الصفحة 268
إن أبسط حق للقارئ عليك أيها الدكتور أن تذكر له ولو رواية واحدة من هذه السبعين حتى يرى تعطيلهم المزعوم لوجود الله تعالى وإلحادهم به!! خاصة أنك اتهمت الشيعة بأنهم حرفوا كل هذه الروايات السبعين و (ضمنوها نفي الصفات الثابتة له سبحانه) أي لم يفسروا آيات الصفات بالظاهر الحسي كما يفعل الوهابيون؟!

ومن حق القارئ علينا هنا أن نوضح له معنى تهمة التعطيل التي جعلها القفاري والوهابيون عصا يضربون بها وجه من يخالفهم ولا يفسر صفات الله تعالى بالتفسير المادي الوهابي؟!

معناها أنك إذا فسرت (يد الله فوق أيديهم) بأن قدرته فوق قدرتهم، فأنت عندهم متأول معطل ملحد!

ولا تصير مؤمناً حتى تقول إن لله تعالى يداً حقيقية حسية!!

وإذا قلت: أنا لا أعلم معنى يد الله وعين الله وجنب الله في القرآن ولا أفسرها لا بالمعنى الحسي ولابغيره، بل أفوض معناها إلى الله تعالى ورسوله، فأنت أيضاً عندهم مفوض معطل ضال، حتى تفسرها بالمعنى المادي!!

فجميع المتأولين والمفوضين عندهم معطلون، لأنهم بزعمهم جعلوا الله تعالى وجوداً معطلاً عن الصفات والحس والكيف! وهم عندهم ملحدون، لأنهم بزعمهم ألحدوا في صفات الله المادية التي وردت في القرآن!! وبذلك يخرجون كل مذاهب المسلمين عن الإسلام، ولا يبقى مسلم إلا هم والمجسمة!!

وهكذا يرتكب الوهابيون كأجدادهم المجسمة إفراطا نحو المادية في تفسير وجود الله تعالى وصفاته بالحس، ويحكمون بضلال من خالفهم وكفرهم!!


الصفحة 269
ثم يرتكبون إفراطاً مادياً آخر في تحريمهم التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) والأولياء وزيارة قبورهم ويعتبرونها شركاً، ويحكمون بضلال من خالفهم في ذلك وكفرهم!

والقاسم المشترك بين الإنحرافين أن أذهانهم مسكونة بالمادية، فهي لا ترى غيرها ولا تؤمن بغيرها.. ورحم الله أصحابهم الماديين الغربيين!!

بقي حكم الدكتور القفاري على أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم كانوا مثله تيميين وهابيين، حيث اكتفى بالإستدلال على ذلك بقول ابن تيمية الذي لم يذكر عليه دليلاً! فقد نقل القفاري عن ابن تيمية قوله (والثابت عن علي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت إثبات الصفات لله... والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم). وقد كرر ابن تيمية هذا الادعاء في كتبه ولم يأت عليه بدليل!

  قال في مجموعة رسائله مجلد 1 جزء 3 ص 115:

(لكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم، فليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد من كان ينكر الرؤية). انتهى.

ومن حق القارئ أن يطلب نموذجاً من هذا النقل المستفيض، الذي ادعاه ابن تيمية، ثم ادعاه به تلميذه الأكاديمي الدكتور القفاري! ولا بد أنه فتش عنه هو وفريقه فلم يجدوا منه حتى رواية واحدة، مع أنه حسب زعم إمامهم ابن تيمية (مستفيض في كتب أهل العلم) ولكنهم أصروا على دعواهم بدون بينة وعلى حكمهم بدون دليل!! وهكذا، طار وعد الدكتور بالموضوعية والأكاديمية، كما طار وعده سابقاً بالإستناد إلى مصادر الشيعة!


الصفحة 270
حسناً، لنا الله.. فلنطوِ هذه الصفحة ولننظر إلى وعد الدكتور الثالث بأن يكون أميناً فيما ينقل من مصادر الشيعة، حيث قال كما تقدم:

(والموضوعية الصادقة أن تنقل من كتبهم بأمانة، وأن تختار المصادر المعتمدة عندهم، وأن تعدل في الحكم، وأن تحرص على الروايات الموثقة عندهم أو المستفيضة في مصادرهم ما أمكن). انتهى. فلننظر كيف طبق كلامه في مسألة رؤية الله تعالى بالبصر..

  قال في ج 2 ص 551:

(لقد ذهبت الشيعة الإمامية بحكم مجاراتهم للمعتزلة إلى نفي الرؤية وجاءت روايات عديدة ذكرها ابن بابويه في كتابه التوحيد وجمع أكثرها صاحب البحار تنفي ما جاءت به النصوص من رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة... فنفيهم لرؤية المؤمنين لربهم في الآخرة خروج عن مقتضى النصوص الشرعية، وهو أيضاً خروج عن مذهب أهل البيت، وقد اعترفت بعض رواياتهم بذلك، فقد روى ابن بابويه القمي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله قال: قلت له أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم (1).

وقال في هامشه: (1) ابن بابويه التوحيد ص 117، بحار الأنوار: 4 44، وانظر: رجال الكشي ص 450 (رقم 848). انتهى.

ويبدو الدكتور هنا أكاديمياً موضوعياً، لأنه يقول وجدت رواية في مصادر الشيعة عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) تثبت أنه يعتقد برؤية الله تعالى بالعين يوم القيامة، بينما ينفي الشيعة إمكان الرؤية بالعين في الدنيا والآخرة وينسبون رأيهم إلى أهل البيت (عليهم السلام)! فكيف يدعون أنهم شيعة أهل البيت ويخالفون إمامهم جعفر الصادق؟!


الصفحة 271
ولكن دكتورنا لم يكن أميناً في نقله من مصادر الشيعة مع الأسف، فقد بتر النص وقطع منه جزءاً ناقصاً ليستدل به على ما يريد! فطارت بذلك (موضوعيته الصادقة) التي يدعيها وصارت (موضوعية) غربية مثلا ً!

  وإليك أصل الرواية: قال الصدوق في كتابه (التوحيد) ص 117:

(.. عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال قلت له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت متى؟ قال: حين قال لهم: ألست بربكم قالوا بلى، ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له جعلت فداك فأحدث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنك إذا حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون.). انتهى.

فالرواية الشريفة تثبت الرؤية بالبصيرة والعقل، وتبين أنها حاصلة قبل الدنيا من يوم أخذ الله ميثاق ذرية آدم على ربوبيته وهي مستمرة في الدنيا، وفي الآخرة تكون أجلى وأوضح. وتنفي ادعاء الرؤية بالعين وتعتبرها تشبيهاً لله تعالى بخلقه وكفراً!! ومع ذلك أقدم الدكتور على قطع السطر الأول منها فقط إلى قوله (نعم) وحذف السطور التي بعده، لينسب بذلك رؤية الله تعالى بالعين إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)!!

لقد ارتكب هذا الدكتور ما لا يناسب مسلماً بقالاً، فضلاً عن دكتور من الدرجة الأولى في جامعة الإمام محمد بن سعود! وبعمله هذا طار الشرف الذي منحته الجامعة لرسالته فقالت (وقد أجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف

الصفحة 272
الأولى، مع التوصية بطبعها وتبادلها بين الجامعات) ولو كنت رئيس كليته وارتكب عندي مثل هذه الخيانة العلمية لسحبت منه درجته ومنعت تعميم رسالته، ثم اعتذرت من الذين أساء إليهم وغرهم بشهادته.. حتى لا تسقط الجامعة عن الإعتبار العلمي.. ولكن أساتذة القفاري لا يفعلون لأن الأمر ليس بيدهم، بل قد تزداد مكانة القفاري عند شيوخه لأنه أجاد سب الشيعة وشتمهم، وألبس ذلك ثوباً جامعياً والحمد لله!

كنت أتصور عندما تصفحت كتاب القفاري لأول مرة أنه يستحق الإهتمام لأنه كتاب علمي، لكن بعد أن وقفت على هذه الفضيحة قررت أن لا أتعب نفسي بتدقيق بقية ما نقله من مصادرنا؟ لأن كذبة واحدة في كتاب تكفي شرعاً لإسقاطه عن الإعتبار.

نعم بقيت مسألتان من كتاب القفاري تتعلقان بموضوعنا بنحو وآخر:

المسألة الأولى: اتهامه إيانا بأنا أخذنا عقائدنا من اليهود والمجوس والوثنيات أو تأثرنا بها.. قال في ج 1 ص 87 تحت عنوان:

(المذهب الشيعي مباءة للعقائد الآسيوية القديمة: ويضيف البعض أن مذهب الشيعة كان مباءة ومستقراً للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية وغيرها. يقول الأستاذ أحمد أمين: وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح وتجسيم الله والحلول، ونحو ذلك من الأقوال التي كانت معروفة عند البراهمة والفلاسفة والمجوس قبل الإسلام. ويشير بعض المستشرقين إلى تسرب الكثير من العقائد غير الإسلامية إلى الشيعة ويقول إن تلك العقائد انتقلت إليها من المجوسية والمانوية والبوذية، وغيرها من الديانات التي كانت سائدة في آسيا قبل ظهور الإسلام). انتهى.


الصفحة 273
ونلاحظ أن دكتورنا صار هنا عصرياً علمانياً، فقد اعتمد في اتهامه الشيعة على أحمد أمين المصري العلماني وعلى المستشرقين الموضوعيين! لأنهم ضد الشيعة!! وقد قلد القفاري في ترديد مقولات العلمانيين والغربيين عن الشيعة وهابي آخر فكتب كتاباً باسم (عون المعبود في إثبات أن الشيعة كاليهود)!

وجوابنا لهما: أن أحاديث كعب الأحبار وجماعته ما زالت ضاربة أطنابها ومستوطنة في مصادركم، لا في مصادرنا! وما زالت تطبع بأحسن الطبعات وتدرس في المعاهد والجامعات!! وأن كعباً وجماعته كانوا يسكنون في دور الخلافة لا في بيوت أهل البيت (عليهم السلام)! وقد تقدم شئ من ذلك في هذا الكتاب كما وثقناه في (العقائد الإسلامية) المجلد الثاني في بحث الرؤية، وفي كتاب (تدوين القرآن).

أما عن تأثر الشيعة بالمجوسية والعقائد الآسيوية، فإن المجوس صاروا سنيين أولاً، وألفوا للسنيين أهم مصادرهم وصحاحهم وعقائدهم وفقههم، بل أسسوا لهم مذاهبهم ونظروا لها، وبعد قرون طويلة صار أبناؤهم شيعة وساهموا في تأليف مصادرنا!!

فإن كان المسلمين الفرس متأثرين بعقائدهم المجوسية والآسيوية فقد نقلوها معهم إلى التسنن الذي الذي صاروا أئمة مذاهبه وأئمة مصادره الى يومنا هذا!

وعندما صار أبناؤهم شيعة فالذي يمكن أن ينقلوه معهم إلى التشيع هو تأثرهم بالتسنن لا بالمجوسية، إلا أن يكون ضمن هذا التسنن تأثراتهم السابقة بالمجوسية!

كأن هذا الدكتور لا يعرف أن التشيع لا يضاهيه مذهب بعروبته! وأن مؤسسي مذهبه الذي يناقشنا به، ومؤلفي مصادره التي يحاجنا بها عجم من

الصفحة 274
قرونهم إلى أقدامهم.. إن تسعين بالمئة من أئمته أصحاب المصادر السنية هم من الفرس، (والأئمة) الذين يحتج بهم الوهابيون من مجسمة الحنابلة وواصفي الله تعالى بصفات الأجسام هم من اليهود أو الفرس؟!

وكأن هذا الدكتور لا يعرف أن عدداً من الذين يسبهم من علماء الشيعة الفرس هم أولاد أئمته الذين يقدسهم.. فالعلامة المجلسي الشيعي صاحب موسوعة (بحار الأنوار) المتوفى سنة 1111 هجرية هو من أولاد الحافظ أبي نعيم الإصفهاني السني المتوفى سنة 435 هجرية!

وأن ابن جزي، وابن خزيمة، والجويني، ومسلماً، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وأبا داود، والحاكم، وأبا حنيفة، وعشرات الفرس بل مئاتهم، إنما صار أبناؤهم شيعة بعد قرون طويلة، وصار منهم علماء من علماء الشيعة!

فمن أولى بتهمة التأثر بالعقائد المجوسية والآسيوية أيها الدكتور الباحث، الأجداد السنيون وثقافتهم، أم الأبناء الشيعيون؟!

على أن الباحث العاقل المتزن لا يرسل أحكامه جزافاً، لأنه لا بد له أن يفحص الأفكار والعقائد واحدة واحدة، ويرى ما تملكه من دليل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، ودلالة العقل القطعية، فإن تم دليلها فلا يهمه أن يكون لها شبيه عند هؤلاء القوم أو أولئك، وفي هذا الدين أو ذاك، ولا يهمه أن يقبلها كل الناس أو يرفضوها ويهرجوا على من يتبناها... ورحم الله شاعرنا القائل:


نحن أتباع الدليلأينما مال نميل

والمسألة الثانية مع الدكتور القفاري: في معنى المصادر المعتمدة عندنا:

فالظاهر أن إخواننا الجامعيين ومنهم القفاري لم يعرفوا أن مفهومنا عن المصادر المعتمدة هو من مفاخر المذهب الشيعي في تبني حرية البحث العلمي.


الصفحة 275

  قال القفاري في ج 1 ص 368:

(قال جعفر النجفي (ت 1227 هـ) شيخ الشيعة الإمامية ورئيس المذهب في زمنه، قال في كتابه كشف الغطاء عن مؤلفي الكتب الأربعة: والمحمدون الثلاثة كيف يعول في تحصيل العلم عليهم، وبعضهم يكذب رواية بعض.. ورواياتهم بعضها يضاد بعضها.. ثم إن كتبهم قد اشتملت على أخبار يقطع بكذبها كأخبار التجسيم والتشبيه وقدم العالم، وثبوت المكان والزمان.

ولكن أصحاب الكتب الأربعة نصوا في مقدماتهم بأنهم لا يذكرون إلا الصحيح، فيجيب صاحب كشف الغطاء عن ذلك بقوله: فلا بد من تخصيص ما ذكر في المقدمات أو تأويله على ضرب من المجازات أو الحمل على العدول عما فات حيث ذكروا في تضاعيف كتبهم خلاف ما ذكروه في أوائلها، أي أنهم عدلوا عن شرط الصحة الذي ذكروه في مقدمات كتبهم!

ثم يأتي الاعتراض الأكثر صعوبة وهو أن هذه الكتب الأربعة مأخوذة كما يقولون من أصول معروضة على الأئمة، وأصول الكافي كتب في عصر الغيبة الصغرى، وكان بالإمكان الوصول إلى حكم الإمام على أحاديثه، بل قالوا بأنه عرض على مهديهم فقال بأنه كاف لشيعتنا، كما أن صاحب من لا يحضره الفقيه أدرك من الغيبة الصغرى نيفا وعشرين سنة). انتهى.

ينبغي أن يعرف هؤلاء الأخوة أن معنى المصادر المعتمدة عندنا يختلف عن معناه عند إخواننا السنة، فروايات مصادرنا المعتمدة وفتاواها جميعاً عندنا قابلة للبحث العلمي والإجتهاد.


الصفحة 276
وأن المصدر (ما عدا كتاب الله تعالى) ليس قطعة واحدة إما أن نقبله كله أو نتركه كله، بل كل رواية فيه أو رأي أو فتوى، لها شخصيتها العلمية المستقلة.

أما السنيون فيرون أن مصادرهم المعتمدة فوق البحث العلمي، فصحيح البخاري برأيهم كتاب معصوم من الجلد إلى الجلد، بل هو عندهم أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، ورواياته قطعة واحدة، فإما أن تأخذها وتؤمن بها كلها، أو تتركها كلها! فبمجرد أن تحكم بضعف رواية واحدة من البخاري فإنك ضعفته كله... وصرت مخالفاً للبخاري ولأهل السنة والجماعة!

وينتج عن ذلك أن الباحث الشيعي يمكن أن يبحث جدياً في رواية من كتاب الكافي وغيره من المصادر المعتبرة عند الشيعة، ويتوصل إلى التوقف في سندها أو تضعيفه، فلا يفتي بها، ولا يضر ذلك بإيمانه وتشيعه.

بينما السني محرم عليه ذلك، وإن فعل فقد تصدر فيه فتاوى الخروج عن المذاهب السنية، وقد يتهم بالرفض ومعاداة الصحابة!

ولا بد أن يعرف الدكتور القفاري وأمثاله أن شهادة مؤلف الكتاب الحديثي بصحة كتابه، إنما هي اجتهاده الشخصي وهي حجة عليه وعلى مقلديه فقط.

ويبقى من حق المجتهد الآخر أن يبحث ويصحح ما صححه مؤلف أو يضعفه.

وقد يتأثر بالمؤلف وتصحيحاته أو تضعيفاته وقد لا يتأثر، والحجة الشرعية في النهاية بينه وبين الله تعالى هي اجتهاده، وليس اجتهاد صاحب الصحيح.


الصفحة 277
وليت القفاري التفت إلى الكلام العلمي الذي نقله عن المرحوم الشيخ جعفر الجناحي (كاشف الغطاء) عندما قال (والمحمدون الثلاثة كيف يعول في تحصيل العلم عليهم، وبعضهم يكذب رواية بعض.. ورواياتهم بعضها يضاد بعضها..).

فالشيخ الجناحي يقول لا يمكن للمجتهد أن يقلدهم ويقول حصل لي العلم بصحة الحديث من شهادة الكليني أو الصدوق أو الطوسي، لأن كلا منهم اجتهد فصحح أو ضعف، وبقي على المجتهد أن يجتهد في علم الفقه وفي الحديث والجرح والتعديل، ويصحح أو يضعف..

ونفس هذا الكلام يجب أن يقوله إخواننا السنة في صحاحهم ومصادر حديثهم، فقد اجتهد أصحابها وشهدوا بصحتها، والباحث فيها لا يحصل له العلم بصدور الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) من شهادة البخاري مثلاً، لأن فيه أحاديث متعارضة متضادة لا يمكن الجمع بينها لأن بعضها يكذب بعضاً، فلا بد للمجتهد أن يبحث بنفسه ويصحح أو يضعف.. والعوام في كل عصر يقلدون في تصحيح الأحاديث وتضعيفها علماء ذلك العصر من المجتهدين أهل الخبرة.. هذا هو الوضع الطبيعي لأتباع كل دين، وهذا هو المنهج العلمي السليم الذي يقره العقل والمنطق.. أما القول بأنه يجب على الأمة أن تقفل على نفسها باب الإجتهاد في تصحيح أحاديث نبيها إلى يوم القيامة، وتقلد مؤلفي ستة كتب أو خمسين كتاباً، فهو بدعة عباسية ومرسوم من مراسيمهم، لكن إخواننا ما زالوا يتمسكون به خوفاً على تجسيمهم وإسرائيلياتهم من فتح باب البحث العلمي والإجتهاد!


الصفحة 278
وإذا فتحوه أوجبوا تقلد الشيخ ناصر الألباني وحده لأنه وهابي!

إنهم أحرار إذا أرادوا الجمود على هذه الكتب أو تلك، ولكن نرجوهم أن لا يتصورا أصحاب الرأي الآخر بدوا لا يفهمون، ولا يتخيلوا أن الحرية العلمية التي يتبناها علماء الشيعة منقصة ومسبة، ودليل على بطلان مصادرهم وأحاديثهم، كما فعل هذا القفاري لعدم تأمله في معنى كلمات المجتهدين المتخصصين!!

أما اعتراضه الذي سماه (الإعتراض الأكثر صعوبة) لماذا دونت الكتب الأربعة عند الشيعة عن أصول رويت عن الأئمة ولم تدون عن الأئمة مباشرة؟ فهو يدل على قلة خبرته بتاريخ الحديث وتدوينه، فإن هذا الإشكال يتوجه إلى تدوين الصحاح الستة وغيرها من مصادر إخواننا، لأن أئمتهم منعوا تدوين الحديث أكثر من قرن من الزمان، ثم دونوا كتبهم من محفوظات الرواة المرضيين عند الدولة!

أما نحن فإن أئمتنا من أهل البيت (عليهم السلام) كانوا حاضرين بيننا إلى سنة 260 هجرية حيث غاب الإمام المهدي (عليه السلام)، فكانوا هم حجج الله على المسلمين بنص النبي (صلى الله عليه وآله) وكان الشيعة يرجعون إليهم في تصحيح الأحاديث وتلقي معالم دينهم، وكان الرواة والعلماء يكتبون عنهم من زمن علي (عليه السلام) إلى القرن الثالث، وبعد هذا التاريخ قام عدد من العلماء بجمع الأصول المكتوبة عنهم في موسوعات..

فكتبنا الأربعة وغيرها مأخوذة باليد عن أصحاب الأئمة(عليهم السلام)، وسند أئمتنا إلى جدهم صلى الله عليه وعليهم هو المسمى بسلسلة الذهب،

الصفحة 279
المقدسة عند جميع المسلمين، والتي قال عنها الإمام أحمد بن حنبل: (لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه). قال في هامش مسند زيد بن علي ص 440:

(أورد صاحب كتاب تاريخ نيسابور أن علياًّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق لما دخل نيسابور كان في قبة مستورة على بغلة شهباء وقد شق بها السوق، فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة وأبو مسلم الطوسي ومعهما من أهل العلم والحديث ما لا يحصى فقالا: يا أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة، بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدك أن نذكرك به.

فاستوقف غلمانه وأمر بكشف المظلة وأقر عيون الخلايق برؤية طلعته، وإذا له ذؤابتان معلقتان على عاتقه والناس قيام على طبقاتهم ينظرون ما بين باك وصارخ، ومتمرغ في التراب، ومقبل حافر بغلته وعلا الضجيج، فصاحت الأئمة الأعلام: معاشر الناس، أنصتوا واسمعوا ما ينفعكم ولا تؤذونا بصراخكم، وكان المستملي أبا زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي، فقال علي الرضا رضي الله عنه: حدثني أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه شهيد كربلا عن أبيه علي المرتضى قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال حدثني جبريل (عليه السلام) قال حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال: لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي.

ثم أرخى الستر على المظلة وسار، قال فعد أهل المحابر وأهل الدواوين الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفاً.


الصفحة 280
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه).!


*  *  *


الصفحة 281


الفصل الحادي عشر
النابغة هشام بن الحكم





الصفحة 282

الصفحة 283

النابغة هشام بن الحكم

دأبت كتب الملل والمذاهب على اتهام عدد من كبار علماء الشيعة ورواتهم بالتجسيم ومن أبرزهم هشام بن الحكم...

وعندما يتتبع الباحث آراء هؤلاء الضحايا وسيرتهم لا يجد فيها لهذه التهمة عيناً ولا أثر، ويعرف أنه لا يوجد سبب لهذا الإفتراء إلا أن هؤلاء كانوا مدافعين أقوياء عن أهل البيت (عليهم السلام) ومذهبهم!

والذي يظهر من أخبار هشام بن الحكم أنه كان في زمن الرشيد أقوى مناظر مسلم يهابه علماء اليهود والنصارى والمجوس والملحدين، فقد تحداهم جميعاً وأفحمهم! كما كان مناظراً شيعياً قديراً، وقد أفحم عمرواً بن عبيد وأبا الهذيل العلاف وغيرهما من المعتزلة والأشاعرة.

وكان جعفر البرمكي يعقد في قصر هارون الرشيد جلسات للمناظرة بين علماء الأديان والمذاهب المختلفة وكان هارون يشاهد بعضها من وراء الستر!

وقد برز هشام بنبوغه وقوة منطقه في تلك المجالس وغيرها، وذاعت شهرته، وسجل التاريخ بعض مناظراته مع أئمة الأديان.

وقد استطاع البرمكي وزير الرشيد بدهائه المجوسي وعدائه لأهل البيت (عليهم السلام) أن يجر هشاماً في إحدى الجلسات إلى المناظرة في الإمامة ليحرك

الصفحة 284
عليه الرشيد، فغضب الرشيد على هشام وأراد قتله، ولكنه فر من قبضتهم وبقي مختفياً إلى أن توفي&. وقد نص المسعودي في مروج الذهب على هذه الحادثة، قال في ج 3 ص 379: (... مجلس عند يحيى بن خالد يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم فقال لهم يحيى: قد أكثرتم الكلام ونفي الصفات وإثباتها والاستطاعة والأفعال... والإمامة أنص هي أم اختيار...؟) إلى آخره..

ويكفي للرد على تهمتهم لهشام بالتجسيم، وكذب ما رووه عه في طول معبوده وعرضه ولونه.. أن الأشعري نفسه نقل عن هشام تفسيره لقوله بأن الله تعالى جسم، وأنه يقصد به نفي التعطيل وأنه شئ لا كالأشياء.. قال في مقالات الاسلاميين: 2/9: (قال هشام بن الحكم: معنى الجسم أنه موجود، وكان يقول: إنما أريد بقولي: جسم، أنه موجود، وأنه شئ، وأنه قائم بنفسه). انتهى.

ونكتفي هنا بذكر دفاع الشريف المرتضى عن هشام، ثم نذكر نماذج من مناظراته التي تثبت وحدها براءة الرجل وبعده عن تهمة كتب الملل المعروفة.

قال الشريف المرتضى في الشافي ص 83: (فأما ما رمي به هشام بن الحكم (رحمه الله) بالتجسيم، فالظاهر من الحكاية عنه القول بجسم لا كالأجسام. ولا خلاف في أن هذا القول ليس بتشبيه ولا ناقض لأصل، ولا معترض على فرع، وأنه غلط في عبارة يرجع في إثباتها ونفيها إلى اللغة.

وأكثر أصحابنا يقولون إنه أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة فقال لهم: إذا قلتم إن القديم تعالى شئ لا كالأشياء فقولوا إنه جسم لا كالأجسام. وليس كل من عارض بشئ وسأل عنه يكون معتقداً له ومتديناً به، وقد يجوز

الصفحة 285
أن يكون قصد به إلى إستخراج جوابهم عن هذه المسألة ومعرفة ما عندهم فيها، أو إلى أن يبين قصورهم عن إيراد المرتضى في جوابها. إلى غير ذلك مما لا يتسع ذكره.

فأما الحكاية عنه أنه ذهب في الله تعالى أنه جسم له حقيقة الأجسام الحاضرة، وحديث الأشبار المدعى عليه فليس نعرفه إلا من حكاية الجاحظ عن النظام، وما هو فيها إلا متهم عليه غير موثوق بقوله في مثله.

وجملة الأمر أن المذاهب يجب أن تؤخذ من أفواه قائليها وأصحابهم المختصين بهم ومن هو مأمون في الحكاية عنهم، ولا يرجع فيها إلى دعاوى الخصوم، فإنه إن يرجع إلى ذلك في المذهب اتسع الخرق وجل الخطب، ولم نثق بحكاية في مذهب ولا استناد مقالة. ولو كان يذهب هشام إلى ما يدعونه من التجسم وجب أن يعلم ذلك ويزول اللبس فيه، كما يعلم قول الخوارزمي وأصحابه بذلك، ولا نجد له دافعاً، كما لا نجد لمقالة الخوارزمي دافعاً.

ومما يدل على براءة هشام من هذا القرف ورميه على هذا المعنى الذي يدعونه، ما روي عن الصادق (عليه السلام) في قوله: لا تزال يا هشام مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

وقوله (عليه السلام) حين دخل عليه وعنده مشائخ الشيعة فرفعه على جماعتهم، وأجلسه إلى جانبه في المجلس وهو إذ ذاك حديث السن: هذا ناصرنا بقلبه ويده ولسانه.

وقوله (عليه السلام): هشام بن الحكم رائد حقنا وسايق قولنا، المؤيد لصدقنا والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أمره تبعنا، ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا.


الصفحة 286
وأنه (عليه السلام) كان يرشد في باب النظر والحجاج، ويحث الناس على لقائه ومناظرته. فكيف يتوهم عاقل مع ما ذكرناه على هشام هذا القول بأن ربه سبعة أشبار بشبره؟

وهل ادعاء ذلك عليه رضوان الله عليه مع اختصاصه المعلوم بالصادق (عليه السلام) وقربه منه، وأخذه عنه إلا قدح في أمر الصادق (عليه السلام) ونسبة له إلى المشاركة في الإعتقاد الذي نحلوه هشاما. وإلا كيف لم يظهر عنه من التنكير عنه، والتبعيد له ما يستحقه المقدم على هذا الإعتقاد المنكر، والمذهب الشنيع.

فأما حدوث العالم فهو أيضاً من حكاياتهم المختلقة وما نعرف للرجل فيه كتاباً، ولا حكاه عنه ثقة). انتهى.

وقال في هامشه: قال الشهرستاني في الملل و النحل 1/185: (هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة، فإن الرجل وراء ما يلزمه على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه، وذلك أنه ألزم العلاف فقال: إنك تقول الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته، فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم ويباينها في أن علمه ذاته، فيكون عالماً لا كالعالمين، فلم لا تقول: إنه جسم لا كالأجسام وصورة لا كالصور، وله قدر لا كالأقدار). انتهى.

ولكن العجيب أن الشهرستاني بعد وصفه هشاماً بما وصفه به من المعرفة نقل عنه القول بإلهية علي (عليه السلام)، وهو أجل من ينسب إليه مثل هذا القول. انتهى.


الصفحة 287
هذا، ومن العجيب من باحث وهابي أن يشنع على هشام بن الحكم بسبب قوله إن الله تعالى جسم لا كالأجسام، في حين أن ذلك هو مذهب الوهابية، فقد رفض ابن باز وابن تيمية نفي صفة الجسم عن الله تعالى، كما تقدم! فالأولى بالوهابيين أن يدعوا أن هشاماً بن الحكم منهم بسبب مقولته هذه!! على أنك سترى من مناظراته براءة أفكاره عن القول بالجهة والتجسيم.

مناظرته مع مجوسي يؤمن بإله النور و إله الظلمة

  قال ابن قتيبة في عيون الأخبار: 2/153:

(دخل الموبذ على هشام بن الحكم. فقال له: يا هشام، حول الدنيا شئ؟ قال: لا. قال: فإن أخرجت يدي فثم شئ يردها؟ قال هشام: ليس ثم شئ يردك، ولا شئ تخرج يدك فيه. قال: فكيف أعرف هذا؟

قال له: يا موبذ، أنا وأنت على طرف الدنيا، فقلت لك يا موبذ: إني لا أرى شيئاً، فقلت لي: ولم لا ترى، فقلت لك: ليس هاهنا ظلام يمنعني، قلت لي أنت: يا هشام إني لا أرى شيئاً، فقلت لك: ولم لا ترى؟ قلت: ليس ضياء أنظر به، فهل تكافأت الملتان في التناقض؟ قال: نعم.

قال: فإذا تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شئ؟

فأشار الموبذ بيده أن أصبت!

ودخل عليه يوماً آخر، فقال: هما في القوة سواء؟ قال: نعم. قال: فجوهرهما واحد؟

قال الموبذ لنفسه ومن حضر يسمع: إن قلت إن جوهرهما واحد، عادا في نعت واحد، وإن قلت مختلف، اختلفا أيضاً في الهمم والإرادات ولم يتفقا في الخلق، فإن أراد هذا قصيراً أراد هذا طويلاً!!


الصفحة 288
قال هشام: فكيف لا تسلم؟! قال: هيهات!). انتهى.

مناظرته مع جاثليق نصراني

  قال الصدوق في التوحيد للصدوق ص 270:

(أبي (رحمه الله) قال: حدثنا أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى العطار، عن محمد بن أحمد، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن حماد، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم، عن جاثليق من جثالقة النصارى يقال له بريهة، قد مكث جاثليق النصرانية سبعين سنة وكان يطلب الإسلام ويطلب من يحتج عليه ممن يقرأ كتبه ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته، قال وعرف بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس، حتى افتخرت به النصارى وقالت: لو لم يكن في دين النصرانية إلا بريهة لا جزأنا، وكان طالباً للحق والإسلام مع ذلك، وكانت معه امرأة تخدمه طال مكثها معه، وكان يسر إليها ضعف النصرانية وضعف حجتها، قال فعرفت ذلك منه، فضرب بريهة الأمر ظهراً لبطن وأقبل يسأل فرق المسلمين والمختلفين في الإسلام، من أعلمكم؟

وأقبل يسأل عن أئمة المسلمين وعن صلحائهم وعلمائهم وأهل الحجى منهم، وكان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئاً، وقال لو كانت أئمتكم أئمة على الحق لكان عندكم بعض الحق، فوصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم. فقال يونس بن عبد الرحمن: فقال لي هشام: بينما أنا على دكاني على باب الكرخ جالس وعندي قوم يقرؤون علي القرآن فإذا أنا بفوج النصارى معه ما بين القسيسين إلى غيرهم نحو من مائة رجل عليهم

الصفحة 289
السواد والبرانس، والجاثليق الأكبر فيهم بريهة حتى نزلوا حول دكاني وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه، فقامت الأساقفة والرهابنة على عصيهم، وعلى رؤوسهم برانسهم.

فقال بريهة: ما بقي من المسلمين أحد ممن يذكر بالعلم بالكلام إلا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شئ، وقد جئت أناظرك في الإسلام.

قال: فضحك هشام فقال: يا بريهة إن كنت تريد مني آيات كآيات المسيح فليس أنا بالمسيح ولا مثله ولا أدانيه، ذاك روح طيبة خميصة مرتفعة، آياته ظاهرة وعلاماته قائمة. قال بريهة: فأعجبني الكلام والوصف. قال هشام: إن أردت الحجاج فها هنا. قال بريهة: نعم، فإني أسألك ما نسبة نبيكم هذا من المسيح نسبة الأبدان؟ قال هشام: ابن عم جده (لأمه) لأنه من ولد إسحاق ومحمد من ولد إسماعيل. قال بريهة: وكيف تنسبه إلى أبيه؟ قال هشام: إن أردت نسبه عندكم أخبرتك، وإن أردت نسبه عندنا أخبرتك. قال بريهة: أريد نسبه عندنا، وظننت أنه إذا نسبه نسبتنا أغلبه. قلت: فانسبه بالنسبة التي ننسبه بها. قال هشام: نعم، تقولون: إنه قديم من قديم، فأيهما الأب وأيهما الإبن؟

قال بريهة: الذي نزل إلى الأرض الإبن. قال هشام: الذي نزل إلى الأرض الأب!

قال بريهة: الإبن رسول الأب. قال هشام: إن الأب أحكم من الإبن لأن الخلق خلق الأب. قال بريهة: إن الخلق خلق الأب وخلق الإبن. قال هشام: ما منعهما أن ينزلا جميعاً كما خلقا إذا اشتركا؟! قال بريهة: كيف يشتركان وهما شئ واحد إنما يفترقان بالإسم.


الصفحة 290
قال هشام: إنما يجتمعان بالإسم. قال بريهة: جهل هذا الكلام. قال هشام: عرف هذا الكلام. قال بريهة: إن الإبن متصل بالأب. قال هشام: إن الإبن منفصل من الأب.

قال بريهة: هذا خلاف ما يعقله الناس. قال هشام: إن كان ما يعقله الناس شاهداً لنا وعلينا فقد غلبتك، لأن الأب كان ولم يكن الإبن فتقول هكذا يا بريهة؟ قال: ما أقول هكذا. قال: فلم استشهدت قوماً لا تقبل شهادتهم لنفسك؟! قال بريهة: إن الأب اسم والإبن اسم يقدر به القديم. قال هشام: الإسمان قديمان كقدم الأب والإبن؟ قال بريهة: لا ولكن الأسماء محدثة. قال: فقد جعلت الأب إبناً والابن أباً. إن كان الإبن أحدث هذه الأسماء دون الأب فهو الأب، وإن كان الأب أحدث هذه الأسماء دون الابن فهو الأب والإبن أب وليس ههنا ابن. قال بريهة: إن الإبن إسم للروح حين نزلت إلى الأرض.

قال هشام: فحين لم تنزل إلى الأرض، فاسمها ما هو؟ قال بريهة: فاسمها إبن نزلت أو لم تنزل. قال هشام: فقبل النزول هذه الروح كلها واحدة واسمها اثنان؟ قال بريهة: هي كلها واحدة روح واحدة. قال: قد رضيت أن تجعل بعضها إبناً وبعضها أباً.

قال بريهة: لا، لأن اسم الأب واسم الإبن واحد. قال هشام: فالإبن أبو الأب، والأب أبو الابن، والإبن واحد. قالت الأساقفة بلسانها لبريهة: ما مر بك مثل ذا قط، تقوم؟ فتحير بريهة وذهب ليقوم فتعلق به هشام، قال: ما يمنعك من الإسلام؟ أفي قلبك حزازة؟ فقلها وإلا سألتك عن النصرانية مسألة واحدة تبيت عليها ليلك هذا فتصبح وليس لك همة غيري،