[ الإمامـة والولايـة ]
وسألتني عن قوله تعالى: { حُرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السـبُع إلاّ ما ذكّيتم وما ذُبح على النصب وأن تسـتقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئـس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينـاً فمن اضطُـرّ في مخمصة غير متجانف لإثم فإنّ الله غفور رحيـم }(1)..
فقلتَ: هذه آية واحدة مسوقة من أوّلها إلى آخرها لبيان الحكم الشرعي، أعني تحريم هذه الخبائث إلاّ على من اضطرّ في مخمصة غير متجانف لإثم، فإنّ الضرورات تبيح المحظـورات.
وإذا كانت مسوقة لبـيان الأحكام، فأيّ ربط لها بتعيين الإمـام؟!
ولِمَ لا يكون المراد من قوله فيها عزّ من قائل: { اليوم
____________
1- سورة المائـدة 5: 3.
فالجـواب:
إنّ من نظر في هذه الآية نظراً سطحياً وجدها في بادئ بدء لا تأبى الحمل على ما ذكرتموه، لكن مَن أنعم(1) النظر فيها، فأعطى التأمّل حقّه، علم أنّ المأثور في تفسيرها عن أئمّة الهدى من آل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) أليـق بسـياقها الأخيـر.
فإنّها لم تبقَ على السـياق الأوّل ; لأنّ الله عزّ سلطانه بعد أن حرّم فيها تلك الخبائث، وأكّد تحريمها بقوله عزّ من قائل: { ذلكم فسق }، قال على سبيل الاعتراض: { اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ }..
فربط بهذا على قلوبهم، وثـبّت أقدامهم، وأنهضهم إلى الأخذ بأحكام الدين، وشحَذَ عزائمهم على إقامة شرائع الإسلام، ونفخ فيهم من روح الطمأنينة والسكينة ما لا يأبهون معه بالكـفّار.
وكان بعض المسـلمين قد رهقهم الخوف من مخالفـة
____________
1- أَنْـعَـمَ النظرَ في الشيء: إذا أطال الفكرة فيه ; انظر: لسان العرب 14 / 213 مادّة " نعم ".
أي بما أنعمت به عليكم من السطوة القاهرة، والدولة المتّـسقة، فأصبح الكـفّار بها أذلاّء خاسـئين، ويئـسوا بسـببها من تغلّبهم على دينكم، فلن يطمعوا بعد هذا في الاسـتيلاء عليكم أبـداً..
وحيث بلغتم هذه المثابة من العزّ والمنعة فلا تخشوهم، أي لا تخافوا من مخالفتكم إيّاهم في هذه الشرائع وإن نقموها عليكم، واخشوني في ما أمرتكم به ونهيتكم عنه، فخذوا بما أمرتكم به، وذروا ما نهيتكم عنه ولو كره المشركون.
وفي هذا السياق نفسه جاء قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم }، أي بتعيين من يهيمن على الدين بعد خاتم النبيّين والمرسلين، فيقوم مقامه في حفظ بيضته، ونشر دعوته، وقطع دابر من يبتغي السـوء بـه..
{ وأتممتُ عليكم نعمتي } باختيار عليّ لهذه المهمّة، فإنّه القوي الأمين، الذي لا تأخذه في حفظ الدين وأهله لومةُ
{ ورضيت لكم الإسلام ديناً } قيّماً حكيماً بأُصوله وفروعـه، جـامعـاً مـانعـاً، عزيـزاً بعـزّة قَـوّامـه وإمـامـه بعـد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يطمـع فيه طامـع، ولا يرمقـه من أعدائـه إلاّ بصـرٌ خاشـع.
وبعبارة أُخرى: لا ريب في أنّ الكلام البليغ يدخله الاسـتطراد والاعتراض، أعني تخلّل الجمل الأجنبية بين كلامه المتناسق، فيزده ذلك بلاغةً إلى بلاغته، كما نصّ عليه الأئمّة من علماء البلاغة، واستشهدوا عليه بكثير من الآيات المحكمة والسنن الصحيحة وكلام العرب في الجاهلية، والتفصيل في باب الإيجاز والإطناب والمساواة من علم المعاني(1).
وعليـه: فإنّ قوله تعالى: { اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم } قد دخل في هذه الآية على سبيل الاعتراض، كما صرّح به الزمخشري في تفسـيرها من " الكشّاف "(2)، والحكمة في إدخاله تأمينُ المسلمين على دينهم كما بـيّـنّـاه.
____________
1- الإيجاز: أداء المقصود بأقلّ من عبارة المتعارف، والإطناب: أداؤه بأكثر منها، والمساواة: هي ألاّ يزيد اللفظ على المعنى فتكون وسطاً بين الإيجاز والإطناب.
انظر مثلا: المطـوّل: 282 وما بعـدها.
2- الكشّاف 1 / 593.
ونحن مهما شككنا فلا نشكّ في عصمة أئمّتنا(1)، وأنّ عندهم علم الكـتاب(2)، وما من ريب لأحـد في أنّهم أعلم النـاس بمفـاده..
وقد تواتـرت نصوصهم الصريحـة بأنّ قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } إلى قوله: { ورضيت لكم الإسلام ديناً } إنّما نزلت في إمامة أمير المؤمنين يوم غـدير خـمّ، الثامن عشـر من ذي الحجّـة، سـنة عشـر للهجـرة، والنبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قافل من حجّة الوداع بمن كان معه من عشرات
____________
1- راجع ما تقـدّم في أوّل المقام الثاني في الصفحة 51 الهامش رقم 2.
2- انظر تفسير قوله تعالى: (ومَن عندَه علمُ الكتاب) سورة الرعد 13: 43، في: تفسير الحبري: 285 ـ 286 ح 41، تفسير الثعلبي 5 / 303، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 262 ح 258، شواهد التنزيل 1 / 307 ـ 310 ح 422 ـ 427، زاد المسير 4 / 261، تفسير القرطبي 9 / 220، ينابيع المودّة 2 / 250 ح 703، الكافي 1 / 254 ـ 256 ح 603 ـ 608، دلائل الصدق 5 / 115 ـ 119.
فكمل الدين في خُـمّ بإمامة الوصي، كما بدأ في حِراء ببعثـة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
هـذا هو المعلوم بحكم الضـرورة من مذهـب الأئمّـة من أهل البـيت ـ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ـ، وهذا هو الأليق بالسـياق، والحمد لله على الوفـاق.
على أنّـا لا نعلـم ـ كما يشهد الله ـ بأنّ قولـه تعـالى: { حُرّمت عليكم الميتةُ } وما بعده إلى قوله: { غفور رحيم }كلّ ذلك آيـة واحـدة!
____________
1- انظـر: تاريـخ بغـداد 8 / 290 رقم 4392، منـاقـب الإمـام عليّ (عليه السلام)ـ لابن المغـازلي ـ: 69 ح 24، شواهد التـنزيل 1 / 157 ـ 158 ح 211 ـ 212، تاريخ دمشق 42 / 233 و 234 و 237، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 135 ح 152، تذكرة الخواصّ: 36، فرائد السمطين 1 / 74 ح 40، الدرّ المنثور 3 / 19.
وراجع: الكافي 1 / 327 ضمن ح 761، الإرشاد 1 / 175 ـ 177، تهذيب الأحكام 3 / 143 ح 317، الاحتجاج 1 / 133 ـ 162، الكشّاف 1 / 593، مجمع البـيان 3 / 263.
وقد تناول المحقّـق الكبيـر العلاّمة السـيّد علي الحسـيني الميلاني ـ حفظه الله ـ بالتفصيل حديثَ الغدير في موسوعة " نفحات الأزهار "، الأجـزاء 6 ـ 9 ; فراجـع!
ولماذا لا يجوز أن يكون قوله تعالى: { اليوم يئـس الّذين كفروا من دينكم } إلى قوله: { ورضيت لكم الإسـلام ديناً } آية مسـتقلّة بنفسـها لا ربط لها بغيرها، نزلت على حدة يوم الغـدير، ثمّ أقحمها الناس على عهد عثمان وزجّوها في وسط تلك الآية الكريمة ; لغرض لهم، أو لجهل بهم، أو لغير ذلـك؟!
وأنت تعلم أنّ المأثور في تفسـيرها عن أئـمّتنا (عليهم السلام)يوافق كون الجميـع آية واحدة كما بيّـنّـا، ويوافق كونه آيتيـن(2).
والحمـد لله على سطوع البرهان بأجلى بـيـان!
____________
1- انظر مفصّلا: تاريخ القرآن ـ لأبي عبـد الله الزنجاني ـ، البرهان في علوم القرآن 1 / 192 وما بعدها، الإتقان في علوم القرآن 1 / 175 وما بعـدها، تاريخ القرآن ـ لمحمّـد حسـين الصغير ـ.
2- انظر: تفسير القمّي 1 / 170، مجمع البيان 3 / 264.
[ لِمَ لَمْ يصرّح القرآن بخلافة الإمام عليّ (عليه السلام)؟! ]
ثمّ سـألتني فقلت: لماذا لم يصـرّح القـرآن المبـين تصريحاً واضحاً بخلافة أمير المؤمنين، بحيث لا يُبقي مجالا للتأويـل، فـتـنـقطع الخصومـة والمنازعـة في الإمـامة بسـبب ذلـك مـن غيـر حاجـة إلى التمـاس الأحـاديث لإثبـات إمامـة أميـر المؤمنيـن (عليه السلام)؟!
والجـواب يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، لها أثرها في تقريبه إلى الأذهان، نقتبسها من (فصولنا المهمّـة) و (مراجعاتنا الأزهـريّـة)(1).
ومجمل القول فيها: إنّ العرب عامّة، وقريشاً خاصّة، كانت ترى أنّ أمير المؤمنين وَتَرَها وسفك دماءها بسـيفه، وكشف القناع منابذاً لها، حيث جاهدها في سبيل الله، وقهرها فى إعلاء كلمة الله، وقام على ساقه في نصرة الله ورسوله حتّى جاء الحقّ وزهق الباطل على رغم كلّ عات كفور من طغاة العـرب وطَغامهم(2).
____________
1- انظر: الفصول المهمّة: 135، المراجعات: 448 المراجعة 84.
2- الـطَّـغامُ ـ الواحد والجمع في ذلك سواء ـ: أراذل الناس وأوغادهم ; انظر: لسان العرب 8 / 169 مادّة " طغم ".
جـروا في ذلك علـى عاداتهـم فـي أخـذ ثاراتهـم ; إذ كانوا يعصبون دماءهم بالزعيم نفسـه، فإذا فاتهـم الزعيم عصـبوها بأمثـل عشـيرته وأفضـل أهـل بيتـه، وعليٌّ كان عندهـم وعنـد غيرهم أمثـل الهاشميّـين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأفضلهـم مـن بعـده، لا يدافع ولا ينازع في ذلك أبـداً، فهو الذي يجب عندهم أن تُعصب به تلك الدماء بأجمعها، ولذا عصبوهـا بـه!
فتربّصـوا به الدوائر، وقلّبوا له الأُمور، وأضمروا له ولذرّيّته كلّ سوء، ووثبوا عليهم في كلّ جيل من أجيال هذه الأُمّـة العربية كلَّ وثبة، وكان ما كان ممّا طار في الأجواء، وطـبّقت فجائعه وفظائعه الأرض والسـماء.
علـى أنّ العرب عامّـة، وقريشـاً بالخصـوص، كانوا ينقمـون مـن عليّ شـدّة وطأتـه، ونكـال وقعـتـه ; إذ كـان شـديد الوطأة على أعداء الله، عظيم الوقيعة في مَن يهتك حرمات الله، كما قالت سـيّدة نسـاء العالمين في خطبة لها (عليها السلام):
ومن المعلوم أنّ العرب كانوا يرهبون من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ويخشون عدله في الرعية، ومساواته بين أفراد البرية، ولم يكن لأحد فيه مطمع، ولا لأحد عنده هوادة، فالناس عنده في حقوقهم سـواء، القويّ العزيز عنده ضعيف ذليل حتّى يأخذ الحقّ منه لصاحبه، والضعيف الذليل عنده قويٌّ عزيز حتّى يأخذ له بحقّه(2)، و { الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله }(3)..
فمتى يرضيهم هذا العدل { ومِن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم }(4)، وفيها بطانة لا يألونه
____________
1- بلاغات النساء ـ لابن طيفور ـ: 67، معاني الأخبار: 355، الأمالي ـ للطوسي ـ: 375، الاحتجاج 1 / 147 ـ 148، شرح نهج البلاغة 16 / 233، كشف الغمّة 1 / 492 ـ 493، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) 1 / 166.
2- انظر: نهج البلاغة: 80 رقم 37.
3- سورة التوبة 9: 97.
4- سورة التوبة 9: 101.
فهل يألفون الوصيّ، أو يرِدون منهله الرويّ؟!
كلاّ! بل اتّـفقوا على جحوده، وأجمعوا على مكاشفتـه بكلّ صراحـة!
وكانوا يحسـدونه على ما آتاه الله من فضله(2)، حيث بلغ ـ في علمه وعمله ونصحه وإخلاصه وحسن بلائه ـ رتبةً عند الله ورسوله تقاصرت عنها الأقران، ونال من الله ورسوله ـ بخصائصه من سوابقه ولواحقه ـ منزلةً قد انقطعت دونها المطامع.
وبذلك دبّت عقارب الحسـد له في قلـوب المتنافسـين من الزعماء وكبار القوم، فاجتمعـوا على نقض عهـده مهما كلّفهم الأمر، ومهما قاسـوه من شـدّة وعنـاء.
وكان العرب قد تشوّفوا(3) إلى تداول الخلافة في قبائلهم،
____________
1- مقتبس من قوله عزّ وجلّ: (لا تتّخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خَبالا) سورة آل عمران 3: 118 ; والخَبال: الفساد، أي فيها جماعة لا تُقصِّر في إفساد أمره ; انظر: لسان العرب 4 / 19 مادّة " خبل ".
2- إشارة إلى قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) سورة النساء 4: 54، المفسَّرة به وذرّيّته المعصومين (عليهم السلام).
3- اشـتاف يشـتاف اشـتيافاً: إذا تطاول ونظر، وتشـوّفت إلى الشيء: أي تطلّعت ; انظر: لسان العرب 7 / 238 مادّة " شوف ".
وتصافقوا على جعلها من أوّل مرة بالاختيار والانتخاب ; ليكون لكلّ قبيلة من قبائل العرب أمل في الوصـول إليها ولو بعـد حين.
وتلك مكيدة من ساسة العرب لم تهتد ساسة أُوربّا لمثلها أبداً، كادوا بها عليّـاً وسائر الأئمّة من بني هاشم، حيث جمعوا بها قبائل العرب إليهم، وأفردوا بني هاشم عن جميع العرب، إلاّ عن ثلّـة من المخلصين.
ومـن تتبّـع شـؤون قريـش وسـائر العـرب علـى عـهـد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أنّـهم ما كانوا ليصبـروا على حصر الخلافـة في بيت مخصوص، ولا سـيّما إذا كانت في بني هاشم، وخصوصـاً إذا تقلّـدها عليٌّ أمير المؤمنين!
وهيهات هيهات أن يصبروا على ذلك، وقد طمحت إليها الأطماع من جميع قبائلهم، وحامت عليها النفوس من كلّ أحيـائهم..
وقد هزلت حتّى بدا من هزالها | كُلاها وحتّى اسـتامها(1) كلُّ مفلسِ(2) |
على أنّ مَن أَلَمّ بتاريخ قريـش وسائر العـرب في صدر الإسلام، يعلم أنّهم لم يخضعوا للنبـوّة الهاشمية إلاّ بعد أن تهشّموا ولم يبق فيهم من قـوّة، فكيف يرضون في اجتماع النبـوّة والخلافة في بني هاشم؟!
وقد قال عمر في كلام دار بينه وبين ابن عبّـاس: إنّ قريشاً كرهت أنْ تجتمع فيكم النبـوّة والخلافة فتجحفون على النـاس(3)!
____________
1- السَّوْمُ: عَرْض السِّلعَةِ على البيع، ويقال: سُمْتُ فلاناً سِلعتي سوماً إذا قلتَ: أتأخذُها بكذا من الثمن؟ ويقال: اسْتَمْتُ عليه بسلعتي استياماً إذا كنت َ أنت تذكر ثمنها، ويقال: استامَ منّي بسلعتي استياماً إذا كان هو العارض عليك الثمن ; انظر: لسان العرب 6 / 439 مادّة " سوم ".
2- جمهرة اللغة 2 / 847، وروايته فيها:
وقد ضَمُرَتْ حتّى بَدَتْ من هُزالها | كُلاها وحتّى استامها كلُّ مُفْلِسِ |
3- ورد هذا الكلام في المناظرة التي دارت بين عمر وابن عبّـاس في: تاريخ الطبري 2 / 577 ـ 578، الكامل في التاريخ 2 / 457 ـ 458، شرح نهج البلاغـة 12 / 52 ـ 55.
وتتميماً للفائدة ندرج أدناه نصّ ما دار بين عمر وابن عبّـاس:
قال ابن عبّـاس: بينما عمر بن الخطّاب وأصحابه يتذاكرون الشعر، فقال بعضهم: فلان أشعر ; وقال بعضهم: بل فلان أشعر.
قال: فأقبلتُ، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها ; مَن أشعر الشـعراء؟
قال: قلت: زهير بن أبي سُلمى.
فقال: هلمّ من شعره ما نسـتدلّ به على ما ذكرت.
فقلت: امتدح قوماً من غطفان فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم | قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا |
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم | طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا |
إنسٌ إذا آمنوا، جنٌّ إذا فزعوا | مُرَزّأون بهاليلٌ إذا حشدوا |
مُحسَّدون على ما كان من نِعَم | لا ينزع الله منهم ما له حُسِدوا |
فـقال عمر: أحسـنَ والله، وما أعلـمُ أحـداً أَوْلى بهذا الشعر من هـذا الحيّ من بني هاشم ; لفضل رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرابتهم منه.
فقلت: وُفّـقت يا أمير المؤمنين، ولم تزل موفّـقاً!
فقـال: يـا بـن عبّـاس! أتـدري مـا منـع قومـكم منـكم بعـد محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
فكرهت أن أُجيبه، فقلت: إنْ لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدرينـي.
فقال عمر: كَرِهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووُفّـقت.
فقلت: يا أمير المؤمنين! إنْ تأذن لي في الكلام وتُمِطْ عنّي الغضب تكلّمتُ.
قال: تكلّم!
قلت: أمّا قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ: " اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت " ; فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.
وأمّا قولك: إنّهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة ; فإنّ الله عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهة، فقال: (ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) [ سورة محمّـد 47: 9 ].
فقال عمر: هيهات والله يا بن عبّـاس! قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرّك عليها لتزيل منزلتك منّي.
فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟! فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإنْ كانت باطلا فمِثلي أماط الباطل عن نفسه!
فقال عمر: بلغني أنّك تقول: إنّما صرفوها عنّـا حسداً وبغياً وظلماً.
فقلت: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: " ظلماً "، فقد تبيّن للجاهل والحليم.
وأمّا قولك: " حسداً "، فإنّ آدم حُسِد، ونحن وُلده المحسدون.
فقال عمر: هيهات هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حسداً ما يحول، وضغناً وغشّـاً لا يزول.
فقتل: مهلا يا أمير المؤمنين! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بالحسد والغشّ، فإنّ قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قلوب بني هاشم.
فقال عمر: إليك عنّي يا بن عبّـاس!
فقلت: أفعل.
فلمّا ذهبت أقوم اسـتحيى منّي، فقال: يا بن عبّـاس! مكانك! فوالله إنّي لـراع لحقّـك، محبّ لِما سَـرّك.
فقلت: يا أمير المؤمنين! إنّ لي عليك حقّاً، وعلى كلّ مسلم، فمن حفظه فحظّه أصاب، ومن أضاعه فحظّه أخطأ! ثمّ قام فمضى.
وانظر ذلك مفصّـلا في: دلائل الصدق 4 / 277 ـ 296.
إذا عرفت هذا كلّه، تعلم أنّ أمر الإمامة كان حرجاً إلى الغايـة ; إذ إنّـها مـن أُصـول الـدين(2)، فـلا بُـدّ مـن تبليغهـا، ولا مناص عن العهـد بها إلى كُـفـئها على كلّ حال.
وهنا الخطر والإشفاق من الهَرْج والمَرْج(3)، لأنّ أُولئك البغاة كانوا يأبون تبليغها والعهد بها إلى صاحبها كلّ الإباء، وكانوا يصدّون عن ذلك كلّ الصدود، وقد علم الله ما أضمروه من الفتنة في هذا السـبيل، وما تأهّبوا وأعدّوا وتجهّزوا له من
____________
1- سورة ق 50: 37.
2- راجـع: دلائل الصدق 4 / 211 وما بعـدها.
3- الـهَـرْج: شدّة القتل وكـثرته، والفتنة والاختلاط ; انظر مادّة " هرج " في: الصحاح 1 / 350، لسان العرب 15 / 69.
والـمَـرْجُ: الفِتْـنَـةُ الـمُـشكِلةُ، والفساد، والخلط، وفي الحديث: كيف أنتم إذا مَرِج الدِّين؟! أي: فسَدَ وقَلِقَت أسـبابه ; انظر: لسان العـرب 13 / 65 مادّة " مرج ".
والمراد هنا: كـثرة الحروب واشـتداد الفتن والاضطراب بين الناس.
لذلك لم تقتضِ حكمته تعالى، ولطفه بعباده، ورفقه بهم، أن يفاجئهم بآية من القرآن ينزلها نصّاً صريحاً جليّاً من كلّ الجهات على الوجـه الذي ذكرتموه ; لِما في نزولها على ذلك الوجـه من الضـرر والخـطر!
لأنّها حينئذ ـ لا محالة ـ تحرج أُولئك الأوغاد من أهل الـعَـيْثِ(1) والفساد، فتخرجهم على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)بثورة في الإسلام شعواء، فيها الخطر على الأُمّـة، والتغرير بالإمام وبالنبيّ وبالدين كلّه، فروعه وأُصـوله.
فإنّهم متى سمعوها { جعلوا أصابعهم في آذانهم واسـتغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً }(2) ; لأنّها تقطع خطّ الرجعة عليهم وتوجب يأسـهم ممّا أجمعـوا عليه، فلا يبقى لهم مطمع حتّى في التمويه والتضليل، المسمّى عندهم
____________
1- الـعَـيْـثُ: مصدر عاثَ يَعِيثُ عَيْثاً وعُيوثاً وعَيَثاناً: أفسَدَ وأخذ بغير رفق، وهو الإسراع في الفساد ; انظر: لسان العرب 9 / 491 مادّة " عيث ".
2- سورة نوح 71: 7.
وقـد ظهـرت بـوادر ذلـك ليلـة العقبـة إذ دحرجـوا الدِّبابَ(2)، ويوم الخميس(3) إذ صدّوه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الكتاب..
____________
1- أقـول: الظاهر هنا أنّه إشارة إلى تأويل بعضهم لكلمة " وليّ "، الواردة في حديث: " مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه "، وجَعْلِها مشـترك لفظيّ بين معان عديدة ـ منها: النصير، والصديق، والمحبّ، والصهر، والتابع، والحليف، والجار، وكلّ ومن ولي أمر أحد فهو وليّه ـ، والقول بأنّ معنى الحديث أنّ عليّـاً نصيركم، أو صديقكم، أو محبّـكم بعـدي..
فإنّ كلّ هذا كان لإبعاد العباد عن المعنى الحقيقي لكلمة " الولي ".
انظر: رسالة في معنى المولى ـ للشيخ المفيد ـ، المراجعات: 254 ـ 256، دلائل الصدق 4 / 300 ـ 313.
2- انظر: مسند أحمد 5 / 453، الكشّاف 2 / 203، الخصال 2 / 499 ح 6، الاحتجاج 1 / 127 ـ 132.
والـدَّبَّـة: ظرف يُجعل فيه الزيت والبِزْر والدُّهن، والجمع: دِبابٌ ; انظر مادّة " دبب " في: لسان العرب 4 / 278، تاج العروس 1 / 479.
3- إشارة إلى حادثة يوم الخميس في مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبيل وفاته، حين طلب كتفاً ودواة من الحاضرين فقال: " هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعـده ".
فقال عمر: إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كـتاب الله!
فاختلف من كان في البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبيّ كتاباً لن تضلوا بعده ; ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال رسول الله: " قوموا! ".
فكان ابن عبّـاس يقول: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكـتب لهم ذلك الكـتاب من اختلافهم ولغطهم.
انظر تفصيل ذلك أو مضمونه في: صحيح البخاري 7 / 219 ح 30 و ج 9 / 201 ح 134، صحيح مسلم 5 / 75، مسند أحمد 1 / 222.
وقد اسـتوعب السـيّد شرف الدين (قدس سره) هذه القضية مفصّلا في: النصّ والاجتهاد: 148 ـ 163، والفصول المهمّة: 144 ـ 148 ; فراجـع!
لهذا ولغيره لم تقتضِ حكمة الله تعالى أن يعيَّن الإمام بالآية التي نوّهتم بها، وإنّما اقتضت الحكمة تعيينه بآيات لم تكن على الوجه الذي يحرج أُولئك المعارضين.
وقد أمر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعهد بالإمامة إلى عليّ (عليه السلام)على وجه يراعي فيه الحكمة، ويتحرّى به المطابقة لمقتضى تلك الأحوال.
فلم يألُ سيّد الأنبياء والحكماء في ذلك جهداً، ولم يدّخر فيه وسعاً، وقد استمرّ في بثّ هذه الروح القدسية بأساليبه الحكيمة العظيمة ثلاثاً وعشرين سنة، منذ بُعث بالحقّ إلى أن
____________
1- سورة التوبة 9: 74.