الصفحة 185
ولا أنه في كل مكان ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها. الحموية الكبرى في مجموعة الرسائل الكبرى ص 419.

وعلى ذلك يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية واستواء على العرش ووجه ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضاً من غير تأويل وبالظاهر الحرفي، فهل هذا هو مذهب السلف حقاً؟

نقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا وادعوا أن ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، وكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة!

ولذا تصدى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضاً أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد، وقال ابن الجوزي في ذلك:

(رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح... فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة، ووجهاً زائداً على الذات، وفماً، ولهوات، وأضراساً، وأضواء لوجهه، ويدين وإصبعين، وكفاً، وخنضراً، وإبهاماً، وصدراً، وفخذاً، وساقين، ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس!


الصفحة 186
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من صفات الحدث.

ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا لا نحملها على توجيه اللغة، مثل اليد على النعمة والقدرة، ولا المجئ والإتيان على معاني البر واللطف، ولا الساق على الشدة، بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين!

والشيء إنما يحمل على حقيقته إن أمكن، فإن صرف صارف حمل على المجاز. ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السنة!! وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل، فإياكم أن تبتدعوا من مذهبه ما ليس منه.

ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها فظاهر القدم الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات، وينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل فإنا به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقدم، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر أحد عليكم، وإنما حملكم إياه على الظاهر قبيح فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل السلفي ما ليس فيه!). وقد استفاض ابن الجوزي في بيان بطلان ما اعتمدوا عليه من أقوال.


الصفحة 187
ولقد قال ذلك القول الذي ينقده ابن الجوزي القاضي أبو يعلى الفقيه الحنبلي المشهور المتوفى سنة 457 وكان مثار نقد شديد وجه إليه، حتى لقد قال فيه بعض فقهاء الحنابلة (لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار) وقال مثل ذلك القول من الحنابلة ابن الزاغوني المتوفى سنة 527 وقال فيه بعض الحنابلة أيضاً (إن في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه).

وهكذا استنكر الحنابلة ذلك الإتجاه عندما شاع في القرن الرابع والقرن الخامس!

ولذلك استتر هذا المذهب حتى أعلنه ابن تيمية في جرأة وقوة....

ونرى هنا أنه يجب أن نذكر أن ادعاء أن هذا مذهب السلف موضع نظر، وقد نقلنا رأي ابن الجوزي في ذلك الرأي عندما شاع في عصره.

ولنا أن ننظر نظرة أخرى وهي من الناحية اللغوية، لقد قال سبحانه: يد الله فوق أيديهم، وقال: كل شئ هالك إلا وجهه. أهذه العبارات يفهم منها تلك المعاني الحسية، أم أنه تفهم منها أمور أخرى تليق بذات الله تعالى، فيصح أن تفسر اليد بالقوة أو النعمة، ويصح أن تفسر الوجه بالذات، ويصح أن تفسر النزول إلى السماء الدنيا بمعنى قرب حسابه، وقربه سبحانه وتعالى من العباد.

إن اللغة تتسع لهذه التفسيرات، والألفاظ تقبل هذه المعاني، وكذلك فعل الكثيرون من علماء الكلام ومن الفقهاء والباحثين، وهو أولى بلا شك من تفسيرها بمعانيها الظاهرة الحرفية والجهل بكيفياتها كقولهم إن لله يداً ولكن لا نعرفها، وليست كأيدي الحوادث، ولله نزولاً وليس كنزولنا إلى آخره، فإن هذه إحالات على مجهولات لا نفهم مؤداها ولا غاياتها!


الصفحة 188
بينما لو فسرناها بمعان تقبلها اللغة وليست غريبة عنها، لوصلنا إلى أمور قريبة، فيها تنزيه وليس فيها تجهيل). انتهى.

البشري و القضاعي

  قال القضاعي في فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان ص 72 المطبوع مع الأسماء والصفات للبيهقي:

(وهكذا اتفق سلف هذه الأمة الصالح وخلفها الموفق على صرف هذه المتشابهات عن هذه الظواهر المادية، لا خلاف في ذلك بين أوائلهم وأواخرهم رضي الله عنهم، وسموا من فسرهابتلك الظواهر بالمجسمة والحشوية إيماء منهم رضي الله عنهم إلى أن ما أتى به هؤلاء من التفسير من اللغو الذي لا يلتفت إليه، والحشو الذي لا يعول أهل العلم بالكتاب والسنة عليه.

تتمة: ونختم هذا الفصل بذكر فتوى في هذا الموضوع صدرت من شيخ الإسلام بحق، ورأس المحققين الأعلام، أستاذ الأساتذة، الشيخ سليم البشري تغمده الله برحمته وأعلى في الفراديس درجاته.

ونص السؤال والجواب نقلاً عن كتاب شمس الحقيقة والهداية في الرد على أهل الضلالة والغواية للعلامة المحقق والنقي الموفق الشيخ أحمد بن العلامة الكبير الشيخ علي بدر، شيخ معهد بلصفورة، وهو رافع السؤال إلى شيخ الإسلام رضي الله عنهما.

قال: ما قولكم دام فضلكم في رجل من أهل العلم هنا من الذين يوصفون بالتفقه في الدين تظاهر باعتقاد ثبوت جهة الفوقية لله سبحانه وتعالى، ويدعي أن ذلك مذهب السلف، وتبعه على ذلك البعض القليل من الناس، وجمهور أهل العلم ينكرون عليه.


الصفحة 189
والسبب في تظاهره بهذا المعتقد كما عرض علي هو بنفسه ذلك عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاما كثيرا عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه وتعالى.

وليكن معلوماً أنه يعتقد الفوقية الذاتية له جل ذكره، يعني أن ذاته سبحانه فوق العرش بمعنى ما قابل التحت مع التنزيه، ويخطئ أبا البركات الدردير رضي الله عنه في قوله في خريدته:


منزه عن الحلول والجههوالإتصال الإنفصال والسفه

يخطئه في موضعين من البيت: قوله والجهة، وقوله والإنفصال.

والشيخ اللقائي في قوله:


ويستحيل ضد ذي الصفاتفي حقه كالكون في الجهات

وبالجملة هو يخطئ كل من يقول بنفي الجهة مهما كان قدره، ويستدل أيضاً بنص كتاب آخر غير الكتاب المتقدم ذكره، وهو تفسير الشيخ الآلوسي المسمى بروح المعاني، عند قوله تعالى (وهو القاهر فوق عباده) مع أن المطلع على عبارة الآلوسي يجده في آخر عبارته ذكر ما يؤخذ منه أنه غير جازم بذلك. ويستدل على ذلك بمثل قوله تعالى (وهو القاهر فوق عباده) (يخافون ربهم من فوقهم) (إليه يصعد الكلم الطيب) وبقوله صلى الله عليه وسلم للجارية التي أراد سيدها عتقها: أين الله؟ فقالت في السماء. مع ما هو معلوم لفضيلتكم من أنها كانت خرساء وأشارت إلى السماء كما هو منصوص، وفي بعض مؤلفات حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه، وقد تعرض لذلك السيد محمد مرتضى في شرحه للإحياء.


الصفحة 190
ويستدل أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: اللهم اشهد، وأشار بإصبعه إلى السماء، ويورد على من ينازعه في ذلك سؤال الكرامية المشهور وهو قولهم إن نفيه عن الجهات الست إخبار عن عدمه، ولا يخفى على فضيلتكم أن الكلام في مسألة الجهة شهير، إلا أنه من المعلوم أن قول فضيلتكم سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل، وأرجو أن يكون عليه إمضاؤكم بخطكم والختم ولا مؤاخذة.

لا زلتم محفوظين ولمذهب أهل السنة والجماعة ناصرين آمين.

وهذا نص جوابه حفظه الله: إلى حضرة الفاضل العلامة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة:

قد أرسلتم بتاريخ 22 محرم سنة 1325 هـ. مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى، فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية لمن اتبع الحق وأنصف، جزاكم الله عن المسلمين خيراً.

إعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه، أن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث، ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين القطعية، فإن كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم وهو ما سوى الله تعالى، وقد قام البرهان القاطع على حدوث كل ما سوى الله تعالى بإجماع من أثبت الجهة ومن نفاها، ولأن المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أن المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن وكلاهما باطل.


الصفحة 191
ولأنه لو تحيز لكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً، ولو كان جوهراً فإما أن ينقسم وإما أن لا ينقسم، كلاهما باطل، فإن غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والمنقسم جسم وهو مركب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي، فيكون المركب ممكناً يحتاج إلى علة مؤثرة، وقد ثبت بالبرهان القاطع أنه تعالى واجب الوجود لذاته، غني عن كل ما سواه، مفتقر إليه كل ما عداه، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

هذا وقد خذل الله أقواماً أغواهم الشيطان وأزلهم، اتبعوا أهواءهم وتمسكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، واتفقوا على أنها جهة فوق إلا أنهم افترقوا فمنهم من اعتقد أنه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش، وبه قال الكرامية واليهود، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم، ومنهم من أثبت الجهة مع التنزيه، وأن كونه فيها ليس ككون الأجسام وهؤلاء ضلال فساق في عقيدتهم، وإطلاقهم على الله ما لم يأذن به الشارع. ولا مرية أن فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به.

وممن نسب إليه القول بالجهة من المتأخرين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن، في ضمن أمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه وشنع عليه معاصروه بل البعض منهم كفروه، ولقي من الذل والهوان ما لقي، وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته مما نسب إليه وساق له عبارات أوضح معناها، وأبان غلط الناس في فهم مراده، واستشهد بعبارات له أخرى صريحة في دفع

الصفحة 192
التهمة عنه، وأنه لم يخرج عما على الإجماع وذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره ورسوخ قدمه.

وما تمسك به المخالفون القائلون بالجهة أمور واهية وهمية، لا تصلح أدلة عقلية ولا نقلية، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) وقوله (إليه يصعد الكلم الطيب) وقوله (تعرج الملائكة والروح إليه) وقوله (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) وقوله (وهو القاهر فوق عباده) وكحديث إنه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وفي رواية في كل ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه؟

هل من مستغفر فأغفر له؟ وكقوله للجارية الخرساء: أين الله فأشارت إلى السماء، حيث سأل بأين التي للمكان ولم ينكر عليها الإشارة إلى السماء، بل قال إنها مؤمنة.

ومثل هذه يجاب عنها بأنها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية، إما تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف، وإما تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف، كقولهم: إن الإستواء بمعنى الإستيلاء كما في قول القائل:


قد استوى بشر على العراقمن غير سيف ودم مهراق

وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به، لأن الكلم عرض يستحيل صعوده.


الصفحة 193
وقوله: من في السماء، أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته وكل بالعذاب.

وعروج الملائكة والروح إليه: صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه. وقوله: فوق عباده، أي بالقدرة والغلبة فإن كل من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان، أي أنه أقدر منه وأغلب. ونزوله إلى السماء محمول على لطفه ورحمته وعدم المعاملة بما يستدعيه علو رتبته وعظم شأنه على سبيل التمثيل، وخص الليل لأنه مظنة الخلوة والخضوع وحضور القلب.

وسؤاله للجارية (بأين) استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون، فلما أشارت إلى السماء فهم أنها أرادت خالق السماء فاستبان أنها ليست وثنية، وحكم بإيمانها.

وقد بسط العلماء في مطولاتهم تأويل كل ما ورد من أمثال ذلك، عملاً بالقطعي وحملاً للظني عليه، فجزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء.

ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمتهم ويتمشدق بترهات المبتدعين وضلالتهم.

أما سمع قول الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) فليتب إلى الله تعالى من تلطخ بشئ من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا يحملنه العناد على التمادي والإصرار عليه، فإن الرجوع إلى الصواب عين الصواب والتمادي على الباطل يفضي إلى أشد العذاب (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً).


الصفحة 194
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أملاه الفقير إليه سبحانه سليم البشري
خادم العلم والسادة المالكية بالأزهر عفي عنه آمين آمين.

  ثم أضاف القضاعي معلقاً على رسالة البشري:

وقول الشيخ رضي الله عنه: وذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره ورسوخ قدمه. هو حسن ظن من الشيخ حمله عليه قول هذا التلميذ. والذي يطيل النظر في كتبه وكتب تلميذه ابن القيم كما فعلنا نحن لا يرتاب في قوله بالتجسيم والجهة والتشبيه، ولكنه يتبرأ من اسمه ويقول بالتنزيه، لكنه إنما يقول بلفظه ويتباعد عن القول بمعناه، وليس أحد أعرف بهذا الرجل من علماء عصره، ولا سيما الورع الحجة المحقق الإمام شيخ الإسلام التقي علي بن عبد الكافي وقد كان له معاصراً ورد عليه في حياته وبعد وفاته بعدة مصنفات.

ودونك عبارة شيخ الإسلام التقي في هذا المبتدع الغوي في خطبة كتابه (الدرة المضية في الرد على ابن تيمية) في قوله بعدم وقوع الطلاق المعلق على وجه اليمين، وأنه خرق الإجماع بهذا القول، وكذب على الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

قال رفع الله درجته في المهديين ما لفظه: أما بعد فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة، مظهراً أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة، فخرج عن الإتباع إلى الإبتداع وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة

الصفحة 195
الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة، وأن الإفتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت، ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزمه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديماً، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة. وكل ذلك وإن كان كفراً شنيعاً مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع. انتهى.

وهي رسالة نفيسة أجاد فيها رضي الله عنه الرد عليه وبيان الحق في المسألة وقد طبعت بدمشق. وفي التحقيق الدقيق الذي قام به العلامة الكوثري في كتابه تكملة الرد على نونية ابن القيم المطبوع مع السيف الصقيل ما يغنينا عن الإطالة في شرح حال هذا الرجل وشيعته. أجارنا الله وسائر المسلمين من اتباع الهوى). انتهى.

  وقال القضاعي في فرقان القرآن ص 17:

(ولهذه الفئة ولع شديد بافتراء الأباطيل ونسبتها إلى أكابر أئمة هذه الأمة، ولو استقريت القرون منذ نجمت هذه البدعة لرأيت في كل قرن إلى زمانك هذا من هذه الطائفة فلولا تشاغب وتموه وبإزائهم جيوشاً من أهل السنة بحق تدافع وتبين، بين مناظر يجادل عن الحق في المجالس الخاصة والعامة، ومؤلف يزيل ظلمات شبههم بنور الحجج المعقولة، حتى تركوا من هذه المؤلفات القيمة لطالب الهدى ثروة لا تنفد، وكنوزاً لا تبيد على الأبد، ومن هذه الكنوز الفائقة وتلك الثروات العظيمة كتاب الإمام الحافظ الثقة الحجة المبرز

الصفحة 196
في علم الحديث رواية ودراية، علم الفقهاء أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.

كثر في زمانه رضي الله عنه الخوض في أسماء الله تعالى وصفاته بما لا يليق بجنابه عز وجل، فألف كتابه المسمى بالأسماء والصفات.

قال الإمام تاج الدين السبكي: لا أعلم له في بابه نظيراً. وصدق رضي الله عنه فإنه عمد فيه إلى جمع الأحاديث التي تعلقت بها المبتدعة من المشبهة والحشوية، فبين ما لا يصح الاحتجاج به منها بذكر ما فيه من علة، وأزال الإشكال عما صح من متشابهها، وضم إليها ما ناسبها من آيات الكتاب. وأضاف إلى ذلك ما قال أكابر العلماء ممن قبله.

فجزاه الله عن دينه وأمة نبيه صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، كأنه رضي الله عنه قصد بكتابه هذا غسل العار الذي ألحقه الحافظ ابن خزيمة بأهل الحديث، فإنه ألف كتاباً سماه كتاب التوحيد، وليته اقتصر فيه على جمع الأحاديث المتشابهة، ولكنه فسرها بما لا يصح أن يعتقد في الله تعالى، ولا يقول به المحققون من سلف ولا خلف، وقد طعنه الإمام فخر الدين الرازي طعنة أردته قتيلاً، حيث قال رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى (ليس كمثله شئ): واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليه، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام قليل الفهم ناقص العقل. انتهى.

ثم ساق كلامه وهو كلام لايقوله مؤمن محقق نافذ البصيرة في المعرفة بربه، ولذلك ضربنا عن نقله ولئلا يتشوش به ضعيف، ثم قال الإمام الفخر رضي

الصفحة 197
الله عنه: وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلية، وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلية، إلى أن قال: وإن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لكونه كان بعيداً عن معرفة الحقائق، فجرى على منهج كلمات العوام، فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها، ونسأل الله حسن الخاتمة. انتهى.

ومن قرأ توحيد ابن خزيمة عذر هذا الإمام فيما قال، وقد أسلفنا لك أن الإمامة في الحفظ والعلم بالعلل في متون الأحاديث وأسانيدها لا تقتضي الإمامة المطلقة في كل فن، وذلك ظاهر لا يحتاج إلى بيان، فلا ينبغي أن يقتدى به إلا فيما هو إمام فيه، ومن خالف هذه القاعدة لم يسلم له دينه في أصول ولا في فروع، فنصيحتي لك إذا أردت السلامة لنفسك أن تكون في عقائدك على ما دونه الإمام أبو منصور الماتريدي وأبو الحسن الأشعري، فإنه هو ما يهدي إليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير ميل إلى جانب إفراط أو تفريط). انتهى.

وما ذكره القضاعي من رد الفخر الرازي على ابن خزيمة النيشابوري، تجده مفصلاً في تفسير الرازي: 27/ 150 - 153 من الطبعة الثالثة دار إحياء التراث العربي. وقد نقل الرازي كلام ابن خزيمة ومغالطته في معنى المثلية والتماثل لإثبات الجسمية لله تعالى، شبيهاً بمغالطته المتقدمة في الفصل الأول لإثبات رؤية الله تعالى. وقد هاجمه الرازي بشدة تتناسب مع فداحة المغالطة وشرح معنى تماثل الأجسام وأثبت تنزيه الله تعالى عن مماثلتها. وقد اكتفينا عن إيراد كلام الرازي هنا ببحثه الذي سنورده في الفصل التالي في نفي الجسمية.


الصفحة 198
وينبغي أن نشير هنا إلى أن كبار علماء الوهابية يرشدون المسلمين إلى قراءة كتاب (التوحيد) لابن خزيمة، وقد تبنوا نشره بين المسلمين بسبب أفكاره التجسيمية مع الأسف.

  وقال في فرقان القرآن ص 61:

(فوجب أن يكون منزهاً عن التركب وقبول الإنقسام، وكل ما هو من خصائص المادة والأجسام، بذلك نطق كتاب الله لقوم يسمعون، ونادت بهذا آياته من ألقى إليها السمع وهو شهيد، وعلى ذلك أطبق أهل السنة الذين لم يصابوا بما أصيب به أهل الهوى من مرض التشبيه والتجسيم الذي أصيب به اليهود من قبلهم ووقع فيه النصارى من بعدهم.

والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون، أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية، يرمي إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفراً من اليهود والنصارى، في كتابه الموافقة المطبوع على هامش منهاجه، لقولهما بالتنزيه، وهما لم ينفردا به، بل هو قول المحققين من علماء الملة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم إلى زمانه وكانت وفاته في القرن الثامن وإلى زماننا وإلى أن يأتي أمر الله.

فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: لن تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله.

وفي بعض ألفاظ هذا الحديث أنهم السواد الأعظم من أمته، وسيأتي لنا كلام في خطر الإغترار بهذا الرجل ومصنفاته وشيعته، ورأي المحققين من الجهابذة فيه وفيهم فانتظر).


الصفحة 199

بيان أن العلو المعنوي من المجاز الشائع في كلام العرب:

والعلو المعنوي منتشر في القرآن مستفيض في لغة العرب في وصف الخالق والمخلوق على ما يليق بكلٍّ (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون). (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين). (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم). والظهور هنا هو العلو. (إن فرعون علا في الأرض). (وإنا فوقهم قاهرون) (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين). (وليتبروا ما علوا تتبيراً). (لا تخف إنك أنت الأعلى).

ولما ذاق المشركون حلاوة النصر المؤقت يوم أحد قال قائلهم (أعل هبل) وهو اسم صنم لهم أجابهم المسلمون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم (الله أعلى وأجل) وفي شعر العرب:


ولما علونا واستوينا عليهمتركناهم مرعى لنسر وكاسر

ولو ذهبنا نستقصي ما في الكتاب العزيز من ذلك وما في كلام العرب لكان مجلداً، وأين علو المكان من علو السلطان؟ وهل العلو في المكان إلا كمال جسماني عرضي نازل كل النزول عن الكمال الذاتي الأصلي؟ تعالى الله عما يخطر للواهمين.

وقال الإمام أبو جعفر (الطبري) في قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) إلا هو. فانظر كيف حمل الوجه على الذات ولم يحك فيه خلافا لمن تقدمه.

وقال البخاري في جامعه في تفسير سورة القصص (كل شيء هالك إلا وجهه) إلا ملكه ويقال: إلا ما أريد به وجه الله. انتهى. فقد حمل الوجه على الملك جازماً به. ولا أظن عاقلاً يرتاب في أن البخاري من خير السلف.


الصفحة 200
وقال البخاري أيضاً في تفسير سورة هود في قوله تعالى (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) في ملكه وسلطانه. انتهى كلام البخاري رضي الله عنه. وقال الله تعالى (والله واسع عليم) فالسعة المتعارفة عظم امتداد الجسم، فهل قال ذلك أحد من السلف؟ حاشاهم من ذلك.

واستمع الى ما قال الإمام الطبري وقال تعالى (الله نور السموات والأرض) هل فهم أحد من السلف أنه هو ذلك النور الفائض على الحيطان والجدران المنتشر في الجو؟ جل مقام العلماء بالله وكتابه أن يفهموا هذا المعنى الظاهر العامي.

قال حبر الأمة ابن عباس فيما رواه عنه الطبري بالسند الصحيح: الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض. وروي نحوه عن أنس بن مالك، وروي عن مجاهد أن معناه المدبر، ورجح الإمام الأول وزيف ما عداه، وقد سمعت ما قاله في معنى الإحاطة وأنها مصروفة إلى إحاطة العلم والمشيئة والإقتدار، وليس معناها ما يفهم من إحاطة جسم بجسم والتفافه حوله واشتماله عليه، تعالى الله عن صفات الأجسام وسمات الحدوث.

هذا ولو استقريت أقوال السلف من مظانها لرأيت الكثير الطيب من بيان المعاني اللائقة بالله تعالى على سبيل التعيين، فمن نقل عدم التعيين مطلقاً عن السلف فما دقق البحث ولا اتسع اطلاعه.

وهذا صحيح البخاري بين أيدينا وتفسير ابن جرير الطبري بين أظهرنا يناديان بما قلنا، وإنما ذكرنا ما ذكرنا لك من ذلك على سبيل التمثيل لندلك بما سمعت على ما لم تسمع، ولا نريد في هذا الوجيز الإستقصاء، وعليك بكتاب الأسماء والصفات للحافظ البيهقي، وبمراجعة ما قال العلماء في شروح

الصفحة 201
الأحاديث المشكلة، وما نقلوه عن أكابر السلف في ذلك فقد قدمنا لك نقل الإمام أبي بكر بن العربي عن مالك أنه قال في حديث النزول: هو نزول رحمة لا نزول نقلة، ولعله رضي الله عنه لم يبلغه الحديث المفسر له أو لم يستحضره أو بلغه من طريق لا يعتمد عليه، وقد أخرج النسائي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: إن الله يمهل حتى إذا مضى شطر الليل أمر منادياً أن ينادي ألا من سائل فأعطيه، الحديث. فتبين به أن إسناد النزول إليه تعالى إسناد مجازي، فالمجاز في الإسناد وليس في الطرف وليس ذلك بغريب، ففي القرآن العزيز (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) والمعنى إذا قرأه عليك جبريل بأمرنا، كما يعلم ذلك من قرأ ما أخرج البخاري عن ابن عباس في بدء الوحي فقد أزيل الإشتباه في الحديث بهذه الرواية كما أزيل الإشتباه في الآية الأخرى، وصح النقل عن حبر الأمة ابن عباس أنه فسر بالعلو ولم يفسره بالجلوس.

وقد علمت ما قاله الإمام الطبري في معنى العلو، ونقلنا لك عن الذهبي نفسه ما يفيد إجماع علماء الأمصار أنهم يقولون كلهم بلا كيف، وشرحنا معناه بما يزيل عنك الإلتباس إن شاء الله تعالى.

وبعد فقد سبقتنا أساطين العلماء رضي الله عنهم فدونوا في المتشابهات الكتب الكثيرة القيمة بين مطول مفيد ومقل مجيد، فاملأ قلبك بتنزه الله تعالى عن هذا الظواهر الحسية الجسمية.) انتهى.

الكوثري ينفي ما نسبه المجسمون الى أئمة المذاهب

  ذكر الكوثري في مقدمة تحقيقه لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي المطبوعة في آخر نسختنا المذكورة، أن البيهقي ألف كتاباً في مناقب الإمام أحمد وبرأه فيه من كل ما نسبوه إليه من التشبيه والتجسيم، قال:


الصفحة 202
(وكتاب مناقب أحمد له، يدفع فيه ما نسبه إليه بعض أصحابه من الكلمات الموهمة. ومن جملة ما قال فيه نقلا عن الإمام أبي الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها: أنكر أحمد على من قال بالجسم وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الإسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله سبحانه خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسماً لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل. انتهى بحروفه.

وقال البيهقي فيه أيضاً: وأنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو بن السماك قال حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت عمي أبا عبد الله يعني الإمام أحمد يقول: احتجوا علي يومئذ يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين فقالوا تجئ سورة البقرة يوم القيامة وتجئ سورة تبارك، فقلت لهم إنما هو الثواب، قال الله تعالى (وجاء ربك) إنما تأتي قدرته، وإنما القرآن أمثال ومواعظ. انتهى.

قال البيهقي هذا إسناد صحيح لا غبار عليه ثم قال: وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجئ الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالاً من مكان إلى مكان كمجئ ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور آيات قدرته فإنهم لما زعموا أن القرآن لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجئ والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجئ ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه.

وهذا الجواب الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا الحذاق من أهل العلم المنزهون عن التشبيه. انتهى ما ذكره البيهقي في مناقب أحمد.


الصفحة 203
وأما كتاب الأسماء والصفات فكتاب لا نظير له كما سبق، تراه لا يلوم من يقول إن الله في السماء أو يقول إن الله على العرش بناء على بعض الأحاديث الواردة الناطقة بذلك، لكن يجرد الكون في السماء أو على العرش عن جميع معاني التمكن، على خلاف معتقد المشبهة، كما تجد نص كلامه عند الكلام على الإستواء وعلقنا هناك على هذا الكلام ما يجب لفت النظر إليه.

فالقائل بأنه في السماء إن كان يريد أنه متمكن فيها فهو زائغ عن الصراط السوي، وأما إن كان يريد أنه في غاية من علو الشأن والمكانة بدون اعتقاد مكان له تعالى فلا غبار على كلام هذا القائل من ناحية اللغة، وأما من جهة الشرع فهناك ظواهر تسيغ ذلك، لكن حيث كانت الأحاديث التي وردت في ذلك لا تخلو من كلام مثل حديث أبي رزين وحديث الأوعال فالأحوط أن لا ينطق به حتى مع التصريح بهذا التنزيه، بل الواجب عدم النطق به أصلاً سداً لباب التشبيه بمرة واحدة.

وليست هناك أحاديث صريحة صحيحة، وحديث الجارية فيه اضطراب عظيم ويحول دون التمسك به في باب الإعتقاد، ومن تمسك بقوله تعالى (أأمنتم من في السماء) في هذا الباب فلا حجة له أصلاً كما نشرح ذلك فيما نعلق على الكتاب في موضعه إن شاء الله تعالى.

والحاصل أنه ليس في قول البيهقي وأمثاله من تجويز القول (بأنه في السماء) بمعنى علو الشأن والمكانة، ما يسر القائلين بإثبات المكان والعلو الحسي أصلاً. والبيهقي ينص على ذلك في مواضع من هذا الكتاب فنقل كلمة البيهقي وأمثاله في باب إثبات العلو الحسي غفل ظاهر!


الصفحة 204
وما نسبوه إلى أبي حنيفة في سنده نعيم بن حماد وأبو أمه. وما عزوه إلى مالك فيه عبد الله بن نافع الأصم صاحب المناكير عن مالك.

وما أسندوه إلى الشافعي فيه أبو الحسن الهكاري وابن كادش والعشاري وأحوالهم معلومة عند النقاد رغم انخداع بعض المغفلين برواياتهم، فلا يصح عزو القول بأنه في السماء إلى الأئمة الفقهاء أصلاًً). انتهى.

السيد الأمين في كشف الإرتياب

  قال في كشف الإرتياب في أتباع ابن عبد الوهاب ص 94:

(الكتاب والخبر عربيان وفيهما كسائر كلام العرب الحقيقة والمجاز، فالحقيقة الكلمة المستعملة فيما وضعت له، كقولك سمعت زئير الأسد في الغاب وتريد الحيوان المفترس. والمجاز الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لمناسبة ما وضعت له، مناسبة موافقة للعرف غير مستهجنة كقولك رأيت أسداًً في الحمام وتريد رجلاً شجاعاً، والمناسبة بينهما الشجاعة.

وقد كثر المجاز في كلام العرب جداً ومنه الكتاب والخبر، بل أكثر كلام العرب مجاز. ومما جاء منه في القرآن: يد الله فوق أيديهم. واصنع الفلك بأعيننا. ولتصنع على عيني. فإنك بأعيننا. ولو ترى إذ وقفوا على ربهم. يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. كل شئ هالك إلا وجهه. أينما تولوا فثم وجه الله. ويبقى وجه ربك. الرحمن على العرش استوى. يخافون ربهم من فوقهم. فكان قاب قوسين أو أدنى. إلا من رحم ربك. إلا من رحم الله. وغضب الله عليه. الله يستهزيء بهم. وجاء ربك.

والقرينة على المجاز في الكل عدم إمكان إرادة المعنى الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحيز والوجود في مكان دون غيره، وكونه محلاًّ للحوادث...


الصفحة 205
ولا بد للمجاز من قرينة كقولنا في المثال المتقدم في الحمام، لأن الحيوان المفترس لا يكون في الحمام عادة، وقد تكون القرينة حالية لا مقالية فتخفى على بعض الأفهام ويقع فيها الإشتباه.

وقد يكثر استعمال اللفظ في المعنى المجازي حتى يصير مجازاً مشهوراً لايحتاج إلى قرينة غير الشهرة، وقد يكثر حتى يبلغ درجة الحقيقة فيسمى منقولاً).

  وقال في كشف الإرتياب ص 119:

(وادعى الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما سيأتي، ولكن الحقيقة أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمى التوحيد وهتكوا ستوره وخربوا حجابه، ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق بقدس جلاله، تقدس وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فأثبتوا لله تعالى جهة الفوق، والإستواء على العرش الذي هو فوق السماوات والأرض، والنزول إلى سماء الدنيا، والمجئ والقرب وغير ذلك، بمعانيها الحقيقية، وأثبتوا له تعالى الوجه واليدين اليد اليمنى واليد الشمال والأصابع والكف والعينين، كلها بمعانيها الحقيقية دون تأويل، وهو تجسيم صريح. وحملوا ألفاظ الصفات على معانيها الحقيقية فأثبتوا لله تعالى المحبة والرحمة والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل، وأنه تعالى يتكلم بحرف وصوت، فجعلوا الله تعالى محلاًّ للحوادث وهو يستلزم الحدوث، كما بين في محله من علم الكلام.

أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والإستواء على العرش حقيقة والتكلم بحرف وصوت. وهو أول من زَقَا بهذا القول وصنف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة الحموية والواسطية وغيرهما، واقتفاه في ذلك تلميذاه ابن القيم