمان العلم في شئ، فإن العلم الواجب يجب بثه ونشره ويجب على الأمة حفظه، والعلم الذي في فضائل الأعمال مما يصح إسناده يتعين نقله ويتأكد نشره، وينبغي للأمة نقله، والعلم المباح لا يجب بثه ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء). انتهى.

وما قاله الذهبي هو الذي يقصده إمام الوهابيين، فقد عقد الباب تحت عنوان (باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات) ليقول إن الإيمان بكل صفات الله تعالى واجب وإنكار شئ منها كفر، وبما أن عدداً من صفات الله تعالى على مذهبه يلزم منها التجسيم، لذا تحدث عن وجوب كتمان ذلك إلا عن أهله، واستشهد بروايتين عن علي (عليه السلام) وابن عباس تجوزان كتمان هذا العلم!!

وهو أيضاً نفس ما قاله الذهبي عن (العلم المباح) أي المحظور، من تسمية الشئ بضده، ثم أفتى الذهبي بوجوب حصره بأهله وهم خواص العلماء بزعمه فقال (والعلم المباح لايجب بثه ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء)!


الصفحة 109
وذلك شبيهاً بالعلم الذي يحصره اليهود والنصارى برؤساء الإكليروس أي كبار الكرادلة والحاخامات!!

والنتيجة التي يهدفون إليها من توظيف هذه الأحاديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) وعلياًّ (عليه السلام)، وابن عباس، وأبا هريرة، كلهم مجسمون كالوهابيين وأنهم كانوا يكتمون صفات الله تعالى ويأمرون بكتمانها!!

ومن الواضح لمن له إطلاع على الحديث والتاريخ أن الأحاديث الثلاثة التي استشهد بها إمام الوهابيين والذهبي لا يصلح شئ منها شاهداً.

أما حديث أبي هريرة فقال عنه الناشر في هامش سير أعلام النبلاء في نفس الموضع: (أخرجه البخاري 1/191 - 192 (وفي طبعتنا: 1/8) في العلم: (باب حفظ العلم، من طريق إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. قال الحافظ: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه، ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية، لأنها كانت سنة ستين للهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة). انتهى.

فقصد أبي هريرة بشهادة ابن حجر وشهادة النصوص الأخرى المشابهة والقرائن، أنه كان يكتم ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) في انحراف الأمة من بعده، وسبب كتمانه خوفه من السلطة!


الصفحة 110
وأين هذا من كتمان صفات الله الحسية إلا عن خواص العلماء كما زعموا؟!! وأما حديث علي (عليه السلام) فقد علق عليه في هامش سير النبلاء أيضاً بقوله: أخرجه عنه البخاري في صحيحه 1/199 (وفي طبعتنا: 1/41) في العلم: (باب حفظ العلم، في العلم: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، من طريق عبيد الله بن موسى، عن معروف بن خربوذ، عن أبي الطفيل، عن علي). انتهى. ورواه أيضاً في كنز العمال: 10/247 و301 و304. وهو يقرر قاعدة عامة هي أن التعليم والمخاطبة ينبغي أن يكونا متناسبين مع مستوى المخاطبين، ولا دلالة فيه ولا إشارة على ارتباطه بصفات الله تعالى أو بغيرها من المواضيع، وإن كنت أرجح أيضاً أن معناه قريب من معنى الحديث المتقدم.. فمن أين حكموا أن علياً (عليه السلام) يقصد كتمان الصفات، وأنه كان وهابياً مجسماً يكتم لوازم مذهبه عن المسلمين كما يفعلون!!

وأما حديث ابن عباس فقد تفرد به عبد الرزاق في مصنفه: 11/422، ولم أجده في أي مصدر غيره على كثرة ما راجعت، ورواه بعد حديث أبي هريرة في قصة المناظرة المزعومة بين الجنة والنار، قال: (عن معمر، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعرتهم؟ فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فإنهم يلقون فيها وتقول هل من مزيد، فلا تمتلئ حتى يضع رجله أو قال قدمه فيها،

الصفحة 111
فتقول: قط، قط، قط، فهنالك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها ما شاء.

أخبرنا عبدالرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس عن أبيه قال: سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة هذا، فقام رجل فانتقض، فقال ابن عباس: ما فرق من هؤلاء يجدون عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه). انتهى ما في مصنف عبد الرزاق بلفظه. ولكن عبارة إمام الوهابية هي (عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض حين سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال) وقصده بالصفات أن الرجل المستمع لم يؤمن بأن الله تعالى له رجل ويضعها في النار واستنكر ذلك فوبخه ابن عباس! فمن أين له العلم بذلك، فقد يكون الرجل صحابياً جليلاً استنكر على راوي الحديث هذا التجسيم، وقام من المجلس اعتراضاً.

ثم إن قول ابن عباس مجمل لا يدل على أنه قصد بالهلاك ذلك الرجل الذي انتفض أو تأفف ونكت ثيابه تبرأ! فقد يكون قصد بعض رواة الحديث.

وهل يستحق صحابي أو تابعي الحكم بالهلاك والكفر لأنه نهض ونكت ثيابه حتى لا يتحمل مسئولية حديث يراه كاذباً أو يشك فيه؟!

ثم إن عبارة ابن عباس التي في مصنف عبد الرزاق فيها كلمة (من) وليس فيها كلمة (رقة) التي نقلها إمام الوهابيين، ولو قلنا إن أصلها (يجدون رقة) لم يستقم المعنى أيضاً، لأن مقتضى مقابلتها بقوله (ويهلكون عند متشابهه) أن يقول (يرقون عند محكمه) لا أن يقول (يجدون رقة عند محكمه).

كما أنه لا معنى مفهوماً لقوله (ما فرق من هؤلاء).. إلخ. فإن في كلام ابن عباس تصحيفاً وإبهاماً.


الصفحة 112
ولكن مع ذلك ينبغي أن نشهد لإمام الوهابيين بأنه في هذا الموضوع أذكى من الذهبي، لأن حديث ابن عباس الذي استشهد به أكثر قرباً من هدفه، وإن كان لا دلالة فيه عليه!

المورد الثاني: تبنى إمام الوهابيين عدداً من أحاديث التجسيم خاصة حديث الحاخام، الذي ادعت بعض مصادر إخواننا أن النبي (صلى الله عليه وآله) صدقه، وقد أوردها ابن عبد الوهاب في آخر كتابه التوحيد وعقد لها باباً خاصاً فقال: (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) الآية. وفي رواية لمسلم والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله، وفي رواية للبخاري (يجعل السموات على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع) إلى آخره). انتهى.

وراجع إن شئت في المجلد الثاني من العقائد الإسلامية روايات هذه القصة المزعومة التي تدعي أن أحد حاخامات اليهود علم نبينا (صلى الله عليه وآله) التجسيم!!

وقد تبنى إمام الوهابية هذه الأحاديث وتعمق في الغوص على معانيها، واستخراج لآليها، فاستنبط منها تسع عشرة مسألة عقائدية، قدمها إلى المسلمين ليوحدوا الله تعالى على أساسها فقال: فيه مسائل:


الصفحة 113
(الأولى: تفسير قوله: والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة.

الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه (ص) لم ينكروها ولم يتأولوها.

الثالثة: أن الحبر لما ذكر ذلك للنبي (ص) صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك!

الرابعة: وقوع الضحك الكثير من رسول الله (ص) عنده، لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.

الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى.

السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.

السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.

الثامنة: قوله كخردلة في كف أحدهم.

التاسعة: عظمة الكرسي بنسبته إلى السماوات.

العاشرة: عظمة العرش بنسبته إلى الكرسي.

الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.

الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.

الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.

الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.

الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.

السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.

السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.


الصفحة 114
الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة.

التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السموات بين أسفله وأعلاه مسيرة خمسمائة سنة). انتهى.

وهكذا أصدر إمام الوهابية حكمه بأن علوم اليهود هذه عن تجسيم الله تعالى بقيت سليمة لم تنلها يد التحريف، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) ضحك كثيراً لهذا العلم العظيم، وأن الله تعالى أنزل بتصديقه قرآناً، وقد يكون الله تعالى ضحك أيضاً مثل رسوله تصديقاً للحبر اليهودي، وارث هذا العلم المخزون العظيم ومبلغه إلى خاتم النبيين!!

والنتيجة عنده: أن الله تعالى له يدان وأصابع بالمعنى المادي الحسي، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) أقر هذا المعنى المادي ليدي الله تعالى وأصابعه ولم يتأوله، وأن الله تعالى موجود في منطقة فوق العالم على عرشه، وأن المسافة بيننا وبينه محددة بكذا سنة من السير مشياً على الأقدام!!

بل يمكن لنا بناء على رأي إمام الوهابية أن نحسب المسافة إلى عرش الله تعالى ومكان وجوده بالكيلومتر ونرسل إليها سفينة فضائية!!

ونترك الفتوى في ذلك إلى مفتي الوهابية الشيخ ابن باز؟!

من هذين النصين لإمامهم ابن عبد الوهاب والنصوص الكثيرة لاتباعه، يطمئن الباحث بأن مذهبهم في التوحيد هو نفس مذهب مجسمة اليهود، ثم مجسمة الحنابلة وابن تيمية والذهبي، فهم:

أولاً: يرفضون التأويل لأنه لا مجاز بزعمهم في القرآن والسنة، فكل الألفاظ يجب أن تحمل على معناها اللغوي المادي ولا يجوز أن تحمل على معان مجازية، أو تؤول أو تشوش على حد تعبيرهم!


الصفحة 115
فعندما يقول القرآن أو الحديث (يد الله وعين الله ووجه الله) فمعناه عندهم أن الله تعالى له يد وعين ووجه حقيقةً لا مجازاً! وعندما يقول (كل شئ هالك إلا وجهه) فمعناه عندهم أن الله يفنى ويبقى وجهه فقط، كما سيأتي!!

  قال الشيخ ابن باز في فتاويه: 4/382:

(الصحيح الذي عليه المحققون (؟) أنه ليس في القرآن مجاز على الحد الذي يعرفه أصحاب فن البلاغة، وكل ما فيه فهو حقيقة في محله). انتهى.

وما أدري كيف يجرؤ عالم على إنكار وجود المجاز في القرآن، أي في اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، ثم ينسب ذلك إلى المحققين الذين نرجوه أن يذكر لنا نصف واحد منهم!

بل كيف يستطيع أن يعيش مع الناس ومع عائلته إذا حمل كلامهم كله على الحقيقة، وماذا يفعل بمن يقول له: قرت عينك؟ فهل يفتي بجلده لأنه دعا عليه بسكون عينه والموت؟!

وغاية ما وصلت إليه أساليبهم الجدلية في الإستدلال على نفي المجاز في القرآن ما تقدم من كلام ابن تيمية، ومفاده أن ظاهر الآية إن كان غير مراد فهو باطل، ولا يجوز أن نقول إن ظاهر القرآن باطل، فلابد أن يكون مراداً!!

ولكنها مغالطة مكعبة، في معنى الظاهر، ومعنى البطلان، ومعنى الوجود في القرآن! وذلك لأنا بقولنا ظاهر الآية غير مراد نكون نفينا هذا المعنى عن القرآن فكيف يكون موجوداً فيه؟!

ولأن الباطل هو تصورنا الخاطئ لمعنى الآية وليس شيئاً موجوداً في القرآن.

ولأن الظاهر المنفي بقرينة لفظية أو عقلية لا يبقى ظاهراً، بل يصير خيالاً، بل إن الظاهر الحقيقي للكلام هو المعنى المتبادر المستقر، أما الظاهر بنظرة أولى

الصفحة 116
الذي يزول بالقرينة فهو كالفجر الكاذب الذي ما يلبث أن يزول ويعم الظلام ثم يظهر الفجر الصادق. فالقرينة اللفظية أو العقلية ذات دور مصيري في تعيين ماهو الظاهر المستقر.

وهذه النقطة مهمة في معرفة الخلل عندهم في فهم الظاهر والحمل على الظاهر. ولكن المسكونين بالظاهر الحسي والفهم المادي يستعملون لإثبات مزاعمهم الجدل المكعب، بل قد يستعملون المسدس، كما يفعلون في الباكستان!

ثانياً: أنهم يحرِّمون السكوت عن تفسير هذه الصفات وتفويض أمرها إلى الله تعالى، لأن ذلك يؤدي بزعمهم إلى التعطيل والإلحاد، وقد تقدم قول ابن تيمية (فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد)!

وهذا معناه أنهم يحرمون أي تأويل أو تفسير معنوي لآيات الصفات، ويحرمون تفويضها أيضاً ويوجبون على المسلمين تفسيرها بالمعنى الحسي المادي!!

وهذا الإصرار العجيب يفتح على الوهابيين بابين كبيرين من الإشكالات:

الباب الأول: باب الآيات والأحاديث التي تخالف مذهبهم:

فعندما يلتزمون بوجوب التفسير بالظاهر وحرمة التأويل، ويفسرون قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، بأن الله وجود منظور مرئي تنظر إليه العيون وتراه، فمن حقنا أن نسألهم:

ماذا تصنعون بمثل قوله تعالى: لا تدركه الأبصار، وقوله تعالى: لن تراني، وقوله تعالى: ليس كمثله شئ؟


الصفحة 117
ولكنهم يجيبونك بأن المسألة سهلة، لأنا نتحول هنا إلى متأولين ولكن بطرق ملتوية لا يكون فيها ممسك علينا بأنا صرنا متأولة، فنؤول كل ما يخالف مذهبنا بغير ظاهره، ونحرم تفسيره بالظاهر! فنقول إن الأبصار لا تدركه، يعني لا تحيط به، أو لا تدركه لصغر حجمنا وكبر حجمه، فلا نرى إلا جزءاً منه أو نقول: إن المنفي بقوله تعالى ليس كمثله شئ، هو المثل وليس الشبيه، ونحن ننفي المثل والند والكفؤ ولا يجب علينا نفي الشبيه لله تعالى لا بنقل ولا بعقل، على حد تعبير إمامهم ابن تيمية!

وإذا قلت لهم: إذا فسرتم قوله تعالى: استوى على العرش، بأن الله تعالى موجود جالس على العرش، فماذا تصنعون بقوله تعالى: وهو معكم أينما كنتم؟ فإن هذه الآية تنقض مقولتكم بأنه تعالى موجود في مكان محدد من الكون، وتدل على أن وجوده من نوع آخر غير نوع الكون!

بل كما قال علي (عليه السلام): مع كل شئ لا بملامسة، وغير كل شئ لا بمباينة.

فيقولون لك: المسألة سهلة، نهرب من الإعتراف بالمعية ومن تأويلها معاً، ونتهم الذين يحتجون بها بأنهم ينكرون علو الله تعالى على عرشه ويريدون إثبات سفوله..

وهذا ما فعله مفتيهم الشيخ ابن باز فقال في فتاويه: 2/89:

(والذي عليه أهل السنة في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالمعية على الوجه الذي يليق بجلاله، مع إثبات استوائه على عرشه وعلوه فوق جميع خلقه وتنزيهه عن مخالطته للخلق، ولما كانت الجهمية والمعتزلة يحتجون بآيات

الصفحة 118
المعية على إنكار العلو ويزعمون أنه سبحانه بكل مكان، أنكر عليهم السلف ذلك وقالوا: إن هذه المعية تقتضي علمه بأحوال عباده وإطلاعه عليهم، مع كونه فوق العرش). انتهى.

وقد تَعَلَّمَ ابن باز المناورة من الذهبي وابن تيمية فأول صفة المعية بالعلم، وحمل مسؤوليتها للسلف حتى لا يسجل أحد عليه أنه صار متأولاً، ثم برر تأويل السلف بأنهم اضطروا إلى ارتكاب التأويل الحرام، ليردوا على الذين أنكروا علو الله تعالى وأرادوا إثبات سفوله!!

بل لقد توفق المفتي هنا فوجد هنديا فحمله مسؤولية تأويل الآية التي تنافي مذهبهم! وهذا الشخص اسمه (الطلمنكي) فتمسك به ابن باز واحترمه وأكرمه ولبسه تأويل الآية في عنقه،

  قال في فتاويه: 1/ 148:

(.. وإذا تبين هذا فإنه لا يؤخذ من قوله (وهو معكم) وما جاء في معناها في الآيات، أنه مختلط وممتزج بالمخلوقات، لا ظاهر ولا حقيقة، ولا تدل لفظ (مع) على هذا بوجه من الوجوه، وغاية ما تدل عليه المصاحبة والموافقة، والمقارنة في أمر من الأمور وهذا الإقتران في كل موضع بحسبه، قال أبو عمر الطلمنكي (رحمه الله): أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى (وهو معكم أين ما كنتم) ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه كما نطق به كتابه). انتهى.

وهكذا حل ابن باز مشكلة الآية فلم تمس يده التأويل، بل وجد شخصاً يؤول له وارتضى تأويله والحمد لله، وهو الطلمنكي! ثم أيد فتواه بالإجماع

الصفحة 119
الذي نقله الطلمنكي على أن جميع المسلمين من أهل السنة يعتقدون بأن الله تعالى وجود محسوس قاعد فوق عرشه! أي كما يقول اليهود بلا أدنى فرق!

وإذا تكلم الطلمنكي الذي قدمه الشيخ ابن باز إلى العالم الإسلامي فعلى الجميع أن يقبلوا ويسكتوا ويغمضوا عيونهم عن آراء جميع العلماء وألوف المصادر!!

والباب الثاني من الإشكالات أكبر وأعظم، وهو باب التجسيم:

فعندما يقولون إن الله تعالى له يد وعين ووجه، وهو جالس على عرشه بهذه الصفات المادية، فقد جعلوه جسماً وصاروا عابدين لجسم!

يقولون لك: لا، نحن لسنا مشبهة ولا نشبه الله تعالى بخلقه، لأنه من شبهه بخلقه فقد جسمه وقد كفر!

تقول لهم: ما دمتم رفضتم التأويل، والتفويض، والمجاز، وأوجبتم التفسير بظاهر اللغة الحسي، فقد وقعتم في التشبيه والتجسيم، شئتم أم أبيتم!

يقولون: لا، نحن مصرون على تفسير صفات الله تعالى بالمعنى الظاهري الحسي، وفي نفس الوقت نرفض التجسيم الذي تقولون إنه يلزم من هذا التفسير، لأن الله تعالى ليس كمثله شئ!

تسألهم: بالله عليكم أرشدونا كيف تؤمنون برب جالس على كرسي وله يد ورجل ووجه وعين، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته، ويفرح ويضحك ويغضب، وخلق آدم على صورته فهو على صورة آدم... إلى آخر الصفات التي تعدونها، وكل ذلك بالمعنى الظاهر الحسي، ثم لا يكون شبيهاً بالموجودات المادية المحسوسة المحدودة بزمان ومكان!


الصفحة 120
يقولون لك: الأمر سهل نضيف إلى كل صفة عبارة (كما يليق بجلاله) فنقول: له عين بالمعنى المادي الظاهر ولكن ليست مثل عيون مخلوقاته بل كما يليق بجلاله!

وله يد ورجل ووجه، وكلها بالمعنى الظاهر الحسي، ولكن ليست مثل جوارحنا، بل كما يليق بجلاله!

وهكذا يتصورون أن حل الإشكالات العلمية والفلسفية يتم بمسحة المسيح بقولهم كما يليق بجلاله، كما حلوا التأويل بالطلمنكي!

ولكن أي جلال أبقوا لمعبودهم الذي جعلوا له أعضاء مادية، وجعلوه محدوداً بزمان ومكان وحركة، بل قالوا إنه يفنى إلا وجهه؟! سبحانه وتعالى عما يصفون.

على هذا الأساس استحق الوهابيون أن يقال عنهم: إن مذهبهم مبني على أساس هش ومغالطة تسمى في علم المنطق: (قبول المقدمات ورفض النتيجة)، وتسمى في علم الكلام: (عدم الإلتزام بلوازم المذهب)، وتسمى في لغة عصرنا: (تبني التشبيه والتجسيم والفرار من اسمه).

التقية في التجسيم عند الوهابيين

وهكذا يستعمل الوهابيون التقية من المسلمين فلا يصرحون بصفات معبودهم، ثم تراهم يشنعون على الشيعة لاستعمالهم التقية من السلطات في مسألة الإمامة والصحابة!

إن الباحث في توحيد الوهابيين يرى نفسه بين أمرين: إما أن يحكم على علمائهم بعدم الفهم، أو يحكم عليهم بأنهم يستعملون التقية في الإفصاح عن

الصفحة 121
معبودهم، ولكنه يرى أن ابن عبد الوهاب وبعض تلاميذه المعاصرين مثل ابن باز والألباني، وأسلافهم كالذهبي وابن تيمية ومجسمة الحنابلة، يفهمون معنى الحمل على الظاهر وما يستلزمه من تجسيم، ولكنهم يدافعون عن أنفسهم أمام المسلمين بنفي هذه اللوازم، بينما يظهر التجسيم في كلماتهم وما يسرونه للخاصة من أتباعهم! مما يكتم تفسيره على حد قول ابن تيمية!

أو بالقول إن ما ورد في القرآن والسنة هو نفي الند والمثل والكفء أما الشبيه فلم يرد فيه نفي فلا مانع من القول به لا عقلاً ولا شرعاً، كما تقدم من كلامه!!

وأحياناً تظهر عقيدتهم في معبودهم صريحة في فلتات ألسنتهم وأفعالهم، كما ظهرت من ابن تيمية على منبر دمشق!! ويكفي للباحث عن حقيقة مذهبهم قول الذهبي المتقدم إن ذلك من (العلم المباح لا يجب بثه، ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء)!

  وقوله في سيره: 20/331:

(ومسألة النزول فالإيمان به واجب وترك الخوض في لوازمه أولى). انتهى.

وكلمة (تركه أولى) تعبير فقهي معناه أن قوله جائز ولكن الأحسن تركه، فهو ملتفت إلى أن لوازم مذهبه التجسيم وملتزم بها، ولكنه يفضل عدم الكلام فيها حتى لا يكون ذلك ممسكاً عليه عند المنزهين!

وأما عوام الوهابيين فهم عوام أقحاح لا يعرفون إلا مدح مذهبهم بأنه مذهب التوحيد ومذهب السلف الصالح من الأمة، ولا يعرفون معنى التأويل والتفويض والحقيقة والمجاز.


الصفحة 122
وأما طلبتهم وأكثر خريجيهم فيتصورون أن حمل آيات الصفات على الظاهر الحسي هو مذهب جمهور الأمة وسلفها الصالح، لكثرة ما لقنوهم ذلك في كتبهم الدراسية ووسائل إعلامهم، ولا يكاد أحدهم يعرف معنى الحمل على الظاهر ولا لوازمه!

تقول لأحدهم: إن قول علمائك بأن الله تعالى جالس على عرشه، وإنه ينزل إلى الأرض كما نزل ابن تيمية عن درج المنبر في الشام، يلزم منه تحديد الله تعالى بالمكان والزمان وصفات المكين والزمين!

فيجيبك: كلا، لا يلزم من ذلك التشبيه والتجسيم! لأنه يجلس كما يليق بجلاله، وينزل كما يليق بجلاله..!

ويتصور هذا الطالب المسكين أنه إذا لقلق لسانه بقوله (كما يليق بجلاله) فقد حل المشكلة العلمية، أو دحا باب خيبر! فمثله كمثل الذي يأكل ويشرب في وضح النهار، ثم يصر على أنه صائم لم يذق شيئاً! لأنه صام كما يليق بصيامه، وأكل كما يليق بجنابه! مع أنه لم يبق شيئاً حسناً يليق بجنابه!

ومثله كمثل الذي قالوا له عن أستاذه وإمامه: رأيناه يشرب الخمر، فقال: لا، إنه بمجرد أن يلمس كأسها تصير شراباً طهوراً من الجنة. فقالوا له: رأيناه دخل إلى بيت زانية! فقال: لا، إنه بمجرد أن يلمسها تتحول إلى حوراء عيناء من الجنة!

ولكن الحقيقة لا تتغير بلمسة ذلك الشخص، ولا بقول هؤلاء، ولا بقول الطلمنكي!

ويدل النص التالي للسبكي أن التقية كانت معروفة عن أسلاف الوهابيين، وأن بعض علماء السنة المنزهين قد بين سببها!


الصفحة 123

  قال في طبقات الشافعية: 8/222:

(قال الشيخ بن عبدالسلام: والحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ضربان: أحدهما لايتحاشى من إظهار الحشو، ويحسبون أنهم على شئ! والآخر يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه). انتهى!!

وقال الوهابيون معبودهم يفنى إلا وجهه

من معجزات القرآن أنه يسد الطريق على الإنحرافات العقيدية والفكرية لمن يتأمل فيه، وفيه آية تكفي وحدها لكشف زيف عقيدة الوهابيين في حمل الصفات على ظاهرها الحسي، وهي قوله تعالى (كل شئ هالك إلا وجهه) فماذا يقول فيها الوهابيون وأسلافهم المجسمة؟

هل يقولون كما قال أكثر المسلمين إن كلمة (وجهه) هنا مجازية بمعنى ذاته، أو بمعنى رسله وأوصيائهم؟ أم يصرون على أن معنى الوجه هو الوجه الحقيقي المادي ويلتزمون بأن كل الله تعالى يفنى ويهلك إلا وجهه؟! سبحانه وتعالى عما يصفون.

هنا تقف سفينة الوهابيين وكل المجسمين، وتتعطل محركاتها بالكامل، وتعصف بهم العواصف، ويغرقون إلى الأذقان، ولكنهم مع ذلك يصرون على منطقهم مهما كانت النتيجة!

لقد قالوا ونعوذ بالله مما قالوا: إن الله تعالى يفنى إلا وجهه، ولا بد أنهم يحلون المشكلة بقولهم: يفنى فناء يليق بجلاله، ويهلك هلاكاً يليق بجلاله!!

ولم يقفوا عند هذا الحد، بل أنكروا أن أحداً من السلف يؤول (وجهه) في الآية بذاته أو رسله، وأنكروا ما هو موجود في البخاري!! حتى لا يظهر زيف عقيدتهم، ولا يثبت عندهم ضلال البخاري وكفره!! وإليكم القصة:


الصفحة 124

  قال الألباني في فتاويه ص 522:

(سؤال: يا شيخ لي عدة أسئلة، ولكن قبل أن أبدأ أقول أنا بالأمس قد ذكرت مسألة أو غفلت عن ذكر هذه المسألة، وهي عندما قلت إن الإمام البخاري ترجم في صحيحه عن معنى قوله تعالى (كل شئ هالك إلا وجهه) قال إلا ملكه، بصراحة أنا نقلت هذا الكلام عن كتاب اسمه (دراسة تحليلية لعقيدة ابن حجر) كتبه أحمد عصام الكاتب، وكنت معتقداً أن هذا الرجل إن شاء الله نقله صحيح، ولا زلت أقول ممكن نقله صحيح، ولكن أريد أن أقرأ عليك علامة في هذا الكتاب فهو يقول: قد تقدم ترجمة البخاري في سورة القصص (كل شئ هالك إلا وجهه) إلا ملكه ويقال إلا ما أريد به وجه الله، وقوله إلا ملكه، قاله الحافظ في رواية النسفي، وقال معمر فذكره، ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن لكن بلفظ إلا هو. فأنا طبعاً اليوم رجعت إلى الفتح نفسه فلم أجد ترجمة للبخاري بهذا الشئ ورجعت لصحيح البخاري دون الفتح أيضاً لم أجد هذا الكلام للإمام البخاري ولكنه هنا كأنه يشير إلى أن هذا الشيء موجود في رواية النسفي عن رواية البخاري، فما أعرف جوابكم؟

جواب: جوابي قد سلف.

السائل: أنا طبعاً أردت أن أبين هذا، مخافة أن أقع في كلام عن الإمام البخاري.

الألباني: نعم جزاك الله خيراً.

السائل: أنت سمعت مني الشك في أن يقول البخاري هذه الكلمة لأنه (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) أي ملكه.