الصفحة 165

  وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: 6/221:

(ويدل على ذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لأمية بن أبي الصلت حين أنشدوه:


رجل وثور تحت رجل يمينهوالنسر للأخرى وليث مرصد)

وقال في هامشه: (وفي الإصابة 549 عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد هذا البيت فقال: صدق، هكذا صفة حملة العرش.

وفي العقد الفريد عن ابن عباس قال: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم أبياتاً لأمية بن الصلت يذكر فيها حملة العرش وهي:


رجل وثور تحت رجل يمينهوالنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلةفجراً وتصبح لونها يتوقد
تأبى فما تطلع لهم في وقتهاإلا معذبـة وإلا تجلد

فتبسم النبي (ص) كالمصدق له)!

  وقال الطبري في تفسيره: 25/ 6:

(فقال كعب: سألت أين ربنا؟ وهو على العرش العظيم متكئ، واضع إحدى رجليه على الأخرى! ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة، ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال: إقرأوا إن شئتم (تكاد السموات يتفطرن من فوقهن)!!. انتهى.

وهكذا فسر كعب الأحبار الآية بأن السموات تكاد تتشقق من ثقل الله تعالى وثقل الحيوانات التي تحمل عرشه فوقها! وهذا ليس عجيباً من كعب لأن ثقافته وهواه يهوديان وإن أظهر الإسلام! ولكن العجيب أن يتبنى ذلك الوهابيون الذين يدعون أنهم وحدهم المسلمون!!


الصفحة 166
وماذا نصنع لهم إذا كانوا يأخذون توحيدهم من كعب الأحبار ولايأخذونه من أهل بيت نبيهم (صلى الله عليه وآله)!

ترى بعضهم يقرؤون أحاديث كعب وتلاميذه بشغف سواء تلك التي أسندوها عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو التي لم يسندوها وأخذوها من التلمود وقصاصي اليهود.. ولهذا يقعون في ورطات مهلكات!

وتراهم في المقابل لا يحبون أن ينظروا إلى أحاديث أهل البيت حتى التي رووها عن جدهم المصطفى (صلى الله عليه وآله)! مع أنهم يصححون حديث وصية النبي بالثقلين كتاب الله وأهل البيت.. ولو أنهم قرأوا أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) لوجدوا فيها ما يخلصهم من هذه الورطات المهلكات.

  روى الكليني (رحمه الله) في الكافي: 1/93:

(عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن اليعقوبي، عن بعض أصحابنا، عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن يهودياً يقال له سبحت، جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله جئت أسألك عن ربك، فإن أنت أجبتني عما أسألك عنه، وإلا رجعت؟ قال: سل عما شئت، قال: أين ربك؟ قال: هو في كل مكان، وليس في شئ من المكان المحدود، قال: وكيف هو؟ قال: وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق، والله لا يوصف بخلقه، قال: فمن أين يعلم أنك نبي الله؟ قال: فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين: يا سبحت إنه رسول الله! فقال سبحت: ما رأيت كاليوم أمرا أبين من هذا! ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله).


الصفحة 167

  وفي نهج البلاغة: 2/116:

(186 - ومن خطبة له (عليه السلام) في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة:

ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه. كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول. فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، ولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والإبتداء أزله.

بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له.

ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها.

لا يشمل بحد، ولا يحسب ببعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، منعتها منذ القدمية، وحمتها قد الأزلية، وجنبتها لولا التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه، إذن لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذن لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره.


الصفحة 168
الذي لا يحول ولا يزول، ولا يجوز عليه الأفول، ولم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً، جل عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقدره، ولا تتوهمه الفطن فتصوره، ولا تدركه الحواس فتحسه، ولا تلمسه الأيدي فتمسه.

لا يتغير بحال، ولا يتبدل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والإبعاض، ولايقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه، فتقله أو تهويه، أو أن شيئاً يحمله فيميله أو يعدله، ليس في الأشياء بوالج، ولاعنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة يقول لمن أراد كونه كن فيكون لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً لا يقال كان بعد أن لم يكن، فتجري عليه الصفات المحدثات، ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدئ والبديع.

خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والإعوجاج، ومنعها من التهافت والإنفراج أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخد أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قواه، هو الظاهر

الصفحة 169
عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شئ منها بجلاله وعزته، لا يعجزه شئ منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه.

خضعت الأشياء له، وذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره، فتمتنع من نفعه وضره، ولا كفء له فيكافؤه، ولا نظير له فيساويه، هو المفني لها بعد وجودها، حتى يصير موجودها كمفقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها، بأعجب من إنشائها واختراعها...).


*  *  *


الصفحة 170

الصفحة 171


الفصل السابع
من ردود علماء المسلمين على تجسيم الوهابيين





الصفحة 172

الصفحة 173

الحافظ ابن حجر

  قال ابن حجر في فتح الباري: 3/23:

(قوله: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) استدل به من أثبت الجهة، وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك. وقد اختلف في معنى النزول على أقوال، فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم!

ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عناداً.

ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال منزهاً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف، نقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم.

ومنهم من أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب.

ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف.

ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريباً مستعملاً في كلام العرب وبين مايكون بعيداً مهجوراً فأول في بعض وفوض بعض، وهو منقول عن مالك، وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد.


الصفحة 174
قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه. من الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب، فحينئذ التفويض أسلم...

وقال ابن العربي (الفقيه): حكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث وعن السلف إمرارها وعن قوم تأويلها وبه أقول.

فأما قوله فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الملك المبعوث بذلك، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة. انتهى.

والحاصل أنه تأوله بوجهين إما بأن المعنى ينزل أمره أو الملك بأمره، وأما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه.

وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول، أي ينزل ملكاً، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له.. الحديث.

وفي حديث عثمان بن أبي العاص يناد منادٍ هل من داع يستجاب له... الحديث.

قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال، ولا يعكر عليه ما في رواية رفاعة الجهني ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول لا يسأل عن عبادي غيري لأنه ليس في ذلك ما يدفع التأويل المذكور.


الصفحة 175
وقال البيضاوي: ولما ثبت بالقواطع أنه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الإنتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نور رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الاكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة.) انتهى.

الحافظ ابن الجوزي

وقد ألف في ذلك كتاباً خاصاً باسم (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه) حققه الشيخ حسن السقاف في نحو 300 صفحة ونشرته دار الإمام النووي في الأردن وقد رأيت طبعته الثالثة 1413 ومعه رسالة (أقوال الحفاظ المأثورة لبيان وضع حديث رأيت ربي بأحسن صورة) ورسالة (البيان الكافي بغلط نسبة كتاب الرؤية للدارقطني بالدليل الوافي) وكلاهما للعلامة السقاف.

قال ابن الجوزي في ص 99 من كتابه المذكور واصفاً مجسمة الحنابلة:

(فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس...) إلى آخر كلامه الذي سيأتي في كلام أبي زهرة. وقد فند ابن الجوزي في هذا الكتاب جميع ما تمسكوا به من تفسير الآيات المتشابهة ونقد ستين حديثاً من الموضوعات والمتشابهات، وهي الأساس الذي بنى عليه الوهابيون وأسلافهم مذهبهم التجسيمي!

السبكي والحلبي

  قال السبكي في طبقات الشافعية: 9/34:

(أحمد بن يحيى بن إسماعيل، الشيخ شهاب الدين الجلابي الحلبي الأصل... مات سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة... ووقفت له على تصنيف صنفه في

الصفحة 176
نفي الجهة ردا على ابن تيمية لا بأس به وهو هذا...(ويقع هذا المصنف في نحو خمسين صفحة وجاء فيه في ص 40 41).

ثم قال السبكي ناقلاً عن ابن يحيى المذكور: وسئل الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحد، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم...

وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة فنقول: عقيدتنا أن الله قديم أزلي لا يشبه شيئاًَ ولا يشبهه شئ، ليس له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان... ولا يقال له أين ولا حيث، يرى لا عن مقابلة ولا على مقابلة، كان ولا مكان، كون الكون ودبر الزمان، وهو الآن على ما عليه كان...).

  وجاء في ص 43:

(أهل التوحيد اتفقت على نفي الجهة، سوى هذه الشرذمة مثل ابن تيمية).

  وقال في ص 53 - 54:

(أورد أحمد بن يحيى حديث الرقية الذي استدل به ابن تيمية على أن الله تعالى موجود في جهة، ويظهر أنه من نصوص التوراة أو الإنجيل وهو (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في السماء والأرض كما رزقك في السماء) وكذلك حديث (والعرش فوق ذلك كله، والله فوق ذلك كله) وقال ابن يحيى: فقد فهمه هذا المدعي أن الله فوق العرش حقيقة... إلخ.).

  وقال في ص 83:

(في تنزيه الله عن الجهة والأخبار والآثار فيه وأقوال العلماء بذلك... في إبطال ما موه به ابن تيمية من القرآن والخبر...).


الصفحة 177

  وقال السبكي في طبقات الشافعية: 9/36:

(والمبتدعة تزعم مذهب السلف إنما هو التوحيد وأنها على مذهب السلف.. وكيف يعتقد في السلف أنهم يعتقدون التشبيه أو يسكتون عند ظهور أصل البدع، وقد قال الله (ولا تلبسوا الحق بالباطل). انتهى.

الزهاوي من علماء العراق

  قال الزهاوي في الفجر الصادق ص 28 تحت عنوان: تجسيم الوهابية:

(إن الوهابية التي كفرت من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسلاً به إلى الله تعالى وعدت ذلك شركاً في ألوهيته، وقالت بوجوب تنزيهه تعالى عن ذلك، قد خبطت كل الخبط في تنزيهه تعالى، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على إصبع، والأرض على إصبع، والشجر على إصبع، والملك على إصبع، ثم أثبتت له تعالى الجهة فقالت هو فوق السموات ثابت على العرش يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء الدنيا ويصعد، حتى قال بعضهم:


لئن كان تجسيماً ثبوت استوائهعلى عرشه إني إذا ً لمجسم
وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاتهفعن ذلك التشبيه لا أتلعثم
وإن كان تنزيهاً جحود استوائهوأوصافه أو كونه يتكلم
ومن ذلك التنزيه نزهت ربنابتوفيقه والله أعلى وأعلم

نحن ننقل لك هاهنا بعض عباراتهم التي وردت في هذا الشأن مسطورة في كتاب الدين الخالص. قال صاحبه: إن أردتم بالجسم المركب من المادة

الصفحة 178
والصورة أو المركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله تعالى قطعاً، والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً فليس الجسم المخلوق مركباً من هذه. انتهى.

فأقول: أنظر إلى ما في هذه العبارة من الخبط، فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره سواء كان واجباً أو ممكناً، والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفي الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى، فلئلا يقال إنه شبه الخالق بمخلوقه، نفى الجسمية بالمعنى المذكور عن مخلوقه أيضاً، وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة، ولكن الجهل ليس له حد ينتهي إليه، فلا غرو أن وصل به إلى هذا الخبط الشنيع، فليته بين بعد نفيه تركب الجسم مما ذكر، ذكر من أي شئ تتركب الأجسام؟ ولا أعتقد أنه يذهب به طيشه أن يقول بتركبها من أجزاء تتجزأ إلى غير النهاية، فإن ذلك مما أنكره علماء الكلام قاطبة، ونفته العلوم الحاضرة وقامت البراهين على بطلانه. ولولا أن في ذكرها خروجاً عن الصدد لبسطناها.

ثم قال: وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم الموصوف بها جسماً... إلى آخر ما قال.

فأقول: لم نعرف أحداً عرف الجسم بأنه المتكلم المكلم السميع البصير الذي يرضى ويغضب، وإنما هذه صفات تقوم بالحي العاقل، نعم إن الجسم

الصفحة 179
يرى بالأبصار كما قال ولكن إثباته الجسم له تعالى بهذا المعنى تنزيل له سبحانه منزلة مخلوقاته مما ينافي الألوهية، فإن كون الله تعالى جسماً بهذا المعنى نقص يجب تنزيهه عنه، أما عقلاً فلأن الرؤية كما تحقق في علم البصر إنما تتم بوقوع أشعة النور على سطح المرئي وانعكاسها عنه إلى البصر، فيلزم منه كون المرئي ذا سطح، وذلك يستدعي تركبه من أجزاء وهو ينافي الألوهية، لأن الجسم بهذاالمعنى عين الجسم الذي نفاه أولاًعنه تعالى بل حتى عن الممكن.

وأما نقلاً فلقوله تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا تعارض هذه الآية بقوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، لأن كيفية رؤيته تعالى يوم القيامة مجهولة كما هو معتقد أهل الحق، فيمكن أن تكون الرؤية يومئذ بنوع من الإنكشاف والتجلي من غير حاجة للباصرة ولا محاذاة لها، ويدل على ذلك قوله وجوه ولم يقل عيون، وفي قوله ناضرة ما يفصح عن حصول السرور التام لها بذلك الإنكشاف.

ثم قال: وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى إليه بإصبعه رافعاً لها إلى السماء، إلخ...

فأقول: إن بداهة العقل حاكمة بأن المشار إليه بالإشارة الحسية لا بد أن يكون في جهة ومكان وأن يكون مرئياً، وكل ذلك مستحيل على الله تعالى، لأنه تعالى لو كان في مكان جهة لزم قدم المكان أو الجهة، وقد قام البرهان على أن لا قديم سوى الله تعالى.

وأيضاً: لو كان في مكان لكان محتاجاً إلى مكانه، وهو ينافي الوجوب.

وأيضاً: لو كان في مكان، فإما أن يكون في بعض الأحيان أو في جميعها.


الصفحة 180
أما بطلان الأول فلأن الأحيان متساوية في أنفسها وكذلك نسبته إليها متساوية، فيكون اختصاصه ببعضها ترجيحاً بلا مرجح، إن لم يكن هناك مخصص خارجي، أو يلزم احتياجه في تحيزه إلى الغير إن كان هناك مخصص خارجي.

وأما بطلان الثاني فلأنه يلزم منه تداخل المتحيزين في الأماكن التي هي مشغولة بالأجسام، وذلك محال.

وأيضاً: لو جاز أن يشار إليه بالإشارة الحسية لجاز أن يشار إليه من كل نقطة من سطح الأرض، وحيث أن الأرض كروية يلزم أن يكون سبحانه محيطاً بها من جميع الجهات وإلا ما صحت الإشارة إليه، ولما كان تعالى مستوياً على عرشه ومستقراً عليه كما تزعمه الوهابية.

وإن كان عرشه محيطاً بالسموات السبع فيلزم من نزوله إلى السماء الدنيا وصعوده منها كما تقوله الوهابية أن يصغر جسمه تعالى عند النزول ويكبر عند الصعود، فيكون متغيراً من حال إلى حال، تعالى الله عما يقول الجاهلون.

وأما ما تمسكت به الوهابية من النقول التي تثبت الإشارة إليه تعالى فهي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، فتؤول إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله كما عليه أكثر السلف، وإما تفصيلاً كما هو رأي الكثيرين.

فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء أو أن السماء مظهر قدرته، لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكن أرضنا الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه، إلى غير ذلك من التأويلات). انتهى.


الصفحة 181

  وقال في الفجر الصادق ص 31 تحت عنوان: الوهابية ونبذها للعقل:

(لما كان صريح العقل وصحيح النظر مصادما كل المصادمة لما اعتقدته الوهابية، اضطروا إلى نبذهم العقل جانبا وأخذهم بظواهر النقل فقط وإن نتج منه المحال ونجم عنه الغي والضلال، فاعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى ثبت على عرشه وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية بالإصبع، إلى غير ذلك مما يؤول إلى التجسيم البحت، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

فالوهابية التي تسمي زائري القبور عباد الأوثان، إنما هي قد عبدت الوثن حيث أنها جعلت معبودها جسماً كالحيوان جالساً على عرشه، ينزل ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقية، مما يتنزه عنه المعبود الحق.

وإذا رد عليهم بالبراهين العقلية وأثبت لهم أن ذلك مناف للألوهية عند العقل، قالوا في الجواب: لا مجال للعقل الحقير البشري في مثل هذه الأمور التي طورها فوق طور العقل، فأشبهوا في ذلك النصارى في دعوى التثليث، فإنك إذا سألتهم قائلاً كيف يكون الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة؟

قالوا: إن معرفة هذا فوق طور العقل، ولا يجوز إعمال الفكر في ذلك!

لا ريب أنه إذا تعارض العقل والنقل أول النقل، إذ لا يمكن حينئذ الحكم بثبوت مقتضى كل منهما لما يلزم عنه من اجتماع النقيضين، ولا بانتفاء ذلك لاستلزامه ارتفاع النقيضين، لكن بقي أن يقدم النقل على العقل أو العقل على النقل، والأول باطل لأنه إبطال للأصل بالفرع.


الصفحة 182
وإيضاحه أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، وذلك لأن إثبات الصانع ومعرفة النبوة وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه لا يتم إلا بطريق العقل، فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه، فإذا قدم على العقل وحكم بثبوت مقتضاه وحده فقد أبطل الأصل بالفرع، ويلزم منه إبطال الفرع أيضاً، إذ تكون حينئذ صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه، فلايقطع بصحة النقل، فلزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل عدم صحته!

وإذا كان تصحيح الشيء منجراً إلى إفساده، كان مناقضاً لنفسه، فكان باطلاً. فإذا لم يكن تقديم النقل على العقل بالدليل السابق، فقد تعين تقديم العقل على النقل، وهو المطلوب. إذا علمت هذا تبين لك جلياً وجوب تأويل ما عارض ظاهره العقل من الآيات القرآنية التي هي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، إما تأويلاً إجمالياً ويفوض تفصيله إلى الله تعالى كما هو مذهب أكثر السلف، وإما تفصيلياً كما هو مذهب أكثر الخلف. فالإستواء في قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى، هو الإستيلاء، ويؤيده قول الشاعر:


قد استوى عمرو على العراقمن غير سيف و دم مهراق

وقوله تعالى: وجاء ربك والملك صفاًّ صفاًّ، أي جاء أمره. وقوله: إليه يصعد الكلم الطيب. أي يرتضيه، فإن الكلم عرض يمتنع عليه الإنتقال بنفسه. وقوله سبحانه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، أي يأتي عذابه. وقوله تعالى: ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين، أو أدنى، أي قرب رسوله إليه بالطاعة، والتقدير بقاب قوسين تصوير للمعقول بالمحسوس.

وقوله صلى الله عليه وسلم: إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له، معناه تنزل

الصفحة 183
رحمته، وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات وأنواع الخضوع والعبادات. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث). انتهى.

أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية

  قال الشيخ محمد أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية: 1/225:

(نقصد بالسلفيين أولئك الذين نحلوا أنفسهم ذلك الوصف، وإن كنا سنناقش بعض آرائهم من حيث كونها مذهب السلف، وأولئك ظهروا في القرن الرابع الهجري وكانوا من (الحنابلة) وزعموا أن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيا عقيدة السلف وحارب دونها، ثم تجدد ظهورهم في القرن السابع الهجري، أحياه شيخ الإسلام ابن تيمية وشدد في الدعوة إليه، وأضاف إليه أموراً أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها أحوال عصره، ثم ظهرت تلك الآراء في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري، أحياها محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية وما زال الوهابيون ينادون بها، ويتحمس بعض العلماء من المسلمين لها، ولذلك كان لا بد من بيانها.

وقد تعرض هؤلاء الحنابلة للكلام في التوحيد وصلة ذلك بالأضرحة، كما تكلموا في آيات التأويل والتشبيه، وهي أول ما ظهروا به في القرن الرابع الهجري، ونسبوا كلامهم إلى الإمام أحمد بن حنبل، وناقشهم في هذه النسبة بعض فضلاء الحنابلة.

وقد كانت المعارك العنيفة تقوم بينهم وبين الأشاعرة، لأنهم كانوا يظهرون حيث يكون للأشاعرة سلطان قوي لا ينازع، فتكون بين الفريقين الملاحاة الشديدة وكل فريق يحسب أنه يدعو إلى مذهب السلف، وقد بينا مذهب

الصفحة 184
الأشاعرة في ذاته وإن كنا لم نبين مقدار صلته بالآراء التي أثرت عن السلف، وفي هذا الجزء سنتعرض لتمحيص العقيدة السلفية في أثناء عرضنا لتفكير هؤلاء الذين نحلوا أنفسهم ذلك الإسم موازنين بين الاسم والحقيقة).

  وقال أبو زهرة في ج 1 ص 232:

(وهكذا يثبتون كل ما جاء في القرآن أو السنة من أوصافه سبحانه أو شؤونه، فيثبتون له المحبة والغضب والسخط والرضا والنداء والكلام والنزول إلى الناس في ظلل الغمام، ويثبتون له الإستقرار على العرش والوجه واليد من غير تأويل ولا تفسير بغير الظاهر... فهو (ابن تيمية) بهذا يرى أن مذهب السلف يثبت لله اليد من غير كيف ولا تشبيه، والوجه من غير كيف، والفوقية والنزول وغير ذلك من ظواهر النصوص القرآنية، ويقصد الظواهر الحرفية لا الظواهر ولو مجازية، وهو يعد ذلك المذهب ليس مجسماً ولا معطلاً ويقول في ذلك: (ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل فلا يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذوات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فيعطلوا أسمائه الحسنى وصفاته العليا ويحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل).

ويكرر هذا المعنى فيقول مؤكداً إن الله ينزل ويكون في فوق وتحت من غير كيف (ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والإختلاف، حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم إن الله ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش