الصفحة 43
فإنّ الجُودِيَّ والجُمُدَ جبلان(1)، والمراد أنّهما يسـبّحان الله بلسان تكوينهما، راسخين شامخين، يدلاّن على الصانع الحكيم وعلى قدرته وعظمتـه.

____________

1- الجوديُّ ـ ياؤُه مشدّدة ـ: هو جبل مطلٌّ على جزيرة ابن عمر في الجانب الشـرقي من دجلة من أعمال الموصل، عليه اسـتوت سـفينة نوح (عليه السلام) لمّا نضب الماء، وقال الزجّاج: هو جبل بآمد، وقيل: جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح، وفي التنزيل العزيز: (وغِيض الماء وقُضي الأمر واسـتوت على الجوديّ) سورة هود 11: 44.

والجُمُدُ ـ بضمّتين ـ: هو جبل لبني نصر بنجد ; وقيل: جبل على ليلة من المدينة مرّ عليه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " هذا جُمدان سَـبق الـمُـفَـرِّدون ".

انظر: معجم البلدان 2 / 187 رقم 3224 و ص 208 رقم 3315، لسان العرب 2 / 349 مادّة " جمد " و ص 413 مادّة " جود "، تاج العروس 4 / 400 ـ 401 مادّة " جمد " و ص 405 مادّة " جود ".


الصفحة 44
فكأنّهما ينزّهان الله عزّ وجلّ عمّا لا يجوز عليه، على حدّ قولـه تعـالى: { تسبّح له السموات السبع والأرض ومَن فيـهـنّ }(1).

وهـذا النـوع مـن التسـبيح في القـرآن العظيـم كـثير كمـا لا يخفى(2).

وقال قيـس بن الملـوّح(3):


وأجهشـتُ للتَّـوْباذِ(4) حين رأيتُـهوكـبّر للرحمن حين رآني

____________

1- سورة الإسراء 17: 44.

2- انظر ما تقـدّم في الهامش رقم 1 في الصفحـة 35.

3- هو: قيـس بن الملـوّح بن مزاحم العامري، توفّي سنة 68 هـ، شاعر غزل، من المتـيّمين، من أهل نجد، لم يكن مجنوناً وإنّما لقّب بذلك لهيامه في حبّ ليلى بنت سعد.

قيل في قصّته: نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها، فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش، فيُرى حيناً في الشام وحيناً في نجد وحيناً في الحجاز، إلى أن وُجد ملقىً بين أحجار وهو ميّت فحُمل إلى أهله.

انظر ترجمته مفصّـلا في: الأغاني 2 / 3 ـ 88.

4- الـتَـوْباذ: جبل بنجـد.

انظر: معجم البلدان 2 / 64 رقم 2669.


الصفحة 45

وأذريتُ دمعَ العين لمّا أتيتُـهونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلتُ له: أين الّذين رأيتُـهمبجنبِك في خفض وطِيبِ زمانِ؟!
فقال: مضوا واستودعوني بلادهمومَن ذا الذي يبقى على الحدثانِ؟!(1)

ضـرورة أنّـه لا سـؤال هـنـا، ولا جـواب، ولا تكبيـر، ولا نداء، ولا دعاء، وإنّما هي مجازات على سـبيل التمثيل والتصـوير.

ومثله قول بعضهم(2):

____________

1- ديوان مجنون ليلى: 192، وروايته في الديوان:


وأجهشتُ للتَـوْباد حين رأيتُهوهلَّلَ للرحمن حين رآني
وأذريتُ دمعَ العين لمّا رأيتُهونادى بأعلى صوته ودعاني
فقلتُ له: أين الّذين عهدتُهُمْحواليك في خِصب وطِيبِ زمانِ؟
فقال: مضوا واستودعوني بلادهمومن ذا الذي يبقى مع الحدثانِ؟!

2- المسائل العكبرية: 114، لسان العرب 11 / 350 مادّة " قول "، تاج العروس 15 / 638 مادّة " قول " ; ولم ينسـبوا البيت لأحـد.


الصفحة 46

وقالت له العينان: سمعاً وطاعةًوحدّرتا كالدرّ لمّا يثـقّبِ

وقال مزاحم الـعُقيلي(1):


بكت دارُهم من أجلهم فتهلّلتدموعي فأيّ الجازعين ألومُ؟!(2)

____________

1- هو مزاحم بن الحارث، أو: مزاحم بن عمرو بن مرّة بن الحارث، من بني عُـقَـيْـل بن كعب بن عامر بن صعصعة.

شاعر غزل بدوي من الشجعان، كان معاصراً لجرير والفرزدق، وسُئل كلٌّ منهما: أتعرف أحداً أشعر منك؟ فقال الفرزدق: لا، إلاّ أنّ غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد.

وأجاب جرير بما يشـبه ذلك.

وقيل لذي الرمّة: أنت أشعر الناس! فقال: لا، ولكـنْ غلامٌ من بني عقيل يقال له: مزاحم، يسكن الروضات، يقول وحشـياً من الشعر لا يقدر أحد أن يقول مثله.

حُبـس طويلا لشجار وقع بينه وبين رجل من جعدة، فتشاتما وتضاربا بعصيّهما، فشجّه مزاحم شجّة أصابت أُمّ دماغه، ثمّ هرب من سجنه فمكث في قومه مدّة.

انظر: الأغاني 19 / 104 ـ 112، خزانة الأدب 6 / 256 ـ 257، الأعلام 7 / 211.

2- نَسـب أبو الفرج الأصفهاني ـ في الأغاني 19 / 105 ـ البيتَ إلى مزاحم الـعُـقَـيْـلي، فقال:

أخبـرني محمّـد بن مزيـد بـن أبي الأزهـر، قـال: أنشـدني حمّـاد، عـن أبيـه لمـزاحم الـعُـقَـيْـلي، قال ـ وكان يسـتجيدُها ويسـتحسـنُـها ـ:


لصفراء في قَلبِي من الحُبِّ شُعبةحِمىً لم تُبِحْه الغانياتُ صَمِيمُ

ثمّ قال:


بكت دارُهم من نأيهم فتهلّلتدموعي فأيّ الجازعين ألومُ؟!

إلى أن قال:


كحَرّان صاد ذِيْـدَ عن بَرْدِ مَشْربِوعن بَلَلاتِ الرِّيقِ فَهُو يَحُومُ

  • كما نُسـب البيت ـ مـرّةً ـ إلى مجنـون ليلى (قيـس بن الملـوّح)، ـ كمـا في ديوانـه: 167 ـ 168 ـ، ضمن قصيـدة من 12 بيتـاً، مطلعهـا:


    لصفراء في قَلبِي من الحُبِّ شُعبةهوىً لم تَرُمْه الغانياتُ صَمِيمُ

    ثمّ قال:


    بكت دارُهم من فقدهم وتهلّلتدموعي فأيّ الجازعين ألومُ؟!

    إلى أن قال:


    دَعُوني فَما عَنْ رأيكُمْ كان حُبُّهاولكِنَّهُ حَظٌّ لها وَقَسيمُ

  • ونُسـب ـ أُخرى ـ إلى قيـس لُبنى (قيـس بن ذريـح)، ـ كما فـي ديوانـه: 111 ـ 112 ـ، ضمـن قـصيـدة مـن 9 أبـيـات، مـطـلعـهـا:


    إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكاإلى الله فقدَ الوالِدَينِ يَتيمُ

    ثمّ قال:


    بكت دارُهم من نأيهم فتهلّلتدموعي فأيّ الجازعين ألومُ؟!

    إلى أن قال:


    أَفِي الحَقِّ هذا أنّ قَلْبَكِ فارغٌصَحيحٌ وَقَلْبي في هَواكِ سَقيمُ


    الصفحة 47

    الصفحة 48
    وكانوا إذا أَخبَروا عن عظم المصاب بموت الواحد من عظمائهم يقولون: بكته السماء والأرض، وأظلمت لفقده الشمس والقمر..

    قال جرير(1) يرثي عمر بن عبـد العزيز:


    الشمسُ طالعةٌ ليسـت بكاسفةتبكي عليك نجومَ الليلِ والقمرا(2)

    ____________

    1- هو: جريـر بن عطية بن حذيفة بن بدر الخطفي الكلبي اليـربوعي، من تميم (28 ـ 110 هـ)، أشعر أهل عصره، وُلد ومات في اليمامة، وعاش عمره كلّه يناضل شعراء زمنه ويساجلهم، وكان هجّاءً مرّاً، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وهو من أغزل الناس شعراً.

    انظر: وفيات الأعيان 1 / 321 رقم 130، الأعلام 2 / 119.

    2- ديوان جرير: 235، وروايته في الديوان:


    فالشمـس كاسفة ليسـت بطالعةتبكي عليك نجوم الليل والقمرا


    الصفحة 49
    أي إنّها مع طلوعها باكية ليسـت بكاسفة نجوم الليل والقمر ; لأنّ عظم مصيبتها بك قد سلبها نورها.

    وبالجمـلة: فإنّ باب المجاز على سبيل التمثيل من أوسع أبواب البلاغة في لسان العرب، كانوا يرصّعون به خطبهم وأشعارهم وحِكمهم وأمثالهم..

    فمن أمثالهم السائرة:


    قال الجدار للوتد: لِمَ تشـقّـني؟!قال الوتد: سَـلِ الذي يدقّـني!(1)

    .. إلى كـثير من أمثـال هذا.

    والقرآن إنّما نزل على لغتهم وفي أساليبهم، وما تحدّى العرب إلاّ على طرائقهم وفي مجازاتهم وحقائقهم، فبخعوا لآياته، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله(2).

    فآية الميثاق والإشهاد على أنفسهم إنّما جاءت من هذا الباب، كما جاء غيرها من آيات الفرقان وصحاح السُـنّة وسائر

    ____________

    1- انظر: تفسير الفخر الرازي 15 / 53.

    2- إشارة إلى قوله عزّ وجلّ: (وإنْ كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأْتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين)سورة البقرة 2: 23.


    الصفحة 50
    كلام العـرب.

    والحمد لله الذي دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه، وسرّح قطع الليل المظلم بغيـاهب تلجلجه، ودلّ على ذاته بذاته، وتـنـزّه عن مجانسـة مخلوقاتـه(1).


    *  *  *

    ____________

    1- هذا المقطع مقتبس من دعاء الصباح للإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ; انظر: بحار الأنوار 94 / 243 رقم 10.


    الصفحة 51

    المقام الثاني
    في الاسـتـشـهاد بالآيـة الكريمة على
    نبــوّة نبيّـنا (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامة أئـمّـتنا (عليهم السلام)


    وهذا شيء لم يكن مدلولا عليه بظاهر الآية لولا ما رويناه في تفسيرها عن الإمام الصادق (عليه السلام) إذ قال: " كان الميثاق مأخوذاً عليهم لله بالربوبية، ولرسوله بالنبوّة، ولأمير المؤمنين والأئمّة بالإمامة، فقال: { ألست بربّكم } ومحمّـد نبيّكم وعليٌّ إمامكم والأئمّة الهادون أئمّتكم { قالوا بلى } ".. الحـديث(1).

    وقول الصـادق (عليه السلام) حـقٌّ لا يأتيـه الباطل من بين يديـه ولا من خلفه ; لوجوب عصـمته عقلا ونقلا، وهو إمام العترة الطاهرة في عصره، لا يضلّ من تمسّك به، ولا يهتدي إلى الله من ضلّ عنه، أنزله النصُّ منزلةَ الكتاب، وجعله قدوته لأُولي الألباب، وهذا أمر مفروغ عنه عندنا، والحمّد لله ربّ العالميـن(2).

    ____________

    1- تفسير القمّي 1 / 248، ونحوه في: تهذيب الأحكام 3 / 146 ح 317 باب صلاة الغـدير.

    2- نعم، إنّ مسألة عصمة الأئمّة (عليهم السلام) عندنا مفروغ منها، وذلك بدلالة آيات الكتاب العزيز والأحاديث النبوية الشريفة المتواترة، والتي تُظهِر هذا الأمر جليّـاً واضحاً ; لذا فما على المنصف إلاّ أن يراجع هذه الآيات والأحاديث لكي يزيل عن عينيه الغشاوة التي حجبت عنه رؤية الحـقّ وأهله.

  • فمن الآيات القرآنية التي تدلّ على إمامتهم وعصمتهم (عليهم السلام):

    1 ـ آية التطهير: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطـهّركم تطهيراً) سورة الأحزاب 33: 33.

    والمراد بأهل البيت في هذه الآية: عليٌّ وفاطمـة والحسـن والحسـين (عليهم السلام) وفق ما جاء به الحديث الشريف.

    انـظـر: صحيـح مسلم 7 / 130، سـنن الترمذي 5 / 328 ح 3205 و 3206، المستدرك على الصحيحين 2 / 451 ح 3558 و 3559، المعجم الكبير 3 / 53 ح 2664، الدرّ المنثور 6 / 603 ـ 605، سير أعلام النبلاء 10 / 346.

    2 ـ آية المودّة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ومن يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً إنّ الله غفور رحيم) سورة الشورى 42: 23.

    فقد عيّن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المقصودين بـ " القربى " في هذه الآية، وهم: عليٌّ وفاطمـة الزهراء وولداهما الحسـن والحسـين (عليهم السلام)، ولو لم يكونوا طاهرين مطهّرين معصومين لَما أمر الله تعالى بمودّتهم، ولَـكان أمره عبثاً، تعالى عن ذلك علـوّاً كبيراً.

    انظر: مسند أحمد 1 / 229، المعجم الكبير 3 / 47 ح 2641 و ج 11 / 351 ح 12259، المستدرك على الصحيحين 3 / 188 ح 4802، تفسـير الطبري 25 / 16 ـ 17.

    3 ـ آية المباهلة: (فمن حاجّك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفُسَنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) سورة آل عمران 3: 61.

    وهذه الآية من الآيات الدالّة على إمامة أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام)، وعلى أنّهم بمرتبة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ساوتهم به، إذ جمعت أنفسهم مع نفسه، فقال تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم)، وقصّة هذه الآية معروفة حين خرج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مباهلة نصارى نجران بعليّ وفاطمة والحسـن والحسـين (عليهم السلام)، وقد تواترت الأخبار في نقلها.

    انظر: مسند أحمد 1 / 185، صحيح مسلم 7 / 120، سنن الترمذي 5 / 596 ح 3724، المستدرك على الصحيحين 3 / 163 ح 4719، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7 / 60.

  • أمّا بالنسـبة للأحاديث النبوية الشريفة فهي كـثيرة جدّاً، ولكـنّنا ـ روماً للاختصار ـ سـنورد أشهر حديثين، وهما:

    1 ـ حديث السفينة: " مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك ".

    وهو حديث زاد عن حدّ الاسـتفاضة، وفيه دلاله واضحة على إمامـة أئمّتنا وعصمتهم بالمعنى الذي يقوله علماؤنا، أي أنّ الذي يريد أن ينجو من الهلاك عليه التمسّـك بهؤلاء ; لأنّهم سـفن النجـاة.

    انظر: فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 987 ح 1402، مسند البزّار 9 / 343 ح 3900، المعجم الكبير 3 / 37 ح 2636، المعجم الصغير 1 / 139، المستدرك على الصحيحين 2 / 373 ح 3312، البدء والتاريخ 1 / 220، حلية الأولياء 4 / 306، تاريخ بغداد 12 / 91 رقم 6507، مجمع الزوائد 9 / 168، الصواعق المحرقة: 352.

    2 ـ حديث الـثِّـقْـلَـيْن: " إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر ; كـتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتّى يَرِدا علَيَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما! ".

    وهو من الأحاديث المتواترة، وقد رواه أكثر من ثلاثين صحابيّاً، ويُعدُّ من الأحاديث الدالّة دلالة قاطعة لا تقبل الشكّ والترديد على عصمة أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام) ; إذ قرن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن بالعترة، وأخبر أنّهما لن يفـترقا حتّى يرِدا عليه الحوض.

    انظر: صحيح مسلم 7 / 122، مسند أحمد 5 / 181 ـ 182، سنن الترمذي 5 / 622 ح 3788، المستدرك على الصحيحين 3 / 160 ح 4711 و ج 3 / 613 ح 6272، المعجم الكبير 5 / 166 ح 4969 و ج 5 / 182 ح 5025 و 5026 و ج 5 / 183 ح 5028، الدرّ المنثور 2 / 60.


    الصفحة 52

    الصفحة 53

    الصفحة 54
    أمّا أخذ الميثاق هنا لرسول الله بالنبوّة، ولأوصيائه الاثني عشر بالإمامة، فإنّمـا هو على حدّ ما ذكرناه من أخذ الميثاق لله عـزّ وجـلّ بالربوبيّـة(1).

    فإنّه ـ وله الحمد والمجد ـ أقام على نبوّة نبـيّنا، وإمامة أئمّتنا من الأدلّة القاطعة، والبراهين الساطعة، والآيات،

    ____________

    1- إنّ أوّل ما أخذ الله الميثاق له بالربوبية كان من الأنبياء (عليهم السلام) حين قال تعالى: (وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم) سورة الأحزاب 33: 7، فذكر جملة من الأنبياء، ثمّ أبرز أفضلهم بالأسامي فقال: (ومنك) يا محمّـد، فقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه أفضلهم، ثمّ أخذ بعد ذلك ميثاق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأنبياء بالإيمان له، وعلى أن ينصروا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال في سورة آل عمران 3: 81: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لَما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لِما معكم) يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (لتؤمننّ به ولتنصرنّه) يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخبروا أُممكم بخبره وخبر وليّه من الأئمّة (عليهم السلام).

    انظر: تفسـير القمّي 1 / 248.


    الصفحة 55
    والبيّـنات، والحـجـج البالغـة المتظاهرة ما لا يتسـنّى جحوده، ولا تتأتّى المكابرة فيه(1)، { ولاتَ حينَ مَـناص }(2).

    فلو فُرض أنّ الله عزّ سلطانه سأل بني آدم ـ بعد تناصر تلك البيّنات ـ وأشهدهم على نبوّة نبيّنا وإمامة أوصيائه، لَما وسعهم إلاّ الإقرار لهم والشهادة بالحقّ طوعاً وكرهاً.

    ألا ترى البرّ والفاجر، والمسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، والناصب والمارق، قد بخعوا لفضلهم، وطَـأْطَـأُوا لشـرفهم، فسـطروا الأساطير في مناقبـهم، ومَـلأَُوا الطواميـر(3)من خصائصهم، وتلك صحاح أعدائهم تشهد لهم بالحقّ الذي هم أهله ومعدنـه، ومأواه ومنـتهاه(4).

    ____________

    1- راجع في تفصيـل ما أشار إليه المصنّـف (قدس سره) من البراهين والبيّـنات: ج 3 ـ 6 من " دلائل الصـدق "، ففيها شفاء لِما في الصـدور.

    2- سورة ص 38: 3، ومعنى قوله تعالى: (ولات حين مَـنَاص)أي: لا حين مَـطْـلَب ولا حين مُغاث، وليـس الوقـت حيـن منجـىً ولا فوت، وهو مصدر ناصَ يَـنُـوص، وهو الملجـأ.

    انظر: كتاب العين 7 / 88 مادّة " نص "، مجمع البيـان 8 / 304.

    3- الطَّـوامِـير: الصُّحُـف، وهي جمـع الطامـور والطُّومار ; انظر: مادّة " طمر " في: لسان العرب 8 / 200، تاج العروس 7 / 146.

    4- انـظر مثـلا: صحيـح مسـلم 7 / 119 ـ 124، مسـند أحمـد 1 / 77 و 99 و 115 و 118 و 368 و 331، فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 685 ـ 907 ح 932 ـ 1247، سنن ابن ماجة 1 / 42 ـ 45 ح 114 ـ 121، سـنن الترمذي 5 / 590 ـ 601 ح 3712 ـ 3737.


    الصفحة 56
    وتفصيل الكلام في هذا المقام لا تسعه هذه العجالة، فاكتفِ الآن بهذه الإشارة، فإنّك والحمد لله من الأحرار الأبرار، من أهل البصـائر الثاقبـة.

    ولعلّ الله يوفّقني للتفصيل في كتاب أُفرده لأعلام النبـوّة ودلائل الإمامـة ; لنسـتقصي الكلام في هذا المقام، وما توفيقي إلاّ بالله.


    *  *  *