المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فلم يكن هذا الكتاب بحثاً عن الصفات الإلهية سواء الثبوتية منها أو السلبية فحسب، ولا إحاطة بالألوهية وما يتعلق بها وما يشكل عليها من الدور والتسلسل، لأننا لسنا بصدى تفصيل العقيدة الإسلامية، ولا بخصوص دين معين، بل ندخل بعمق إلى خواص وماهية الذات الإلهية دون التعرض لكنهها، وفقا لما تصدت له الفلسفة الإسلامية لأهل بيت النبوة صلواة الله عليهم أجمعين.
الخطبة الأولى من نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصى نعمائه العادون، ولا يؤدى حقه المجتهدون. الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن. الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه.
أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة: فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه. ومن قال فيم؟ فقد ضمنّه، ومن قال علام؟ فقد أخلى منه.
كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة. فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحد إذ لا مسكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده. أنشأ الخلق إنشاءً، وابتدأه ابتداءً، بلا روية أحالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها.
أحال الأشياء لأوقاتها، ولأم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأحنانها.
الفصل الأول
المعرفة الممكنة والمعرفة المستحيلة
إن الإنسان لا يستطيع الإحاطة بحقيقة الله والوقوف على كنهه، لأن تصوره مستحيل كون الذات الإلهية لا يحاط بها ولا يعرف كنهها، لا في الذهن ولا في الخارج، لأنه مطلق وما يرد في ذهن الإنسان محدود، حيث لا يمكن لللامتناهي أن يحيط به محدود أو محاط، لقوله تعالى: "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما" (طه: 011).
وقال أيضاً "ويحذركم الله نفسه" (آل عمران : 03).
إذ لا يمكن لأحد بلوغ تلك المعرفة لاكتناه الذات، لأنها مغلقة أمام الإنسان. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته" (الخطبة 49).
لكن ذهب المعطلة إلى عدم معرفة ذات الله والتوصل إلى كنهه بواسطة العقل، وربما نجد بعض الأحاديث تقارب ما يدعون إليه، إذا لم نفهم المراد منها كقول الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام: قال: "إياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمة الله فانظروا إلى عظم خلقه" (1).
وعن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام: قال: "تكلموا في خلق الله ولا تكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزيد إلا تحيراً" (2).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: "إن الله يقول "وإلى ربك المنتهى" (النجم: 42) قال: إذا انتهى الكلام إلى الله عز وجل، فامسكوا" (3).
وعن أبو عبد الله عليه السلام "من نظر في الله كيف هو هلك" (4).
____________
1- الكافي كتاب التوحيد - في النهي عن الكلام عن الكيفية. 2- توحيد الصدوق ص 454، 67 - باب النهي في الكلام والمراء في الله عز وجل. 3- توحيد الصدوق ص 456 - 9 - باب. 4- حق اليقين ص 46.
وقول الإمام علي عليه السلام: "الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن" الخطبه الأولى. وقوله أيضا "وإنك أنت الله الذي لم يتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيفاً ولا في رويات خواطرها فتكون محدوداً مصرفاً" الخطبة 89.
وبذات الوقت يقول الإمام علي عليه السلام بما يسد الطريق على المعطلة قوله الآنف الذكر "لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته" الخطبة 49. فإذا كانت عقولنا قاصرة عن كنه ذات الله فهناك مقدار واجب من المعرفة الممكنة لابد منه. أما تصورنا لله المطلق فمن الواضح أنه لا يتم حسب إدراكنا العادي، لأننا محاطون بظواهر جسمانية وقيود زمانية ومكانية وأفكارنا محصورة بنوع من التفكير، يستحيل علينا إدراك موجود خال من قيد أو شرط.
فالمعرفة ممكنة والإكتناه محال. فباب المعرفة مفتوح أي معرفة الله بوجه، لا من جميع الوجوه، لأنها إذا كانت من جميع الوجوه صارت إكتناهية، وهي ممتنعة، فلا يمكن أن نقف على ذاته وكنهه وحقيقته "يا من لا يعرف ما هو إلا هو" كما نذكر لكم ما ينسب إلى أفلاطون قوله:
فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي اللب وبلبلت العقولا
كلما قدم فكري فيك شبراً فر ميلا
ناكصاُ يخبط في عمياء لا يهدي سبيلا
الفصل الثاني
إثبات واجب ا لوجود لذاته
كل معقول إما أن يكون واجب الوجود في الخارج لذاته، وإما ممكن الوجود لذاته، وإما ممتنع الوجود لذاته.
تقريرها: إن كل معقول وهوالصورة الحاصلة في العقل إذا نسبنا إليه الوجود الخارجي فإما أن يصح إتصافه به لذاته أو لا، فإن لم يصح إنصافه به لذاته فهو ممتنع الوجود لذاته، كشريك الباري، فإن صح إتصافه به، فإما أن يجب إتصافه به لذاته أو لا.
الأول: هو الواجب الوجود لذاته، وهو الله تعالى لا غير.
الثاني: هو ممكن الوجود لذاته، وهو ما عدا الواجب من الموجودات، وإنما قيدنا الممتنع أيضاً بكونه لذاته احترازاً من الممتنع لغيره كامتناع وجود المعلول عند عدم علته. كامتناع النار عند عدم وجود الوقود أو أسباب الإحتراق. وهذان القسمان داخلان في قسم الممكن، وإما الممكن: فلا يكون وجوده لغيره، فلا فايدة في تقييده لذاته، إلا لبيان أنه لا يكون إلا كذلك، وللإحتراز عن غيره.
العدم المطلق: وهو المقابل للوجود المطلق.
العدم المقيد: هو الذي يكون بعد الوجود وبينيه.
معنى الوجوب: أن يكون الوجود له ضروريا.
معنى الإمتناع: أن يكون العدم له ضروريا.
معنى الإمكان: أن لا يكون الوجود له ضروريا، ولا العدم له ضرورياً.
في إثبات واجب الوجود لذاته
قال السبزواري في منظومة الحكمة: 18 غرر في المواد الثلاثة
إن الوجود رابط ورابطي ثمت نفسي فهاك واضبط
لأنه في نفسه ولاوم في نفسه إما لنفسه سم
وغيره والحق نحو أيسه في نفسه لنفسه بنفسه
قد كان ذا الجهات في الأذهان وجوب إمتناع وإمكان
وهي غنية عن الحدود ذات تأسى فيه بالوجود
(ان الوجود رابط) أي ثبوت الشيء مشيئاً (ورابطي ثمت نفسي) قد يلحق التاء المتحركة بثم العاطفة ومنه قوله فمضيت ثمت قلت لا يعنيني والمعنى المشترك بين الرابطي والنفسي ثبوت الشيء (فهاك) أي خذ (واضبط لأنه) أي الوجود مطلقاً أما أن يكون وجوداً (في نفسه) ويقال له الوجود المحمولي وهو مفاد كان التامة المتحقق في الهليات البسيطة (أو) يكون وجوداً (لا) في نفسه وهو مفاد كان الناقصة المتحقق في الهليات المركبة ويقال له في المشهور الوجود الرابطي.
والأولى على ما في المتن أن يسمى بالوجود الرابط على ما اصطلح عليه السيد المحقق الداماد في الأفق المبين وصدر المتألهين قدس سره في الأسفار ليفرق بينه وبين وجود الأعراض حيث أطلقوا عليه الوجود الرابطي، وقول المحقق اللاهيجي في بعض تأليفاته أن وجود العرض مفاد كان الناقصة وهم لأنه محمولي يقع في هلية البسيطة كقولك البياض موجود بخلاف مفاد كان الناقصة أعني الرابط فإنه دائماً ربط بين الشيئين لا ينسلخ عن هذا الشأن. (وما) أي وجود (في نفسه إما لنفسه) كوجود الجواهر (سما) إما مؤكد بالنون الخفيفة وماض بمعنى علا (وغيره) يعني ووجود في نفسه لغيره كوجود العرض حيث يقال وجود العرض في نفسه عين وجوده لغيره. فله وجود في نفسه لكونه محمولاً وله ماهية تامة ملحوظة بالذات في العقل ولكن ذلك الوجود في غيره لأنه في الخارج نعت للموضوع.
ثم النفسي قسمان لأن الوجود في نفسه لنفسه أما بغيره كوجود الجوهر فإنه ممكن معلول وإما بنفسه وهو وجود الحق تعالى كما قلنا (والحق) جل شأنه (نحو أيسه) أي وجوده (في نفسه) لا كالرابط حيث أنه وجود لا في نفسه (لنفسه) لا كالرابطي فإنه في نفسه لغيره (بنفسه) لا كوجود الجوهر فإنه وإن كان لنفسه لكن ليس بنفسه. وجعل العرض موجوداً في نفسه لغيره.
والجوهر موجوداً في نفسه لنفسه بغيره لا ينافي ما حقق في موضعه من أن وجود ما سوى الواحد الأحد رابط محض لأن ما ذكر ها هنا إنما هو فيما بين الممكنات أنفسها وإلا فالكل روابط صرفه لا نفسية لها بالنسبة إليه. إن هي إلا تمويهات وتماثيل وبأنفسها أعدام وأباطيل. (قد كان) أي الوجود مطلقاً (ذا الجهات) أي صاحب الجهات وهو خبر كان (في الأذهان) هذا إشارة إلى أنها في الخارج مواد وفي الأذهان جهات (وجوب) بالجر بدل من الجهات لا بالرفع ليتوافق الرويان و(إمتناع وإمكان) كلمة وللتنويع (وهي) أي الجهات (غنية عن الحدود) لكون معانيها مما ترتسم في النفس إرتساماً أولياً. فمن أراد أن يعرفها تعريفاً حقيقاً لا لفظياً لم يأت إلا بتعريفات دورية مثل أن الواجب ما يلزم من فرض عدمه محال والممكن ما لا يلزم من فرض وجوده وعدمه محال والممتنع ما ليس بممكن وما يجب أن لا يكون غير ذلك. فهي (ذات تأسى فيه) أي صاحبة إقتداء في الغناء عن التحديد (بالوجود).
الفصل الثالث
خصائص الواجب والممكن
خواص الوا جب
واجب الوجود له خصائص خمسة:
1- أن لا يكون وجوده واجباً لذاته ولغيره معاً، وإلا لكان وجوده مرتفعاً عند ارتفاع وجود ذلك الغير، فلا يكون واجباً لذاته، وهذا خلف.
أي لا يمكن أن يكون واجباً بالذات وواجباً بالغير. لأن الواجب بالذات لا يمكن أن يكون واجباً بالغير لأنه إذا ارتفع ذلك الغير ترتفع الذات، وإذا عدمت العلة عدم المعلول، وإذا فرضنا أن الواجب بالذات واجباً بالغير أي يمكن عليه العدم، والواجب بالذات يمتنع عليه العدم ولا يكون وجوبه واجباً لذاته ولغيره معاً وإلا لو كان واجب الوجود بالذات وواجباً بالغير أيضاً لكان وجوبه مرفوعاً عند ارتفاع ذلك الغير فلا يصح لأنه واجب بالذات ويستحيل عليه العدم.
2- أنه لا يكون وجوده ووجوبه زايدين عليه وإلا لافتقر إليهما، فيكون ممكناً.
أي أنه عندما نقول الله موجود. الله واجب فهل أن الوجود والوجوب زايدين على ذات الواجب أو أنهما عين الواجب؟ الوجود والوجوب هذا ليس زائداً على ذات الواجب كما أن الوجود على ذات الممكن زائداً عليه. فلا يكون زائدين عليه وإلا لزم أن هذه الذات تكون مفتقرة إلى الوجود لكي توجد ومفتقرة إلى الوجوب لكي تكون واجبة، والإفتقار من صفات الممكن "أيها الناس أنتم الفقراء" والواجب لا يوجد فيه أي مجال للفقر والإحتياج كونه غني "والله هو الغني الحميد". وحقيقة الماهية هي الوجوب خلافه بالممكن حيث أن وجوده زائد على ذاته.
3- أنه لا يكون صادقا عليه التركيب لأن المركب مفتقر إلى أجزائه المغايرة له، فيكون ممكناً، والممكن لا يكون واجباً لذاته. أي أنه ليس مركباً من أجزاء فالماء مركب من عنصر الأوكسجين وعنصر الهيدروجين. أما الواجب بسيط من كل جهة لا يوجد فيه أي مجال للتركيب لأن كل مركب يحتاج إلى الأجزاء كي يتحقق ذلك المركب، فعدم وجود الأوكسجين لا يحقق وجود الماء.
لو فرضنا أن الواجب مركب ويفتقر إلى أجزائه وقلنا أن الإفتقار والإحتياج من خواص الممكن فالواجب بسيط من كل جهة ولا يكون مركب بأي نحو من الأنحاء التركيبية . لان المركب مفتقر بوجوده الى وجود أجزاءه كي يتحقق وهذه الأجزاء مغايرة للمركب، فالماء شيء والأوكسجين شيء آخر.
4- أنه لا يكون جزءاً من غيره، وإلا لكان منفعلاً عن ذلك الجزء فيكون ممكناً.
فإنه لا يكون جزءاً من غيره أي من مركب آخر لأنه يحتاج لذلك المركب. لكي يتحقق الماء، الأوكسجين يحتاج إلى الهيدروجين ليتركب معه لتكوين الماء فيقع بينه وبين الجزء الآخر إنفعال، والإنفعال ينافي الوجوب بالذات وإذا كان منفعلاً فيكون فيه قوة وإستعداد من الفعل فيكون ممكناً.
5- أنه لا يكون صادقاً على إثنين، لأنهما حينئذ يشتركان في وجوب الوجوب، لا يخلو إما أن يتميزا أو لا، فإن لم يتميزا لم تحصل الإثنينية وإن تميزا لزم تركيب الواحد منهما من به المشاركة ومن به الممايزة وكل مركب ممكن وعليه لا يكون واجباً لذاته.
ولو كان معه شريك لزم فساد نظام الوجود وهو باطل. بيان ذلك: أنه لو تعلقت ارادةأحدهما بإيجاد جسم متحرك فلا يخلو إما أن يكون للآخر إرادة سكونه أولا فإن أمكن فلا يخلو إما أن يقع مرادهما فيلزم إجتماع المتنافيين أو لا يقع مرادهما فيلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون أو يقع مراد أحدهما ففيه فسادان: أحدهما: الترجيح بلا مرجح، وثانيهما: عجز الآخر.
وإن لم يكن للآخر إرادة سكونه فيلزم عجزه إذ لا مانع إلا تعلق إرادة ذلك الغير لكن عجز الإله باطل والترجيح بلا مرجح محال فيلزم فساد النظام وهو محال أيضا.
خواص الممكن
1- أنه لا يكون أحد الطرفين أعني الوجود والعدم أولى به من الآخر، بل هما معاً متساويان بالنسبة إليه، ككفتي الميزان فإن ترجح أحدهما فإنه إنما يكون بالسبب الخارجي عن ذاته: لأنه لو كان أحدهما أولى به من الآخر, فإما أن يمكن وقوع الآخر، أو لا. فإن كان الأول لم تكن الأولوية كافية، وإن كان الثاني كان المفروض أولى به واجباً له، فيصير الممكن إما واجباً أو ممتنعاً، وهو محال.
إن الممكن متساوي النسبة للوجود والعدم لا الوجود أولى له ولا العدم أولى له. بل خارجان عن أولوية الممكن. فيحتاج لمرجح، فلا يكون أحد الطرفين سواء طرف الوجود أو طرف العدم أولى بالممكن من الآخر. بل الوجود والعدم متساويان بالنسبة للممكن فإن ترجيح أحدهما الوجود ترجح للممكن فصار موجودا أو العدم ترجح للممكن فيصبح معدوماً، هذا يحتاج لعلة خارجية. فالترجيح لا يكون منشأه نفس الذات فإن ترجح أحدهما با لسبب خارجي عن ذات الممكن لا بنفس ذات الممكن لأنه إذا كان ذات الممكن هو السبب للوجود أو العدم أو كان أحدهما أولى من الآخر، هذه الأولوية تجعل الطرف الآخر ممتنع التحقق أو وجوب التحقق، مع وجوب الأولوية يكون الممكن واجباً أو ممتنعاً لأن الإمكان هو تساوي النسبة للوجود والعدم. أما إذا كانت هذه الأولوية كافية لوجود الأول وإنعدام الآخر يوجب الوجوب أو الإمتناع، فيصير الممكن إما واجباً أو ممتنعاً.
2- أن الممكن محتاج إلى المؤثر، لأنه لما استوى الطرفان: أعني الوجود والعدم- بالنسبة إلى ذاته استحال ترجيح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، والعلم به بديهي. وحيث أن الذات لا يمكن إحتياجها لمؤثر خارجي لاستواء طرفيّ الوجود والعدم فيستحيل ترجيح أحدهما على الآخر لاستحالة الترجيح بلا مرجح.
3- إن الممكن الباقي محتاج إلى المؤثر. وإنما قلنا ذلك: لأن الإمكان لازم لماهية الممكن ويستحيل رفعه عنه، وإلا لزم إنقلابه من الإمكان إلى الوجوب أو الإمتناع. وقد ثبت أن الإحتياج لازم للإمكان والإمكان لازم لماهية الممكن ولازم اللازم لازم، فيكون الإحتياج لازماً لماهية الممكن وهو المطلوب.
لما كان الممكن في حدوثه يحتاج إلى الواجب كذا ببقاءه يحتاج للواجب أي للمؤثر وما له ماهية وجوده زائداً على ذاته كالإنسان. والله وجوده عين ذاته لأن ماهيته أنيته كما سنبين لاحقاً.
إستحالة إتحاده بالغير
"قال: "ولا يتحد بغيره لامتناع الإتحاد مطلقاً" أقول: "الإتحاد يقال على معنيين: مجازي وحقيقي، أما المجازي: فهو صيرورة الشيء شيئاً آخر بالكون والفساد، أما من غير إضافة شيء آخر كقولهم: صار الماء هواء وصار الهواء ماء أو مع إضافة شيء آخر كما يقال: صار التراب طيناً بانضياف الماء إليه. وأما الحقيقي: فهو صيرورة الشيئين الموجودين شيئاً واحداً موجوداً. إذا تقرر هذا فاعلم: أن الأول مستحيل عليه تعالى قطعاً، لاستحالة الكون والفساد عليه.
وأما الثاني فقد قال بعض النصارى: إنه اتحد بالمسيح، فإنهم قالوا إتحدت لاهوتية الباري مع ناسوتية عيسى عليه السلام.
وقالت النصيرية: إنه اتحد بعلي عليه السلام. وقال المتصوفة أنه اتحد بالعارفين. فإن عنوا غير ما ذكرناه فلا بد من تصوره أولاً ثم يحكم عليه، وإن عنوا ما ذكرناه فهو باطل قطعاً، لأن الإتحاد مستحيل في نفسه فيستحيل إثباته لغيره.
أما إستحالته، فهو إن المتحدين بعد إتحادهما إن بقيا موجودين فلا إتحاد، لأنهما إثنان لا واحد، وإن عدما معاً، فلا إتحاد أيضاً بل وجد ثالث، وإن عدم أحدهما وبقي الآخر فلا إتحاد أيضاً لأن المعدوم لا يتحد بالموجود". (1)
____________
1- الباب الحادي عشر للمقداد السيوري، صفحة 56.
الفصل الرابع
في المواد الثلاث
"إن الأشياء تنقسم بحسب الحصر العقلي إلى ثلاثة أنواع: الوجود، الماهية، والعدم وبعبارة أخرى إلى النور، والظل والظلمة، وكل ممكن الوجود فهو مركب من الماهية، وهي أمر لا يأبى الوجود ولا العدم، ومن الوجود الذي لا يأبى بذاته العدم وبعبارة أخرى فكل ممكن الوجود مركب من النور والظلمة غير أنه يجب أن يكون من قبال هذا النور المحض حيث لا ظلمة تعتريه وهو واجب الوجود الذي يأبى بذاته العدم، وكما قيل فإن (الحق ماهيته أنيته) أي أن الخالق من به ماهية نفس وجوده. والسبب في ذلك أن جهتي الوجود والعدم متساويتان بالنسبة إلى الممكن وما لم يتدخل الأمر الخارجي فلا ترجيح أحدهما على الآخر، وحيث نشاهد الممكنات موجودة خارجة عن نقطة الإستواء بين الوجود والعدم نعلم أن أمراً خارجياً أعطاها الوجود، فإن ذلك الأمر الخارجي واجب الوجود فهو، وإلا كان محتاجاً إلى علة فإما الدور أو التسلسل. وإما أن تنتهي إلى واجب الوجود وحيث ثبت في المنطق بطلان الدور والتسلسل تعين الشق الآخر وهو ثبوت واجب الوجود.
ويكفي التعبير عن هذا النوع من الإستدلال فإنه قابل للإنحلال إلى العدم. ويمكن إسناد التغير وفقدان الوجود منه فالوجود بالنسبة إلى هذه الموجودات ليس ذاتياً بل اكتسابي لذلك فهي تحتاج إلى علة تعطيها الوجود وتمنحه إياها فإن كان وجود العلة ذاتيا لها ثبت المطلوب وهو واجب الوجود لذاته" (1).
الماهية والوجود
الماهية:
كلمة (ماهيه) وصدر صناعي مأخوذ من عبارة (ماهو؟) أو (ماهي؟) التي تقال في السؤال عن حقيقة الشيء. ومن هنا عرّفها الحكماء بأنها "ما يقال في جواب ما هو" (2) واستخلص الجرجاني من تعريف الحكماء المذكور تعريفا آخر هو أن ماهية الشيء: ما به الشيء هو هو" (3).
____________
1- أسرار الحكم 26 للسبزراوي. 2- بداية الحكمة 75. 3- التعريفات: مادة ماهية.
وتوضيح ذلك بالمثال نقول: إننا عندما نسأل عن حقيقة الإنسان بقولنا: ما هو الإنسان؟ نجاب: الإنسان: حيوان ناطق. فعبارة (حيوان ناطق) المقولة في جواب سؤالنا: ما هو الإنسان، هي ماهية الإنسان. وبتعبير آخر: ان المعنى الذي تدل عليه هذه العبارة هو ماهية الإنسان. فماهية الشيء حقيقته.
الوجود:
مفهوم الوجود هو أوضح وأجلى المفاهيم الموجودة في ذهن الإنسان، ولهذا لا يمكن تعريفه تعريفاً علمياً، لأن شرط التعريف أن يكون أجلى وأوضح من المعرّف، ولا أقل من مساواته له في الوضوح، وكل ما ذكر ويذكر من تعريف للوجود هو أخفى منه، لأن الوجود - كما أسلفت - لا شيء أعرف وأجلى منه، إذ لا يوجد معنى أعم منه. وعلى هذا: فأي تعريف للوجود لا يضيف لمعلوماتنا عنه معلومة جديدة مضافاً إليه: أنه لا جنس ولا فصل أو خاصة للوجود، لأنه بسيط، وهذه - كما هو معلوم منطقياً - عناصر التعريف ومقوماته، وعند عدمها لا نستطيع التعريف تعريفاً منطقياً، ومن هنا يكون ترك تعريفه هو الصواب.
فمفهوم الوجود هو ما نفهمه وندركه من معنى لهذه الكلمة. وبتعبير آخر: هو ما يتبادر إلى أذهاننا من معنى عند سماع كلمة (وجود).
العلاقة بين الماهية والوجود
1- لا خلاف بينهم في أن الوجود والماهية في الخارج هما شيء واحد وذات واحدة. وإنما الخلاف بينهم في نوعية العلاقة بينهما في عالم التصور والتعقل الذهني، وهو على قولين هما:
أ- أن العلاقة بين الماهية والوجود علاقة إتحاد.
ب- أن العلاقة بينهما علاقة تغاير.
والقول الأول مذهب أبي الحسن الأشعري ومشايعيه، قال: "وجود كل شيء عين ماهيته" (1) وفسر قوله هذا بأنه يذهب إلى إتحاد الوجود والماهية، أي عدم زيادة
____________
1- التحقيق التام 28.
الوجود على الماهية، واستدل له بأن الماهية - في واقعها - إما موجودة أو معدومة. فإن كانت موجودة قبل عروض الوجود عليها يكون الوجود العارض عليها قائماً في ماهية موجودة. وهذا يلزم منه اجتماع المثلين، وهما: المثل الأول: وجود الماهية المفروض قبل عروض الوجود عليها. والمثل الثاني: الوجود العارض عليها. واجتماع المثلين باطل لأنه محال.
وعليه يبطل القول بزيادة الوجود على الماهية، ويثبت إتحادهما، ويكون وجود الماهية هو نفس الماهية. وإن كانت الماهية معدومة قبل عروض الوجود عليها يكون الوجود العارض عليها قائماً في ماهية معدومة، فيجتمع النقيضان وهماعدم الماهية المفروض قبل عروض الوجود عليها، والوجود العارض عليها. واجتماع النقيضين باطل لأنه محال، فيبطل القول بزيادة الوجود على الماهية، ويثبت إتحادهما فيكون وجود الماهية هو نفس الماهية، ورد هذا الإستدلال من قبل أصحاب القول الثاني: بأن الماهية من حيث هي وفي واقعها لا موجودة ولا معدومة. فعروض الوجود عليها إنما كان بما هي في واقعها، أي بما هي غير متصفة بالوجود أو العدم، وعليه لا يلزم من عروضه عليها إجتماع المثلين أو إجتماع النقيضين. والدليل على أن الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة، ان الماهية "لما كانت تقبل الإتصاف بأنها موجودة أو معدومة، أو واحدة أو كثيرة، أو كلية أو مفردة. وكذا سائر الصفات المتقابلة، كانت في حد ذاتها مسلوبة عنها الصفات المتقابلة. (1)
وذهب الآخرون إلى القول الثاني. وفسر: بأن الوجود زائد على الماهية عارض لها. ومقصودهم من هذا: بأن العقل يستطيع "أن يجرد الماهية عن الوجود فيعتبرها وحدها، فيعقلها، ثم يصفها بالوجود وهو معنى العروض. فليس الوجود عيناً للماهية" (2) والتغاير بين الماهية والوجود يتحقق في أن كلا منهما له مفهوم غير مفهوم الآخر. واستدل لهذا القول بأدلة منها:
أ- صحة الحمل:
وتقريره: إنا نحمل الوجود على الماهية، فنقول (الماهية موجودة)، فنستفيد منه فائدة معقولة لم تكن حاصلة لنا قبل الحمل، وإنما تتحقق هذه الفائدة على تقدير المغايرة في المفهوم بين الماهية والوجود.
____________
1- بداية الحكمة 75. 2- بداية الحكمة 13.ء
إذ لو كان الوجود نفس الماهية لكان قولنا: (الماهية موجودة) بمنزلة (الماهية ماهية) أو (الموجودة موجودة). والتالي باطل فكذا المقدم.(1)
ب- صحة السلب:
وتقريره: إنا قد نسلب الوجود عن الماهية فنقول: (الماهية معدومة) أو الماهية ليست موجودة، فلو كان الوجود نفس الماهية لزم التناقض، ولو كان جزء منها لزم التناقض أيضاً، لأن تحقق الماهية يستدعي تحقق أجزائها التي من جملتها الوجود، فيستحيل سلبه عنها، وإلا لزم إجتماع النقيضين، فتحقق إنتفاء التناقض يدل على الزيادة.
وصحة الحمل وكذلك صحة السلب دليل التغاير في المفهوم كما هو مقرر في محله ويلخص صاحب المنظومة المسألة على القول الثاني ببيته:
إن الوجود عارض الماهية تصوراً واتحدا هوية
ويقول: إن عروض الوجود على الماهية هو في عالم التصور والتعقل فقط، وهو ما عبرنا عنه بالتغاير في المفهوم. أما في عالم الواقع الموضوعي الذي عبر عنه بالهوية وهي حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، فهما متحدان، أي هما ذات واحدة.
الخلاصة:
ونلخص من كل هذا إلى أن الوجود والماهية متغايران مفهوماً متحدان مصداقاً.
2- وينسق على مسألتنا المتقدمة مسألة أخرى من مسائل العلاقة بين الوجود والماهية هي مسألة الأصالة والإعتبارية. فبعد الفراغ من ثبوت تغاير الوجود والماهية مفهوماً، يتساءل أيهما الأصيل وأيهما الإعتباري؟ فهذه المسألة تقوم على ما تقدم من أن العقل يستطيع أن ينتزع من الأشياء الموجودة في الواقع الموضوعي مفهومين متغايرين هما: مفهوم الوجود ومفهوم الماهية. فمثلاً: الإنسان الموجود في الواقع الخارجي يقوى العقل على أن ينتزع منه: أنه إنسان، وأنه موجود فالإنسانية هي الماهية. والموجودية هي الوجود.
____________
1- كشف المراد.
فأي هذين المفهومين هو الأصيل؟ وأيهما الإعتباري؟ وكما اختلف في المسألة السابقة على قولين اختلف في هذه المسألة على قولين أيضاً هما:
أ- الوجود هو الأصيل والماهية اعتبارية.
ب- الماهية هي الأصيلة والوجود إعتباري.
قال بالرأي الأول المشاؤون، ونسب القول الثاني إلى الإشراقيين، واستدل للقول الأول بأدلة منها: أن الماهية من حيث هي مستوية النسبة إلى الوجود والعدم، ولا تخرج من هذا الإستواء إلى مستوى الوجود إلا بالوجود، وبواستطة تترتب عليها آثارها التي هي قوام حقيقتها وكمال شيئيتها نحو الجنس والفصل والخاصة كالحيوانية والناطقية والضاحكية للإنسان. ولأن الوجود هو المخرج لها من حد الإستواء المشار إليه كان هو الأصيل. واستدل للقول الثاني: بأن دعوى أصالة الوجود تستلزم أن يكون الوجود الموجود في الخارج موجوداً بوجود آخر. وعليه يلزم أن يكون لوجوده وجود، ولوجود وجوده وجود وهكذا. فتسلسل الوجودات إلى غير نهاية، وهو محال.
وعندما تبطل دعوى أصالة الوجود يتعين القول باعتبارية وأصالة الماهية، وردّ: بأن الوجود في الخارج موجود بنفس ذاته لا بوجود آخر، فلا تسلسل.
إعتبارات الماهية:
للماهية عند الإستعمال وبلحاظ ما يقصده المستعمل منها من حيث الإطلاق والتقييد ثلاثة أقسام، تسمى في الحكمة، إعتبارات الماهية. وذلك كالتالي:
تنقسم الماهية باعتبار ما أشرت إليه على قسمين: مطلقة ومقيدة.
1- الماهية المطلقة:
وهي التي تلحظ أثناء الإستقلال بذاتها أي لا مع شيء زائد عليها. وبتعبير آخر: تؤخذ مطلقة من التقييد بشيء سواء كان ذلك الشيء وجودياً أو عدمياً. واصطلح عليها فلسفياً (الماهية لا بشرط)، أي غير المقيدة باشتراط شيء فيها، ولا باشتراط لا شيء فيها. مثل (اعتق رقبة) فالرقبة - وهي الماهية هنا - غير مقيدة لا بوصف وجودي ولا بوصف عدمي.
2- الماهية المقيدة:
وهي التي تقيد أثناء الإستعمال بشيء. ولأن الشيء الذي نقيّد به قد يكون وجوديا وقد يكون عدمياً قسمت على قمسين، هما:
أ- الماهية بشرط شيء:
وهي المقيدة بشيء وجودي مثل (اعتق رقبة مؤمنة) فالرقبة هنا مقيدة بوصف وجودي وهو الإيمان.
ب - الماهية بشرط لا شيء:
وقد تنحصر تسميتها فيقال (الماهية بشرط لا): وهي المقيدة بشيء عدمي، مثل: (اعتق رقبة غير كافرة) فالرقبة هنا مقيدة بوصف عدمي وهو عدم الكفر.(1)
الخلاصة:
الوجود الذهني:
اتفقوا في أن للماهيات وجوداً خارجياً وعرفوه: بأنه الوجود الذي تترتب على الماهية فيه آثارها المقومة لحقيقتها والمكملة لشيئيتها ولكن اختلفوا في أنه هل هناك وجود آخر للماهية وراء الوجود الخارجي؟
أو أنه ليس للماهية إلا هذا الوجود الخارجي. والمشهور بينهم أن للماهية وجوداً آخر وراء هذا الوجود الخارجي، وهو الوجود الذهني. وعرّفوه: بأنه الوجود الذي لا تترتب فيه على الماهية آثارها. بمعنى أن الموجود في الذهن ليس الماهية بلوازمها وأحكامها التي هي مترتبة عليها في الوجود الخارجي.
وإنما الموجود صورتها ومثالها المجردان عن حالها من آثار ولوازم واحتج المشهور على ما ذهبوا إليه من الوجود الذهني بوجوه ألاول: إنا نحكم على المعدومات بأحكام إيجابية كقولنا (بحر من زئبق كذا) وقولنا: (إجتماع النقيضين غير إجتماع الضدين) إلى غير ذلك. والإيجاب إثبات، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. (إذن) فلهذه الموضوعات المعدومة وجود، إذ ليس في الخارج، ففي موطن آخر، ونسميه الذهن.
____________
1- عدلت عن المجردة ممثلاً بالمثال المذكور لأن المجردة لا موطن لها إلا الذهن، والقسمة - كما رأينا - قائمة على إستعمال له واقع يعايشه الناس.
والثاني: أنا نتصور أمور تتصف بالكلية والعموم كالإنسان الكلي. والحيوان الكلي. والتصور إشارة عقلية لا تتحقق إلا بمشار إليه موجود، وإذ لا وجود للكلي التلاقي كلي في الخارج فهي موجود في موطن آخر، ونسميه الذهن.
الثالث: أنا نتصور الصرف من كل حقيقة، وهو الحقيقة محذوفاً عنها ما يكثرها بالخلط والإنضمام كالبياض المتصور بحذف جميع الشوائب الأجنبية.
وصرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر، فهو واحد وحدة جامعة لكل ما هو من سنخه، والحقيقة بهذا الوصف غير موجودة في الخارج، فهي موجودة في موطن آخر نسمية الذهن"(1) انتهى ما قاله الفضلي.
____________
1- كتاب خلاصة علم الكلام - الدكتور عبد الهادي الفضلي .
الفصل الخامس
غرر في أن الحق تعالي أنيته صرفة
والحق ماهيته أنيته إذ مقتضى المعروض معلولية
فسابق مع لاحق قد اتحد ولم تصل سلسلة الكون لحد
المنظومة (والحق) تعالى شأنه قال المعلم الثاني يقال حق للقول المطابق للمخبر عنه إذا طابق القول ويقال حق للموجود الحاصل بالفعل ويقال حق للموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه والأول تعالى حق من جهة المخبر عنه حق من جهة الوجود حق من جهة أنه لا سبيل للبطلان إليه، لكنا إذا قلنا أنه حق فلأنه الواجب الذي لا يخالطه بطلان وبه يجب وجود كل باطل ألا كل شيء ما خلا الله باطل انتهى (ماهيته) أي ما به هو هو (إنيته) إضافة الإنية إليه تعالى إشارة إلى أن المراد عينية وجود الخاص الذي به موجوديته لا الوجود المطلق المشترك فيه لأنه زائد في الجميع عند الجميع فهو صرف النور وبحت الوجود الذي هو عين الوحدة الحقة والهوية الشخصية (إذ مقتضى العروض) لو كان وجوده عرضياً لماهيته بأن يكون شيئاً ووجوداً كما أن الممكن ماهية ووجود (معلوليته) أي معلولية الوجود العارض لأن كل عرضي معلل حتى إنه عرف الذاتي بما لا يعلل والعرضي بما يعلل، فوجوده أما معلول لمعروضه والعلة متقدمة بالوجود على المعلول وذلك الوجود الذي هو ملاك التقدم إما عين ذلك الوجود المعول (فسابق) هو وجود المعروض (مع لاحق) هو الوجود العارض (قد اتحد) فيلزم تقدم الشيء على نفسه وأما غير ذلك الوجود المعلول فحينئذ ننقل الكلام إليه والفرض أن الوجود عارض وهو أيضا معلول للمعروض وهكذا وإليه أشرنا بقولنا (أو لم تصل سلسلة الكون) أي الوجود ( لحد) أي إلى حد فيلزم التسلسل وإما معلول لغير المعروض فيلزم إمكانه إذ المعلولية للغير ينافي الواجبية. وإنما لم نتعرض له لظهور بطلانه ولك أن تدرجه في النظم لأن ذلك الغير أما ممكن فيدور ومفسدة الدور تقدم الشيء على نفسه وأما واجب آخر فيتسلسل لأن الكلام فيه كالكلام في الأول حيث أن عينية الوجود للذات من خواص الواجب".