الفصل الأول

الوصية في القرآن والسّنة والآداب

 

ومن وصية له (عليه السلام) لولده الحسن

كتبها إليه بحاضرين منصرفاً من صفين

 

مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، اَلْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ، المُدْبِرِ الْعُمُرِ، المُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ، الذَّامِّ لِلْدُنْيا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، والظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً، إِلَى الْمَوْلُودِ المُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الاَْسْقَامِ وَرَهِينَةِ الاَْيَّامِ، وَرَمْيَةِ الْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الْدُنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُورِ، وَغَرِيمِ الْمَنَايَا، وَأَسِيرِ الْمَوْتِ، وَحَلِيفِ الْهُمُومِ، وَقَرِينِ الاَْحْزَانِ، وَنَصَبِ الاْفَاتِ، وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الاَْمْوَاتِ.

 

صلّى الله على صاحب هذه الوصية التي لا يجد الكمال الإنساني مذهباً عنها، ولا عن شيء منها، ولا يجد النقص البشري مساغاً إليها ولا إلى شيء منها. ففيها المعنى التام للإنسانية، كما أنّ فيها المعنى التام للحقّ، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان.

ولو تدبّرتها لرأيت منها كوناً معنوياً دقيقاً قائماً بصاحبها الأعظم، كما يقوم هذا الكون الكبير بسننه وأُصول الحكمة فيه. ولأيقنت أنّها معجم علمي ألَّفته الحكمة الإلهية بعلم مَنْ علَّمها وقوّة مَنْ قوّتها لتتخرّج به الأُمّة التي تبدع العالم إبداعاً جديداً، وتنشؤه النشأة المحفوظة له في أطوار كماله.

وإنّي لأكاد كلّما تأمّلتها حسبتها صفحة إلهية مصنّفة أبدع تصنيف وأدقّه، ومن وراء تأليفها تفسير طويل لا يهتدي الفكر البشري لأحسن منه ولا أصح ولا أكمل.

وهي كذلك ضابط للفضائل، توجِّه القلوب على اختلافها وتفاوتها اتجاهاً واحداً لا يختلف، فيكون طريقاً ما بين الإنسان والانسان من ناحية، والطريق ما بين الإنسان وبين الله.

وهي بعد هذا كله تحمل الإنسان أن ينظر إلى موجده كأنه رقيب حيّ في قلبه، لا يرائيه ولا يجامله ولا يُخدع من تأويل، ولا يُغرّ بفلسفة ولا تزيين، ولا يمكنه ما تسوّل النفس، ولا يزال دائماً يقول للإنسان في قلبه: إنّ الخطأ أكبر الخطأ أن تنظّم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك.

وجماع القول: إنّ في معانيها قوّة تجعل باطن الجسم متساوقاً مع ظاهره، فتتعاون الغرائز المختلفة في النفس تعاوناً سهلا طبيعيّاً مطرداً كما تتعاون أعضاء الجسم على اختلافها في اطراد وسهولة وطبيعة.

* * *

شرح الألفاظ:

عيون وصيّته (عليه السلام) أنّها من أب ووصفه بسبع صفات إلى ولد ووصفه بأربع عشرة صفة، وفي كلّ واحدة من هذه الصفات بصيرة لمن استبصر، وعبرة لمن اعتبر.

فقال أوّلا: «من الوالد الفان». يعني: هذه وصية من والد سيفنى عن قليل.

«المقرّ للزمان»: ـ وأنه مقرّ بتغيّر الزمان ـ الدهر ـ .

«الذامّ للدنيا»: ـ الذام لأهل الدنيا الذين اشتدّوا إليها وإلى عمارتها.

«الساكن مساكن الموتى»: الذي يسكن دار قوم كانوا فيها فماتوا وتركوها لغيرهم.

«الظاعن عنها»: ـ ويظعن ـ أي يرحل ـ عن هذه الدنيا غداً، أي عن قريب.

«الى المولود المؤمّل ما لا يدرك»: ـ إلى ولد مُعرَّض لهذه الِمحن والبليِّات الذي إن رجا أن يُعمِّر الدين فلا يدركه إذ لا يجد ناصراً له، ويسلك طريق والده بأن يعيش مثله بغصّة وأسف ويُقتل أيضاً، وهو مع ذلك بمنزلة هدف ترميه الأمراض بأوجاعها، ونفسه مرهونة عند الأيام، فكلّما يأتي يوم آخر يطالبه بتكليف آخر ومشقّة أُخرى.

«غرض الأسقام»: ـ و «الغرض»: الهدف الذي يُرمى.

و «رهينة الأيّام»: ـ قيل: الرهينة بمعنى الرهن.

و «رمية المصائب»: ـ «الرمية»: الصيد أي كلّ حي في دار الدنيا تصطاده المصيبات.

و «عبد الدنيا»: ـ إنّ أبناء الدنيا كالعبيد لها أذلاّء لشدائدها ومحنها.

و «تاجر الغرور»: ـ «التجارة»: التصرّف، أي من يتصرّف فيها يتصرّف في متاع الغرور، ويمكن أن يغرّه.

و «غريم المنايا»: ـ «الغريم»: المديون، أي تطالب الحي في الدنيا أسباب الموت، يموت فيه كلّ يوم عضو من أعضاءه إلى أن يفنى. وأشار إلى هذه الجمعية بالمنايا.

و «أسير الموت»: ـ «الموت»: يُسمّى المنيّة لأنّه مقدَّر لا يمكننا دفعه كأنّا أُسراء الموت.

و «حليف الهموم»: ـ «الحليف»: من يكون حلف غيره وفي عهده.

و «قرين الأحزان»: ـ «القرين»: المصاحب. و «نَصَبِ الآفات»: ـ «النَصَب»: الشيء المنصوب، ونصبت فلاناً عاديته.

و «خليفة الأموات»: ـ «الخليفة»: من يجيء خلف الغير يلزمه ما يلزم صاحبه.

* * *

الوصية لغة وشرعاً:

الوصية: هو أن يوصل الشيء بغيره; لأنّ الوصيّ يوصل تصرّفه بعد الموت بما قبله. هذا لسان اللغة.

ولسان الشرع: هي تمليك العين أو المنفعة بعد الوفات أو جعلها في جهة مباحة. وأوصيت له بشيء، وأوصيت إليه إذا جعلته وصيّك، والاسم الوصاية بالكسر والفتح، وهي إستنابة الموصي غيره بعد موته في التصرّف فيما كان له التصرّف فيه من إخراج حقّ واستيفاءه، أو ولاية على طفل، أو مجنون يملك الولاية عليه.

 

أقسام الوصيّة:

وهي وصيّتان: وصية الأحياء للأحياء، وهي أدب، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتحذير من زلل، وتبصرة بصالح عمل.

ووصية الأموات للأحياء المعبّر عنها بالوصية عند الموت، تكون بحقّ يجب عليهم أداءه، ودين يجب عليهم قضاءه.

وقد أمرنا بالوصية عند الموت في الكتاب العزيز، والسنّة النبويّة المقدّسة.

قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة : 180].

وفي السنّة النبويّة الشريفة:

قال (صلى الله عليه وآله): «ما ينبغي لأمرئ مسلم أن يبيت إلاّ ووصيّته تحت رأسه»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «من لم يحسّن وصيته عند الموت كان نقصاً في مروَّته وعقله»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «من مات ولم يوصِ مات ميتة جاهلية»(3).

إلى غير ذلك من الأحاديث ممّا لها دخل في الوصية عند الموت.

 

نماذج من وصايا الأحياء للأحياء:

ونحن نبحث في هذا الفصل في وصيّة الأحياء للأحياء وما اشتملت عليه من نُكَت أخلاقية، وحِكَم نفسانية ممّا لفعله مسيس حاجة في التربية الإنسانية المقصودة أولا وبالذات.

ونفتتح الفصل في الآيات القرآنية الكريمة، ثمّ نردفها بما ورد عن شارع الكمالات والمزايا الفاضلة محمّد النبيّ العربي (صلى الله عليه وآله)، ثمّ أفيض في سوى ذلك من وصايا الملوك والحكماء.

 

فصل: في وصايا القرآن الكريم:

1 ـ فممّا جاء في الكتاب العزيز قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمَ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء : 94].

2 ـ ومنها: (وَللهِِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً) [النساء : 131].

3 ـ وممّا جاء في سورة الأنعام: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : 68].

4 ـ وفيها أيضاً: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام : 108].

5 ـ وفيها أيضاً: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام : 151].

6 ـ ومنها: (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : 152].

7 ـ ومنها: (وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام : 153].

8 ـ وممّا جاء في سورة الاسراء: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الاسراء : 78]

9 ـ ومنها: (وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)[الاسراء : 79].

10 ـ ومنها: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً)[الاسراء : 80].

11 ـ ومما جاء في سورة الكهف: (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً)[الكهف : 23] و (إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لاَِقْرَبَ مِنْ هذَا رَشَداً) [الكهف : 24].

12 ـ ومنها: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فَرَطاً) [الكهف : 28].

13 ـ ومنها: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : 29].

14 ـ وممّا جاء في سورة طه: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)[طه : 130].

15 ـ ومنها: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه : 131].

16 ـ ومنها: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِللْتَقْوى) [طه : 132].

17 ـ وممّا جاء في سورة العنكبوت: (وَوَصَّيْنَا الاِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : 8].

18 ـ ومما جاء في سورة لقمان: (وَوَصَّيْنَا الاِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : 14].

إلى كثير من آي القرآن الكريم التي هي العامل الوحيد في حسن تربية البشر وتمشية العدل بينهم.

 

فصل: في وصايا النبي (صلى الله عليه وآله)

وإليك نبذاً من الوصايا النبويّة التي تضيء القلوب بأشعّتها، وتنجلي الغياهب بإشراق نورها، وهي نفحة من الوحي الإلهي الذي يهدي الله به الناس في مسالك الأرض، وينير لهم السبيل.

يقول (صلى الله عليه وآله): إنّ الله عند لسان كلّ قائل فليتّق الله عبد ولينظر ما يقول(4).

وإنّ رجلا أتاه فقال: يا رسول الله أوصني، قال: عليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وإيّاك والطمع فإنّه فقر حاضر، وإذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع، وإيّاك وما يعتذر منه(5).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أوصاني ربّي عزّ وجلّ بسبع وأنا أوصيكم بهنّ: أوصاني بالاخلاص بالسرّ والعلانية، وأن أعفو عمّن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصِل من قطعني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبراً»(6).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أوصيكم بثلاث، وأنهاكم عن ثلاث: أوصيكم بالذكر فإنّ الله تعالى يقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)وأوصيكم بالشكر فإنّ الله تعالى يقول: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : 7] وأوصيكم بالدعاء فإنّ الله تعالى يقول: (أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : 60] وأنهاكم عن البغي فإنّ الله تعالى يقول: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : 23 ]وأنهاكم عن المكر فإنّ الله تعالى يقول: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر : 43] وأنهاكم عن النكث فإنّ الله تعالى يقول: (فَمَنْ نَّكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) [الفتح : 10]».

وقال (صلى الله عليه وآله): «إتّق المحارم تكن أعبد الناس، وأرض بما قسّم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، أحب للناس ما تحبّ لنفسك تكن مسلماً، وإياك وكثرة الضحك فإنّ كثرة الضحك تميت القلب»(7).

وقال (صلى الله عليه وآله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، قالوا: يا رسول الله وما حقّ الجار على الجار؟ قال: إن سألك فأعطه، وإن استعانك فأعنه، وإن استقرضك فأقرضه، وإن دعاك فأجبه، وإن مرض فعده، وإن مات فشيّعه، وإن أصابته مصيبة فعزّه، ولا تؤذه بقتار قدرك(8) إلاّ أن تغرف له منها، ولا ترفع عليه البناء لتسد عليه الريح إلاّ بإذنه»(9).

وجاء إليه رجل فقال: يا رسول الله أوصني، قال: «عليك بتقوى الله فإنّه جماع كلّ خير، وعليك بالجهاد فإنّه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنّه نور في الأرض وذكرٌ لك في السماء، وأخزن لسانك إلاّ من خير فإنّه بذاك تغلب الشيطان»(10).

وقال (صلى الله عليه وآله): «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»(11).

وعن معاذ بن جبل: انّ النبي (صلى الله عليه وآله) لما بعثه إلى اليمن مشى معه أكثر من ميل يوصيه قال: «يا معاذ أوصيك بتقوى الله العظيم، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، وخفض الجناح، ولين الكلام، ورحمة اليتيم، والتفقّه في القرآن، وحبّ الآخرة.

يا معاذ لا تفسد أرضاً، ولا تشتم مسلماً، ولا تصدّق كاذباً، ولا تعصِ إماماً عادلا.

يا معاذ أوصيك بذكر الله عند كل شجر وحجر، وأن تحدث لكل ذنب توبة، السر بالسر والعلانية بالعلانية.

يا معاذ إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، يا معاذ إنّي لو أعلم أنّا نلتقي لقصرت لك من الوصية ولكنّي لا أرانا نلتقي إلى يوم القيامة، يا معاذ إنّ أحبّكم إليّ من لقيني يوم القيامة على مثل الحالة التي فارقني عليها»(12).

يقول قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فدخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس فقلت: يا نبيّ الله عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم نصير في البرِّية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«يا قيس إنّ مع العزّ ذلاًّ، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرةً، وإنّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلّ شيء رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيّئة عقاباً، ولكلّ أجل كتاباً، وإنّه لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ وتدفن معه وأنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك حتّى لا يحشر إلاّ معك، ولا تبعث إلاّ معه، ولا تسأل إلاّ عنه، فلا تجعله إلاّ صالحاً فإنّه إن صلح أنست به، وإن فسد لا تستوحش إلاّ منه وهو فعلك».

فقلت: يا نبيّ الله أحبّ أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب وندّخره، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) من يأتيه بحسّان، قال قيس: فأقبلت أُفكر فيما أشبه هذه العظة من الشعر فاستتبّ لي القول قبل مجيء حسّان، فقلت: يا رسول الله قد حضرتني أبيات أحسبها توافق ما تريد، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): قل يا قيس، فقلت:

تخيّر خليطاً من فعالك إنّما *** قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

ولابدّ بعد الموت من أن تَعدَّه *** ليوم ينادى المرء فيه فيقبل

فإن كنت مشغولا بشيء فلا تكن *** بغير الذي يرضى به الله تشغل

فلن يصحب الإنسان من بعد موته *** ومن قبله إلاّ الذي كان يعمل

ألا إنّما الإنسان ضَيفٌ لأهله *** يقيم قليلا بينهم ثمّ يرحل(13)

 

1 ـ وصيّته (صلى الله عليه وآله) لعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام):

دوّن المجلسي (قدس سره) في السابع عشر من البحار(14) هذه الوصيّة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

«كان فيما أوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) أن قال: يا علي أوصيك بوصيّة فاحفظها فإنّك لا تزال بخير ما دمت على حفظها.

يا علي من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه أعقبه الله يوم القيامة أمناً وإيماناً يجد طعمه.

يا علي من لم يحسّن وصيّته عند موته كان نقصاً في مروَّته ولم يملك الشفاعة.

يا علي من خاف الناس لسانه فهو من أهل النار.

يا على شرّ الناس من أكرمه الناس إتّقاء شرّه، وشرٌّ من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره.

يا علي من لم يقبل العذر من متنصّل(15) صادقاً كان أو كاذباً لم ينل شفاعتي.

يا علي من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم، فقال علي: لغير الله؟ قال: نعم والله من تركها صيانة لنفسه يشكره الله على ذلك.

يا علي شارب الخمر لا يقبل الله صلاته أربعين يوماً فإن مات في الأربعين مات كافراً.

يا علي جُعِلَتْ الذنوبُ في بيت وجُعِل مفتاحها شرب الخمر.

يا علي من لم تنتفع بدينه ودنياه فلا خير لك في مجالسته.

يا علي ينبغي أن تكون في المؤمن ثمان خصال: وقار عند الهزاهز، وصبر عند البلاء، وشكر عند الرخاء، وقنوع بما رزقه الله، ولا يظلم الأعداء، ولا يتحامل على الأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة.

يا علي ثمانية إن أُهينوا فلا يلوموا إلاّ أنفسهم: الذاهب إلى مائدة لم يُدعَ إليها، والمتأمّر على ربّ البيت، وطالب الخير من أعدائه، وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين في سرٍّ لم يُدخلاه فيه، والمستخفّ بالسلطان، والجالس في مجلس ليس له بأهل، والمقبل بالحديث على من لا يسمع منه.

يا علي حرّم الله الجنّة على كلّ فاحش بذيء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له.

يا علي لا تمزح فيذهب بهاؤك، ولا تكذب فيذهب نورك، وإيّاك وخصلتين: الضجر والكسل; فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤدّ حقاً، يا علي لكلّ ذنب توبة إلاّ سوء الخلق فإنّ صاحبه كلّما خرج من ذنب دخل في ذنب.

يا علي ثلاث من مكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة: أن تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم عمّن جهل عليك(16).

يا علي ثلاث منجيات: تكفّ لسانك، وتبكي على خطيئتك، ويسعك بيتك.

يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومساواة الأخ في الله، وذكر الله على كلّ حال.

يا علي ثلاثة من حُلَل الله: رجل زار أخاه المؤمن في الله فهو زَوْر(17) الله وحقّ على الله أن يُكرم زَورَه ويعطيه ما سأل، ورجل صلّى ثمّ عقَّب إلى الصلاة الأُخرى فهو ضيف الله وحقّ على الله أن يكرم ضيفه، والحاج والمعتمر فهما وفد الله وحقّ على الله أن يكرم وفده.

يا علي ثلاث ثوابهنّ في الدنيا والآخرة: الحجّ ينفي الفقر، والصدقة تدفع البليّة، وصلة الرحم تزيد في العمر.

يا علي ثلاث من لم يكنّ فيه لم يقم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله عزّ وجلّ، وعلم يرد به جهل السفيه، وعقل يداري به الناس.

يا علي ثلاث تحت ظلّ العرش يوم القيامة: رجل أحبّ لأخيه ما أحبّ لنفسه، ورجل بلغه أمر فلم يقدم فيه ولم يتأخر حتّى يعلم أنّ ذلك الأمر لله رضىً أو سخط، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتّى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنّه كلّما أصلح من نفسه عيباً بدا له منها آخر، وكفى بالمرء في نفسه شغلا.

يا علي ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى.

يا علي كلّ عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاث أعين: عين سهرت في سبيل الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين فاضت من خشية الله.

يا علي ثلاث موبقات وثلاث منجيات، فأمّا الموبقات: فهوىً مُتَّبع، وشحٌّ مُطاع، وإعجاب المرء بنفسه، وأمّا المنجيات: فالعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخوف الله في السرّ والعلانية كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.

يا علي ثلاث يحسن فيهنّ الكذب: المكيدة في الحرب، وَعِدَتُكَ زوجتك، والإصلاح بين الناس.

يا علي ثلاث يقبح فيهنّ الصدق: النميمة، وإخبارك الرجل عن أهله بما يكره، وتكذيبك الرجل عن الخير.

يا علي أربع إلى جنبهنّ أربع: من ملك استأثر، ومن لم يستشر يندم، كما تدين تدان، والفقر الموت الأكبر، فقيل له: الفقر من الدينار والدرهم، فقال: الفقر من الدين.

يا علي في التوراة أربع إلى جنبهنّ أربع: من أصبح على الدنيا حريصاً أصبح وهو على الله ساخط، ومن أصبح يشكو مصيبةً نزلت به فإنّما يشكو ربّه، ومن أتى غنيّاً فتضعضع له ـ أي ذلّ وخضع له ـ ذهب ثلثا دينه، ومن دخل النار من هذه الأُمّة فهو من اتّخذ آيات الله هزواً ولعباً.

يا علي أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافاك بالاحسان إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر فوفيت له وغدر بك، ورجل وصل قرابة فقطعوه(18).

يا علي بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك.

يا علي أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصي الله عزّ وجلّ ويطاع أمره، وزوجة يحفظها زوجها وهي تخونه، وفقر لا يجد صاحبه له مداوياً، وجار سوء في دار المقامة(19).

يا علي إنّه لا فقر أشدّ من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أحسن من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا عبادة كالتفكر.

يا علي عليك بالصدق ولا تخرج من فيك كذبة أبداً، ولا تَجْتَرِأَنّ على خيانة أبداً، والخوف من الله كأنّك تراه، وابذل مالك ونفسك دون دينك(20).

 

2 ـ وصيّته (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر (قدس سره):

حدّث أبو الأسود الدؤلي عن أبيه، قال: قدمت الربذة فدخلت على أبي ذر ـ  جندب بن جنادة ـ فحدّثني، قال: دخلت ذات يوم في صدر النهار على رسول الله(صلى الله عليه وآله) في مسجده فلم أر في المسجد أحداً من الناس إلاّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)وعلي(عليه السلام)إلى جانبه، فاغتنمت خلوة المسجد فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي أوصني بوصية ينفعني الله بها، فقال: نعم وأكرم بك.

يا أبا ذر! إنّك منّا أهل البيت وإنّي موصيك بوصيّة فاحفظها فإنّها جامعة لطرق الخير وسبله، فإنّك إن حفظتها كان لك بها كفلان.

يا أبا ذر! اعبد الله كأنّك تراه فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، واعلم أنّ أول عبادة الله المعرفة به أنّه الله الأوّل قبل كلّ شيء فلا شيء قبله، والفرد فلا ثاني له، والباقي لا إلى غاية، فاطر السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من شيء، وهو الله اللطيف الخبير، وهو على كلّ شيء قدير.

ثمّ الايمان به والاقرار بأنّ الله تعالى أرسلني إلى كافّة الناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ثمّ حبّ أهل بيتي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

واعلم يا أبا ذر أنّ الله عزّ وجلّ جعل أهل بيتي في أُمتي كسفينة نوح، من ركبها نجى ومن رغب عنها غرق، ومثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله كان آمناً.

يا أبا ذر! احفظ ما أوصيك به تكن سعيداً في الدنيا والآخرة، يا أبا ذر! نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ.

يا أبا ذر! اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.

يا أبا ذر! إياك والتسويف بأملك فإنّك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غد لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرّطت في اليوم.

يا أبا ذر! كم مستقبل يوماً لا يستكمله، ومنتظر غداً لا يبلغه، يا أبا ذر لو نظرت إلى الأجل ومصيره لأبغضت الأمل وغروره، يا أبا ذر كن كأنّك في الدنيا غريب أو كعابر سبيل، وعدّ نفسك من أصحاب القبور.

يا أبا ذر! إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخُذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنّك لا تدري ما اسمك غداً.

يا أبا ذر! إيّاك أن تدركك الصرعة عند العثرة فلا تقال العثرة، ولا تُمكَّن من الرجعة، ولا يحمدك من خَلَّفت بما تركت، ولا يعذرك من تقدِم عليه بما اشتغلت به.

يا أبا ذر! كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك.

يا أبا ذر! هل ينتظر أحدكم إلاّ غنىً مطغيّاً، أو فقراً منسيّاً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مخترماً، أو الدجّال فإنّه شرّ غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ.

يا أبا ذر! إنّ شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه، ومن طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنّة.

يا أبا ذر! من ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنّة، يا أبا ذر! إذا سُئلت عن علم لا تعلمه فقل: لا أعلمه تَنجُ من تَبِعَتِه، ولا تُفتِ بما لا علم لك به تَنجُ من عذاب الله يوم القيامة.

يا أبا ذر! يطلِّع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنّة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: كنّا نأمركم بالخير ولا نفعله.

يا أبا ذر! إنّ حقوق الله جلّ ثناؤه أعظم من أن يقوم بها العباد، وإنّ نعم الله أكثر من أن تحصيها العباد، ولكن أمسوا وأصبحوا تائبين.

يا أبا ذر! إنّكم في ممرّ الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً، ومن يزرع شرّاً يوشك أن يحصد ندامة، ولكلّ زارع مثل ما زرع.

يا أبا ذر! المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة، إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذباب مرّ على أنفه.

يا أبا ذر! إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً جعل الذنوب بين عينيه مُمثَّلةً، والاثم عليه ثقيلا وبيلا، وإذا أراد بعبد شرّاً أنساه ذنوبه.

يا أبا ذر! لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أُنظر إلى من عصيت.

يا أبا ذر! إنّ نفس المؤمن أشدّ ارتكاضاً من الخطيئة من العصفور حين يقذف به في شركه(21).

يا أبا ذر! إنّ الله جلّ ثناؤه ليدخل قوماً الجنة فيعطيهم حتّى يملّوا وفوقهم قوم في الدرجات العلى، فإذا نظروا إليهم عرفوهم، فيقولون: ربنا اخواننا كنّا معهم في الدنيا فبم فضّلتهم علينا؟ فيقال: هيهات هيهات إنّهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمؤون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون.

يا أبا ذر! جعل الله جلّ ثناؤه قرّة عيني في الصلاة، وحبّب إليّ الصلاة كما حبّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، وإنّ الجائع إذا أكل شبع، وإنّ الظمآن إذا شرب روى، وأنا لا أشبع من الصلاة.

يا أبا ذر! إنك ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبّار، ومن يكثر قرع باب الملك يفتح له.

يا أبا ذر! ما من مؤمن يقوم مصليّاً إلاّ تناثر عليه البرّ ما بينه وبين العرش، ووكّل به ملك ينادي: يا ابن آدم لو تعلم ما لك في الصلاة ومن تناجي ما انفتلت.

يا أبا ذر! طوبى لأصحاب الألوية يوم القيامة يحملونها فيسبقون الناس إلى الجنّة، ألا وهم السابقون إلى المساجد بالأسحار وغير الأسحار.

يا أبا ذر! حاسب نفسك قبل أن تحاسب فإنّه أهون لحسابك غداً، وزِنْ نفسك قبل أن توزن، وتَجهَّز للعرض الأكبر يوم تُعرض.

يا أبا ذر! إستحيي من الله على كلّ حال فوالذي نفس محمّد بيده إنّي لأظلّ حين أذهب إلى الغائط متقّنعاً بثوبي هذا حتّى لا يراني أحد استحياءً من المَلَكين الذين معي كيلا يرياني عارياً(22).

 

3 ـ وصيّته (صلى الله عليه وآله) لعبد الله بن مسعود:

حدّث عبد الله بن مسعود، قال: دخلت أنا وخمسة رهط من أصحابنا يوماً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أصابتنا مجاعة شديدة ولم يكن ذقنا منذ أربعة أشهر إلاّ الماء واللبن وورق الشجر، قلنا: يا رسول الله إلى متى نحن على هذه المجاعة الشديدة؟

قال (صلى الله عليه وآله): لا تزالون فيها ما عشتم فأحدثوا لله شكراً، وإني قرأت كتاب الله الذي أنزل عليّ وعلى من كان قبلي فما وجدت من يدخلون الجنّة إلاّ الصابرون. يا ابن مسعود! قول الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب)[الزمر : 10 ](أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) [الفرقان : 75] (إنِّي جَزَيْتُهُمْ اليَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)[المؤمنون : 111].

يا ابن مسعود! قول الله تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الدهر : 12 ](أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) [القصص : 54] يقول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) [البقرة : 214] (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْص مِنَ الاَْمْوَالِ وَالاَْنْفُسِ وَالَّثمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : 155].

قلنا: يا رسول الله فمن الصابرون؟ قال: الذين يصبرون على طاعة الله وعن معصيته، الذين كسبوا طيباً، وأنفقوا قصداً، وقدّموا فضلا، فأفلحوا ونجحوا. يا ابن مسعود! غلبهم الخشوع، والوقار، والسكينة، والتفكّر، واللين، والعدل، والتعليم، والاعتبار، والتدبير، والتقوى، والاحسان، والتحرّج، والحبّ في الله والبغض في الله، وأداء الأمانة، والعدل في الحكم، وإقامة الشهادة، ومعاونة أهل الحق، والبغية على المسيء، والعفو لمن ظلم.

يا ابن مسعود! إذا ابتلوا صبروا، وإذا أُعطوا شكروا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً، والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً، ويقولون للناس حسناً.

يا ابن مسعود! فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه، فإنّ النور إذا وقع في القلب انشرح فانفسح. فقيل: يا رسول الله فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور، والانابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الفوت، فمن زهد في الدنيا قصر أمله فيها وتركها لأهلها.

يا ابن مسعود! قول الله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) [هود : 7] يعني أيّكم أزهد في الدنيا، إنّها دار الغرور، ودار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له، إنّ أحمق الناس من طلب الدنيا.

قال الله تعالى: (إِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الاْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الحديد : 20] وقال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ)[مريم : 12] يعني: الزهد في الدنيا.

وقال تعالى لموسى: إنّه لن يتزيّن المتزيّنون بزينة أزين في عيني مثل الزهد، يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجّلت عقوبته.

يا ابن مسعود! قول الله تعالى: (وَلَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالْرَحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّنْ فِضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ  وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ  وَزُخْرُفاً وَإِنَّ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الْدُنْيَا وَالاْخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف : 33-35].

وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً  وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)[الاسراء : 18-19].

يا ابن مسعود! من اشتاق إلى الجنّة سارع في الخيرات، ومن خاف النار ترك الشهوات، ومن ترقّب الموت انتهى عن اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات.

يا ابن مسعود! إنّ الله اصطفى موسى بالكلام والمناجاة، حين كانت ترى خضرة البقل من بطنه من هزاله(23)، وما سأل موسى حين تولّى إلى الظلّ إلاّ طعاماً يأكله من جوع.

يا ابن مسعود! إن شئت نبأتك بأمر نوح نبيّ الله، إنّه عاش ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، فكان إذا أصبح قال: لا أمسي، وإذا أمسى قال: لا أصبح، فكان لباسه الشعر، وطعامه الشعير. وإن شئت نبأتك بأمر داود خليفة الله في الأرض، وكان لباسه الشعر، وطعامه الشعير. وإن شئت نبأتك بأمر سليمان (عليه السلام) مع ما كان فيه من الملك، كان يأكل الشعير، ويطعم الناس الحواري(24)، وكان لباسه الشعر، وكان إذا جنّه الليل شدّ يده إلى عنقه، فلا يزال قائماً يصلّي حتى يصبح.

وإن شئت نبأتك بإبراهيم خليل الرحمن، كان لباسه الصوف، وطعامه الشعير. وإن شئت نبأتك بأمر يحيى (عليه السلام)كان لباسه الليف، وكان يأكل ورق الشجر. وإن شئت نبأتك بأمر عيسى بن مريم، وهو العجب كان يقول: أدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، ودابتي رجلاي، وسراجي بالليل القمر، وصلائي(25) في الشتاء مشارق الشمس، وفاكهتي وريحانتي بقول الأرض مما تأكل الوحوش والأنعام، وأبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وليس على وجه الأرض أحد أغنى منّي.

يا ابن مسعود! كلّ هذا منهم يبغضون ما أبغض الله، ويصغّرون ما صغّر الله، ويزهدون ما أزهد الله، وقد أثنى عليهم في محكم كتابه، فقال لنوح: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدَاً شَكُوراً) [الاسراء : 3] وقال لإبراهيم: (إِتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا)[النساء : 125 ]وقال لداود: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ) [ص : 26] وقال لموسى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً)[النساء : 164] وقال أيضاً لموسى: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) [مريم : 52].

وقال ليحيى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) [مريم : 12 ]وقال لعيسى بن مريم: (أُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ـ إلى قوله ـ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) [المائدة : 110] وقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء : 90].

يا ابن مسعود! كلّ ذلك لما خوّفهم الله في كتابه من قوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ  لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَاب لِكُلِّ بَاب مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر : 43-44] وقال تعالى: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[الزمر : 69](26).

انتهى ما انتخبناه من درر النبوّة، واخترناه من غرر الرسالة، وقد تركنا الكثير رغبةً في الاختصار، وحذراً من الاكثار، لتكون أبسط للنفوس، وأنشط للخواطر، وأقرّ للنواظر.

* * *

 

فصل: في وصايا عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام)

1 ـ وصيّته (عليه السلام) لولديه الحسن والحسين عندما ضربه ابن ملجم:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. ثمّ إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أوّل المسلمين.

أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي(27) عنكما، وقولا الحقّ واعملا للآخرة، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.

أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله ربّكم، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم.

وأوصيكم بنظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإنّ البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

أُنظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب.

والله الله في الأيتام لا تغيّروا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله له الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار.

والله الله في القرآن فلا يسبقكم إلى العمل به غيركم.

والله الله في جيرانكم فإنّ الله ورسوله أوصيا بهم، فإنّها وصية نبيّكم ما زال يوصينا بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم.

والله الله في بيت ربّكم فلا يخلونّ منكم فلا تخلّوا به ما بقيتم فإنّه إن تُرِكَ لم تُناظروا، وإنّ أدنى ما يرجع به من أَمَّه أن يُغفر له ما سلف من ذنبه.

والله الله في الصلاة فإنّها خير العمل وإنّها عمود دينكم.

والله الله في الزكاة فإنّها تطفئ غضب ربّكم.

والله الله في صيام شهر رمضان فإنّ صيامه جنّة من النار.

والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فإنّما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى، ومطيع له مقتد بهداه.

والله الله في ذريّة نبيّكم فلا يُظلَمنّ بين أظهركم.

والله الله في أصحاب نبيّكم الذين لم يُحدثوا حَدَثاً، ولم يؤووا محدثاً، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى بهم ولعن الُمحدِثَ منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدِث.

والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معائشكم.

والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم فإنّ آخر ما تكلّم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن قال: أوصيكم بالضعيفين نسائكم وما ملكت أيمانكم.

ثمّ قال: الصلاة الصلاة ولا تخافنّ في الله لومة لائم يكفكم من بغى عليكم وأرادكم بسوء، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله عزّ وجلّ، ولا تتركنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّي الله الأمر شراركم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم، عليكم بالتواصل والتباذل والتبادل، وإيّاكم والتقاطع والتدابر والتفرّق، وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيّكم، وأستودعكم الله خير مستودَع، وأقرء عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

يا بني عبد المطلب لا ألفينَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قُتِلَ أمير المؤمنين، لا تقتُلنّ بي إلاّ قاتلي، أُنظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يمثّل بالرجل فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور(28).

 

2 ـ وصيّته لولده الحسن (عليه السلام):

ولما ضربه ابن ملجم ـ لعنه الله ـ دخل عليه الحسن (عليه السلام) وهو باك فقال: يا بني ما يبكيك؟ قال: وما لي لا أبكي وأنت في أوّل يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، قال: يا بني إحفظ أربعاً وأربعاً لا يضرّك ما عملت معهنّ، قال: وما هنّ يا أبه؟ قال: أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق.

قال: يا أبة هذه الأربع فاعطني الأربع. قال: يا بني إيّاك ومصادقة الكذّاب فإنّه يُقرِّب عليك البعيد، ويبعِّد عليك القريب، وإيّاك ومصادقة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصادقة البخيل فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإيّاك ومصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتافه(29).

 

3 ـ وصيّته لولده الحسين (عليه السلام):

يا بُنَي! أُوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصديق والعدوّ، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدّة والرخاء.

أي بني! ما شرّ بعده الجنّة بشر، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنّة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية.

واعلم يا بني! إنه من أبصر عيب نفسه شُغِلَ عن عيب غيره، ومن تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سلّ سيف البغي قتل به، ومن حفر بئراً لأخيه وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره.

ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم الغمرات غرق، ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تكبّر على الناس ذلَّ، ومن خالط العلماء وُقِّر، ومن خالط الأنذال حُقِّر، ومن سفه على الناس شُتِم، ومن دخل مداخل السوء اُتُّهم، ومن مزح استُخِفّ به، ومن أكثر من شيء عُرِفَ به، ومن كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.

أي بُني! من نظر في عيوب الناس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه، ومن تفكّر اعتبر، ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سَلِم، ومن ترك الشهوات كان حرّاً، ومن ترك الحسد كانت له المحبّة عند الناس.

أي بني! عزّ المؤمن غناؤه عن الناس، والقناعة مالٌ لا ينفد، ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه.

أي بني! العجب ممّن يخاف الله والعقاب فلم يَكُف، ويرجو الثواب فلم يتب ويعمل.

أي بني! الفكرة تورث نوراً، والغفلة ظلمة، والجدال ضلالة، والسعيد من وُعِظَ بغيره، والأدب خير ميراث، وحُسن الخُلُق خير قرين، ليس مع قطيعة الرحم نماء، ولا مع الفجور غنى.

أي بني! العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء.

أي بني! من تزيّا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاًّ، ومن طلب العلم عُلِّم.

يا بني! رأس العلم الرفق، وآفته الخرق، ومن كنوز الايمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى، وكثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة قبل الخبرة ضدّ الحزم، وإعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله.

أي بني كم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت نعمة.

أي بني! لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعزّ من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّء خفض الدعة.

أي بني! الحرص مفتاح التعب، ومطية النصب، وداع إلى التقحّم في الذنوب، والشره جامع لمساوي العيوب، وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك، لأخيك عليك مثل الذي لك عليه، ومن تورّط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرّض للنوائب، التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ، الصبر جنّة من الفاقة، البخل جلباب المسكنة، الحرص علامة الفقر، وَصُوُلٌ مُعْدِم خير من جافٍّ مُكثر، لكلٍّ شيء قوت وابن آدم قوت الموت.

أي بني! لا تؤيس مذنباً، فكم من عاكف على ذنبه خُتِمَ له بخير، وكم من مُقبل على عمله مفسد في آخر عمره، صائر إلى النار نعوذ بالله منها.

أي بني! [كم من عاص نجا، و] كم من عامل هوى، من تحرّى الصدق خفّت عليه المؤن، في خلاف النفس رشدها، الساعات تنتقص الأعمار، ويلٌ للباغين من أحكم الحاكمين، وعالم ضمير المضمرين.

يا بني! بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد، في كلّ جرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص، لن تنال نعمة إلاّ بفراق أُخرى، ما أقرب الراحة من النصب، والبؤس من النعيم، والموت من الحياة، والسقم من الصحّة، فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه، وحبّه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصحّته، وفعله وقوله، وبخ بخ لعالم عمل فجدَّ، وخاف البيات فأعدّ واستعدّ، إن سُئل نصح، وإن تُرك صمت، كلامه صواب، وسكوته من غير عيّ جواب، والويل لمن بلي بحرمان وخذلان وعصيان، فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره، وأزرى على الناس بمثل ما يأتي.

واعلم أي بني! إنّه من لانت كلمته وجبت محبّته. وفّقك الله لرشده، وجعلك من أهل طاعته بقدرته، إنّه جواد كريم(30).

 

فصل: في وصايا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)

1 ـ وصيّته (عليه السلام) لعبد الله بن جندب:

جاء في البحار أنّ الإمام أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) أوصى عبد الله بن جندب، فقال له: يا عبد الله لقد نصب إبليس ـ لعنه الله ـ حبائله في دار الغرور، فما يقصد فيها إلاّ أولياءنا.

يا ابن جندب! حقّ على كلّ مسلم يعرفنا، أن يعرض عمله في كلّ يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسباً نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيّئة استغفر منها، لئلاّ يخزى يوم القيامة.

يا ابن جندب! إنّ للشيطان مصائداً وشباكاً يصطاد بها فتحام عنها، أمّا مصائده فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه فنوم عن الصلاة التي فرضها الله، أما أنّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام إلى برّ الاخوان.

يا ابن جندب! الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأُحد.

يا ابن جندب! بلّغ معاشر شيعتنا، وقل لهم: لا تذهبنّ بكم المذاهب، فوالله لا تُنال ولايتنا إلاّ بالورع والاجتهاد في الدنيا، ومواساة الاخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس.

يا ابن جندب! لو أنّ شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة، ولأظلّهم الغمام، ولأشرقوا نهاراً، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا الله شيئاً إلاّ أعطاهم.

يا ابن جندب! طوبى لعبد لم يغبط الخاطئين على ما اُوتوا من نعيم الدنيا وزهرتها، وطوبى لعبد طلب الآخرة وسعى لها، طوبى لمن لم تلهه الأماني الكاذبة. ثمّ قال (عليه السلام): رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاةً إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم، ليس كمن يذيع أسرارنا.

يا ابن جندب! إنما المؤمنون الذين يخافون الله، ويشفقون أن يُسلَبوا ما أُعطوا من الهدى، فإذا ذكروا الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ممّا أظهره تعالى من نفاذ قدرته، وعلى ربّهم يتوكّلون.

يا ابن جندب! كلّ الذنوب مغفورة سوى عقوق أهل دعوتك، وكلّ البرّ مقبول إلاّ ما كان رياءً.

يا ابن جندب! أحبب في الله وأبغض في الله، واستمسك بالعروة الوثقى، واعتصم بالهدى يقبل عملك، فإنّ الله تعالى يقول: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) [طه : 82] فلا يقبل منه إلاّ بالايمان، ولا إيمان إلاّ بعمل، ولا عمل إلاّ بيقين، ولا يقين إلاّ بالخشوع، وملاكها كلّها الهدى، فمن اهتدى يقبل عمله، وصعد إلى الملكوت متقبلا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

يا ابن جندب! إنّ عيسى بن مريم (عليه السلام) قال لأصحابه: أرأيتم لو أنّ أحدكم مرّ بأخيه فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته أكان كاشفاً عنه كلّها أم يردّ عليها ما انكشف منها، قالوا: بل نردّ عليها، قال: كلاّ بل تكشفون عنها كلّها، فعرفوا أنّه مثل ضربه لهم، فقيل له: يا روح الله وكيف ذلك؟

قال: الرجل منكم يطلع على العورة من أخيه فلا يسترها، بحقّ أقول لكم إنّكم لا تصيبون ما تريدون إلاّ بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تأملون إلاّ بالصبر على ما تكرهون، إيّاكم والنظرة، فإنّها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه، ولا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبكم كهيئة العبيد، إنّما الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا الله على العافية.

يا ابن جندب! لا تتصدّق على أعين الناس ليُزكُّوك، فإنّك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك، فإنّ الذي تتصدّق له سرّاً يجزيك علانية على رؤوس الأشهاد، في اليوم الذي لا يضرّك أن لا يطلع الناس على صدقتك.

فاخفض الصوت إنّ ربك الذي يعلم ما تسرّون وما تعلنون، قد علم ما تريدون قبل أن تسألوه، وإذا صمت فلا تغتب أحداً، ولا تُلبسوا صيامكم بظلم، ولا تكن كالذي يصوم رئاء الناس، مُغبَّرة وجوههم، شعثة رؤوسهم، يابسة أفواههم، لكي يعلم الناس أنّهم صيام.

يا ابن جندب! من حرم نفسه كسبه فإنّما يجمع لغيره، ومن أطاع هواه فقد أطاع عدوّه، ومن يثق بالله يكفه ما أهمّه من أمر دنياه وآخرته، ويحفظ له ما غاب عنه.

يا ابن جندب! أعدّ لكلّ بلاء صبراً، ولكلّ نعمة شكراً، ولكلّ عسر يسراً، صبّر نفسك عند كلّ بليّة في نفس أو مال أو ذرّيّة، فإنّما يقبض عاريته، ويأخذ هبته، ليبلو فيهما شكرك وصبرك، وارج الله رجاءً لا يُجَرِّؤك على معصيته، وخفه خوفاً لا يُؤيسك من رحمته، ولا تغترّ بقول الجاهل ولا بمدحه، فتكبّر وتجبّر وتعجب بعملك، فإنّ أفضل العمل العبادة والتواضع.

ولا تضيّع مالك وتصلح مال غيرك ما خلفته وراء ظهرك، واقنع بما قسم الله لك، ولا تتمنّ ما لست تناله، فإنّ من قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع، وخذ حظّك من آخرتك، ولا تكن بطراً في الغنى، ولا جزعاً في الفقر، ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك، ولا تشار من فوقَك، ولا تسخر بمن هو دونك، ولا تنازع الأمر أهله، ولا تطع السفهاء، وقف عند كلّ أمر حتّى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم.

يا ابن جندب! صل من قطعك، واعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلّم على من سبّك، وأنصف من خاصمك، واعفُ عمّن ظلمك، وإذا رأيت مبتلا فاحمد الله على العافية، فإنّما الناس مبتلا ومعافاً، واجمع رحمتك لغريب تأويه، ويتيم تبسم في وجهه وتعذّيه، وأسير تحلّ وثاقه وترضيه(31).

 

2 ـ وصيّته (عليه السلام) لعنوان البصري:

حدّث الشيخ المجلسي (قدس سره) في المجلّد الأول من بحاره، عن عنوان البصري، وكان شيخاً كبيراً، قد أتى عليه أربع وتسعون سنة، قال: كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلما قدم جعفر الصادق (عليه السلام) المدينة اختلفت إليه وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك، فقال لي يوماً: إنّي رجل مطلوب، ولي مع ذلك أوراد في كلّ ساعة من آناء الليل والنهار، فلا تشغلني عن وردي وخُذ عن مالك واختلف إليه، كما كنت تختلف إليه.

فاغتممت من ذلك، وخرجت من عنده وقلت في نفسي: لو تفرّس فيّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه، فدخلت مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)وسلّمت عليه، ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة، وصلّيت فيها ركعتين، وقلت: أسألك يا الله يا الله، أن تعطف عليّ قلب جعفر، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم، ورجعت إلى داري مغتمّاً، ولم أختلف إلى مالك بن أنس، لما أُشربَ قلبي من حبّ جعفر، فما خرجت من داري إلاّ إلى الصلاة المكتوبة، حتّى عيل صبري.

فلمّا ضاق صدري تنعّلت وتردّيت وقصدت جعفراً، وكان بعدما صلّيت العصر، فلما حضرت باب داره استأذنت عليه، فخرج خادم له، فقال: حاجتك؟ فقلت: السلام على الشريف، قال: هو قائم في مصلاّه، فجلست بحذاء بابه، فما لبثت إلاّ يسيراً إذ خرج الخادم فقال: أُدخل على بركة الله. فدخلت وسلّمت عليه، فردّ السلام وقال: أُجلس غفر الله لك، فجلست. فأطرق مليّاً، ثمّ رفع رأسه وقال: أبو مَن؟ قلت: أبو عبد الله، قال: ثبّت الله كنيتك ووفّقك.

يا أبا عبد الله ما مسألتك؟ فقلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم عليه غير هذا الدعاء لكان كثيراً، ثمّ رفع رأسه وقال: ما مسألتك؟ فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك عليّ، ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته.

فقال: يا عبد الله ليس العلم بالتعلّم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم، فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك.

قلت: يا شريف، فقال: قل يا أبا عبد الله، فقلت: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثة أشياء; أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه.

فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً هان عليه الانفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه.

وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هانت عليه مصائب الدنيا.

واذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء والمباهات مع الناس.

فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة، هانت عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً ولا يدع أيّامه باطلا، فهذا أوّل درجة التقوى، قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : 83].

قلت: يا أبا عبد الله أوصني، قال: أوصيك بتسعة أشياء، فإنها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك لاستعمالها.

ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها، وإياك والتهاون بها. قال عنوان: ففرّغت قلبي له، فقال:

أمّا اللواتي في الرياضة: فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنّه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلاّ عند الجوع، واذا أكلت فكُل حلالا، وسمّ الله، واذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، فإن كان ولابدّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه.

وأمّا اللواتي في الحلم: فمن قال لك إن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل له: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنا، فعده بالنصيحة والدعاء.

وأمّا اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربةً، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخُذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.

قُم عنّي يا أبا عبد الله فقد نصحت لك، ولا تفسد عليّ وردي فإنّي إمرؤٌ ضنين بنفسي، والسلام على من اتّبع الهدى(32).

 

فصل: في وصية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)

1 ـ وصيته لهشام بن الحكم (قدس سره):

حدّث هشام بن الحكم (قدس سره) قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام):

يا هشام! إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ  الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الاَْلْبَابِ) [الزمر : 17 ـ 18].

يا هشام! إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة، فقال: (وَإلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : 163] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيِاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ) [البقرة : 164].

يا هشام! قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته، بأنّ لهم مدبّراً، فقال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ) [النحل : 12].

وقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُّطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَلْتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر : 67].

وقال تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْق فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ) [مضمون الآية].

وقال: (يُحْىِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد : 17].

وقال: (جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الاُْكُلِ إِنِّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ)[الرعد : 4].

وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ) [الروم : 24].

وقال: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقَرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام : 151].

وقال: (هَلْ لَّكُمْ مَن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّنْ شُرَكَاءَ فِي ما رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَعْقِلُونَ) [الروم : 28].

يا هشام! ثمّ وعّظ أهل العقل، ورغّبهم في الآخرة فقال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلْدَارُ الاْخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الأنعام : 32].

يا هشام! ثمّ خوّف الذين لا يعقلون عقابه فقال: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الاْخَرِينَ  وَإِنَّكُمْ لََتمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ  وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الصافات : 136 ـ 138].

وقال: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ  وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْم يَعْقِلُونَ)[العنكبوت : 35-34].

يا هشام! إنّ العقل مع العلم، فقال: (وَتِلْكَ الاَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) [العنكبوت : 43].

يا هشام! ثمّ ذمّ الذين لا يعقلون، فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) [البقرة : 170].

وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) [البقرة : 171].

وقال: (وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ)[يونس : 42].

وقال: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا)[الفرقان : 44].

وقال: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحْصَّنَة أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ) [الحشر : 14].

وقال: (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[البقرة : 44].

يا هشام! ثمّ ذمّ الله الكثرة فقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الاَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : 116].

وقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [لقمان : 25].

وقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)[العنكبوت : 63].

يا هشام! ثمّ مدح الله القلّة فقال: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : 13 ]وقال: (وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) [ص : 24 ]وقال: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) [غافر : 28] وقال: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)[هود : 40] وقال: (وَلكِنْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأنعام : 37] وقال: (وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) [المائدة : 103 ]وقال: (وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) [مضمون الآية].

يا هشام! ثمّ ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاّهم بأحسن الحلية، فقال: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الاَْلْبَابِ) [البقرة : 269].

وقال: (وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الاَْلْبَابِ) [آل عمران : 7].

وقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَات لاُِولِي الاَْلْبَابِ) [آل عمران : 190].

وقال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الاَْلْبَابِ) [الرعد : 19].

وقال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الاَْلْبَابِ)[الزمر :  9].

وقال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاَْلْبَابِ)[ص :  29].

وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ  هُدًى وَذِكْرى لاُِولِي الاَْلْبَابِ) [غافر : 53 ـ 54].

يا هشام! إنّ الله يقول في كتابه: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : 37 ]يعني عقل، وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان : 12] قال: الفهم والعقل.

يا هشام! إنّ لقمان قال لابنه: تواضع للحقّ تكن أعقل الناس، وإنّ الكيّس لدى الحقّ يسير، يا بني إنّ الدنيا بحر عميق، قد غرق فيه عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الايمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكّانها الصبر.

يا هشام! إنّ لكلّ شيء دليلا، ودليل العقل التفكّر، ودليل التفكّر الصمت، ولكلّ شيء مطيّة، ومطيّة العقل التواضع، وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام! ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابةً أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجةً في الدنيا والآخرة.

يا هشام! إنّ لله على الناس حجّتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة: فالعقل.

يا هشام! إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام! من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكّره بطول أمله، ومحى طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عِبرته بشهوات نفسه، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام! كيف يزكو عند الله عملك، وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك.

يا هشام! الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أُنسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزّه من غير عشيرة.

يا هشام! نصب الحقّ لطاعة الله، ولا نجاة إلاّ بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلّم، والتعلّم بالعقل.

يا هشام! قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام! إنّ العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام! إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام! إنّ العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها، فعلم أنّها لا تنال إلاّ بالمشقّة، ونظر إلى الآخرة فعلم أنّها لا تنال إلاّ بالمشقّة، فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام! إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة; لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام! من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرّع إلى الله تعالى في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.

يا هشام! إنّ الله حكى عن قوم صالحين، أنّهم قالوا: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8] حين علموا أنّ القلوب تزيغ وتعود إلى عملها ورداها، إنّه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدّقاً، وستره لعلانيته موافقاً; لأنّ الله تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفيّ من العقل إلاّ بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام! كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عُبد الله بشيء أفضل من العقل، وما تمّ عقل امرئ حتّى تكون فيه خصال شتّى: الكفر والشرّ منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذلّ أحبّ إليه مع الله من العزّ مع غيره، والتواضع أحبّ إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلّهم خيراً منه وإنّه شرّهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام! لا دين لمن لا مروّة له، ولا مروّة لمن لا عقل له، وإنّ أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما إنّ أبدانكم ليس لها ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها بغيرها.

يا هشام! إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إنّ من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق. إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)قال: لا يجلس في صدر المجلس إلاّ رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهنّ، فمن لم يكن فيه شيء منهنّ فجلس فهو أحمق.

يا هشام! إنّ العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يتقدّم على ما يخاف العجز عنه(33).

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي أصحابه يقول: أوصيكم بالخشية من الله في السرّ والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمّن ظلمكم، وتعطفوا على من حرمكم، وليكن نظركم عبراً، وصمتكم فكراً، وقولكم ذكراً، وطبيعتكم السخاء، فإنّه لا يدخل الجنّة بخيل، ولا يدخل النار سخي.

يا هشام! رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعلم أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره، والنّار محفوفة بالشهوات.

يا هشام! من كفّ نفسه عن أعراض الناس كفّ الله عنه عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة.

يا هشام! وجد في ذؤابة سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه، وقتل غير قاتله، ومن تولّى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله)، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا.

يا هشام! أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به الصلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر.

يا هشام! إنّ كلّ الناس يبصر النجوم، ولكن لا يهتدي بها إلاّ من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلاّ من عمل بها.

يا هشام! مكتوب في الانجيل: طوبى للمتراحمين، أولئك هم المرحومون يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس، أولئك هم المقرّبون يوم القيامة، طوبى للمطهّرة قلوبهم، أولئك المتّقون يوم القيامة، طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة.

يا هشام! قلّة المنطق حكم عظيم فعليكم بالصمت فإنه دعة حسنة، وقلّة وزر، وخفّة من الذنوب، فحصّنوا باب الحلم، فإنّ بابه الصبر، وإنّ الله عزّ وجلّ يبغض الضحاك من غير عجب، والمشّاء إلى غير أرب(34)، ويجب على الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيّته، ولا يتكبّر عليهم، فاستحيوا من الله في سرائركم، كما تستحيون من الناس في علانيتكم، واعلموا أنّ الكلمة من الحكمة ضالّة المؤمن، فعليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم.

يا هشام! تعلّم من العلم ما جهلت، وعلّم الجاهل ممّا علمت، عظّم العالم لعلمه ودع منازعته، وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده، ولكن قرّبه وعلّمه.

يا هشام! إنّ كلّ نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيّئة تؤاخذ بها، وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إنّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشيته فأسكتتهم عن المنطق، وإنهم لفصحاء عقلاء يستبقون إلى الله بالأعمال الزكيّة، لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون لهم من أنفسهم بالقليل، يرون في أنفسهم أنّهم أشرار، وأنّهم لأكياس وأبرار.

يا هشام! الحياء من الايمان، والايمان في الجنّة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار.

يا هشام! المتكلّمون ثلاثة: فرابح، وسالم، وشاجب، فأمّا الرابح فالذاكر لله، وأمّا السالم فالساكت، وأمّا الشاجب فالذي يخوض في الباطل، إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فاحش، بذيء، قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه. وكان أبوذر (قدس سره)يقول: يا مبتغي العلم إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرٍّ، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك.

يا هشام! بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه إذا شاهده، ويأكله إذا غاب عنه، إن أُعطي حسده، وإن ابتُلي خذله، إنّ أسرع الخير ثواباً البرّ، وأسرع الشرّ عقوبة البغي، وإنّ شرّ عباد الله من تكره مجالسته لفحشه، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

يا هشام! عليك بالرفق، فإنّ الرفق يمن، والخرق شؤم، إنّ الرفق والبرّ وحسن الخلق يعمر الديار، ويزيد في الرزق.

يا هشام! إنّ مثل الدنيا مثل الحيّة، مسّها لين وفي جوفها السمّ القاتل، يحذرها الرجال ذووا العقول، ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.

يا هشام! اصبر على طاعة الله، واصبر عن معاصي الله، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى منها فليس تجد له سروراً ولا حزناً، وما يأت منها فليس تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنّك قد اغتبطت.

يا هشام! مثل الدنيا مثل ماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتّى يقتله.

يا هشام! إيّاك والكبر، فإنّه لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من كبر، الكبر رداء الله، فمن نازعه رداءه أكبّه الله في النار على وجهه.

يا هشام! إنّ ضوء الجسد في عينه، فإنْ كان البصر مضيئاً استضاء الجسد كلّه، وإنّ ضوء الروح العقل، فإذا كان العبد عاقلا كان عالماً بربّه، وإذا كان عالماً بربّه أبصر دينه، وإن كان جاهلا بربّه لم يقم له دين، وكما لا يقوم الجسد إلاّ بالنفس الحيّة، فكذلك لا يقوم الدين إلاّ بالنيّة الصادقة، ولا تثبت النيّة الصادقة إلاّ بالعقل.

يا هشام! إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار; لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر من آلة الجهل، ألم تعلم أنّ من شمخ إلى السقف برأسه شجّه، ومن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه.

يا هشام! ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح الخطيئة بعد النسك، وأقبح من ذلك العابد لله ثمّ يترك عبادته.

يا هشام! لا خير في العيش إلاّ لرجلين: لمستمع واع، وعالم ناطق.

يا هشام! ما قسم بين العباد أفضل من العقل، نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وما بعث الله نبيّاً إلاّ عاقلا، حتى يكون عقله أفضل من جميع جهد المجتهدين، وما أدّى العبد فريضة من فرائض الله حتّى عقل عنه.

يا هشام! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة، والمؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل.

يا هشام! من تعظّم في نفسه لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض، ومن تكبّر على إخوانه، واستطال عليهم فقد ضادّ الله، ومن ادّعى ما ليس له فهو لغير رشده.

يا هشام! مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة، ومشاورة العاقل الناصح يُمن وبركة ورشد وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك العاقل الناصح فإيّاك والخلاف فإنّ في ذلك العطب.

يا هشام! إحذر هذه الدنيا، واحذر أهلها، فإنّ الناس فيها على أربعة أصناف: رجل متردّي معانق لهواه، ومتعلّم مقري كلّما ازداد كبراً يستعلي بقراءته وعلمه على من هو دونه، وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته، يحبّ أن يعظّم ويوقّر، وذي بصيرة عالم عارف بطريق الحقّ يحبّ القيام به، فهو عاجز أو مغلوب ولا يقدر على القيام بما يعرفه، فهو محزون مغموم بذلك، فهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلا(35).

* * *

هذه ملتقطات من وصايا أهل بيت الرحمة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، أوردناها في هذا الفصل، لما فيها من جلاء القلوب، وشفاء النفوس، وصقل العقول، وما يحصل فيها من خصب في الذهن، ونشاط في الفكر، وفيها الكفاية والاستغناء عن غيرها; حيث يجد الطالب فيها أُنشودته، ويحصل على غايته.

وإنّما أردفناها ببعض وصايا الملوك والحكماء، ليظهر الفارق بين ما هي مستقاة من منبع الوحي، وملتقطة من بحر الحكمة الإلهية، وبين ما هي ولائد الرويّة، والتفكير البشري، وهما يصيبان طوراً ويخطئان تارةً، وعند الاصابة قد يعدوهما الغرض، وإليك نموذجاً مما أوردوه.

 

فصل: في وصايا الملوك والحكماء

1 ـ وصيّة لقمان الحكيم لولده:(36)

إنّ الشيخ المفيد (قدس سره) يحدّثنا في كتابه «الاختصاص» من أنّ لقمان أوصى إبنه قال:

يا بني! إنّ الدنيا بحر عميق، ومن ركب البحر من غير سفينة غرق، فاتخذ سفينة من الايمان، حشوها تقوى الله، وشراعها التوكل، وسكّانها الصبر، ومجاديفها(37) الصوم والصلاة والزكاة، ثم اركبها تنجو، واني لخائف أن لا تنجو.

يا بني! أقلّ الكلام، واذكر الله في كلّ مقام، فإنّه قد حذّرك وأنذرك، وعلّمك وبصّرك، واتّعظ بالصغيرة قبل أن تنزل بك الكبيرة، واملك نفسك إذا رأيت غضباً، لئلاّ تكون لجهنّم حطباً.

يا بني! لا تأمن من الدنيا والذنوب والشيطان، فقد افتتن بها الصالحون الأوّلون، فكيف ينجو الآخرون، واجعل الدنيا سجنك، تكن الآخرة جنّتك.

يا بني! لن تكلّف أن تحمل الجبال، ولن تكلّف ما لا تطيق، فلا تحمل البلاء على كتفك، ولا تذبح نفسك بيدك.

يا بني! الجار ثمّ الدار، والرفيق ثمّ الطريق، والوحدة خير من صاحب السوء، والصاحب الصالح خير من الوحدة، ونقل الحجارة خير من صاحب السوء، فإنّي نقلت الحجارة والحديد فلم أجد شيئاً أثقل من قرين السوء.

يا بني! من يصحب قرين السوء لا يتقدّم، ومن دخل مداخل السوء يتّهم، ومن لا يكفّ لسانه يندم.

يا بني! إيّاك ومصاحبة الأشرار فإنّهم كالكلاب، إن وجدوا عندك شيئاً أكلوه وإلاّ فضحوك فإنّما حبّهم بينهم ساعة، واستكثر من الأصدقاء ولا تأمن من الأعداء، فإنّ الغلّ في صدورهم كامن كمون النار تحت الرماد، ولا تكن حلواً فتأكل، ولا مرّاً فتلفظ.

يا بني! كافي المحسن بإحسانه، والمسيء تكفيه إساءته.

يا بني! من ذا الذي عبد الله فخذله، ومن ذا الذي قصد الله فلم يجده، ومن ذا الذي ذكر الله فلم يذكره، ومن ذا الذي توكّل على الله فوكّله إلى غيره، ومن ذا الذي تضرّع إلى الله فلم يرحمه.

يا بني! أقم الصلاة، وأْمُرْ بالمعروف، وانهى عن المنكر، واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور.

يا بني! لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلمٌ عظيم.

يا بني! تعلّم الحكمة تشرّف بها، فإنّ الحكمة تدلّ على الدين، وتشرّف العبد على الحرّ، وترفع المسكين على الغني، وتقدّم الصغير على الكبير، وتجلس المسكين مجالس الملوك، وتزيد الشرف شرفاً، والسيد سؤدداً، والغني مجداً، وكيف يظنّ ابن آدم أن يتهيّأ له أمر دينه ومعيشته بغير حكمة، ولن يهيّن الله عزّ وجلّ أمر الدنيا والآخرة إلاّ بالحكمة، ومثل الحكمة بغير طاعة مثل الجسد بغير نفس، ومثل الصعيد بغير ماء، ولا صلاح للجسد بغير نفس، ولا للصعيد بغير ماء، ولا للحكمة بغير طاعة.

يا بني! لا تمش في الأرض مرحاً، إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا.

يا بني! لا تسخر بالمبتلى، وادعو الله له بالعافية لئلاّ تبتلي فيسخر بك، وإن أخطأت خطيئة فابعث في أثرها صدقة لتطفئ نارها، وإن دعتك قدرتك إلى ظلم أحد من الناس فاذكر قدرة الله عليك وازدجر.

يا بني! أكرم الكبير ووقّره فإنّ إهانته من سخط الله، وربّما كبرت فتبتلى بالإهانة، وكما تدين تُدان.

يا بني! وتعطّف على الأرامل والأيتام، يتعطّف عليك الله من فوق ذلك.

يا بني! وكن للطفل الصغير راحماً، وعليه حانياً، فإنّ الله تعالى أرحم ما يكون له ولمن رحمه، عطف عليه أُمّه، فتركت له نومها وراحتها، وعطف عليه أبوه، فوجد به سروره وإيناسه، وعطف عليه الناس، فمن رأى ضحكه عجب وتبسّم، ومن رأى بكاءه رقّ وتألّم، وما عليك أن لا يكون ابن مسلم فإنّ الطفل الصغير لا ذنب له(38).

 

2 ـ وصيّة أردشير لابنه:

يحدّث العتبي عن بعض علماء الفرس: أنّ أردشير قال لابنه:

يا بني! إنّ الملك والدين أخوان، ولا غنى بأحدهما عن صاحبه، ولا قوام له إلاّ به، الدين أُسّ، والملك حارس، فما لم يكن له أُسّ فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.

يا بني! إجعل مرتبتك مع أهل المراتب، وعطيّتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرّك لمن يعنيه ما عناك من أهل العقل(39).

* * *

وأوصى رجل إبنه فقال: إنّ وصيّتي مع وصيّة الله عزّ وجلّ لهجنة، وإنّ في التذكرة ليقظة، وعود الخير محمود، وأنا أسترعي لك بعد وفاتي الذي أحسن إليك في حياتي، تحرّ في كلّ أمرك طاعة الله تنجك وإياك والأُخرى فتردك، وابذل لجلّة الناس إكرامك تنصرف إليك أبصارهم، وابذل لسائرهم بشرك يطب ذكرك في أفواههم، وأصلح بكلّ الآداب لسانك، واستعمل في إصلاحها بدنك، فإنّ الأدب أوّل مدلول به على عقلك.

 

3 ـ وصيّة عبد الله بن شداد:

لما حضرت عبد الله بن شداد الوفاة، دعا إبنه محمّداً، فقال له:

يا بني! أرى داعي الموت لا يقلع، ومن مضى منّا لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع، وليس أحد عليه بممتنع، وإنّي أوصيك يا بني بوصيّة فاحفظها: عليك بتقوى الله العظيم، وليكن أولى الأمور بك الشكر لله، وحسن النيّة في السرّ والعلانية، واعلم بأنّ الشاكر مزاد، والتقوى خير زاد، وكُن يا بني كما قال الحطيئة:

ولست أرى السعادة جمع مال *** ولكن التقي هو السعيد

وتقوى الله خير الزاد ذخراً *** وعند الله للأتقى مزيد

وما لابدّ أن يأتي قريب *** ولكن الذي يمضي بعيد

يا بني! لا تزهدنّ في معروف، فإنّ الدهر ذو صروف، والأيّام ذات نوائب على الشاهد والغائب، فكم من راغب كان مرغوباً إليه، وطالب قد أصبح مطلوباً ما لديه. واعلم بأنّ الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان يرى الهوان، وكن كما قال أخو بني الدئل:

وعدِّد من الرحمن فضلا ونعمةً *** عليك إذا ما جاء للخير طالب

وإنّ امرءً لا يُرتجى الخير عنده *** يكن هيّناً ثقلا على من يصاحب

فلا تمنعنّ ذا حاجة جاء طالباً *** فإنّك لا تدري متى أنت راغب

رأيت تصاريف الزمان بأهله *** وبينهم فيه تكون النوائب

يا بني! كن جواداً بالمال في موضع الحق، بخيلا بالأسرار عن جميع الخلق، فإنّ أحمد جود الحر الانفاق في وجوه البر، وإنّ أحمد بُخل الحرّ الضنّ بمكتوم السرّ، وكن يا بني كما قال قيس بن الخطيم:

أجود بمضنون التلاد وإنني *** بسرِّك عمّن سالني لضنين

إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه *** بنثٍّ(40) وتكسير الحديث قمين

وإن ضَيَّع الاخوان سرّاً فإنّني *** كتوم لأسرار العشير أمين

وعندي له يوماً إذا ما ائتمنته *** مكان بسوداء الفؤاد مكين

يا بني! وإن غُلبت يوماً عن المال فلا تدع الحيلة بكلّ مكان، فإنّ الكريم محتال، واللئيم مغتال، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقلّ ما تكون في الباطن مالا. واعلم أنّ الكريم من كرمت عند الحاجة طبيعته، وظهرت عند الانفاد نعمته، وكن كما قال الشاعر:

وجدت أبي قد أورثه أبوه *** خلالا قد تُعدّ من المعالي

فأكرم ما تكون عليّ نفسي *** إذا ما قلّ في الأزمات مالي

فتحسن سيرتي وأصون عرضي *** ويجعل عند أهل الرأي حالي

فإن نلت الغنى لم أغل فيه *** ولم أخصص بجفوتي الموالي

يا بني! وإن سمعت كلمة من حاسد فكن كأنّك لست بالشاهد، فإنّك إن أمضيتها حيالها وقع العيب على من قالها، وقد كان يقال أنّ الأريب العاقل هو الفطن المتغافل، وكن كما قال حاتم الطائي:

وما من شيمتي شتم ابن عمّي *** وما أنا مخلف من يرتجيني

وكلمة حاسد من غير جرم *** سمعت فقلت مرّي فانفذيني

فعابوها عليّ ولم تعبني *** ولم يعرق لها يوماً جبيني

وذو اللونين يلقاني طليقاً *** وليس إذا يغيب يأتليني

يا بني! لا تواخ أخاً حتّى تعاشره، وتعرف أمره، وتتفقّد موارده ومصادره، فإذا استطبت العشرة، ورضيت الخبرة فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العسرة، وكن يا بني كما قال المقنع الكندي:

إبل الرجال إذا أردت إخاءهم *** وتَوَسمن فعالهم وتفقَّدِ

فإذا ظفرت بذي الأمانة والتقى *** فيه اليدين قرير عين فاشددِ

وإذا رأيت ولا محالة زلّةً *** فعلى أخيك بفضل حلمك فاردُدِ

يا بني! وإذا أحببت حبيباً فلا تفرط، وإذا أبغضت بغيظاً فلا تشطط، فإنّه قد قال عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام): أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما. وكن كما قال الشاعر:

وكن معقلا للخير واصفح عن الخنى *** فإنّك راء ما حييت وسامع

وأحبب إذا أحببت حبّاً مقارباً *** فإنّك لا تدري متى أنت نازع

وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارناً *** فإنّك لا تدري متى الودّ راجع

وعليك يا بني بصحبة الأخيار، وصدق الحديث، وإيّاك وصحبة الأشرار فإنّه عار، وكن كما قال الدارمي:

صاحب الأخيار وارغب فيهم *** ربّ من صاحبته مثل الجَرَبْ

ودع الناس فلا تشتمهم *** وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب

إنّ من شاتم وغداً كالذي *** يشتري الصفر بأعيان الذهب

واصدق الناس إذا حدّثتهم *** ودع الكذب فمن شاء كذب

رب مهزول سمين عرضه *** وسمين الجسم مهزول الحسب

يا بني! وإذا آخيت فآخ من يُعدّ لنوائب الزمان، وعليك بذوي الألباب الذين ثقّفتهم الآداب، ووثّقتهم الأحساب، فإنّهم أطيب مختبر، وأكرم محتضر، وأعذب معتصر، واحذر إخاء كلّ جهول، وصحبة كلّ عجول، فإنّه لا يغفر الزلّة وإن عرف العلّة، سريعٌ غضبه، عال لهبه، إن سأل ألحف، وإن وعد أخلف، يرى ما يعطيك غرماً، وما يأخذ منك غُنماً، فهو يرضيك ما طمع فيك، فإذا يئس من خيرك مال إلى غيرك، وفي مثله يقول الشاعر:

لا تواخ الدهر جبساً(41) راضعاً *** ملهب الشرّ قليل المنفعه

ما ينل منك فأحلى مغنم *** ويرى ظرفاً به أن يمنعه

يسأل الناس ولا يعطيهم *** ثكلته أُمّه ما أطمعه

يا بني! من عتب على الزمان، وتتَّبع عثرات الاخوان، قطعه صديقه، وملّه رفيقه، واحتماه الأهلون، وظفر به الشامتون. ومن سار في البلاد ثمر المراد، وطالبُ الكفافُ بالقناعة والعفاف يعيش حميداً فقيداً. وقد قال النابغة:

إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه *** شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا

وصار على الأدَنينَ كلاًّ وأوشكت *** صلات ذوي القربى له أن تنكرا

فسر في بلاد الله والتمس الغنى *** تعش ذا يسار أو تموت فَتُعذرا

وما طالب الحاجات في كلّ وجهة *** من الناس إلاّ من أجدّ وشمَّرا

ولا ترض من عيش بدون ولا تنم *** وكيف ينام الليل من كان مُعسرا

ثمّ قال: وليكن إخوانك وأهل بطانتك أولي الدين والعفاف، والمروّآت والأخلاق الجميلة، فإنّي رأيت إخوان المرء يده التي يبطش بها، ولسانه الذي يصول به، وجناحه الذي ينهض به، فاصحب هؤلاء تجدهم إخواناً، وعلى الخير أعواناً، واجتنب الصغار الأخطار، اللئام الأقذار، الذين لا يحامون على حسب، ولا يرجعون إلى نسب، ولا يصبرون على نائبة، ولا ينظرون في عاقبة، فإنّهم إن رأوك في رخاء سألوك، وإن رأوك في شدّة أسلموك، ولعلّهم أن يكونوا عليك مع بعض الأعداء.

واعلم بأنّ الرجل بلا خدِين(42) كذي الشمال بلا يمين، واخلط نفسك مع الأبرار، وطهّرها من الفجّار، فالمرء يُعرف بقرينه، فقد قال الشاعر:

وقارن إذا قارنت حُرّاً فإنّما *** يزين ويزري بالفتى قرناؤه

ولن يهلك الإنسان إلاّ إذا أتى *** من الأمر ما لم يرضه نصحاؤه

إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه

يا بني! قد جمعت لك مصالح نفسك، فاستفتح الله بمسامع عقلك، وتفهّم ما وصفت لك بالتجارب، تحز صلاح العواقب.

وأعلم إنّ من حاسب نفسه تورّع، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن اعتبر أبصر، ومن فهم علم، وفي التواني تكون الهلكة، وفي التأنّي السلامة، وزارع البرّ يحصد السرور، والقليل مع القناعة في القصد خير من الكثير مع السرف في المذلّة، التقوى نجاة، والطاعة ملك، وحليف الصدق موفّق، وصاحب الكذب مخذول، وصديق الجاهل تعب، ونديم العاقل مغتبط.

فإذا جهلت فسل، وإذا ندمت فاقلع، وإذا غضبت فامسك، ومن لاقاك بالبشر فقد أدّى إليك الصنيعة، ومن أقرضك الثناء فاقضه الفضل. وضع يا بني الصنائع عند الكرام ذوي الأحساب، ولا تضعنّ معروفك عند اللّئام فتضيّعه، فإنّ الكريم يشكرك ويرصدك بالمكافاة، وإنّ اللئيم يحسب ذلك حتماً، ويؤول أمرك معه إلى المذلّة، وقد قال الشاعر:

إذا أوليت معروفاً لئيماً *** فعدّك قد قتلت له قتيلا

فعد من ذاك معتذراً إليه *** وقل إنّي أتيتك مستقيلا

فإن تغفر فمجترم عظيم *** وإن عاقبت لم تظلم فتيلا

وإن أوليت ذلك ذا وفاء *** فقد أودعته شكراً طويلا

4 ـ وصيّة المهلب لولده وأهله:

لمّا حضرت المهلب بن أبي صفرة الوفاة، قال لولده وأهله:

أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرحم، فإنّ تقوى الله تعقب الجنّة، وإنّ صلة الرحم تنسئ(43) الأجل، وتثري المال، وتجمع الشمل، وتكثر العدد، وتعمّر الديار، وتعزّ الجانب. وأنهاكم عن معصية الله تعالى فإنّ معصية الله تعقب النار، وإنّ قطيعة الرحم تورث الذلّة والقلّة، وتقلّ العدد، وتفرّق الجمع، وتذر الديار بلا قع، وتذهب المال، وتطمع العدو، وتبدي العورة.

يا بني! قومكم قومكم إنّه ليس لكم فضل عليهم، بل هم أفضل منكم، إذ فضلّوكم، وسوّدوكم، أوطؤوا أعقابكم، وبلغوا حاجتكم فيما أردتم، وأعانوكم، فإن طلبوا فاطلبوهم، وإن سألوا فاعطوهم، وإن لم يسلموا فابتدؤهم، وإن شتموا فاحتملوهم، وإن غشوا أبوابكم فلتفتح لهم، ولا تغلق دونهم.

يا بني! إنّي أحبّ للرجل منكم أن يكون لفعله الفضل على لسانه، وأكره للرجل منكم أن يكون للسانه الفضل على فعله.

يا بني! اتّقوا الجواب، وزلّة اللسان، فإنّي وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من زلّته، وينتعش منها سوياً، ويزلّ لسانه فيوبقه ويكون فيه هلكته.

يا بني! إذا غدا عليكم رجل وراح، فكفى بذلك مسألة وتذكرة بنفسه.

يا بني! ثيابكم على غيركم أجمل منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أجمل منها تحتكم.

يا بني! أحبّوا المعروف وانكروا المنكر واجتنبوه، وآثروا الجود على البخل، واصطنعوا العرب وأكرموهم، فإنّ العربي تَعده العِدّة فيموت دونك ويشكر لك، فكيف بالصنيعة إذا وصلت إليه في احتماله لها وشكره، والوفاء منه لصاحبها.

يا بني! سودوا أكابركم، واعرفوا فضل ذوي أسنانكم، وارحموا صغيركم وقرّبوه وألطفوه، واجبروا يتيمكم وعودوا عليه بما قدرتم، ثمّ خذوا على أيدي سفهائكم، وتعاهدوا فقراءكم وجيرانكم بما قدرتم عليه، واصبروا للحقوق ونوائب الدهور، واحذروا عار غد، وعليكم في الحرب بالأناة، والتوأدة في اللقاء، وعليكم بالتماس الخديعة في الحرب لعدوّكم، وإيّاكم والنزق والعجلة، فإنّ المكيدة والأناة والخديعة أنفع في الشجاعة والشدّة.

واعلموا أنّ القتال والمكيدة مع الصبر، فإذا كان اللقاء نزل القضاء المبرم، فإن ظفر المرء وقد أخذ بالحزم قال القائل: قد أتى الأمر من وجهه، وإن لم يظفر قال: ما ضيع ولا فرط، ولكن القضاء غالب.

يا بني! الزموا الحزم على أيّ الحالين وقع الأمر، وألزموا الطاعة والجماعة، وتواصلوا وتوازروا وتعاطفوا، فإنّ ذلك يثبت المودّة، وتحابّوا، وخذوا بما أوصيكم به بالجدّ، والقوّة، والقيام به، والتعهّد له، وترك الغفلة عنه، تظفروا بدنياكم ما كنتم فيها، وآخرتكم إذا صرتم إليها، ولا قوّة إلاّ بالله.

يا بني! وليكن أول ما تبدؤون به أنفسكم إذا أصبحتم، تعلّموا القرآن والسنن وأداء الفرائض، وتأدّبوا بأدب الصالحين من قبلكم من سلفكم، ولا تقاعدوا أهل الدعارة والريبة، ولا تخالطوهم، ولا يطمعنّ في ذلك منكم، وإيّاكم والخفّة في مجالسكم وكثرة الكلام، فإنّه لا يسلم منه صاحبه، وأدّوا حقّ الله تعالى عليكم، فإنّي قد أبلغت اليكم في وصيّتي، واتّخذت الله حجّةً عليكم.

 

5 ـ وصيّة العلاّمة الحلّي (قدس سره) لولده:

قال في القواعد:(44)

يا بني! أوصيك كما افترض الله تعالى عليّ من الوصيّة، وأمرني به حين إدراك المنيّة، بملازمة تقوى الله تعالى، فإنّها السنّة القائمة، والفريضة اللاّزمة، والجُنّة الواقية، والعدّة الباقية، وأنفع ما أعدّه الإنسان ليوم تشخص فيه الأبصار، ويعدم عنه الأنصار.

عليك باتّباع أوامر الله تعالى، وفعل ما يرضيه، واجتناب ما يكرهه، والانزجار عن نواهيه، وقطع زمانك في تحصيل الكمالات النفسانيّة، وصرف أوقاتك في اقتناء الفضائل العلميّة، والارتقاء عن حضيض النقصاء إلى ذروة الكمال، والارتفاع إلى أوج العرفاء عن مهبط الجهّال، وبذل المعروف، ومساعدة الاخوان، ومقابلة المسيء بالاحسان، والمحسن بالامتنان.

وإيّاك ومصاحبة الأرذال، ومعاشرة الجهّال، فإنّها تفيد خلقاً ذميماً، وملكة رديّة، بل عليك بملازمة العلماء، ومجالسة الفضلاء، فإنّها تفيد استعداداً تامّاً لتحصيل الكمالات، وتثمر لك ملكة راسخة لاستنباط المجهولات، وليكن يومك خيراً من أمسك، وعليك بالتوكل، والصبر، والرضا، وحاسب نفسك في كلّ يوم وليلة، وأكثر من الاستغفار لربّك، واتّق دعاء المظلوم، خصوصاً اليتامى والعجائز، فإنّ الله تعالى لا يسامح بكسر كسير.

وعليك بصلاة الليل، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حثّ عليها، وندب إليها، وقال: «من ختم له بقيام الليل ثمّ مات فله الجنّة»(45). وعليك بصلة الرحم، فإنّها تزيد في العمر، وعليك بحسن الخلق، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم»(46). وعليك بصلة الذريّة العلويّة، فإنّ الله تعالى قد أكّد الوصيّة فيهم، وجعل مودّتهم أجر الرسالة والارشاد، فقال تعالى: (قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى : 23].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إني شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريّتي، ورجل بذل ماله لذريّتي عند الضيق، ورجل أحبّ ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعى في حوائج ذريّتي إذا طرّدوا وشرّدوا»(47).

وقال الصادق (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أيّها الخلائق انصتوا فإنّ محمّداً يكلّمكم، فينصت الخلائق، فيقوم النبي (صلى الله عليه وآله) فيقول: يا معشر الخلائق من كانت له عندي يد أو منّة أو معروف فليقم حتّى أُكافيه، فيقولون: بآبائنا، وأُمّهاتنا، وأيّ يد، وأيّ منّة، وأيّ معروف لنا؟! بل اليد والمنّة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق. فيقول: بلى، من آوى أحداً من أهل بيتي، أو برّهم، أو كساهم من عرى، أو أشبع جائعهم، فليقم حتّى أُكافيه. فيقوم أُناس قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله: يا محمّد يا حبيبي! قد جعلت مكافاتهم إليك، فأسكنهم من الجنّة حيث شئت، فيسكنهم في الوسيلة، بحيث لا يحجبون عن محمّد وأهل بيته صلوات الله عليهم»(48).

وعليك بتعظيم الفقهاء، وتكريم العلماء، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من أكرم فقيهاً مسلماً لقى الله تعالى يوم القيامة وهو عنه راض، ومن أهان فقيهاً مسلماً لقى الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان»(49). وجعل النظر إلى وجه العلماء عبادة، والنظر إلى باب العالم عبادة، ومجالسة العلماء عبادة.

وعليك بكثرة الاجتهاد في ازدياد العلم، والفقه في الدين، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لولده: «تفقّه في الدين، فإنّ الفقهاء ورثة الأنبياء، وإنّ طالب العلم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتّى الطير في جوّ السماء، والحوت في البحر، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به»(50).

وإياك وكتمان العلم ومنعه عن المستحقّين لبذله، فإنّ الله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِمَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ الْلاَّعِنُونَ)[البقره : 159].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا ظهرت البدع في أُمّتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»(51). وقال (صلى الله عليه وآله): «لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»(52).

 

6 ـ وصيّة أوس بن حارثة:

روى ابن الكلبي قال: لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس، وكان لأخيه الخزرج خمسة. قيل له: كنّا نأمرك بأن تتزوّج في شبابك فلم تفعل حتّى حضرك الموت ولا ولد لك إلاّ مالك، فقال: لم يهلك هالك ترك مثل مالك، وإن كان الخزرج ذا عدد، وليس لمالك ولد، فلعلّ الذي استخرج الغدق من الجريمة، والنار من الوثيمة، أن يجعل لمالك نسلا، ورجالا بسلا، وكلّنا إلى الموت.

يا مالك: المنيّة ولا الدنيّة، والعتاب قبل العقاب، والتجلّد لا التبلّد، واعلم أنّ القبر خير من الفقر، ومن لم يعط قاعداً حرم قائماً، وشرّ الشرب الاستفاف(53)، وشرّ الطعم الاعتفاف، وذهاب البصر خير من كثير من النظر، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم، ومن قلّ ذلّ، وخير الغنى القناعة، وشرّ الفقر الخضوع.

الدهر صرفان: صرف رخاء، وصرف بلاء، واليوم يومان: يوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر، وكيف بالسلامة لمن ليس له إقامة، وحيّاك ربّك(54).

 

7 ـ وصيّة الحارث بن كعب بنيه:

وأوصى الحارث بن كعب بنيه فقال:

يا بني! قد أتت عليَّ مائة وستون سنة ما صافَحَتْ يميني يمين غادر، ولا قَنَعْتُ لنفسي بخلّة فاجر، ولا صَبَوتُ بابنة عمّ، ولا بُحْتُ لصديق بسرّ، ولا طَرَحْتُ عن مومسة قناعاً، ولا بقي على دين عيسى بن مريم ـ وقد روي على دين شعيب ـ من العرب غيري، وغير تميم بن مرّة، وأسد بن خزيمة، فموتوا على شريعتي، واحفظوا وصيّتي، وإلهكم فاتّقوا يكفكم ما أهمّكم، ويصلح لكم حالكم، وإياكم ومعصيته فيحلّ بكم الدمار، ويوحش منكم الديار.

كونوا جميعاً ولا تفرّقوا فتكونوا شيعاً، وبزوا قبل أن تبزوا، فموت في عزّ خير من حياة في ذلّ وعجز، وكلّ ما هو كائن كائن، وكلّ جمع إلى تباين، والدهر صرفان: صرف بلاء، وصرف رخاء، واليوم يومان: يوم خبرة، ويوم عبرة، والناس رجلان: رجل لك، ورجل عليك، زوّجوا النساء الاكفاء، وإلاّ فانتظروا بهنّ القضاء، وليكن أطيب طيبهنّ الماء، وإياكم والورهاء، فإنها أدوأ الداء، وإنّ ولدها إلى أفن يكون.

لا راحة لقاطع القرابة، وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوّهم، وآفة العدوّ اختلاف الكلمة، والتفضّل بالحسنة يقي السيّئة، والمكافاة بالسيّئة دخول فيها، وعمل السوء يزيل النعماء، وقطيعة الرحم تورث الهمّ، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق الوالدين يعقب النكد، ويخرب البلد، ويمحق العدد، والاسراف في النصحة هو الفضيحة، والحقد يمنع الرفد، ولزوم الخطيئة يعقب البليّة، وسوء الدعة يقطع أسباب المنفعة، والضغائن تدعو إلى التباين.

يا بني! إنّي قد أكلت مع أقوام وشربت، فذهبوا وغبرت، وكأنّي بهم قد لحقت، ثمّ قال:

أكلت شبابي فأفنيته *** وأبليت بعد دهور دهورا

ثلاثة أهلين صاحبتهم *** فبادوا وأصبحت شيخاً كبيرا

قليل الطعام عسير القيام *** قد ترك الدهر خطوي قصيرا

أبيت أرعي نجوم السماء *** أقلب أمري بطونا ظهورا(55)

 

8 ـ وصيّة أكثم بن صيفي:

وَصّى أكثم بن صيفي بنيه ورهطه فقال: يا بني تميم! لا يفوتنّكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي، إنّ بين حيزومي وصدري لكلاماً لا أجد له مواقع إلاّ أسماعكم، ولا مقاراً إلاّ قلوبكم، فتلقوه بأسماع مصغية، وقلوب واعية، تحمدوا مغبته.

الهوى يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول، والنفس مهملة، والروية مقيدة من جهة التواني، وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشداً، والمستبدّ برأيه موقوف على مداحض الزلل، ومن سمع سمع به، ومصارع الرجال تحت بروق الطمع.

ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلاّ في مقاتل الكرام، وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه، ويشغل فكره، ويورث غيظه، ولا تجاوز مضرّته نفسه.

يا بني تميم! الصبر على جرع الحلم أعذب من جَنى ثمر الندامة، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للندم، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الغم، فإذا نجمت مزجت، فهي أسد محرب، أو نار تلهب، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب(56).

 

9 ـ وصيّة يزيد بن المهلب:

وأوصى يزيد بن المهلب إبنه مخلداً حين استخلفه على جرجان فقال له:

يا بني! قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحيّ من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر:

إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم *** فرش واصطنع عند الذين بهم ترمي

وانظر هذا الحيّ من ربيعة، فإنهم شيعتك وأنصارك، فاقض حقوقهم، وانظر هذا الحيّ من تميم، فأمطرهم ولا تزه لهم، ولا تدنهم فيطمعوا، ولا تقصهم فيقطعوا، وانظر هذا الحيّ من قيس، فإنهم أكفّاء قومك في الجاهلية، ومناصفوهم المنابر في الإسلام، ورضاهم منك البشر.

يا بني! إنّ لأبيك صنائع فلا تفسدها، فإنه كفى بالمرء نقصاناً أن يهدم ما بنى أبوه. وإياك والدماء، فإنه تقيّة معها. وإياك وشتم الأعراض فإنّ الحرّ لا يرضيه عن عرضه عوض. وإياك وضرب الأبشار فإنه عار باق، ووتر مطلوب، واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلاّ عن عجز أو خيانة.

ولا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه، فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها، وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر، احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم، وإذا كتبت كتاباً فاكثر النظر فيه، وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عنّي وعنك، فإنّ كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع سرّه، واستودعك الله فلابدّ للمودّع أن يسكت، وللمشيّع أن يرجع، وما عفّ من المنطق وقلّ من الخطيئة أحبّ إلى أبيك(57).

 

10 ـ وصيّة قيس بن عاصم:

وأوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه، فقال:

يا بني! خذوا عنّي فلا أحد أصلح لكم منّي إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم فسوّدوا(58) أكبركم، فإنّ القوم اذا سوّدوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا سوّدوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم.

وإياكم ومعصية الله، وقطيعة الرحم.

وتمسّكوا بطاعة أُمرائكم، فإنّهم من رفعوا ارتفع، ومن وضعوا اتّضع.

وعليكم بهذا المال فاصلحوه فإنه منبهة للكريم، وجنّة لعرض اللئيم. وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل، وإنّ أحداً لم يسأل إلاّ ترك الكسب.

وخذوا عنّي ثلاث خصال: إياكم وكلّ عرق لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غداً. واكظموا الغيظ، واحذروا بني أعداءكم فإنهم على منهاج آبائهم. ثمّ قال:

أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا *** فلن تبيد وللآباء أبناء(59)

 

11 ـ وصيّة عمرو بن كلثوم الثعلبي:

وأوصى عمرو بن كلثوم الثعلبي بنيه، فقال:

يا بني! إنّي قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي وأجدادي، ولابدّ من أمر مقتبل، وأن ينزل بي ما نزل بالآباء والأجداد والأُمّهات والأولاد، فاحفظوا عنّي ما أوصيكم به، إني والله ما عيّرت رجلا قط أمراً إلاّ عُيّر بي مثله إن حقاً فحقاً وإن باطلا فباطلا. ومن سبّ سُبَّ، فكفّوا عن الشتم فإنّه أسلم لأعراضكم.

وصلوا أرحامكم تعمر داركم، وأكرموا جاركم يحسن ثناؤكم، وزوّجوا بنات العمّ فإنْ تعدّيتم بهنّ إلى الغرباء فلا تألوا بهنّ الأكفّاء، وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فإنه أغضّ للبصر، وأعفّ للذكر، ومتى كانت المعاينة واللقاء ففي ذلك داء من الأدواء، ولا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه، وقلّ من انتهك حرمة لغيره إلاّ انتهكت حرمته.

وامنعوا القريب من ظلم الغريب، فإنك تذلّ على قريبك، ولا يحلّ بك ذلّ غريبك، وإذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقّكم للقاء، فربّ رجل خير من ألف، وودّ خير من خلف، وإذا حُدِّثتم فعوا، وإذا حَدَّثتم فأوجزوا، فإنّ مع الاكثار يكون الاهذار، وموت عاجل خير من ضنى آجل، وما بكيت من زمان إلاّ دهاني بعده زمان، وربما شجاني من لم يكن أمره عناني، وما عجبت من أُحدوثة إلاّ رأيت بعدها أُعجوبة.

واعلموا أنّ أشجع القوم العطوف، وخير الموت تحت ظلال السيوف، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب، ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شرّه، فبكوؤه خير من درّه، وعقوقه خير من برّه، ولا تبرحوا في حبّكم فإنه من أبرح في حبٍّ آل ذلك إلى قبيح بغض، وكم زارني إنسان وزرته فانقلب الدهر بنا فبرته.

واعلموا أنّ الحكيم سليم، وأنّ السيف كليم، إنّي لم أمت ولكن هرمت، ودخلتني ذلّة فسكتّ، وضعف قلبي فاهترت، سلّمكم ربّكم وحيّاكم(60).

 

12 ـ وصيّة ابن سعيد المغربي لابنه وقد أراد السفر:

أودعك الرحمن في غربتك *** مرتقباً رحماه في أوبتك

فلا تطل حبل النوى إنّني *** والله أشتاق إلى طلعتك

واختصر التوديع أخذاً فما *** لي ناظر يقوى على فرقتك

واجعل وصاتي نصب عين ولا *** تبرح مدى الأيام من فكرتك

خلاصة العمر التي حنكت *** في ساعة زفت إلى فطنتك

فللتجاريب أُمور اذا *** طالعتها تشحذ من غفلتك

فلا تنم عن وعيها ساعة *** فإنها عون إلى يقظتك

وكل ما كابدته في النوى *** إياك أن يكسر من همّتك

فليس يدري أصل ذي غربة *** وإنما تعرف من شيمتك

وامش الهوينا مظهراً عفّة *** وابغ رضا الأعين عن هيئتك

وانطق بحيث الغي مستقبح *** واصمت بحيث الخير في سكتتك

ولج على رزقك من بابه *** واقصد له ما عشت في بكرتك

ووفّ كلا حقّه ولتكن *** تكسر عند الفخر من حدّتك

وحيثما خيمت فاقصد الى *** صحبة من ترجوه في نصرتك

وللرزايا وثبة ما لها *** إلاّ الذي تذخر من عدّتك

ولا تقل أسلم لي وحدتي *** فقد تقاسي الذلّ في وحدتك

ولتجعل العقل محكاً وخذ *** كلاًّ بما يظهر في نقدتك

واعتبر الناس بألفاظهم *** واصحب أخاً يرغب في صحبتك

كم من صديق مظهر نصحه *** وفكره وقف على عثرتك

إياك أن تقربه إنه *** عون مع الدهر على كربتك

وانمُ نموّ النبت قد زاره *** غبّ الندى واسم إلى قدرتك

ولا تضيّع زمناً ممكناً *** تذكاره يذكي لظى حسرتك

والشرّ مهما إسطعت لا تأته *** فإنه جور على مهجتك

يا بني الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله، قد قدمت لك في هذا النظم ما أن أخطرته بخاطرك في كلّ أوان، رجوت لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى، وإن أخف منه للحفظ، وأعلق بالفكر، وأحقّ بالتقدّم قول الأوّل:

يزين الغريب إذا ما اغترب *** ثلاث فمنهنّ حسن الأدب

وثانية حسن أخلاقه *** وثالثة اجتناب الريب

واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر، وسُلَّمُ الكرم والصبر.

ولو أنّ أوطان الديار نبت بكم *** لسكنتم الأخلاق والآدابا

إذ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل.

ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب: وكان كلّما طرأ على ملك فكأنه معه ولد، وإليه قصد، غير مستريب بدهره، ولا منكر شيئاً من أمره، وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلّف له سلَّماً، وهبّ في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحل بطرفه حلول الوسن، وانزل بقلبه نزول المسرّة، حتّى يتمكّن لك وداده، ويخلص فيك اعتقاده، وطهّر من الوقوع فيه لسانك، وأغلق سمعك، ولا ترخص في جانبه لحسود لك يريد إبعادك عنه لمنفعة، أو حسود له يغار لتجمّله بصحبتك، ومع هذا فلا تغترّ بطول صحبته، ولا تتمهّد بدوام رقده فقد ينبِّهه الزمان، ويتغيّر منه القلب واللسان، وإنما العاقل من جعل عقله معياراً وكان كالمرآة يلقى كلّ وجه يماثله.

وفي أمثال العامة: من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل، فاحتذّ بأمثلة من جرّب، واستمع إلى ما خلّد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال فإنّها خلاصة عمرهم، وزبدة تجاربهم، ولا تتّكل على عقلك فإنّ النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم، وابتاعوه غالياً بتجاربهم، يربحك ويقع عليك رخيصاً.

وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة، فاستفد منه ولا تضيع قوله وفعله، فأنّ فيما تلقاه تلقيحاً لعقلك وحثاً لك واهتداء، وليس كلّ ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتّى تتدبّره، فإن كان موافقاً لعقلك، مصلحاً لحالك، فراع ذلك عندك، وإلاّ فانبذه نبذ النواة، فليس لكلّ أحد يُتَبسّم، ولا كلُّ شخص يُكلَّم، ولا الجود ممّا يعمّ به، ولا حسن الظنّ وطيب النفس ممّا يعامل به كلّ أحد، ولله درّ القائل:

وما لي لا أوفي البرية قسطها *** على قدر ما يعطى وعقلي ميزان

وإياك أن تعطي من نفسك إلاّ بقدر، فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء، ولا الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع، ويثيبك على مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة، ولا تجف الناس بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل، ولا ضجر، ولا جفاء، فمتى فارقت أحداً فعلى حسن في القول والفعل، فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه فلذلك قال الأول: (ولما مضى سِلمٌ بكيت على سِلمِ) وإياك والبيت السائر:

وكنت إذا حللت بدار قوم *** رحلت بخزية وتركت عاراً

واحرص على جمع قول القائل: ثلاثة تبقي لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه. واحذر كلّ ما بيّنه لك القائل: كلّ ما تغرسه تجنيه إلاّ ابن آدم فإذا غرسته يقلعك. وقول الآخر: إبن آدم ذئب مع الضعف، أسد مع القوّة.

وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره.

ويُحكى أنّ ابن المقفّع خطب من الخليل صحبته فجاوبه أنّ الصحبة رقّ، ولا أضع رقّي في يديك حتّى أعرف كيف ملكتك.

واستملّ من عين من تعاشره، وتفقّد في فلتات الألسن، وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عمّا يضرّك أن لا تبيّنه، فإنّ الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح. واجعل لكلّ أمر أخذت فيه غاية يجعلها نهاية لك.

وخُذ من الدهر ما أتاك به *** من قرّ عيناً بعيشه نفعه

إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب، يستريب به الصاحب، ويشمت العدوّ والمجانب، ولا تضرّ بالوساوس إلاّ نفسك، لأنّك تنصر بها الدهر عليك، ولله درّ القائل:

إذا ما كنت للأحزان عوناً *** عليك مع الزمان فمن تلوم

مع أنّه لا يرد عليك الغائب الحزن، ولا يرعوي بطول عتبك الزمن.

ولقد شاهدت بغرناطة شخصاً قد ألفته الهموم، وعشقته الغموم، ومن صغره إلى كبره لا تراه أبداً خلياً من فكرة حتّى لقّب بـ «صدر الهمّ»، ومن أعجب ما رأيته منه أنّه يتنكّد في الشدّة ولا يتعلّل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكّد في الرخاء خوفاً من أن لا يدوم وينشد: «توقّع زوالا إذا قيل تم» وينشد: «وعند التناهي يقصر المتطاول».

وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، ومثل هذا عمره محسور يمرّ ضياعاً.

ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمّون من العلم ما تحسنه حسداً لك وقصداً لتصغير قدرك عندك، وتزهيداً لك فيه فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة، فرام أن يتعلّمه فصعب عليه، ثمّ أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه، فبقي مختلَّ المشي كما قيل:

إنّ الغراب وكان يمشي مشية *** فيما مضى من سالف الأجيال

حسد القطا وأراد يمشي مشيها *** فأصابه ضرب من العقّال

فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها *** فلذاك كنّوه أبا مرقال

ولا يفسد خاطرك من جعل يذمّ الزمان وأهله، ويقول: ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل، ولا مكان يرتاح فيه، فإنّ الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممّن صحبه الحرمان، واستحقّت طلعته للهوان، وأبرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأُمور من وجوهها، فاستراحوا إلى الوقوع في الناس، وأقاموا الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم، ولا تزل هذين البيتين من فكرك:

لن إذا ما نلت عزاً *** فأخو العزّ يلين

فإذا نابك دهر *** فكما كنت تكون

والأمثال تضرب لذي اللّب الحكيم، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم، والفطن يقنع بالقليل، ويستدلّ باليسير، والله سبحانه خليفتي عليك، لا ربّ سواه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) روضة الواعظين : 482; عنه البحار 103 : 194 ح3; والوسائل 13 : 352 ح7.

(2) روضة الواعظين : 482; عنه البحار 103 : 194 ح5.

(3) روضة الواعظين : 482; والوسائل 13 : 352 ح8.

(4) البحار 77 : 86 ح2.

(5) أمالي الطوسي : 508 مجلس 18 ح18; عنه البحار 75 : 107 ح8.

(6) كنز الكراجكي : 184; عنه البحار 77 : 171 ضمن حديث 7.

(7) الترغيب والترهيب 3: 359 ح30.

(8) قتار قدرك: هو ريح القدر والشواء ونحوهما / لسان العرب.

(9) كنز العمال 9 : 185 ح2513; ونحوه البحار 82 : 93 ح46.

(10) الترغيب والترهيب 3: 532 ح29.

(11) الخصال : 364 ح 57 باب السبعة; عنه الوسائل 11 : 261 ح 34.

(12) تحف العقول : 19; عنه البحار 77 : 126 ح 33 ملخصاً، واحياء العلوم 2: 330.

(13) معاني الأخبار : 232; والخصال : 114 ح93 باب الثلاثة; وأمالي الصدوق : 12 ح4 مجلس 1; عنها البحار 77 : 110 ح1.

(14) أي المجلّد السابع والسبعون من الطبعة الحديثة.

(15) تنصّل فلان من ذنبه أي تبرّأ.

(16) البحار 77 : 46-49; عن مكارم الأخلاق : 433 ملخصاً.

(17) زور: بمعنى زائر بالفتح.

(18) البحار 77 : 61-64; عن تحف العقول : 6 ملخصاً.

(19) البحار 77 : 49و55; عن مكارم الأخلاق : 433.

(20) البحار 77 : 61 ح 4; عن تحف العقول : 6.

(21) الشرك ـ محركة ـ : حبالة الصيد.

(22) البحار 77 : 73 ح3; عن مكارم الأخلاق : 458 ملخصاً.

(23) الهزل: قلّة اللحم والشحم.

(24) الحواري: الدقيق الأبيض.

(25) أي استدفائي.

(26) البحار 77 : 92 ح1; عن مكارم الأخلاق : 446.

(27) زوي: أي قبض ونحي عنكم.

(28) نهج البلاغة : كتاب 47; عنه البحار 42 : 256 ح57 ملخصاً.

(29) نهج البلاغة : قصار الحكم 38; عنه البحار 74 : 198 ح35.

(30) تحف العقول : 58; عنه البحار 77 : 236 ح1.

(31) تحف العقول : 221; عنه البحار 78 : 279 ح1.

(32) مشكاة الأنوار : 325 و البحار 1 : 224 ح 17.

(33) الكافي 1 : 13 ح12 كتاب العقل والجهل.

(34) الأرب ـ بفتحتين ـ : الحاجة.

(35) تحف العقول : 291; عنه البحار 78 : 304 ضمن ح1.

(36) قد سبق لنا بحث عن لقمان في الجزء الثاني من كتابنا «الجواهر الروحية».

(37) مَجداف السفينة: في رأسها لوح عريض تُدفع بها، مشتقّ من جَدَف الطائر.

(38) الاختصاص : 336 ملخصاً.

(39) العقد الفريد 1 : 23.

(40) النَّثُّ: نشر الحديث.

(41) الجبس: الجبان الفَدْمُ، وقيل: الضعيف اللئيم، وقيل: الثقيل الذي لا يجيب إلى خير، والجمع أجباس وجُبُوس.

(42) الخدين: هو الصديق الحميم ...

(43) نَسَأَ الشيء يَنْسَؤُه نَسْأً وأنْسَأَه: أخّره.

(44) قواعد الأحكام : 346.

(45) التهذيب 2 : 122 ح233; والوسائل 5 : 274 ح24.

(46) البحار 71 : 383 ح19.

(47) الكافي 4 : 60 ح9; عنه الوسائل 11 : 556 ح2.

(48) من لا يحضره الفقيه 2 : 65 ح1727; والوسائل 11 : 556 ح3.

(49) البحار 2 : 44 ح13.

(50) من لا يحضره الفقيه 4 : 387 ح5834.

(51) البحار 108 : 15.

(52) البحار 2 : 78 ح69.

(53) سَفِفْتُ الماءَ أسَفُّه سَفَّاً: أكثرت منه وأنت في ذلك لا تروى.

(54) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 118 باب53.

(55) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 119 باب53.

(56) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 120 باب53، (هو أحد حكماء العرب، قال ابن أبي الحديد: أكثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم، كان أكثر أهل الجاهلية حكماً ومثلا وموعظة سائرة).

(57) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 121 باب53.

(58) سودّوا: اجعلوه رئيسكم وسيدكم.

(59) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 122 باب53، (هو الذي وفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال في حقه: هذا سيد أهل الوبر، فجعله سيد خندف وقيس ممن يسكن الوبر).

(60) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 123 باب53.