الوجود ووجوبه نفس حقيقته
كما ذكر مثله في شرح التجريد في المسألة السادسة والثلاثون في أن وجود واجب الوجود نفس حقيقته قال: ولا يزيد وجوده ونسبته عليه وإلا لكان ممكناً.
أقول: هذه المسألة تشمل على بحثين المبحث الأول، في أن وجود واجب الوجود نفس حقيقته، وتقريره: أن نقول لو كان وجود واجب الوجود لذاته زائداً على حقيقته لكان صفة لها فيكون ممكناً فيفتقر إلى علة فتلك العلة إما أن تكون نفس حقيقته أو شيئا خارجا عن حقيقته والقسمان باطلان أما الأول فلأن تلك الحقيقة إما أن تؤثر فيه وهي موجودة أو تؤثر فيه وهي معدومة فإن أثرت فيه وهي موجودة فإن كانت موجودة بهذا الوجود لزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال وإن كان بغير هذا الوجود عاد البحث إليه ويلزم وجود الماهية مرتين والجمع باطل وأن أثرت فيه وهي معدومة كان المعدوم مؤثراً في الوجود وهو باطل بالضرورة وإما الثاني فيلزم منه إفتقار واجب الوجود في وجوده إلى غيره فيكون ممكنا وهو محال وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب والبحث الثاني في أن الواجب نفس حقيقته وقد تقدم بيان ذلك.
الله ليس بجسم
لأن كل جسم لا ينفك عن الأكوان الأربعة وهي الحركة والسكون والإجتماع والإفتراق. وهي حادثة لتغيرها وتبدلها، وما لا ينفك عن الحوادث يكون محدثا فيلزم حدوث الله وقد ثبت أنه واجب الوجود لذاته فلا يجوز أن يكون جسماً، ولأن الجسم مركب وهو محتاج إلى أبعاضه وإلى فاعل يركبه فيكون واجب الوجود محتاجاً ومفعولاً ويكون ممكناً، وقد ثبت بالضرورة أنه واجب فلا يجوز أن يكون جسماً.
إنه تعالى ليس في حيز ولا جهة ولا محل
والمراد من الحيز عند الإشراقيين هو المكان، وعند المشائين أنه عبارة عن وضع خاص للجسم بالنسبة إلى غيره، وهذا الإختلاف ناشيء عن إختلافهم في حقيقة المكان فعند المشائين انه عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وعند الإشراقيين إنه عبارة عن البعد المجرد عن المادة الذي ينفذ فيه بعد الجسم. فإن من البعيد ما هو مادي يحل في الأجسام ويمانع بما يماثله وهذا هو الجسم التعليمي، ومنه ما هو مفارق كلي فيه بعد الجسم ويلاقيه
بجملته بحيث ينطبق على بعد الجسم ويتحد به. وهذا هو مختار المتكلمين إلا أنه عندهم عدم محض وفق صرف يمكن أن لا يشغله مشاغل ويسمى بالفراغ المتوهم والجهة عندهم في طرف الإمتداد الحاصل في مأخذ الإشارة والمراد من الإمتداد ما يتوهم من الإمتداد بين المشير والمشار إليه، والمحل هو المادة المحتاجة في وجودها إلى الحال فيها أعني الصورة. فالمادة محل للصورة كما أن الجوهر موضوع للعرض، وقد يطلق المادة بالمعنى الأعم منها ومن البدن بالنسبة إلى النفس.(1)
وإنه تعالى لا يحويه مكان وهو في كل مكان، يعني أنه لو كان في مكان لاحتاج إليه وكان مسبوقاً به وقد ثبت قدمه وغناه فلا يجوز أن يكون محتاجاً ومسبوقاً بغيره ومعنى أنه في كل مكان أنه عالم بكل كائن محيط بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء محيط، ولأن ذلك يقتضي حصره وتناهيه ويلزم أن يكون في حيز فيكون في جهة، ولا يكون في جهة الأجسم أو بعض جسم أو عرض أو ما في حكم العرض، وقد ثبت أن الخالق ليس لجسم ولا عرض ولا في حكمها فلا يجوز أن يحل في مكان أو في غيره من مخلوقاته.
____________
1- كشف المراد، مسألة 1 ومسألة 9.
اعلم أن التركيب على أقسام:
1- التركيب من الأجزاء العقلية فقط.
2- التركيب منهما ومن الأجزاء الخارجية كالمادة والصورة والأجزاء العنصرية.
3- التركيب من الأجزاء المقدارية كأجزاء الخط والسطح. والمدعى إن ذاته تعالى بسيط وليس بمركب من الأجزاء مطلقاً. والدليل على أنه ليس مركباً من الأجزاء الخارجية والمقدارية إنه سبحانه منزه عن الجسم والمادة والبرهان على عدم كونه مركباً من الأجزاء العقلية هو أن واجب الوجود بالذات لا ماهية له، وما لا ماهية له ليس له أجزاء عقلية، التي هي الجنس والفصل والوجه في انتفاء الماهية عنه تعالى بهذا المعنى هو أن الماهية من حيث هي هي، مع قطع النظر عن غيرها، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم. إن كل ماهية من حيث هي، تكون ممكنة فما ليس بممكن لا ماهية له والله تعالى بما أنه واجب الوجود بالذات لا يكون ممكنا بالذات فلا ماهية له. (1)
والواجب بسيط لا ماهية له فليس له حد، وإذا لا حد له فلا أجزاء حدية له من الجنس والفصل، وإذا لا جنس ولا فصل له فلا أجزاء خارجية له من المادة والصورة الخارجيتين لأن المادة هي الجنس بشرط لا والصورة هي الفصل بشرط لا وكذا لا أجزاء ذهنية له من المادة والصورة العقليتين وهي الجنس والفصل المأخوذان بشرط لا من البسائط الخارجية كالأعراض وبالجملة، لا أجزاء حدية له من الجنس والفصل ولا خارجية من المادة والصورة الخارجيتين ولا ذهنية عقلية من المادة والصورة العقليتين. لو كان له جزء لكان متقدما عليه في الوجود وتوقف الواجب عليه في الوجود ضرورة، تقدم الجزء على الكل في الوجود، وتوقف الكل فيه عليه ومسبوقية الواجب وتوقف بالشيء وهو واجب الوجود لا محال.
____________
1- كشف المراد، مسألة 1 ومسألة 9.
لو تركبت ذات الواجب من أجزاء لم يخل أما أن تكون جميع الأجزاء واجبات بذواتها وأما أن يكون بعضها واجب بالذات وبعضها ممكن، وأما أن تكون جميعها ممكنات. إن ذاته منزهة غير متناهية لقوله تعالى: "هو معكم أينما كنتم وإنه بما تعملون بصير". (الحديد: 4).
وقوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (ق: 16).
وقوله: "هو الأول والآخر الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" (الحديد: 3).
إننا نعتقد أن وجوده غير متناه من حيث العلم والقدرة والحياة الأبدية ولهذا لا يمكن حصره في الزمان والمكان، لأنهما محدودان وإنما هو حاضر في كل زمان ومكان لأنه فوقهما "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم" (الزخرف: 84).
"وهو معكم أينما كنتم وإنه بما تعملون بصير" (الحديد: 4).
"إنه أقرب إلينا من أنفسنا وهو في كل مكان ومع ذلك فهو لا يحده مكان".
بسيط الحقيقة كل الأشياء
"يعود هذا البرهان إلى صدر الدين الشيرازي، الذي ذكره في كتابه الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة الجزء الرابع الصفحة أربعون ويقوم على القاعدة الفلسفية المعروفة بقاعدة بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشيء منها، التي برهن الشيرازي على إثباتها خلال بحوثه، وأكدها في كتابه الأسفار الأربعة وينطلق في إثبات القاعدة من نفي التركيب، فكل هويته صح أن يسلب عنها شيء فهي، متحصلة من إيجاب وسلب، وكل ما كان كذلك فهو مركب من إيجاب وسلب، وبعكس النقيض: فإن كل ذات بسيطة الحقيقة لا يسلب عنها شيء، وقد ثبت أن الله بسيطة الحقيقة، فإذن بسيط الحقيقة كل الأشياء. أن الهوية البسيطة الإلهية لو لم يكن كل الأشياء لكانت ذات متحصلة القوام من كون شيء ولا كون شيء آخر، فيتركب ذاته ولو يحسب إعتبار العقل وتحليله من حيثيتين مختلفتين، وقد فرض وثبت أنه بسيط الحقيقة، هذا خلف. فالمفروض أنه بسيط إذا كان شيئا دون شيء آخر، كأن يكون "أ" دون "ب" فحيثية
كون "أ" ليس بعينها حيثية كونه "ليس ب" والألكان مفهوم "أ" ومفهوم "ليس ب" شيئا واحداً، واللازم باطل.
لإستحالة كون الوجود والعدم أمراً واحداً، فالملزوم مثله، فثبت أن البسيط كل الأشياء. إذا كان الله واجداً لشيء وفاقداً لشيء آخر يلزم التركيب وحيث ثبت أن الله سبحانه ليس مركب بل هو بسيط من كل جهة، إذا بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشيء منها. فعلم الواجب بالأشياء تفصيلاً قبل الإيجاد وهو المبدأ الفياض بجميع الحقائق والمهيات، فيجب أن يكون ذاته تعالى مع بساطته وأحديته كل الأشياء. وعلمنا أن البسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كل الأشياء. فإذن لما كان وجوده تعالى وجود كل الأشياء، فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء، وذلك ولوجود هو بعينه عقل لذاته وعاقل.
فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه، وعقله لذاته مقدم على وجود جميع ما سواه، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه، فثبت أن علمه تعالى بجميع الأشياء حاصل في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه سواء كانت صورة عقلية قائمة بذاته أو خارجية منفصلة عنها، فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه والاجمالي بوجه، وذلك لأن المعلومات على كثرتها وتفصيلها بحسب المعنى موجودة بوجود واحد بسيط". (1)
____________
1- الأسفار الأربعة لصدر الدين الشيرازي، ج 6، ص 269.
غرر في بساطته تعالى
كما هو الواحد أنه الأحد ليس له الأجزاء لا أجزاء حد
ومدة وصورة عينية ذهنية كذا ولا كمية
لو وجبت خلف بلا التباس إذ بينها الأمكان بالقياس
واحتاج في الوجود أو تقوم كما إذا أمكنت أيضا لزما
المنظومة غرر في بساطته تعالى (كما هو الواحد) أي لا شريك له مطلقاً ولا فرد لطبيعته الوجوب سواه كذلك (أنه الأحد) وبيانه أنه (ليس له الأجزاء) مطلقاً تفصيله (لا أجزاء حد) أي الجنس والفصل (و) لا (مدة وصورة عينية) كما في المركبات الخارجية (ذهنية كذا) أي ولا مادة وصورة ذهنية كما في الأعراض (ولا) أجزاء (كمية) أي مقدارية. ووجه الضبط في تقسيم الأشياء إلى أقسامها الأربعة يقال الأجزاء إما موجودة بوجود واحد في العين وإما موجودة بوجودات متعددة وعلى الأول إما أن تعتبر في الذهن لا بشرط فهي الأجزاء الحملية والأولى التعبير عنها بالأجزاء الحدية لوقوعها أجزاء لحد المركب وإما التسمية بالأجزاء الحملية فعنوان الجزئية ينافي الحمل وإما أن تعتبر في الذهن بشرط لا فهي الأجزاء الوجودية الذهنية أعني المادة والصورة الذهنيتين وعلى الثاني إما أن تكون متبانية في الوضع فهي الأجزاء المقدارية أو لا فهي الأجزاء الخارجية أعني المادة والصورة الخارجيتين. ثم أشرنا إلى البرهان بقولنا (لو وجبت) الأجزاء على تقدير ثبوتها للواجب تعالى فذلك (خلف بلا التباس) من حيث أنا فرضنا واحدا ذا أجزاء وإذا كانت الأجزاء واجبات لزم تعدد الواجب وكون كل واحد بسيطاً (إذ بينها الإمكان بالقياس) والصحابة الإتفاقية فهذا بيان للملازمة بما تقرر أنه إذا فرض واجبان لم يكن بينهما تلازم وإلا لزم معلوليتهما أو معلولية أحدهما وحينئذ لم يكن تركيب حقيقي مؤد إلى الوحدة لعدم الإفتقار فيما بين الأجزاء وهذا ما ادعيناه من اللازم (واحتاج) الواجب (في الوجود) هذا إذا كانت الأجزاء وجودية فعلية (أو) إحتاج (تقوما) أي في التقوم هذا إذا كانت حدية تحليلية وذلك محذور آخر يلزم على تقدير وجوبها (كما إذا أمكنت) الأجزاء على تقدير ثبوتها للواجب تعالى (أيضاً لزما) اي لزم ذلك الإحتياج لأن الإحتياج من لوازم التركيب فكل مركب محتاج إلى أجزائه ويمكن أن يكون الألف للتثنية أي لزم الخلف والإحتياج جميعاً على تقدير أمكان الأجزاء لكن لزم
الخلف على وجه آخر وهو صيرورة الغنى المحض مشوباً بالحاجة والحق الصرف ملتئماً من الباطلات الصرفة والواجب البحت مختلطا بالممكنات العدمية.
إنه تعالى غير مركب
ما جاء في الباب الحادي عشر للمقداد السيوري قوله والتركيب بمعانيه، أقول: هذا عطف من الزائد بمعنى أن وجوب الوجود يقتضي نفس التركيب أيضاً والدليل على ذلك أن كل مركب مفتقر إلى أجزاءه لتأخره وتعليله بها وكل جزء من المركب فإنه مغاير له وكل مفتقر إلى الغير ممكن فلو كان الواجب تعالى مركباً كان ممكناً هذا خلف فوجوب الوجود يقتضي نفي التركيب وأعلم أن التركيب قد يكون عقليا وهو التركيب من الجنس والفصل، وقد يكون خارجيا كتركيب الجسم من المادة والصورة. وتركيب المقادير وغيرها والجميع منتف عن الواجب تعالى لاشتراك المركبات في إفتقارها إلى الأجزاء فلا جنس ولا فصل له ولا غيرهما من الأجزاء الحسية والعقلية.
التعدد يستلزم ا لتركيب
لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود فلا بد من تميز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك، وذلك يستلزم التركيب كل واحد منهما من شيئين، أحدهما يرجع إلى ما به الإثنين والآخر إلى ما به الإمتياز، وقد عرفت أن واجب الوجود بالذات بسيط كما بينا ليس مركباً لا من الأجزاء العقلية ولا الخارجية.
صرف الوجود لا يتثنى ولا يتكرر
قد تبين أن واجب الوجود بالذات لا ماهية له، فهو صرف الوجود، ولا يخلط وجوده نقص وفقدان، ومن الواضح أن كل حقيقة من الحقائق إذا تجردت عن أي خليط وصارت صرف الشيء لا يمكن أن تثنى وتعدد. وعلىهذا فإذا كان سبحانه يحكم أنه لا ماهية له وجوداً صرفاً لا يتطرق إليه التعدد ينتج أنه تعالى واحد لا ثاني له ولا نظير وهو المطلوب.
الفصل السابع
إن المعدوم ليس بشيء
ما ليس موجوداً يكون ليس قد ساوق الشيء لدينا الأيس
وجعل المعتزل الثبوت عم من الوجود ومن النفي العدم
في النفي والثبوت ينفي وسط وقولهم بالحال كان شطط
بصفة الموجود لا موجودة كانت ولا معدودة محدودة
نفي ثبوت معهما مرادفه وشبهات خصمنا مزيفه
(المنظومة 1) وشروع في بعض أحكام العدم والمعدوم (ما) أي ماهية (ليس موجودا يكون ليسا) صرفا فليس ثابتا قبل وجوده أيضا خلافاً للمعتزلة حيث يقولون إن الماهية في حال العدم ثابتة وليست موجودة بوجه من الوجود (قد ساوق الشيء) أي الماهية (لدينا) معاشر الحكماء (الأيسا) الألف للإطلاق والأيس هو الوجود (و) لكن (جعل المعتزلي الثبوت عم) أي أعم (من الوجود ومن النفي العدم) أي وجعل العدم أعم من النفي. فالمعدوم أي الماهية الممكنة عنده ثابت وليس بموجود وكذا ليس بمنفي.
والمعدوم الممتنع عنده منفي وليس بثابت. والفطرة السليمة تكفي في مئونة أبطال هذا القول. ثم أن بعض المعتزلة قال بتحقق الواسطة بين الموجود والمعدوم وسماها حالا. وأطلق عليها الثابت وبنفي الواسطة بين الثابت والمنفي كما قلنا (في النفي والثبوت ينفي) المعتزلي (وسطا وقولوهم بالحال كان شططا) أي عدولا عن الصراط المستقيم. (بصفة الموجود لا موجودة كانت) تلك الصفة (ولا معدومة) كانت (محدودة) به يتعلق قولنا بصفة أي الحال محدودة ومعرّفة عندهم بصفة كذا وكذا.
فقولهم صفة أرادوا بها المعنى الإنتزاعي القائم بالغير مثل العالمية والقادرية والأبوة وسائر الإضافات لا المعنى القائم بالغير مطلقاً كما هو معناها المتعارف عند المتكلمين. فالذات المقابلة للمعنيين أيضاً له معنيان. واحترزوا بإضافة الصفة إلى
الموجود عن صفات المعدوم فإنها صفة للثابت لا للموجود وبقولهم لا موجودة عن الصفات الوجودية للموجود وبقولهم لا معدومة عن الصفات السلبية. فبقي في الحد مثل الإنتزاعيات الغير المعتبر في مفهومها السلب من صفات الموجودات. واعترض الكاتبي على هذا الحد بأنه لا يصح على مذهب المعتزلة لأنهم جعلوا الجوهرية من الأحوال مع أنها حاصلة للذات في حالتي الوجود والعدم.
وأجاب عنه شارح المواقف بأن المراد بكونه صفة للموجود أن يكون صفة له في الجملة لا أنه يكون صفة له دائماً. وأيضاً هذا على مذهب من قال بأن المعدوم ثابت ومتصف بالأحوال حال العدم. وأما على مذهب من لم يقل المعدوم ثابت وقال به ولم يقل بإتصافه بالأحوال فالإعتراض ساقط عن أصله. ثم أشرنا إلى بطلان هذا القول بقولنا (نفي ثبوت) أما من قبيل التعداد وأما من قبيل إسقاط العاطف للضرورة (معهما) أي مع العدم والوجود (مرادفه) عقلا واصطلاحاً كما هما كذلك لغة وعرفا.
إفراده على تقدير العطف باعتبار كل واحد وتأنيثه باعتبار أن المصدر جائزا لوجهين ويحتمل أن يكون المرادفة مصدراً أي النفي والثبوت يصاحبهما المرادفة مع العدم والوجود. والحاصل أنه كما أن الواسطة بين المنفي والثابت غير معقولة كذلك بين المعدوم والموجود للترادف (وشبهات خصمنا) في باب الحال في باب ثبوت المعدوم (مزيفة) مردودة. فمن شبهات ثبوت المعدوم أنه مخبر عنه وكل مخبر عنه فهو شيء، والجواب أن المراد بالموضوع في الصغرى إن كان المعدوم المطلق فلا يخبر عنه، وإن كان المعدوم في الخارج فالأخبار عنه لوجوده في الذهن.
ومن شبهات إثبات الحال أن الوجود ليس بموجود وإلا لساوى غيره في الوجود فيزيد وجوده عليه ويتسلسل ولا بمعدوم وإلا اتصف بنقيضه والجواب من وجوه الأول: أن الوجود موجود ولكن بنفس ذاته والثاني: أنه معدوم بمعنى أنه ليس بذي وجود ولا يتصف بنقيضه لأن نقيض الوجود هو العدم واللا وجود لا المعدوم واللاموجود والثالث: النقض بوجود الواجب تعالى والرابع: قلب الدليل عليهم لأنه الوجود لو كان حالا والحال صفه للموجود لزم أن يكون الماهية قبل الوجود موجودة ويتسلسل اللهم إلا أن يقال إنه صفة للموجود بهذا الوجود ويقال الوجود عندهم إنتزاعي والحال صفة إنتزاعية والإتصاف بالصفة الإنتزاعية لا يستلزم للموصوف تقدماً بالوجود. ومنها أن الكلي الذي له جزئيات متحققة في الخارج كالإنسان ليس بموجود وإلا لكان مشخصاً، قلنا الطبيعي لا كلياً ولا بمعدوم وإلا لما كان جزءاً لموجود كزيد.
والجواب أن الكلي موجود، قولكم فيكون مشخصاً لا يأبى عن الشخصية فإنه نفس الطبيعة التي يعرضها الكلية في نشأة الذهن ولا سيما أنه اللا بشرط الذي هو مقسم المطلقة والمخلوطة والمجردة. ونقول أنه معدوم ولا يلزم تقوّم الموجود بالمعدوم لأنه ليس جزءاً له في الخارج. ومنها أن جنس الماهيات الحقيقية العرضية كلونية السواد ليس بمعدوم وإلا لتقوّم الموجود بالمعدوم ولا بموجود وإلا لزم قيام العرض بالعرض لأن التركيب الحقيقي على قيام الأجزاء بعضها ببعض، والجواب أن الأعراض بسائط خارجية فلا تقوّم فيها في الخارج حتى لو كانت اللونية معدومة في الخارج لزم تقوّم الموجود بالمعدوم. وأيضاً قيام العرض بالعرض جائز.
الإطلاق الوجودي للواجب
إن الله سبحانه مطلق غير محدود بحد ولا بقيد ولا بشرط، لأنه واحد بالوحدة الحقه الحقيقية ولأنه يستحيل سلب إحاطته الوجودية. سبحانه يأبى وجود أو موجود مفروض لإنطوائه في مقام الذات المطلقة على كل كمال موجودة. فوجوب الوجود بالذات إذ كل وجود موجود مفروض يستحيل سلب إحاطته تعالى الوجودية عنه، فهو واجد في مقام ذاته المطلقة غير المحدود، كل كمال وجودي وذات حاضرة عند ذاته، إذ لا غيبة هناك لشيء عن شيء، للوحدة الحقة وهو العلم فعلمه بذاته عين علمه بكل شيء.
عندما نتحدث عن الذات الإلهية نريد إبانة ما ورد إلينا من الكتاب ومن سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين وما حكمه العقل بإمضاء وتأييد الشارع المقدس.
إن الله تعالى لا يرى بحاسة البصر لا في الدنيا ولا في الآخرة. وذلك لأن الذي نراه لا بد أن يكون جسماً (1) ويشار إليه، وفي جهة المقابلة، وله صورة وشكل ومكان. والله سبحانه منزه عن جميع ذلك، ولأن المرئي محاط بالنظر ضرورة، والله محيط، فلا يكون محاطا، وكل ذلك من لوازم الجسمية، والله أظهر الموجودات وأجلاها، فلو تأملت حواس الإنسان، تجدها قاصرة فحاسة البصر لا ترى النمل على بعد أميال مثلا، إلا أنها تستطيع الرؤية لغاية منظورها. ولكن نستطيع ذلك باستعمال الناظور لرؤية الأماكن البعيدة.
كذلك الحيوانات الصغيرة في برك الماء، والجراثيم فإننا لا نستطيع رؤيتها إلا بالمجهر وتطلع إلى السمع تجده قاصراً، لأن الأذن تسمع الهزات من خمس إلى عشرين ألف، فالذي ينقص عن ذلك لا تسمعه، وما زاد يشق طبلة الأذن. والإنسان لا يشم رائحة السكر، مع أن الذباب والنمل يشمها ويسرع إليها عن بعد.
وكذلك العقل، لا يستطيع أن يرسم أكثر من صورة واحدة فيه بآن واحد وحتى الخيال، فلا تستطيع تخيل شيء وليس له وجود في الكون. فإننا لا نستطيع تخيل رائحة حمراء، والسمك في البحر لا يستطيع تخيل عالم البر إلا إذا أخرج في حوض ماء مثلا، والإنسان لا يستطيع تخيل صوراً ليس لعالمها وجود. فالثور المجنح تشكيل في الكون، فالجناح موجود، والثور موجود في الكون ولا شيء جديد قد قام بتوسعه الخيال.
فالوهم قاصر أيضا، فكيف تستطيع عقولنا القاصرة أن تدرك الله سبحانه. إن السبب يعود لشيئين:
____________
1- الجسم يفتقر للمكان، والعرض يفتقر للجسم، كاللون يفتقر للجسم ليعرض عليه لأنه ممكن.
1- خفائه في نفسه، أو غموضه وهذا الإدعاء غير مقنع أن يختفي بلا سبب.
2- ما يتناهى وضوحه بحيث أن هذا الوضوح هو الذي حجبه عنا. والحقيقة تقر بذلك. لأننا إذا تأملنا الخفاش وهو يبصر في الليل، ولا يبصر في النهار، ليس لأن النهار غامض، وغير واضح، أو معدوم لكن السبب هو شدة وضوح النهار وجلائه.
ولكن حقيقة طبيعة الخفاش هو إنسجامه مع الليل وعدم إنسجامه في النهار بعكس أحداق العيون البشرية، فإن بصر الخفاش ضعيف، يبهره نور الشمس، فإذا ظهر النور قوي، فمع سبب ضعف بصره جعل من ذلك سبباً لإمتناع رؤية لضوء النهار، فلا يرى شيئا. إلا إذا امتزج الظلام بالنور، وضعف ظهور الضوء، مع العلم أن الرؤية تتم تحت شروط وهي الضوء أو عدم وجود الحاجب والشفافية. فكذلك الحال بالنسبة إلى عقولنا وأبصارنا، وإن جمال الحضرة الإلهية كما بين بعض العلماء في نهاية الأشراق والإستنارة. وفي غاية الإستغراق والشمول، حتى صار ظهوره ووضوحه سبباً لخفائه.
1- قال تعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (شورى: 11) أي أنه موجود مجرد من المادة.
2- عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، قال: "لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور لم يتجرأ ولم يتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص." (1)
3- وعن الصادق عليه السلام: "إنه قال للزنديق حين سأله ما هو؟ قال عليه السلام: هو شيء بخلاف الأشياء. أرجع بقولي "شيء" إلى إثبات معنى وأنه شيء بحقيقة الشيئية، غير أنه لا جسم ولا صورة. (2)
4- وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من زعم أن الله في شيء ومن شيء فقد أشرك، ولو كان الله عز وجل على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصوراً ولو كان من شيء لكان محدثا." (3)
____________
1- توحيد الصدوق ص 98 - 7 باب أنه ليس جسم ولا صورة. 2- توحيد الصدوق ص 140 - باب تبارك وتعالى شيء. 3- توحيد الصدوق ص 178 - 9 باب نفي الزمان والمكان والحركة عنه تعالى.
الفصل التاسع
ذات الله بُهر برهانه
ما ذاته بذاته لذاته موجود الحق العلي صفاته
إذا الوجود كان واجبا فهو ومع الإمكان قد استلزمه
وقس عليه كل ما ليس امتنع بلا تجسم على الكون وقع
ثم ارجعن ووحدنها جمع في الذات فالتكثير في ما انتزع
ثم الطبيعي طريق الحركة يأخذ للحق سبيلا سلكه
من في حدوث العالم قد انتهج فإنه عن منهج الصدق خرج
(المنظومة 1)
المقصد الثالث في الإلهيات بالمعنى الأخص الفريدة الأول في أحكام ذات الواجب بهر برهانه الغرر 58 في إثباته تعالى وإما إثبات صفاته هنا فهو إستطرادي، ولما كان مطلب ما الشارحة مقدما على مطلب هل البسيطة قلنا (ما ذاته بذاته لذاته) قولهم بذاته ولذاته كالظرف والمجرور إذا افترقا إجتمعا وإذا اجتمعا افترقا فالمراد بالأول نفي الحيثية التقييدية كما في موجودية الماهية الإمكانية وبالثاني نفي الحيثية التعليلية كما في موجودية الوجودات الخاصة الإمكانية.
أو المراد بأحدهما نفي الواسطة في العروض كما في وساطة الوجود الخاص في تحقق الماهية وبالآخر نفي الواسطة في الثبوت كما في وساطة وجود الحق لتحقق الوجود الخاص الإمكاني. والواسطة في العروض أن تكون منشأ لأتصاف ذي الواسطة بشيء ولكن بالعرض كوساطة حركة السفينة لحركة جالسها.
والواسطة في الثبوت أن يكون منشأ للإتصاف بشيء بالذات وهي قسمان أحدهما أن يكون نفسه متصقاً به كالنار الواسطة لحرارة الماء وثانيهما أن لا يكون كالشمس الواسطة لها أو لإسوداد وجه القصار وإبيضاض الثوب (موجود) ومستحق لحمل مفهومه وهو (الحق العلي صفاته) من قبيل إضافة الصفة إلى معمولها كالحسن وجهه
لأن الروي في المصراع الأول على الكسر. (إذا) شرطية (الوجود) المراد به حقيقة الوجود الذي ثبت أصالته وأن به حقيقة كل ذي حقيقة (كان واجبا فهو) المراد (ومع الإمكان) بمعنى الفقر والتعلق بالغير لا بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم لأن ثبوت الوجود لنفسه ضروري ولا بمعنى تساوي نسبتي الوجود والعدم لأن نسبة الشيء إلى نفسه ليست كنسبة نقيضه إليه لأن الأولى مكيفة بالوجوب والثانية بالإمتناع (قد استلزمه) على سبيل الخلف لأن تلك الحقيقة لا ثاني لها حتى تتعلق به وتفتقر إليه بل كل ما فرضته ثانيا لها فهو هي لا غير والعدم والماهية حالهما معلومة أو على سبيل الإستقامة بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة فإذا كان هذه المرتبة مفتقرة الى الغير استلزم الغنى بالذات دفعاً للدور والتسلسل والأول أوثق وأشرف وأخصر (وقس عليه) أي على الوجود (كل ما) من الصفات (ليس امتنع) أي ممكن بالإمكان العام و(بلا) لزوم (تجسم على الكون) أي الوجود (وقع) حاصله أنه قس عليه الصفات الكمالية فقل إذا كان حقيقة العلم مثلا واجبة فهو والإ استلزمته كما قال المعلم الثاني يجب أن يكون في الحياة حياة بالذات وفي الإرادة إرادة بالذات وفي الإختيار إختيار بالذات حتى تكون هذه في شيء لا بالذات، وإنما عبرنا عن الصفات الكمالية بذلك للإشارة إلى معيار لمعرفة الكمال وهو كل ما يمكن بالإمكان العام للوجود ولا يستلزم عروضه للوجود تخصص إستعداد كالعلم لا كالبياض فكل ما هو كذلك يجب إثباته للواجب. ولما كان لقائل أن يقول فيلزم تكثر الواجب بالذات دفعناه بأنه (ثم ارجعن ووحدنها) أي الصفات (جمعا) تأكيد (في الذات) والمصداق (فالتكثير في ما) أي في مفاهيم (انتزعا) من وجودها لا في وجودها وانتزاع مفاهيم كثيرة من ذات واحدة سائغ لا ينثلم به وحدتها.
ولما فرغنا من طريقة الإلهيين بل المتألهين في إثبات الحق علت صفاته تعرضنا لطريقة غيرهم فقلنا (ثم) الحكيم (الطبيعي) الناظر في الجسم بما هو واقع في التغير وهو موضوع علمه (طريق الحركة) الإضافية بيانية (يأخذ للحق) تعالى أي لإثباته (سبيلا سلكه) فربما يسلك طريق الحركة نفسها بأن الحركة لا بد لها من محرك، والمحرك لا محال ينتهي إلى محرك غير متحرك أصلا دفعاً للدور والتسلسل. وربما يسلك طريق حركة الأفلاك بأنها ليست طبيعية بل نفسانية فهي لغاية ليست شهوية أو غضبية لبراءتها عنها ولا إيصال نفع إلى ما دونها إذ لا وقع له عندها ولا بعضها لبعض وإلا لم ينته عدد الأجسام إلى حد فيجب أن يكون غايتها أمراً غير جسماني إما واجب أو منته إليه. وربما يسلك طريق حركة النفس بأنها في الأمر بالقوة ففي
خروجها من القوة إلى الفعل لا بد لها من مخرج فاعلي، وهو أما الواجب أو منته إليه.
وكذا لا بد لها من مخرج غائي. فإن الحركة طلب والطلب لا بد له من مطلوب وكل مطلوب تناله النفس لا تقف عنده ولا تطمئن دونه حتى تفد على باب الله وترد على جنابه فلا بد أن ينتهي المطالب إلى مطلوب به تطمئن القلوب وهو المطلوب وإما (من في) طريق (حدوث العالم) لإثبات صانعه (قد انتهج) من المتكلمين (فإنه عن منهج الصدق خرج) لأن مناط الحاجة إلى العلة هو الإمكان فقط لا الحدوث ولا الإمكان مع الحدوث ولا الإمكان بشرط الحدوث".
الإحاطة
قال تعالى "ألا أنه بكل شيء محيط" (فصلت / السجدة: 54).
وقال أيضا "وكان الله بكل شيء محيطاً" (النساء: 126).
وقال كذلك "الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء لو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم". (النور: 35).
وقال الإمام علي عليه السلام في خطبته وفي حديث ذعلب اليماني "داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل وخارج عنها لا كشيء في شيء خارج" (1).
وقال أيضا "هو في الأشياء على غير مما زجه خارج منها على غير مباينة" (2).
وقال علي عليه السلام "مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة" (3).
وقال أمير المؤمنين أيضاً "قريب من الأشياء غير ملامس بعيد عنها غير مباين" (4).
____________
1- توحيد الصدوق ص 306، حديث ذعلب. 2- توحيد الصدوق، حديث ذعلب. 3- حق اليقين، عبد الله شبّر. 4- حديث ذعلب المشهور.
توضيح ذلك يحتاج قليلاً من التأمل لاننا كما نعلم بأن الحركة هي خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجاً أي بإعانة الحساب أو بعبارة أخرى الحركة: هي الحصول الأول في المكان الثاني، أو حصول الجسم في مكان بعد مكان آخر.
فالحركة: هي كون الجسم في حيز بعد كونه في حيز آخر، أي إنتقال الجسم من مكان إلى مكان آخر.
السكون: كون الجسم في حيز بعد كونه في ذلك الحيز، أي إستمرار بقاء الجسم في مكانه. أو بتعبير آخر هو الحصول الثاني في المكان الأول أي حصول ثان في مكان واحد.
الآن: هو اللحظة بالنسبة إلى الزمان كالنقطة بالنسبة إلى المكان لا امتداد لها ولا مدة، إنما هي المشترك بين مدتين متعاقبتين.
الزمان: موجود وماهيته أنه مقدار متصل غير قارّ عارض للحركة.
الجوهر: هو المتحيز بذاته والموجود لا في موضوع.
العرض: هو الموجود القائم بغيره كالألوان القائمة في الأجسام. لما عرفنا هذا يجب أن نميز بين المحدود (المتناهي) واللامحدود أي (اللامتناهي) فنقول الحركة خروج الشيء من القوة إلى الفعل ويحتاج لتدرج الأحداث كون بعد كون، وجود بعد وجود. فالمادة بجوهرها كون بعد كون، كل كون يحد الكون السابق ابتداءاً فالمادة محدودة والحركة جوهرية في المادة كما قلنا أنها عارضة. إذا داخلة بذاتها فهي كون بعد كون والمادة من السابق يحد اللاحق إذن مبتدأ بدء أو آنتها لما قبله وجوه، فيكون محدود والمحدود لا يكون موجداً ومصدراً للوجود بأسره أي هنالك محركاً للعالم وهو غير متحرك.
المحدود لا يكون السابق بعد اللاحق
موجداً (خالقاً) وهي عارضة عليه
كون بعد كون
وإن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود يأبى بذاته العدم (الحق ماهيته إنيته) أي أن الخالق ماهيته نفس وجوده كما ذكرناه في قول الحكيم السبزواري في منظومته الفلسفية وبما أنه غير متناه غير محدود والكون متناه ومحدود والكون محيط والله سبحانه محاط فليس بإمكان المحيط أن يدرك المحاط أو المحدود أن يدرك اللامحدود، وقوله داخل في الأشياء خارج عنها أي محيط بالأشياء فإنك، إذا لاحظت البحر أو حوض الأسماك فستجد الماء محيط بالحيوانات أو الأسماك. فالماء داخل في هذه الأشياء، ولكن خارج عنها وهذا بالنسبة للماديات مع الفارق لأن الله تعالى ليس مادياً والعالم مادي. أي أن الماء خارج عن جوفها وليس بداخلها وإحاطة الله كلية بكل ذرة منها حتى الجراثيم والميكروبات وأجزاء الذرة والله فيض وكمال وهو أفاض الوجود إلى الكائنات، والماء محيط بها فقط، ولا يدخل في باطنها، لأنك لو فتحت باطن السمكة لا تراها مملوءة بالماء لأن الماء خارج عنها أو محيط بها فقط بل ترى في باطنها الأمعاء، وما إليه من محتويات هذا بالنسبة للماديات مثلنا بالسمكة لتقريب الفهم لعدم استحضار شيء بسيط للإيضاع الصوري أما الله فإنه محيط إحاطه تامة بكل دقائق الكون وأجزاءه وجزئياته.
أظن هنا المثال واضح للفكر لأجل التشبيه بالله لأن الله ليس صفة وموصوف لكي يعرض على شيء أو هو جسم ليحل بمكان أو يحويه ويستوعبه كالظرف والمظروف لا بل ذات (قائم بذاته) ولم يكن قائماً بغيره ليحل فيه. كذلك الآية الكريمة مصداقا لذلك نرى المصباح داخلاً في الزجاجة إذا ما نظرنا إليه من الخارج. لكنه ليس داخل فيها بل هو خارج عنها أيضا كما بينا في سورة النور وبنفس الوقت فهو في باطنها، لكن لا بملامسة وخارج عنها لا بمزايلة.
إن علم الله موجود في كل ذرة من المادة وقدرته في الممكنات كلها وفيضه عليها بالتساوي لأن مرتبة الممكنات بالنسبة له بدرجة واحدة وإلا لكان ترجيح بلا مرجح، وكونه كامل والمادة ناقصة فتسبح له لتنزهه عن النقص كقوله لا بمقارنة أي لا نقارنه معها بأنه جسم ومادة وممكن أو هو مادة لأنه موجود والمادة موجودة، ولا بمزايلة كون هذا التجرد لا يخرجه عن الإحاطة بها.
قال بعض الزنادقة للإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام: "إن الحجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم، فإما هو فلا تخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار.
قال: فلم لا تدركه حاسة البصر؟
قال: للفرق بينه وبين خلقه: الذين تدركهم حاسة الأبصار ثم هو أجل من أن تدركه الأبصار أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.
قال: فحده لي؟
قال: إنه لم يحد.
قال: ولِمَ؟
قال: لأن كل محدود متناه إلى حد، فإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان. فهو غير محدود، ولا متزايد، ولا متجزيء، ولا متوهم". (1)
أما البساطة أن الله سبحانه تعالى بسيط وليس بمركب وللإيضاح نجد أننا إذا نظرنا إلى شيء أو أية مادة في الميكروسكوب وقطعناها لأجزاء أقل حجماً، ثم هذه القطعة المقطعة نقطعها إلى قطعة أصغر ماذا نصل؟ إننا نصل إلى قطعة صغيرة لو قطعناها لم نر شيئا، فهذه الذرة الأخيرة نمثلها في البساطة أي الشيء البسيط كونه إذا قطعنا منه جزءاً سينتفي بأكمله مع الفارق طبعاً لأن الذرة نفسها تنقسم إلى النيوترونات والبروتونات والإلكترونات والعالم كله ينقسم إلى الزوجية، فمع الفارق لكن لتقريب ذلك إلى الذهن ولما كان سبحانه بسيطاً فكيف يقطع جزءا منه أو يزيله، وهذه البساطة ماسكة الكون هذه القوة الخفية الإلهية الكاملة الغنية لأنها بسيطة لا جزء لها، وإلا لو كانت مركبة لكانت مفتقرة إلى أجزاءها.
____________
1- علل الشرائع للصدوق ص 119، باب 98.
الفصل العاشر
لماذا لا نرى الذات الإلهية
تعرف الأشياء بأصدادها فعند ذهاب النور نرى الظلمة وعند إزالة الله لقدرته نرى عدمه، أي عدم وجوده فنستطيع أن نميزه، والله لا يعدم، وعلى سبيل الفرض عندما ينعدم وجود الإله نرى عدم وجوده فندرك كيفيته وماهيته.
والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء فلا يوجد له ضد أو شريك لو كان له شريك لرأيناه (أي رأينا الله).
أقول: ألا ينطبق كلامنا هذا والله أعلم على مصداق الآية الكريمة التي تقول: "ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك. وأنا أول المؤمنين" (الأعراف: 143).
إن الله سبحانه لما كان واحداً وليس له شريك وضد، وليس كمثله شيء فلكي نستطيع أن نراه ونميزه عن شريكه، لذلك لا يوجد سبيل إلى رؤيته غير تصورنا لمشاهدة أضداده، وهي العدم. أي أن يخلو منه ذلك المكان فنحس بالفرق ونميزه. لأننا بواسطة النظر بعيوننا المبصرة. نستطيع أن نحدّ الشيء، فنستطيع حدّ شيء دون الله، لكي نرى الله. ولكي نجد شيئاً دونه يجب أن يخلو منه أي يخلو من وجود الله أو يعدم جزءاً منه كي نرى بقية الأجزاء. ولما كان بسيطاً إذا قطع منه جزء قطع كله وانعدم وانتفى.
فإذا كان الله بمكان دون آخر فإنا سنراه. لنأخذ مثلا الدفتر كمثال تقريبي على صحة ما ادعيناه إذ أنه يتكون من غلاف لونه أحمر مثلا. فإذا طوينا جزءاً من الغلاف نرى لون الورقة أبيض، على قدر ذلك الجزء المطوي، فنميز بين الورقة عن الغلاف الأحمر. ولكننا إذا لم نطوي جزءاً من الغلاف فلا يمكن رؤيتنا لأي جزء من الورقة لأنها محجوبة بالغلاف. فلا تتم الرؤية إلا بانتزاع جزء من وجود الغلاف عن الدفتر. كذلك الله سبحانه إذا أراد إنتزاع جزء من وجوده عن الجبل سينتفي الجبل لأن كل
شيء ممسك بقدرة الله كما بالآية فاطر 41. وإذا سحب وجوده عنه يصبح عدما فانتفت الرؤية مطلقاً، كالماء محيط بالسمك، والهواء يحيط بنا، وكما أن الإناء المملوء بالماء لا نستطيع رؤية الماء الذي فيه، إلا أن نفرغ جزء من الماء الذي في القدح فنميز بين وجود الماء وعدم وجوده، أو وجود الهواء من عدم وجوده. أو نأخذ قدحاً نضع فيه ماء ملون بحيث يسهل علينا التمييز بين الماء والهواء أو أي جنس آخر مختلف عنه شكلا لا ذاتاً. فلما سلب تعالى إحاطته بالجبل انعدم وجود الجبل لأن كل شيء قائم به تعالى وليس لشيء وجود وبقاء دونه لذا لم نستطيع رؤيته تعالى، "إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً" (فاطر: 41). قال الإمام علي (ع) "لم يخل منه مكان فيدرك باينية ولا له شبه مثال فيوصف بكيفية ولم يغب عن علمه شيء فيعلم بحيثية". (1)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام بموضع آخر "لا تحويه الأماكن لعظمته ولا تدركه المقادير لجلالته ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه، وعن الأفهام أن تستغرقه وعن الأذهان أن تمثله، قد يئست من إستنباط الإحاطة به طوامح العقول ونضبت عن الإشارة إليه بالإكتناه بحار العلوم."
وقال أيضا "الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر الدال على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده وباشتباههم أن لا شبه له". (2)
وقوله عليه السلام "الحمد لله الذي منع الأوهام إن تنال إلى وجوده وحجب العقول أن تتخيل ذاته لامتناعها الشبه والتشاكل. بل هو الذي لا تتفاوت ذاته ولا تتبعض بتجزئه العدد في كماله". (3)
الله هو الوجود الأكمل، لا بد وأن يكون ذاتا، ولا يصح أن يكون عقلا وفكرا محضاً دون ذات، وذات الله تعالى ليست مادة، إنه شيء لا كالأشياء ولا شبيه له سبحانه ولا نستطيع إدراك كنه تلك الذات والإحاطة بها، وذاته موجودة بوجود لا في حس ولا شعور فهو ليس مادة كثيفة ولا لطيفة وليس كمثله شيء ولم يكن له كفوءاً أحد الكبير المتعال.
____________
1- توحيد الصدوق ص 69 . 2- التكامل في الإسلام، أحمد أمين، ج 2، ص90. 3- تحف العقول، ص 92.