السائل: وقلت أيضاً إن كان هذا موجوداً فقد يكون في بعض النسخ.
الألباني: فإذن الجواب مقدم سلفاً وأنت جزاك الله خيراً لأن بهذا الكلام الذي ذكرته تؤكد أن ليس في البخاري مثل هذا التأويل الذي هو عين التعطيل.
السائل: شيخنا على هذه كأنه موجود في الفتح نحو من هذه العبارة، وأنا أذكر أني راجعت هذه العبارة باستدلال أحدهم فكأني وجدت مثل نوع هذا الإستدلال، يعني موجود وهو في بعض النسخ، لكن أنا قلت له لا يوجد إلا الله عز وجل وإلا مخلوقات الله عز وجل ما في غير هذا، وإذا كان كل شئ هالك إلا وجهه، أي إلا ملكه إذا ما هو الشئ الهالك؟
الألباني: هذا يا أخي ما يحتاج إلى تدليل على بطلانه، لكن المهم أن ننزه الإمام البخاري أن يؤول هذه الآية، وهو إمام في الحديث وفي الصفات، وهو سلفي العقيدة والحمد لله). انتهى كلام الألباني أعلم علماء الوهابيين بالحديث.
ونلاحظ أن جنابه لا مشكلة عنده في تفسير (وجهه) بالوجه الحسي لله تعالى، فهو يلتزم بأن كل شئ يهلك حتى يد معبوده وقدمه وجنبه وحقوه وكل بدنه! ويبقى وجهه فقط!!
هذه المقولة الفظيعة والمصيبة العظيمة التي يقولها الألباني ولا يجد من يوافقه عليها حتى مجسمة اليهود والنصارى الذين ما زالت بقيتهم عنده في الشام.. ليست هي المشكلة في نظر هذا العالم الوهابي!
لقد شككت في كلام الألباني عن البخاري! فرجعت إلى البخاري فوجدت أن ما نفاه هذا (المحدث الخبير، الحافظ، مدرس صحيح البخاري) ونزه عنه البخاري موجود في صحيح البخاري: 6/17 وفيه بدل التأويل للآية تأويلات!
قال البخاري في تفسير سورة القصص:
(كل شئ هالك إلا وجهه: إلا ملكه. ويقال إلا ما أريد به وجه الله، وقال مجاهد: الأنباء الحجج). انتهى.
وقال ابن حجر في فتح الباري: 9/410:
(قوله: إلا وجهه: إلا ملكه. في رواية النسفي وقال معمر فذكره، ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن لكن بلفظ إلا هو، كذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية، وكذا ذكره الفراء.
وقال ابن التين: قال أبو عبيدة: إلا وجهه أي جلاله، وقيل إلا إياه، تقول أكرم الله وجهك أي أكرمك الله.
قوله: ويقال إلا ما أريد به وجهه. نقله الطبري أيضاً عن بعض أهل العربية ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن مجاهد مثله، ومن طريق سفيان الثوري قالا: إلا ما ابتغى به وجه الله من الأعمال الصالحة.
فالعبارة موجودة في البخاري وقد أكد ذلك شراحه، ومحاولة نسبتها إلى معمر مردودة بالأصل، وبشهادة الطبري أن عبارة معمر بلفظ (إلا هو)!!
لذلك فإن نصيحتنا للألباني وابن باز ومن عندهم شئ من الإنصاف من الوهابيين أن يختاروا التأويل، حتى لا يضطروا إلى الحكم بفناء معبودهم حتى عنقه ما عدا وجهه!! وحتى لا يضطروا إلى الحكم بضلال البخاري أو كفره لارتكابه تأويل الصفات! فهل يفعلون؟
أسلاف الوهابيين تورطوا قبلهم في الآية
يظهر أن المجسمين واجهوا مشكلة هذه الآية قديماً، فعندما فسروا (وجه الله) بالجارحة كما يقتضيه مذهبهم في الحمل على الظاهر الحسي، صفعت هذه الآية وجوههم وتحيروا في تفسيرها!
ويظهر أن المشكلة بقيت عندهم بلا حل لإصرارهم على عدم التأويل كما فعل الألباني، فكابروا وقالوا بفناء معبودهم ما عدا وجهه والعياذ بالله!!
قال السهيلي في الروض الآنف: 2/179:
(ذهب الأشعري في قوله تعالى: ويبقى وجه ربك، في معنى الوجه إلى ما ذهب فيه من معنى العين واليد وأنها صفات الله تعالى لم تعلم من جهة العقول ولا من جهة الشرع المنقول)!!
قال الشاطبي في الإعتصام: 2/330 واصفاً تفسير المجسمة للآية:
(قول من قال: إن كل شئ فإن حتى ذات الباري ما عدا الوجه، بدليل: كل شئ هالك إلا وجهه). انتهى!
ومن نتائج تفسيرهم السئ للآية أن الفقه الحنبلي لم يبحث اليمين بوجه الله فلم أعثر عليه في مصدر فقهي حنبلي على كثرة كتبهم الفقهية! لأنه عند المجسمين منهم يمين بجزء من الله وليس بالله تعالى كله فلا يكون يمينا ً!
بينما بحثه الأحناف وأفتى بعضهم بأنه يكون يميناً شرعياً لأن وجه الله تعالى تعبير مجازي عن ذاته، إلا أن يكون الحالف مجسماً فلا ينعقد!
قال الكاشاني في بدائع الصنائع: 3/6:
(ولو قال: ووجه الله، فهو يمين، كذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، لأن الوجه المضاف إلى الله تعالى يراد به الذات، قال تعالى: كل شئ هالك إلا وجهه، أي ذاته، وقال عز وجل: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، أي ذاته. وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الرجل إذا قال: ووجه الله لا أفعل كذا، ثم فعل أنها ليست بيمين! وقال ابن شجاع إنها ليست من أيمان الناس إنما هي حلف السفلة!). انتهى.
ونحن نميل إلى أن فتوى أبي حنيفة بأنها ليست يمينا أقرب إلى فكره لأنه بعد أن ترك مذهبه الزيدي وتاب إلى الحاكم العباسي وقبل توبته ووظفه مسؤلاً عن بناء مسجد كبير في بغداد.. صار يميل إلى معاداة أهل البيت (عليهم السلام) ويميل إلى التجسيم. وقد كان البعد عن أهل البيت والقرب من التجسيم أمرين متلازمين تقريباً.. ولكنا نتغاضى ونقبل من تلاميذ أبي حنيفة روايتهم الأولى عنه.
وقال في بدائع الصنائع: 3/143:
(والوجه يذكر ويراد به الذات، قال الله سبحانه وتعالى: كل شئ هالك إلا وجهه، أي إلا هو، ومن كفل بوجه فلان يصير كفيلاً بنفسه، فيثبت أن هذه الأعضاء يعبر بها عن جميع البدن، فكان ذكرها ذكر للبدن كأنه قال أنت طالق، وكذا إذا أضاف إلى وجهها).
وقال السرخسي في المبسوط: 8/133:
(فإن قال: ووجه الله، روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه يمين لأن الوجه يذكر بمعنى الذات، قال الله تعالى: ويبقي وجه ربك، قال الحسن وهو هو، وعلى قول أبي حنيفة لا يكون يميناً، قال أبو شجاع في حكايته عن أبي حنيفة هو من أيمان السفلة يعني الجهلة الذين يذكرونه بمعنى الجارحة. وهذا دليل على أنه لم يجعله يميناً). انتهى.
وَوَصْفُ ابن شجاع للحالفين بوجه الله بأنهم سفلة يشير إلى أن المجسمة كانوا قلة! وهو يدل على أن التجسيم كان منتشراً في عصر أبي حنيفة أي في أوائل القرن الثاني!
بل تدل الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) على أن التجسيم كان منتشراً في المخالفين لهم من القرن الأول فقد رد الإمام محمد الباقر (عليه السلام) تفسيرهم للآية، قال ابن بابويه في كتابه الإمامة والتبصرة ص 92: (عن أبي حمزة: عن أبي جعفر (عليه السلام): قال قلت له: قول الله تعالى: كل شئ هالك إلا وجهه، قال: يا فلان فيهلك كل شئ ويبقى الوجه؟! الله أعظم من أن يوصف)!
وروى الكليني في الكافي: 1/143:
(عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: كل
وقد يحاول بعضهم أن يتخلص من الإشكال بدعوى أن كلمة (هالك) في الآية ليست بمعنى فان، ولكن الراغب في المفردات ص 544 فسر معنى الهلاك هنا فقال: (والرابع: بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا وذلك المسمى فناء، المشار إليه بقوله: كل شئ هالك إلا وجهه). انتهى.
أحد أجداد المجسمين يحاول حل إشكال الآية
وقد حاول مقاتل بن سليمان وهو أحد أئمة المجسمين، أن يتخلص من إشكال الآية بتأويل العموم في (كل شئ) وجعله نسبياً، ولكن ذلك لا ينفع الوهابيين، ولا يصح على إطلاقه..
قال المزي في تهذيب الكمال: 28/ 437:
(وقال مكي بن إبراهيم عن يحيى بن شبل: قال لي عباد بن كثير: ما يمنعك من مقاتل؟ قال قلت إن أهل بلادنا كرهوه، قال: فلا تكرهنه فما بقي أحد أعلم بكتاب الله منه!
عن يحيى بن شبل: كنت جالساً عند مقاتل بن سليمان فجاء شاب فسأله: ما تقول في قول الله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه؟ فقال مقاتل: هذا جهمي، قال: ما أدري ما جهمي، إن كان عندك علم فيما أقول وإلا فقل لا أدري، فقال: ويحك إن جهماً والله ما حج هذا البيت ولا جالس العلماء، إنما كان رجلا أعطي لساناً، وقوله تعالى: كل شئ هالك إلا وجهه، إنما كل شئ فيه الروح، كما قال لملكة سبأ: وأوتيت من كل شئ، لم تؤت إلا
ولكن تفسير مقاتل الذي أعجب الراوي لا ينفع الوهابيين لأنه تأويل والتأويل عندهم حرام، والواجب في مذهبهم حمل (كل شئ) على ظاهرها وعمومها لكل الموجودات حتى الله تعالى والعياذ بالله!! فإن أخذوا بتفسير مقاتل فقد تنازلوا عن أساس مذهبهم كما فعل جدهم مقاتل عندما أحرجه السائل!
ومن جهة أخرى فإن تفسير مقاتل غير صحيح أيضاً، لأن كلمة (كل شئ) المستعملة في القرآن الكريم في المخلوقات قد تكون للعموم الإستغراقي الكامل وقد تكون للعموم النسبي، ويعرف ذلك بالقرائن العقلية من مناسبات الحكم والموضوع.. فمثلاً قوله تعالى في سورة الأحقاف آية 24 - 25:
(بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم). تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لايرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين). لايمكن تفسيرها بالعموم الإستغراقي لأن هياكل مساكنهم لم تدمرها الريح بنص الآية.
أما قوله تعالى في سورة البقرة الآية 106: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) ونحوه في آيات عديدة أخرى، فلا يمكن أن نقول فيه بالعموم النسبي ونستثني منه شيئاً لا يعلمه الله تعالى.
لكن في نفس الوقت يمكن القول بالعموم النسبي فيه من جهة أخرى وأن المقصود بكل شئ هنا الشئ القابل لأن يوجد ويقدر عليه.. إلخ.
أما في موضوعنا وهو قوله تعالى في آخر سورة القصص (كل شئ هالك إلا وجهه) فلا يصح فيه العموم النسبي الذي أراده مقاتل، لأن الهلاك في
ثم ما دام مقاتل وتلاميذه تأولوا (كل شئ) في الآية بالعموم النسبي لذوات الأرواح، ليحلوا بذلك الإشكال الموجه إليهم، فلماذا لا يؤولون (وجهه) في الآية بذاته ويحلون الإشكال من أساسه؟ فالعموم الحقيقي ظاهر، والمعنى الحسي بزعمهم ظاهر! فلماذا صار تأويل أحدهما حلالاً، والآخر حراماً؟!
والإنصاف أن موضوع الآية هو (هلاك العالم قبل يوم القيامة) ومناسبة الحكم والموضوع تقضي أولاً بالعموم الحقيقي وعدم صحة استثناء شئ إلا ما استثناه الله تعالى، وتقضي ثانياً بأن الله تعالى خارج تخصصاً عن موضوع الآية لأن موضوعها هلاك المخلوقات لا الخالق، وهذا يوجب تفسير وجهه ببعض مخلوقاته، أو القول بأن المقصود به ذاته تعالى وأن الإستثناء في الآية منقطع.
وهكذا لم يستطع مقاتل وارث تجسيم اليهود، أن يلائم بجدله بين تجسيمه وبين الآية، ولم يتوفق في محاولته سلب العموم الإستغراقي عن (كل شئ) في القرآن وحصر معناها هنا بذات الأرواح!
تفسير السنة غير المجسمة للآية
لم يفسر علماء السنة (وجهه) في الآية بالجارحة كما قال المجسمون، بل قالوا إن معنى وجهه هنا: ذاته عز وجل، ووافقهم بعض علماء الشيعة.
قال الشاطبي في الإعتصام: 2/303:
(فهذه الأدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب، فالواجب السؤال كما سألوا فيكون كما كانوا عليه، وإلا زل في الشريعة برأيه لا بلسانها.. ولنذكر لذلك ستة أمثلة... والرابع: قول من قال... وقصد هذا القائل ما يتجه لغة ولا معنى. وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذوالوجه كما تقول فعلت هذا لوجه فلان أي لفلان فكان معنى الآية: كل شئ هالك إلا هو...).
وقال الفخر الرازي في تفسيره مجلد 3 جزء 6 ص 437:
(إلا وجهه: إلا إياه، والوجه يعبر به عن الذات).
وقال في مجلد 13 جزء 26 ص 22:
(اختلفوا في قوله: كل شئ هالك، فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم، والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شئ سواه. ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به، إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية، فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريد به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به. ومنهم من قال معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته، فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته، وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلاً للهلاك فأطلق عليه الهلاك نظراً إلى هذا الوجه). انتهى. ويبدو أن الرازي يرجح هذا الوجه الأخير.
وقال في نفس الجزء ص 24:
(استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين: الأول، قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه، وذلك يقتضي الجسمية. والثاني، قوله وإليه ترجعون، وكلمة إلى لانتهاء الغاية، وذلك لا يعقل إلا في الأجسام.
والظاهر أن الرازي اقتصر على نسبة هذه المقالة الشائنة إلى ابن سمعان وأتباعه، وتحاشى نسبتها إلى مجسمة الحنابلة والأشعرية، مع أن ذلك مذكور عنهم في المصادر! وقد رأيت أن هذا هو التفسير الذي يقول به مجسمة عصرنا مثل الألباني وابن باز وأتباعهم!!
أما بيان بن سمعان الذي نسبه الرازي إلى الشيعة الرافضة فهو حلولي كافر ملعون في مصادر الشيعة، وقد ادعى له الألوهية أبوه سمعان وقبلها هو!
قال في طرائف المقال: 2/231:
(قال بيان بن سمعان التميمي النهدي: الله على صورة إنسان، ويهلك كله إلا وجهه، وروح الله حلت في علي (عليه السلام) ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم، ثم في بيان ابنه، لعنه الله). انتهى.
وذكر نحوه النوبختي في الفرق بين الفرق فقال في ص 216:
(في ذكر البيانية من الغلاة: وهم الذين زعموا أن الإمامة صارت من محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد، ثم صارت من أبي هاشم إلى بيان بن سمعان بوصيته إليه، واختلف هؤلاء في بيان زعيمهم، فمنهم من زعم أنه كان نبياً، وأنه نسخ بعض شريعة محمد (ص) ومنهم من زعم كان إلهاً.. ثم إنه زعم أن الإله رجل من نور وأنه يضئ كله غير وجهه.. وهذه الفرقة خارجة عن جميع فرق الإسلام لدعواها إلهية زعيمها بيان). انتهى.
وهناك تفسير آخر لعلماء السنة للآية حيث فسروا (وجهه) فيها بالأعمال التي يراد بها وجه الله تعالى، وقد وافقهم بعض علماء الشيعة أيضاًَ.
قال الراغب في المفردات ص 513:
(ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، قيل ذاته، وقيل أراد بالوجه ها هنا التوجه إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة. وقال: فأينما تولوا فثم وجه الله، كل شئ هالك إلا وجهه، يريدون وجه الله، إنما نطعمكم لوجه الله. قيل إن الوجه في كل هذا ذاته ويعني بذلك كل شئ هالك إلا هو، وكذا في أخواته.
وروي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا، فقال: سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً، إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه، ومعناه كل شئ من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به الله، وعلى هذا الآيات الأخر، وعلى هذا قوله: يريدون وجهه، يريدون وجه الله). انتهى.
والصحيح: أبو عبد الله جعفر بن محمد أي الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وليس أبا عبد الله بن الرضا. والظاهر أن الراغب أخذه حديث الكافي المتقدم، وأن الذي دفع هذا اللغوي إلى ترجيح هذا الوجه أن الله تعالى خارج تخصصاً عن موضوع الآية، وأن الإستثناء فيها متصل كما أشرنا.
تفسير علماء مذهب أهل البيت للآية
قال الشريف المرتضى في أماليه: 3/46:
(إن سأل سائل عن معنى قوله تعالى: كل شئ هالك إلا وجهه، وقوله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله، وقوله: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وما شاكل ذلك من آي القرآن المتضمنة لذكر الوجه، قلنا: الوجه ينقسم في اللغة العربية إلى أقسام:
فالوجه: المعروف المركب فيه العينان من كل حيوان.
والوجه أيضاً، أول الشيء وصدره ومن ذلك قوله تعالى: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، أي أول النهار. ومنه قول الربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار أي غداة كل يوم، وقال قوم وجه نهار اسم موضع. والوجه: القصد بالفعل، من ذلك قوله تعالى: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله)، قال الفرزدق:
وأسلمت وجهي حين شدت ركائبي | إلى آل مروان بناة المكارم |
أي جعلت قصدي وإرادتي لهم، وأنشد الفراء:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه | رب العباد إليه الوجه والعمل |
أي القصد، ومنه قولهم في الصلاة: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، أي قصدت قصدي بصلاتي وعملي، وكذلك قوله تعالى: فأقم وجهك للدين القيم.
والوجه: الإحتيال في الأمر، من قولهم: كيف الوجه لهذا الأمر وما الوجه فيه، أي ما الحيلة.
أي الوجوه انتجعـت قلـت | لهم لا بوجه إلا إلى الحكـم |
متى يقل صاحبـاً سراقـة | هذا ابن بيض بالباب يبتسم |
والوجه: القدر والمنزلة، ومنه قولهم: لفلان وجه عريض، وفلان أوجه من فلان، أي أعظم قدراً وجاهاً، ويقال: أوجهه السلطان إذا جعل له جاها قال امرؤ القيس:
ونادمت قيصر في ملكه | فأوجهني وركبت البريدا |
يقال حمل فلان فلاناً على البريد إذا هيأ له في كل مرحلة مركوباً ليركبه، فإذا وصل إلى المرحلة الأخرى نزل عن المعيى وركب المرفه، وهكذا إلى أن يصل إلى مقصده.
والوجه: الرئيس المنظور إليه يقال: فلان وجه القوم، وهو وجه عشيرته.
ووجه الشيء: نفسه وذاته، قال أحمد بن جندل:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة | فأفلت منها وجهه عتد نهد |
أراد أفلته ونجاه، ومنه قولهم: إنما أفعل ذلك لوجهك. ويدل أيضاً على أن الوجه يعبر به عن الذات قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة، وقوله تعالى: وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية، لأن جميع ما أضيف إلى الوجوه في ظاهر الآي من النظر والظن والرضا لا يصح إضافته على الحقيقة إليها، وإنما يضاف إلى الجملة، فمعنى قوله تعالى: كل شئ هالك إلا وجهه: أي كل شئ هالك إلا إياه، وكذلك قوله تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال
ويمكن في قوله تعالى: كل شئ هالك إلا وجهه، وجه آخر وقد روي عن بعض المتقدمين، وهو أن يكون المراد بالوجه ما يقصد به إلى الله تعالى ويوجه نحو القربة إليه جلت عظمته، فيقول لا تشرك بالله ولا تدع إلها غيره فإن كل فعل يتقرب به إلى غيره ويقصد به سواه فهو هالك باطل.
وكيف يسوغ للمشبهة أن يحملوا هذه الآية والتي قبلها على الظاهر؟ أو ليس ذلك يوجب أنه تعالى يفنى ويبقى وجهه، وهذا كفر وجهل من قائله.
فأما قوله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله، وقوله: إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقوله: وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله.. فمحمول على أن هذه الأفعال مفعولة له ومقصود بها ثوابه والقربة إليه والزلفة عنده.
فأما قوله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله، فيحتمل أن يراد به فثم الله لا على معنى الحلول ولكن على معنى التدبير والعلم، ويحتمل أن يراد به فثم رضا الله وثوابه والقربة إليه. ويحتمل أن يراد بالوجه الجهة وتكون الإضافة بمعنى الملك والخلق والإنشاء والإحداث لأنه عزوجل قال: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، أي أن الجهات كلها لله تعالى وتحت ملكه وكل هذا واضح بين بحمد الله). انتهى.
وخلاصة كلام الشريف الرضي (رحمه الله): أن الوجه في الآية بمعنى الذات، كما قال علماء السنة غير المجسمة، ويحتمل أن يكون بمعنى الأعمال الصالحة التي يراد بها وجه الله تعالى.
قال الطبرسي في الإحتجاج: 2/190: في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال:
قلت يابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه: إن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال (عليه السلام): يا أبا الصلت فمن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه عليهم صلوات الله، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته، فقال الله عز وجل: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، وقال الله عز وجل: كل شئ هالك إلا وجهه، فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة، وقال: إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني. يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يدرك بالأبصار والأوهام). انتهى. وقد تقدمت الرواية من الكافي: 1/143 عن الإمام الصادق (عليه السلام) بنحوه.
والطريف أن البخاري ذكر في صحيحه أن الوجه في الآية بمعنى الذات فقال في ج 8 ص 174: (باب قل أي شئ أكبر شهادة، وسمى الله تعالى نفسه شيئاً، قل الله؟ وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله، وقال: كل شئ هالك إلا وجهه). انتهى. ويقصد البخاري بذلك أن قوله (شئ) يشمل الله تعالى وأن الإستثناء متصل، والمقصود بوجهه ذاته.
ولكن يحتمل أن يقصد بذلك قوله تعالى: فعميت عليهم الأنباء يومئذ... وهي الآية 66 من سورة القصص. فيكون ما نقله عن مجاهد خارجاً عن موضوعنا.
وعلى هذا الإحتمال لا بد لنا من الإلتزام بسوء عبارة البخاري حيث ذكر تفسير الآية المتقدمة بلا عنوان في سياق الآية المتأخرة!
وأخيراً.. لا يبعد كما أشرنا أن يكون موضوع الآية ومصبها أجيال الناس في الأرض قبل يوم القيامة، ويكون المعنى: كل شئ سيفنى في الدنيا قبل يوم القيامة، إلا حجج الله تعالى فإنهم يبقون إلى آخر عمر الأرض حتى يرفع الله حجته من الأرض وتقع الصيحة. فتكون الآية في الهالك والثابت من الحياة الاجتماعية ونشوء الأجيال! ويكون معنى الهلاك فيها غير الفناء في قوله تعالى: كل من عليها فان. ومما يدل على ذلك: آخر الحديث المتقدم في الإمامة والتبصرة ص 92، ونحوه في الكافي: 1/143، ورواه الصدوق في كمال الدين ص 231 (عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت في قول الله عزوجل: كل هالك إلا وجهه؟ قال: يا فلان فيهلك كل شئ ويبقى وجه الله عز وجل،
وهذا التفسير هو الوحيد المعقول في اعتقادي، لأنه يستحيل أن تكون ذات الله تعالى مشمولة بالهلاك بأي نحو حتى تحتاج إلى استثناء! فلا بد بهذه القرينة أن نفسر (كل شيء) بالشئ المخلوق فيكون المستثنى مخلوقاً وهو أنبياء الله وحججه(عليهم السلام). وقد ورد في أحاديث أخرى كحديث الإحتجاج المتقدم أن المقصود بوجه الله تعالى في القرآن هو الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) وأن المقصود بالنظر إلى وجهه يوم القيامة النظر إليهم، ولا منافاة بين ذلك وبين أن يكونوا هم(عليهم السلام) المستثنى في الآية.. ولا يتسع المقام لتفصيل ذلك.
المزيد من نصوص الوهابيين في التجسيم
قال ابن باز في فتاويه: 2/94:
(الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد: فقد اطلعت أخيراً على ما نشر في مجلة البلاغ بعددها رقم 637 من إجابة الشيخ أحمد محمود دهلوب على السؤال الآتي: ما تفسير قول الله تعالى: استوى على العرش، وجاء في هذه الإجابة جملة نسبها إلى السلف وهي قوله: وقال السلف استوى على العرش أي استولى عليه وملكه كقولهم:
استوى بشر على العراق | من غير سيف أو دم مهراق |