الصفحة 27

المقـام الأوّل
في معنى الآيـة(1)


فأقـول:

ظاهر الآية أنّها إنّمـا جاءت على سـبيـل التمثيل والتصوير، فمعـناها ـ والله تعالى أعلم ـ:

{ و } اذكر يا محمّـد للناس ما قد واثقوا الله عليه بلسان حالهم التكوينيّ، من الإيمان به، والشهادة له بالربوبية، وذلك { إذ أخذ ربّك } أي حيث أخذ ربّك جلّ سلطانه { من بني آدم } أي { من ظهورهم ذرّيّتهم }، فأخرجها من أصلاب آبائهم نطفاً، فجعلها في قرار مكين من أرحام أُمّهاتهم، ثمّ جعل

____________

1- أقـول: إنّ هذه الآية المباركة من أعجب الآيات نظماً، وأوضحها وأدقّها دلالة على الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى من بني آدم على ربوبيّته، ويسـتفاد من سـياق الآية والآيات التي بعدها أنّ الله تعالى قطع عذر العباد بإقامته الحجّة عليهم ; إذ لولا هذا الأخذ والإشهاد على ربوبيّته تعالى، ونبـوّة النبـيّ محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإمامـة الأئمّـة الاثني عشر (عليهم السلام)، لكان للعباد أن يحتجّوا على الله يوم القيامة بحجّة يدفعون بها عن أنفسهم العذاب لعدم إيمانهم، أو شركهم به سـبحانه، ولعدم إيمانهم بالنبـوّة والإمامـة.


الصفحة 28
النطف علقاً، ثمّ مُضَغاً، ثمّ عظاماً، ثمّ كسا العظام لحماً، ثمّ أنشأ كلاًّ منهم خلقاً سويّـاً(1)، قويّـاً، في أحسن تقويم(2)، سميعاً بصيراً(3)، ناطقاً، عاقلا، مفكّراً، مدبّراً، عالماً، عاملا، كاملا، ذا حواسَّ ومشاعرَ وأعضاء أدهشـت الحكماء، وذا مواهب عظيمة، وبصائر نـيّرة تمـيّـز بين الصحيح والفاسد، والحسن والقبيـح، وتفـرّقُ بين الحـقّ والباطل، فيدرك بها آلاء الله في ملكوته، وآيات صنعه جلّ وعلا في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وفي نُـظُمه المسـتقيمة جارية في سـمائه وأرضه على مناهجه الحكيمـة.

وبذلك وجب أن يكونوا على بـيّـنة قاطعة بربوبـيّـته، مانعة عن الجحـود بوحدانـيّـته.

فكأنّـه تبارك وتعالى ـ إذ خلقهـم على هذه الكيفية ـ

____________

1- إشارة إلى قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سُلالة من طين * ثُمّ جعلناه نطفة في قرار مكين * ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فـتبارك الله أحسن الخالقين) سورة المؤمنون 23: 12 ـ 14.

2- إشارة إلى قوله سبحانه تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) سورة التيـن 95: 4.

3- إشارة إلى قوله تعالى: (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) سورة الإنسان 76: 2.


الصفحة 29
قـرّرهم { وأشهدهم على أنفسهم } فقال لهم: { ألسـتُ بربّـكم }؟!(1).

وكأنّهم { قالوا بلى شهدنا } على أنفسنا لك بالربوبية، وبخعنا لعزّتك وجلالك بالعبودية، نزولا على ما قد حَكَمَتْ به عقولنا، وجَزَمَتْ به بصائرنا، حيث ظهر لديها أمرك، وغلب عليها قهرك، فلا إله إلاّ أنت، خلقتنا من تراب، ثمّ أخرجتنا من الأصلاب نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظاماً، ثمّ كسوت العظام لحماً، ثمّ أنشأتنا خلقاً آخر قد انطوى فيه العالم الأكبر..

____________

1- نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 12 / 100، عن أبي سعيد الخدري، قال: " حججنا مع عمر أوّل حجّة حجّها في خلافته، فلمّا دخل المسجد الحرام، دنا من الحجر الأسود فقبّله واسـتلمه، وقال: إنّـي لأعـلـم أنّـك حـجَـر لا تضـرّ ولا تـنفـع، ولولا أنّـي رأيـت رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قـبّلك واسـتلمك لَما قـبّلتك ولا اسـتلمتك.

فقال له عليٌّ (عليه السلام): بلى... إنّه ليضرُّ وينفع، ولو علمتَ تأويل ذلك من كـتاب الله لعلمتَ أنّ الذي أقول لك كما أقول ; قال الله تعالى: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألسـتُ بربّـكم قالوا بلى)، فلمّا أشهدهم وأقرّوا له أنّه الربّ عزّ وجلّ وأنّهم عبيـد، كـتب ميثاقهم في رقّ، ثمّ ألقمه هذا الحَجر، وله لعينين ولساناً وشفتين، تشهد لمن وافاه بالموافاة، فهو أمين الله عزّ وجلّ في هذا المكان.

فقال عمر: لا أبقاني الله في أرض لسـتَ بها يا أبا حسن! ".


الصفحة 30
فسـبحانك سـبحانك! ما أسطع برهانك! تحـبّبت إلينا، فدللتنا عليك بآياتك، وأنت الغنيُّ الحميد، وتفضّلت علينا، فدعوتنا إليك ببيّناتك، ونحن الفقراء العبـيد، ولولا أنت لم ندرِ ما أنت.

فلك الحمد إقراراً لك بالربوبية، والحمدُ فضلُك، ولك الشـكرُ بخوعاً منّا بالعبودية، والشـكرُ طَـوْلُك، لا إله إلاّ أنت ربّ العـرش العظيم.

هذا كلّه من مرامي الآية الكريمة، وإنّما جاءت على سبيل التمثيـل والتصوير، تقريباً للأذهان إلى الإيمان، وتفـنّـناً في البيان والبرهان، وذلك ممّا تعلو به البلاغة فتبلغ حدّ الإعجاز.

ألا ترى كيف جعل اللهُ نفسَه في هذه الآية بمنزلة المُشهِدِ لهم على أنفسهم، وجعلهم بسـبب مشاهدتهم تلك الآيات البيّنات وظهورِها في أنفسهم وفي خلق السماوات والأرض بمنزلة المعترفِ الشاهد، وإنْ لم يكن هناك شهادة ولا إشهاد؟!

وباب التمثيل واسع في كلام العـرب، ولا سـيّما في الكـتاب والسُـنّة، قال الله تعالى: { ما كان للمشركين أن يَعمُروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر }(1)..

____________

1- سورة التوبة 9: 17.


الصفحة 31
ضرورة أنّهم لم يشهدوا على أنفسهم بألسنتهم، وإنّما شهدوا بألسنة أحوالهم ; إذ نصبوا أصنامهم حول الكعبة فكانوا يطوفون بها عراة ويقولون: لا نطوف عليها في ثياب أصبنا فيها المعاصي(1) ; وكلّما طافوا بها شوطاً سجدوا لها، فظهر كفرهم بسـبب ذلك ظهوراً لا يتمكّنون من دفعه، فكأنّهم شهدوا به على أنفسـهم.

وبهذا صحّ المجاز على سـبيل التمثيل في هذه الآية.

ونحـوها قولـه تعـالى: { ثمّ اسـتوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين }(2)..

إذ لا قول هنا من الله عزّ وجلّ، ولا منهما قطعاً(3)..

____________

1- انظر: تفسـير الفخر الرازي 16 / 9.

2- سورة فصّلت 41: 11.

3- ومن المناسـب أن نورد هنا ما أفاد به الشريف المرتضى (قدس سره) في " أماليه " ممّا يؤيّـد هذا الوجه في معنى آية الميثاق، إذ قال ما نصّـه:

إنّه تعالى لمّا خلقهم وركّبهم تركيباً يدلّ على معرفته، ويشهد بقدرتـه، ووجوب عبادته، وأراهم العبر والآيات والدلائل في أنفسـهم، وفي غيرهم، كان بمنزلة المُشـهِد لهم على أنفسـهم، وكانوا ـ في مشـاهدة ذلك، ومعرفتـه، وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى، وتعذُّر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته ـ بمنزلة المُـقِـرّ المعترِف وإنْ لم يكن هناك إشـهاد ولا اعتراف على الحقيقـة..

ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: (ثمّ اسـتوى إلى السـماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) وإنْ لم يكن منه تعالى قول على الحقيقـة ولا منهما جواب..

ومثله قوله تعالى: (شـاهدين على أنفسـهم بالكـفر)، ونحن نعلم أنّ الكفّار لم يعترفوا بالكفر بألسـنتهم، وإنّما ذلك لمّا ظهر منهم ظهوراً لا يتمكّـنون من دفعه، كانوا بمنزلة المعترفين به...

انظر: الأمالي ـ للشـريف المرتضى ـ 1 / 23 ـ 24.


الصفحة 32
وإنّما المراد أنّه سـبحانه شاء تكوينهما فلم يمتنعا عليه، وكانتا في ذلك كالعبد السامع المطيع يتلقّى الأمر من مولاه المطاع.

وعلى هذا جاء قوله تعالى: { إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }(1)..

ضرورة أنّ القول في هذه الآية ليـس على حقيقـتـه..

والحقيقة ما اقتبـسه الإمام زين العابدين (عليه السلام) من مشكاة هاتين الآيتين ; إذ قال في بعض مناجاة ربّه عزّ وجلّ: " وجرى بقدرتك القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشـيئـتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيـك

____________

1- سورة النحل 16: 40.


الصفحة 33
منزجـرة "(1).

وممّـا جـاء في القـرآن الحكيم من المجـاز على سـبيل التمثيل، قوله عزّ من قائل: { إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسـان.. }(2) الآيـة.

لأنّ عرضها على السماوات والأرض والجبال لم يكن على ظاهره، وكذلك إبـاؤها وإشـفاقها، وما هو إلاّ مجـاز على سـبيل التمثيل والتصوير تقريباً للأذهان، وتعظيماً لأمر الأمانة، وإكباراً لشأنها.

والأمانة هنا هي طاعة الله ورسوله في أوامرهما ونواهيهما، كما يدلّ عليه سياق الآية وصحاح السُـنّة في تفسـيرها(3).

ولو أردنا اسـتقصاء ما جاء في الذِّكر الحكيم والفرقان العظيم من هذه الأمثلة، لطال بنا البحث، وخرجنا به عن

____________

1- الصحيفة السـجّادية: 59 دعاؤه إذا عرضت له مهمّـة أو نزلت به ملمّـة وعند الكرب.

2- سورة الأحزاب 33: 72.

3- انظر مثلا: تفسير الطبري 10 / 339 ح 28686، الوسيط في تفسير القرآن المجيد 3 / 484، تفسير البغوي 3 / 470، مجمع البيان 8 / 162.


الصفحة 34
القصـد(1).

وحسبك توبيخه عزّ وجلّ لأهل الغفلة عن قوارع القرآن الحكيم، المسـتخفّين بأوامره وزواجره ; إذ يقول وهو أصدق القائلين: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشـية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكّـرون }(2).

أمّا ما جاء في السُـنّة من هذا القبيل فكثير إلى الغاية، وكثير لا يحصى، وحسبك منه الصحاح الصريحة ببكاء الأرض والسماء على سـيّد الشهداء وخامس أصحاب الكسـاء..

إذ بكته الشمس بحمرتها، والآفاق بغبرتها، وأظلّة العرش بإعوالها، وطبقات الأرض بزلزالها، والطير في أجوائها، وحجارة بيت المقدس بدمائها، وقارورة أُمّ سلمة بحصيّـاتها، وتلك الساعة بآياتها ; كما صرّحت به أحاديث السُـنّة وصحاح الشـيعة(3).

____________

1- راجع في خصوص ذلك مفصّـلا: تلخيص البيان في مجازات القرآن ـ للشريف الرضي ـ، ومجاز القرآن ـ لمحمّـد حسـين علي الصغير ـ.

2- سورة الحشر 59: 21.

3- انظر مثلا: مسند أحمد 3 / 242 و 265، أنساب الأشراف 3 / 424 ـ 425، تاريخ اليعقوبي 2 / 159، المعجم الكبير 3 / 114 ح 2840، تفسير الطبري 11 / 237 ح 31120، العقد الفريد 3 / 371، المستدرك على الصحيحين 4 / 439 ـ 440 ح 8201 و 8202، تفسير الثعلبي 8 / 353، مقتل الحسـين (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 2 / 99 ـ 114، تاريخ دمشق 64 / 217، تفسير القرطبي 16 / 94، ذخائر العقبى: 250 ـ 255، تفسير ابن كثير 4 / 145، تهذيب التهذيب 2 / 347، الدرّ المنثور 7 / 413، الصواعق المحرقة: 292 ـ 296 ح 30، ينابيع المودّة 3 / 101 ـ 102 ح 1 ـ 6، كامل الزيارات: 79 ـ 98 ب 26 ـ 29، الأمالي ـ للصدوق ـ: 694 ـ 696، الإرشاد 2 / 130، إعلام الورى: 217.


الصفحة 35
وأنت تعلم أنّ بكاء تلك الأجرام لم يكن على ظاهره، وإنّما كانت مجازاً على سبيل التمثيل، إكباراً لتلك الفجائع، وإنكاراً على مرتكبيها، وتمثيلا لها، مسجَّلةً في آفاق الخلود، إلى اليوم الموعـود(1).

____________

1- أقـول: إنّ كلّ ما في الكون قد عبّر عن حزنه وألمه لِما جرى على سـيّد الشهداء الإمام الحسـين بن عليّ (عليه السلام) من أليم الفاجعة وعظيم المصاب في كربلاء كلٌّ بحسـبه..

فقد جاء في قوله تعالى: (تسبّح له السموات السـبع والأرض ومَن فيهنّ وإنْ مِن شيء إلاّ يسـبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسـبيحهم) سورة الإسراء 17: 44..

وقوله تعالى: (ويسـبّح الرعد بحمـده) سورة الرعد 13: 13..

وقوله تعـالى: (وسـخّرنا مع داود الجبال يسـبّحن) سـورة الأنبياء 21: 79..

وقوله تعـالى: (إنّـا سخّرنا الجبال معه يسـبّحن بالعشـيّ والإشراق) سورة ص 38: 18..

فتلك الأشـياء سـبّحت الله تعالى بلسان تكوينها وانقيادها في أفلاكها بنظام يأخذ بالألباب، ولم تسـبّحه بلسان وشفتين.

وكذا الحال في بكاء هذه الكائنات على الإمام الحسـين (عليه السلام)، والتعبير عن الحزن لمصابه (عليه السلام)، فلم يكن كما عهده بنو البشر بدموع ونحيب ونشـيج.

فعن داود بن فرقد، عن أبي عبـد الله الصادق (عليه السلام)، قال: " احمـرّت السماء حين قُتل الحسـين (عليه السلام) سـنة، ويحيى بن زكريّـا، وحمرتُها بكاؤهـا ".

انظر: كامل الزيارات: 90 ح 7.

وقد روى زرارة، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: " بكت السماء على يحيى بن زكريّا وعلى الحسـين بن عليّ (عليهم السلام) أربعين صباحاً، ولم تبكِ إلاّ عليهما ; قلت: وما بكاؤهما؟ قال: كانت الشمس تطلع حمراء وتغيب حمـراء ".

انظر: مناقب آل أبي طالب 4 / 61.

وقال سـبط ابن الجوزي في كـتابه " تذكرة الخواصّ "، ص 246، ما نصّـه:

" قال جدّي أبو الفرج في كتاب (التبصرة): لمّا كان الغضبان يحمرّ وجهه عند الغضب، فيُسـتدلّ بذلك على غضبه، وأنّه أمارة السخط، والحـقُّ سـبحانه ليـس بجسم، فأظهر تأثير غضبه على مَن قتل الحسـين بحمرة الأُفق، وذلك دليل على عظم الجناية ".

وقد أشار السـيّد الحميري إلى هذا المعنى بقوله:


بكت الأرضُ فقدَه وبكتهباحمرار له نواحي السماءِ
بكـتا فقدَه أربعين صبـاحاًكلّ يوم عند الضحى والمساءِ

انظر: ديوان السـيّد الحميري: 61.

وكذا قال أبو العلاء المعـرّي:


وعلى الأُفق من دماء الشهيدينِعليّ ونـجـلِـهِ شـاهـدانِ
وهما في أواخر الليل فجرانِوفي أولـيـائـه شــفـقـانِ

انظر: مناقب آل أبي طالب 4 / 62.

فقول المصنّـف (قدس سره): " مجـازاً على سـبيل التمثيـل... " هنا هـو حمل جميع ما وردت به الروايات ـ من بكاء السماء والأرض وبقـيّـة الكائنات على الإمام الحسـين (عليه السلام) ـ على المجاز الصرف دون البكاء الحقيقي، المتمثّـل بذرف الدموع وجريانها من العين.

فما ظهر من الآيات بعد فاجعة قتل الإمام أبي عبـد الله الحسـين (عليه السلام)كـثيرةٌ جدّاً، وكلّها حقيقية، قد عبّرت عن عظيم تأثّرها كلٌّ بحسـب تكوينها الجنسي أو النوعي، ولمّا كان البكاء عند الإنسان أقصى ما يعبّر به عن عظم تأثّره عندما تحلّ به المصيـبة أو الفاجعة، نسـب البكاء إلى هذه الآيات لعظم تأثّرها، وإلاّ فهي ليسـت من الأنواع أو الأجناس ذات العيون والدموع والنحيب.

وما على المنصف إلاّ تتـبّع تفاصيل ما نُـقل في المصادر المذكورة في الهامش السابق لكي يجد ذلك بيّـناً جلـيّـاً ; فـتـنـبّـه!


الصفحة 36

الصفحة 37
وممّا جاء في السُـنّة على هذا النمط من المجاز على سبيل التمثيل، حديث كربلاء والكعبة(1)، الذي أشار إليه سيّد الأُمّة،

____________

1- لقد وردت روايات كثيرة معتبَرة في تفضيل أرض كربلاء على أرض الكعبة، منها ما رواه شيخ الطائفة الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمّـد ابن قولويه ـ المتوفّى سـنة 367 هـ ـ في كـتابه " كامل الزيارات "، ص 266 ـ 271..

l فـقد روى بسـنده عن عبـد الله بن أبي يعفـور، قال: سـمعت أبـا عبـد الله (عليه السلام) يقـول لـرجـل مـن مـواليـه: يـا فـلان! أتـزور قبـر أبي عبـد الله الحسـين بن عليّ (عليهما السلام)؟

قال: نعم، إنّي أزوره بين ثلاث سـنين أو سـنتين مـرّة.

فقال له وهو مصفرّ الوجه: أما والله الذي لا إله إلاّ هو، لو زرته لكان أفضل لك ممّـا أنت فيه!

فقال له: جُعلت فداك! أكُـلّ هذا الفضل؟!

فقال: نعم، واللهِ لو أنّي حدّثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحجّ رأساً، وما حجّ منكم أحد!

ويحك! أما تعلم أنّ الله اتّخذ كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتّخذ مكّـة حـرماً؟!

قال ابن أبي يعفور: فقلت له: قد فرض الله على الناس حجّ البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسـين (عليه السلام)؟!

فقال: وإنْ كان كذلك، فإنّ هذا شيء جعله الله هكذا، أما سمعت قول أبي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: " إنّ باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهر القدم، ولكنّ الله فرض هذا على العباد؟!

أَوَمـا علمتَ أنّ الموقف لو كان في الحـرم كان أفضل لأجـل الحـرم؟! ولكنّ الله صنع ذلك في غير الحرم "!

l وروى عن بيّاع السابري، عن أبي عبـد الله (عليه السلام)، قال: إنّ أرض الكعبة قالت: مَن مثلي وقد بنى الله بيته على ظهري، ويأتيني الناس من كلّ فجّ عميق، وجُعلتُ حرم الله وأمنه؟!

فأوحى الله إليها أن كُـفّي وقـرّي! فوعزّتي وجلالي ما فضلُ ما فُضِّلتِ به في ما أعطيتُ به أرض كربلاء إلاّ بمنزلة الإبرة غُمسـت في البحر فحملت من ماء البحـر!

ولولا تربة كـربلاء ما فضّـلتُـكِ! ولولا ما تضمّـنته أرض كربـلاء لَما خلقتُـكِ ولا خلقتُ البيت الذي افتخرتِ به!!

فـقـرّي واسـتقـرّي، وكوني دَنِـيّـاً متواضعاً، ذليلا مهيناً، غير مسـتـنـكف ولا مسـتكبر لأرض كربلاء، وإلاّ سُخْتُ بكِ وهويتُ بكِ في نار جهـنّم!

أقـول: لا اسـتبعاد ولا إشكال في هذا الأمر، فقد شُـرِّفت أرض كربلاء بضمّها جسد سـيّد الشهداء الإمام أبي عبـد الله الحسـين (عليه السلام)، ولمّا كان المؤمن أعظم حرمة من الكعبة ـ كما جاء عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والإمام الرضـا (عليه السلام) في ما رواه الطبراني في المعجم الكبير 11 / 31 ح 10966، والبيهقي في شعب الإيمان 3 / 444 ح 4014، والمحدّث النوري في مستدرك الوسائل 9 / 343 ح 11039 ـ، فكيف بخامس أهل الكساء وسـبط رسـول الله وريحانته وسـيّد شـباب أهـل الجنّـة؟!

فإنّ مراد الإمام الصـادق (عليه السلام) من ذلك هو إبراز فضيلة أرض كربـلاء لا إلغاء فريضة الحـجّ ; وهذا ما يؤكّده الحديث المروي في كامل الزيارات: 159، بالإسـناد عن يونس، عن الإمام أبي الحسـن عليّ بن موسى الرضـا (عليه السلام)، أنّه قال: " من زار قبر الحسـين فقد حجَّ واعتمر.

قلت: تُطرح عنه حجّـة الإسـلام؟

قال: لا، هي حَجّة الضعيف حتّى يقوى ويحجّ إلى بيت الله الحـرام... ".


الصفحة 38

الصفحة 39
وبحر علوم الأئمّـة(1)، في دُرّته النجفية(2) ; إذ يقول أعلى الله

____________

1- بحر العلوم هو: السيّد مهدي بن مرتضى بن محمّـد بحر العلوم البروجردي الطباطبائي، وُلد في كربلاء ليلة الجمعة في شـوال سـنة 1155، وتوفّي بالنجف الأشـرف سـنة 1212، ودفن قريباً من قبر الشيخ الطوسي (قدس سره)، كان (قدس سره) سـيّد علماء عصـره وزمانه، وعلاّمة دهره وأوانه، فقد أذعن له جميع علماء عصـره ومن تأخّـر عنه بعلوّ المقام وسـموّ المكانـة.

انظر: مستدرك الوسائل 20 / 44 (الخاتمة ج 2)، الكنى والألقاب 2 / 67، أعيان الشـيعة 10 / 158، أدب الطفّ 6 / 51.

2- الدرّة النجفية: أُرجوزة مشهورة، من سيّدة الأراجيز في الفقه، لم يُسـبق إلى مثلها، عُني بها كثير من الفقهاء من بعد ناظمها، وطبعت غير مـرّة، وعليها شروح كـثيرة وتتميمات وملحقات، أحصى الشـيخ آقا بزرك الطهراني (رحمه الله) ثلاثيـن شـرحاً من شروحها في موسوعته " الذريعـة ".

أوّلهـا:


أفتحُ المقالَ بعدَ البسملهْبحمدِ خيرِ منعم والشكرِ لهْ

وقال في تسميتها وتاريخ نظمها:


غَـرّاء قد وسمتُها بالـدُّرّهْتأريخها عام الشروع (غـرّهْ)

المنطبق على (1205).

انظر: الذريعـة 8 / 109 ـ 111، أعيان الشـيعة 10 / 160.


الصفحة 40
مقامـه:


وفي حديثِ كربلا والكعبةلكربلا بانَ علـوّ الرتبة(1)

وكذا حديث أنـس، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من مؤمن إلاّ وله باب يصعـد منه عملـه وباب ينزل منه رزقـه، فإذا مات بكيـا عليـه "(2) ; انـتـهى.

____________

1- الدرّة النجفية: 100.

2- سنن الترمذي 5 / 354 ح 3255، الجامع الصغير 2 / 494 ح 8091، زاد المسير 7 / 154، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 7 / 411 في تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظَرين) سورة الدخان 44: 29، كنز العمّال 2 / 41 ح 3041 و ج 15 / 681 ح 42718.

وانظر: الأمالي ـ للسيّد المرتضى ـ 1 / 39 ـ 40، كنز الفوائد 2 / 200، مجمع البـيان 9 / 96.

وقد ذُكرت في المصادر الثلاثة هذه عدّة وجوه في تفسـير الآية المذكورة آنفاً نافعة في هذا المقام جديرة بالمراجعة والتأمّـل!


الصفحة 41
وقـوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث آخر: " إذا مات المؤمن ناحت عليه البقاع التي كان يشغلها بعبادة الله تعالى "(1)..

.. إلى كـثير من أمثال هذه السـنن، جاءت على نمـط كلام العـرب في التمثيل والتصوير، وكم لها في كلامهم من نظيـر!

قال أُميّـة بن أبي الصلت(2):

____________

1- انظر: الدرّ المنثور 7 / 412.

2- هو: أُميّة بن أبي الصلت عبـد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي، شاعر جاهلي من أهل الطائف، كان قد قرأ الكتب المتقدّمة، وكان ممّن ذكر إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) والحنيفية، فرغب عن عبادة الأوثان، وحرّم الخمر.

ذكر في شعره كـثيراً من معاني التوحيـد والإيمان، كقوله:


كلُّ دِين يومَ القيامةِ عندَ اللّــهِ إلاّ دِينَ الحَنيفةِ زُورُ

وكان يخبر بأنّ نبيّـاً يُبعث قد أظلّ زمانُـه، وكان يرجو أن يكون هـو ذلك النبيّ، فلمّا بلغه خروج النبيّ محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يؤمن به حسـداً له وعصبيـة!

قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة وسمع منه آيات من القرآن، وانصرف عنه، فتبعته قريـش تسأله عن رأيه فيه؟ فقال: أشهد أنّه على الحقّ! قالوا: فهل تتّبعه؟ فقال: حتّى أنظر في أمره!

فخرج إلى الشام وورد دمشق، ثمّ حدثت وقعة بدر، وعاد أُميّة من الشام يريد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له قائل: يا أبا الصلت! ما تريد؟ قال: أُريد محمّـداً ; قال: وما تصنع؟ قال: أؤمن به وأُلقي إليه مقاليد هذا الأمر ; قال: تدري من في القليب؟ قال: لا ; قال: فيه عُتبة بن ربيعة وشـيبة بن ربيعة، وهما ابنا خالك.

فامتنع عن الإسلام ورثى قتلى قريـش من المشركين، ورجع إلى مكّة، ثمّ رحل إلى الطائف وأقام بها إلى أن مات سـنة 5 هـ، وقيل: سـنة 9 هـ.

انظر: طبقات فحول الشعراء 1 / 262 ـ 267 رقم 360 ـ 366، الأغاني 4 / 127 ـ 140، الشعر والشعراء 1 / 459 رقم 83، تاريخ دمشق 9 / 255 ـ 288 رقم 811، خزانة الأدب 1 / 244 ـ 249.


الصفحة 42

سبحانه ثمّ سبحاناً يَعود لهوقَـبْـلَنا سَبّحَ الجُوديُّ والجُمُدُ(1)

____________

1- انظر: ديوان أُميّة بن أبي الصلت: 376، لسان العرب 2 / 349 مادّة " جمد ".

وفي معجم البلدان 2 / 187 ـ 188 رقم 3224 ذكر ياقوت الحموي هذا البيت ضمن أبيات نسـبها إلى زيد بن عمرو العَدَوي، وقال: " وقيل: ورقة بن نَوْفل "، ولِما في الأبيات من مضامين عالية نوردها كاملـة:


نُسبّح الله تسبيحاً نَجُود به،وقبلَنا سَبَّحَ الجُوديُّ والجُمُدُ
لقد نَصحْتَ لأقوام وقلتَ لهم:أنا النذير فلا يَغْرُرْكُمُ أحدُ
لا تَعـبُـدُنَّ إلهاً غيرَ خالِقكم،فإن دَعَوْكُم فقولوا: بيننا حَدَدُ
سبحان ذي العرش سبحاناً يدوم له،وقبلنا سـبَّح الجوديُّ والجمـدُ
مُسخَّـرٌ كلُّ ما تحت السماءِ لهلا ينبغي أن يُناوي مُلْـكَـهُ أَحَدُ
لا شيءَ ممّا ترى تَبْقى بَشاشـتُهُيبقى الإلهُ ويُودي المالُ والوَلَدُ
لم تُغنِ عن هُرْمُزَ يوماً خزائنُهوالخُـلْـدُ قد حاوَلَتْ عادٌ فما خَلَدوا
ولا سليمانَ إذ تجري الرياحُ بهوالإنـس والجِنُّ فيمـا بينـنا تردُ
أين الملوك التي كانت لعزّتهامن كلّ أوْب إليها وافدٌ يَـفِـدُ؟!
حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كَذِبلا بُـدَّ من وِرده يومـاً كما وَرَدُوا