الفصل الثاني

الامام علي (عليه السلام) ووثيقة حقوق الانسان

 

 

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنَتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي، وَجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ، وَإِقْبَالِ الاْخِرَةِ إِلَيَّ، مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ، وَالاِْهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي، غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَّقَنِي(1) رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ، وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي، فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ، وَصِدْق لاَ يَشُوبُهُ كَذِبٌ.

وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يُعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي، مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ».

لقد سبق لنا أن قلنا: إنّ هذه الوصيّة هي من أفصح الكلام وأبلغه، وأجمعه لدقائق الحكمة العملية ولطائفها، وأكمل رسالة لتوجيه الفكر الحديث، والتعليم الأُممي، وأنّها تمكّن للناس في القربى، لا قربى النسب بل قربى الثقافة، والعلم، والأدب، وهي أبهج وأجمع قربى، ولأنّ في هذا تثقيفاً وتأليفاً ينتفع به الشرف الإنساني، لما يحمل من كنوز القرائح، ومُثل الحياة العليا، ومن مسرّة النفس، ولذّة العقل.

* * *

إدبار الدنيا واقبال الآخرة:

قوله (عليه السلام): «فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنَتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي، وَجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ، وَإِقْبَالِ الاْخِرَةِ إِلَيَّ، مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ، وَالاِْهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي».

يريد (عليه السلام) من الادبار تدرّج العمر في المضي، وأزوفه إلى الانصرام والفناء شأن كلّ متمتّع بالحياة.

وإقبال الآخرة هنا مرادف لما فسّرنا به إدبار الدنيا، فإنّ الإنسان كلّما بعد من مبدء السير، قرب إلى منتهاه.

وأما (جموح الدهر) فهو لعدم ملائمته للنوايا الصالحة، ولمعاكسة الزمان إياه، وتأخر أهله عن إنجاح مقاصده الإلهية التي لا ينفك عنها مثل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو سلام الله عليه يريد تزهيد الناس عن التولّع في الدنيا وحبّها لجهتين، أولاهما: أنّها منصرمة لا محالة، والثانية: أنّها عريّة عن إنالة أبنائها مقاصدهم المطلوبة، قصيّة عن رغباتهم. وكلّ من هاتين يحقّ معها الاعراض عنها، فكلّ منصرم عقيم الانتاج، وكلّ ما لا يجدي صاحبه نفعاً حريّ بالنكوص عنه.

وإنما وصفه (عليه السلام) من الدارين المقبلة والمدبرة هو الذي يحقّ معه عدم الاهتمام بغير النفس، وتدرّجها في الكمال، فإنّ للإنسان بذلك وازعاً عن غيره، فلا يضرّه من ظلّ إذا اهتدى، ولا ينهكه إذا صلح في هديه من انحرف عن الهدى، وهذا لا ينافي وجوب النهي عن المنكر، فإنّ الغاية هاهنا أن لا يسترسل هو مع رغبات الضالين، ولا يهملج في شهواتهم. وأما باب النهي عن المنكر فهو أن يردّهم عن متابعة الهوى، وأن ينقم ما سلكوه من المسالك الوعرة.

 

همّ النَفس يُشغِل عن هموم الناس:

وقوله (عليه السلام): «غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَّقَنِي رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ».

إنّما تفرّد (عليه السلام) بهمّ نفسه لأنّه أعزّ الأنفس وأشرفها، وأعودها للأُمّة بمنافع ومنجيات، على أنّ فيه تعليماً للملأ الديني، بأن كيف تكون حالهم في تهذيب النفس وتربيتها، وإنمائها نموّاً صالحاً، وأن يكون لهم من أنفسهم وما يشوبها من أكدار ومعائب شاغل عن غيرهم، وعن التجسّس عن عيوب الناس والوقيعة فيهم.

هاهنا أصحر سلام الله عليه بنتيجة ما جاء به من سلوك، بأنّها مصدّقة من قبل الحقيقة الراهنة، الموصولة بالحقّ المبين، محبّذة بما هنالك من مبادئ قدسيّة التي وعاؤها قلب الإمام (عليه السلام)، ومصدرها عقله الفيّاض، وهو الذي صرفه عن الهوى لحضوتِهِ بالعصمة اللاّزمة لكلّ مُتَسَنِّم مثل مقامه من الامامة.

وهو سلام الله عليه لا يكلّف الناس بكلمته هذه أن يكونوا معصومين كمثله، فإنّ ذلك مستحيل على العاديين من الناس، وإنّما يحبّذ (عليه السلام) أن يقتصّوا أثره حسب القدرة والاستطاعة، لذا قال في مورد آخر: «أما إنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد»(2).

وفي ذلك إيعاز إلى أنّ السير الحثيث وراء أيّ حقيقة ملازم للتوصّل اليها كما توصّل هو سلام الله عليه فصدّقه رأيه، وصرفه عن الهوى، وصرّح له محض أمره، بعيداً عن الشوائب والأكدار، فهو (عليه السلام) يرغب في أن تكون شيعته، مقتصّة أثره فيما بينّاه من السير والتوصّل، ويرغّبهم في ذلك بكلمته الذهبية، وبيانه الشافي.

وهو أصدق من أصحر بحقيقة حيث يعرف نفسه الكريمة، بأنّ تفكيره فيما أفضى به إلى جدّ لا يكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب، فإلى اقتصاص أثره يا مؤمّلي النجاة به وبهديه وهداه يا شيعته جميعاً.

* * *

الحنان الأبوي:

قوله (عليه السلام): «وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يُعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي، مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ».

هذا حنان أبوي لبيان تمحيص النصح، وإسداء أقصى ما يسع أيّ ابن أُنثى أن يسديه من محض الخير، والإمام في طليعة من يفيض البر، ويحثّ على المعروف، وهو سلام الله عليه ليست حياته حياة دمويّة، ولا كيانه كياناً مادّياً، حتّى تثيره لإرشاد ولده المحبوب عاطفة طبيعية، أو حبّ بشري، ولكن له وجود مكيّف بالفيض الأقدس، وحياة مزيجها المواهب الإلهية، فليس فيما ينيله إلاّ الخير محضاً، ولكن كلّما كملت قابليّة القابل عظم النصح المبذول.

وفي المقام لا قصور في الفاعل والقابل، فلا قصور في مدى كلٍّ منهما، غير أنّه سلام الله عليه استعمل هذا النوع من الخطاب جرياً على ما هو المطرد في العادة، من أنّ الإنسان لا يدّخر برّه عمّن هو أقرب الناس إليه من قربى وولده. وهو بخطاب ابنه العزيز يرمي إلى المجتمع الديني كلّه من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة»، فعلى كلّ فرد أن يأخذ منه منيته من المقدرة، وقسطه من المعرفة.

أجل هكذا كان الإمام (عليه السلام) يتّجه إلى الناس بحكمه، وأمثاله، ونصائحه الرائعة التي لا تجد لها أشباهاً إلاّ في حكم النبي وأمثاله ونصائحه.

حكم تتبلور فيها طبائع الصديق والعدوّ، والمحسن والمسيء، والأحمق والعاقل، والبخيل والكريم، والصادق والمنافق، والظالم والمظلوم، والمعوز والمتخم، وصاحب الحق، وصاحب الباطل، ومفهوم الخلق السليم والخلق السقيم، وشؤون الجاهل والعالم، والناطق والصامت، والأرعن والحليم، وصفات الطامع والقانع، وأحوال العسر واليسر، وتقلّبات الزمان وما لها من أثر في أخلاق الرجال، وما إلى ذلك من أُمور لا تحصى في فصل أو باب، وكلّها مركّزة على الواقع، يدركها العقل الصحيح، فيأخذ منها قواعد لا تتأثر بظرف، ولا تتعلّق بزمان.

كان (عليه السلام) يحرّك في الأفراد عواطف الخير، ويوقظ فيهم ما غشته الأيام من الضمائر السليمة، ويعمل على إنمائها وينصح برعايتها.

كان يتوجّه إلى الضمائر بتوصياته، وخطبه، وعهوده، وأقواله جميعاً; لأنّه لم يفته أنّ لتهذيب الخُلُق شأناً في رعاية النظم العادلة، وفي بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس. وقد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها الى أعماق الناس أفراداً وجماعات، فيدرك ميولهم وأهواءهم، ويعرف طباعهم وأخلاقهم، فيزن خيرها وشرّها، ثمّ يصوّر ويطوّر، ويأمر وينهى، على ضوء ثقته الهائلة بالضمير الإنساني الذي يتوجّه إليه.

كانت ثقته بالضمير الإنسان ثقة العظماء الذين تألف فيهم العقل النيّر، والقلب الزاخر بالدفء الإنساني، النابض بالحبّ العميق الذي لا يعرف حدوداً.

كانت ثقته بهذا الضمير ثقة المسيح، ومحمّد، وسقراط، وسائر العظماء الذين مدّهم القلب بنور يخبو لديه كلّ نور، وعلى أساس هذه الثقة أرسى (عليه السلام) حكمه وأمثاله، وعلى أساسها تترابط ا لأفكار والتوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس.

إنّ وصايا الإمام التي توجّه بها نحو الضمير الفردي والجماعي تعتبر بمنزلة وصايا الأنبياء بما تحمل من عمق الفهم، وحرارة العاطفة وسموّ الغاية، هذه الوصايا التي أرادها (عليه السلام) حصناً منيعاً للأخلاق العامة، والعطف الإنساني، وتركيز العمل النافع على أُسس من الايجابية في العقل والضمير.

وإنّ من أروع ما وضعه نحو المصلحة العامة، وحريّة الفرد وحقوق الإنسان دستوره لمالك الأشتر (قدس سره)، وهو من جلائل وصاياه، وأجمعها لقوانين المعاملات المدنيّة، والحقوق العامة، والتصرّفات الخاصّة.

فليخفّف الغرب من إعجابه في «شرعة حقوق الإنسان» التي نشرته هيئة الأُمم المتّحدة في القرن العشرين، وملؤوا الدنيا عجيجاً فارغاً حول ما صنعوا وما يصنعون، وأكثروا من الدعاوة لأنفسهم على صورة ينفر منها الصدق والذوق جميعاً، وأزعجوا الإنسان بمظاهر غرورهم، وحمّلوه ألف منّة، وألف حمل ثقيل.

فقد فكّر فيها الإمام (عليه السلام) منذ أربعة عشر قرناً، وصاغها صريحة تعلن عن ذاتها جوهراً في كلّ حين، ونصّاً وجوهراً في أكثر الأحيان.

وإنّك لتجدها في آثاره متماسكة متفاعلة لا تترك فيما بينها منفذاً لما ينفضها في خطوطها العامّة، أو في جزئياتها الخاصّة.

وما شأن علي (عليه السلام) بذلك إلاّ شأن عظماء العصور الذين يوغلون في الحياة حتّى يكشفوا عن خطوطها الكبرى المتماسكة، فيعلنون عمّا اكتشفوه بصدق وبساطة وحرارة. فإذا بالذي يكشفونه، ويعلنون عنه يؤلّف قسمين اثنين: قسماً يتناول الأصول الكبرى فيبقى لكلّ زمان ومكان، كما تبقى القواعد العلميّة الثابتة، وقسماً يتناول التفاصيل والجزئيات فيتبدّل ويتغيّر مع الزمان والمكان.

 

مقارنة مع وثيقة حقوق الانسان:

وقد آن لنا الآن أن نثبت في هذا الفصل أهمّ ما جاء في الوثيقة الدوليّة لاعلان حقوق الإنسان، ليرى القارئ بنفسه إذا كان هنالك من فرق بين مذهب الإمام (عليه السلام)في الحقوق العامة وهذه الوثيقة، ثمّ يدرك أين يستقرّ هذا الفرق وما هي أسبابه.

أما نحن، فإذا جاز لنا أن نقول قولا موجزاً بهذا الصدد، فإنّا نشير إلى أنّه يصعب على المرء أن يجد اختلافاً بين مذهب الإمام والوثيقة الدوليّة هذه من حيث الروح، أمّا الفوارق في الفروع، ثمّ في الصيغ فمحتومة مع اختلاف الزمان.

أمّا الأُسس، فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتّحدة إلاّ وتجد له مثيلا في دستور الإمام علي (عليه السلام)، ثمّ تجد في دستوره ما يعلو و يزيد.

أمّا إذا كان هنالك من فرق صحيح فارق فهو إنّما يتعلّق بواضعي الوثيقتين، ويتلخّص في نظرنا بنقاط:

الفرق الأول: هو أنّ الوثيقة الدولية لاعلان حقوق الإنسان وضعها أُلوف من المفكّرين، ينتمون لمعظم دول الأرض أو لها جميعاً، والدستور العلوي وضعه عبقريّ واحد هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

والفرق الثاني: هو أنّ الإمام (عليه السلام) يسبق واضعي هذه الوثيقة ببضعة عشر قرناً.

والفرق الثالث: هو أنّ واضعي هذه الوثيقة، أو جامعي شروطها ـ والقول أصح ـ قد ملأوا الدنيا ـ كما ذكرنا ـ عجيجاً فارغاً حول ما صنعوا، وأكثروا من الدعاوة لأنفسهم على صورة ينفر منها الصدق والذوق جميعاً، وحمّلوا الإنسان ألف منّة. وفيما تواضع الإمام للناس وربّ العالمين فلم يستعل ولم يستكبر، بل رجا الله والناس في أن يغفروا له ما عمل وما لم يعمل.

أما الفرق الرابع والأهم: فهوأنّ معظم هذه الدول المتّحدة التي ساهمت في وضع وثيقة حقوق الإنسان واعترفت بها، هي التي تسلب الإنسان حقوقه، فينتشر جنودها في كلّ ميدان تمزيقاً لهذه الوثيقة وهدراً لهذه الحقوق فيما مزّق الإمام (عليه السلام)صور الاستبداد والاستئثار، حيث حطّت له قدم، وحيث سمع له قول، وحيث تلامع سيفه نور الشمس، وسوّى بها الأرض، ومشى عليها الأقدام، ثمّ قضى شهيدَ الدفاعِ عن حقوق الأفراد والجماعات بعد أن استشهد في حياته ألف مرّة.

 

نص الوثيقة:

وإلى القارئ الآن أجل ما في وثيقة الأُمم المتّحدة، نأخذها من كتاب «صوت العدالة الإنسانية» وأخذها هو من كتاب «تاريخ إعلان حقوق الإنسان» الذي وضعه الكاتب الفرنسي «البيرباييه» ونقله إلى العربية «محمّد مندور» ونشرته جامعة الدول العربية:

1 ـ يولد الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، مزوّدين بالعقل والضمير، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الأُخوّة.

2 ـ لكلّ إنسان أن يتمتّع بكافة الحقوق والحريّات الواردة في هذه الوثيقة، وذلك بدون أيّ تمييز، وخاصة ما كان بسبب الجنس واللون والذكورة أو الأُنوثة واللغة والدين، والرأي السياسي أو أيّ رأي خلافه، والأصل الوطني النازح منه الفرد، أو الأصل الاجتماعي وحالة الغنى والفقر والمركز العائلي، أو أي مركز خلافه.

3 ـ تمتدّ الحقوق الواردة في هذه الوثيقة إلى جميع سكّان الأراضي الموضوعة تحت الوصاية، والأراضي غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وذلك على قدم المساواة مع سكان البلاد ذات السيادة.

4 ـ لكلّ فرد الحقّ في الحياة، وفي الحرية، وفي أن يعيش آمناً مطمئناً.

5 ـ لا يجوز أن يعيش إنسان في الرقّ أو الاستعباد، والرقّ والنخاسة في كافة صورهما محظوران.

6 ـ لا يجوز أن يعذّب إنسان، أو أن توقع عليه عقوبات قاسية غير إنسانية، أو مزرية بالكرامة.

7 ـ لكلّ إنسان الحقّ في أن يعترف له في كلّ مكان بشخصيّته القانونية.

8 ـ الجميع متساوون أمام القانون، ولكلّ فرد ـ دون أيّ تمييز وعلى قدم المساواة ـ الحقّ في أن يحتمي به. وللجميع الحقّ في الحماية ضدّ كلّ تمييز يعتبر خروجاً على هذه الوثيقة، وضدّ كلّ تحريض على هذا التمييز.

9 ـ لكلّ إنسان الحقّ في الالتجاء الفعلي إلى القضاء الوطني المختصّ بالنظر في كلّ إعتداء على الحقوق الأساسية المعترف له بها في الدستور والقوانين.

10 ـ لا يجوز القبض على أحد، أو حبسه، أو نفيه باجراء تحكّمي.

11 ـ لا يجوز أن يتعرّض أحد لتدخّل تحكّمي في حياته الخاصّة، أو في أُسرته أو منزله أو مراسلاته، ولا أن يعتدى على شرفه وسمعته. لكلّ إنسان الحقّ في حماية القانون ضدّ مثل التدخّل وذلك الاعتداء.

14 ـ لكلّ فرد الحقّ في التنقّل بحريّة، وفي اختيار داخل الدولة. لكلّ إنسان الحقّ في أن يغادر أيّ بلد بما في ذلك بلده، وأن يعود إليه.

15 ـ لكلّ إنسان الحقّ أزاء الاضطهاد في أن يبحث عن ملجأ، وأن يستفيد من وجود هذا الملجأ في بلاد أُخرى.

16 ـ لكلّ فرد الحقّ في الملكية سواء بصفة فردية أو اجماعية. لا يجوز حرمان أحد من ممتلكاته باجراء تحكّمي.

17 ـ لكلّ إنسان الحقّ في حرية التفكير والاعتقاد والديانة.

18 ـ لكلّ شخص الحقّ في حرية الرأي والتعبير، بما يتضمّنه ذلك من الحقّ في أن لا يزعج بسبب آرائه.

19 ـ لكلّ إنسان الحقّ في أن يساهم في إدارة شؤون بلاده العامّة، وذلك سواء بصفة مباشرة أو بواسطة ممثّلين منتخبين انتخاباً حرّاً. لكلّ شخص الحقّ في تولّي الوظائف العامّة في بلده على أساس المساواة. إرادة الشعب هي مصدر السلطات العامّة.

20 ـ لكلّ إنسان الحقّ في الضمان الاجتماعي، بأن يحصل على الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية اللاّزمة لكرامته، ولتنمية شخصيّته تنمية طليقة، وذلك بفضل المجهود القومي، والتعاون الدولي.

21 ـ لكلّ شخص الحقّ في العمل والحريّة في اختياره بشروط عادلة مجرّبة، كما أنّ له الحق في الحماية من البطالة.

للجميع الحقّ دون أيّ تمييز، في الحصول على أجر متساو عن عمل متساو. لكلّ من يعمل الحقّ في أجر عادل مجز يضمن له ولأُسرته حياة تتّفق مع الكرامة البشريّة. ويكمّل عند الضرورة هذا الأجر بأيّة وسيلة من وسائل الحماية الاجتماعية.

22 ـ لكلّ فرد الحق في مستوى من الحياة يضمن له ولأُسرته الصحّة والرخاء، وبخاصّة فيما يتعلّق بالمأكل والملبس والمسكن والخدمات الصحيّة، والخدمات الاجتماعية الضرورية، كما أنّ له حقّ الضمان في حالة البطالة والعجز عن العمل، والترمّل والشيخوخة، وفي الحالات التي يعقد فيها وسائل كسب قوّته نتيجةً لظروف لا دخل لارادته فيها.

23 ـ لكلّ إنسان الحقّ في التعليم، ويجب أن يكون التعليم مجانياً. والتعليم الأوّلي إجباري.

يجب أن يهدف التعليم إلى تنمية الشخصية البشرية، وتقوية احترام حقوق الإنسان وحريّاته الأساسيّة، ومن الواجب أن يناصر الفهم المتبادل، والتسامح، والصداقة بين كافة الأُمم وكافة الجماعات، كما يعمل على تعزيز مجهودات الأُمم المتحدة للمحافظة على السلام.

24 ـ على الفرد واجبات نحو الهيئة الاجتماعية التي من الممكن أن تنمو فيها وحدها شخصيّته نموّاً كاملا.

25 ـ لا يخضع الفرد عند مزاولة حقوقه، والتمتّع بحريّاته إلاّ للقيود التي ينصّ عليها القانون لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحريّاتهم واحترامها، ثمّ لحماية مقتضيات الأخلاق الدقيقة والنظام العام، والرفاهيّة العامة في مجتمع ديموقراطي.

لا يمكن في أيّة حالة مزاولة هذه الحقوق والحريّات على نحو يتعارض مع أهداف ومبادئ الأُمم المتّحدة.

26 ـ لا يجوز أن يفسّر أيّ نصّ من نصوص هذه الوثيقة على أنّه يتضمّن بالنسبة لأيّة دولة، أو أيّة هيئة، أو أيّ فرد الحقّ في أن يزاول أيّ نشاط، أو أن يقوم بأيّ عمل يرمي إلى تحطيم الحقوق والحريّات الواردة فيها.

* * *

هذا أهمّ ما جاء في وثيقة الأُمم المتّحدة لاعلان حقوق الإنسان وحريّاته، هذه الحقوق والحريّات التي ما تزال دول الأُمم المتّحدة تحطّمها فيما تدّعي المحافظة عليها والعمل من أجلها.

وأظنّ أنّ القارئ سوف يدرك بالعاجل القريب ما بين مواد هذه الوثيقة، وبين دستور الإمام علي (عليه السلام) من علاقة وقرابة، إلاّ ما ارتبط منها بالزمان وتطوّراته. هذا بالاضافة إلى إطار من الحنان الإنساني العميق يحيط به الإمام (عليه السلام)دستوره في المجتمع، ولا تحيط الأُمم المتّحدة وثيقتها بمثله.

وهنالك وثيقة أُخرى نحو حقوق الإنسان الطبيعية، ونحو حمايته من الظلم والعبودية، ونحو تحريره من كلّ خوف، ومن كلّ سوط.

ولقد كان من الضروريّ النافع أن نبسط للقارئ هذه الوثيقة; لنجلو له عدم الفارق، ووحدة الموضوع بينها وبين ما وضعه الإمام علي (عليه السلام) منذ أربعة عشر قرناً.

هذه الوثيقة هي التي نظمت عقودها الحكومة الفرنسية وغلت وأسرفت في الغلوّ، فإذا الحبّة عندها قبّة، وتبجّحت وافتخرت بها على دول أوربا قاطبة.

ولو أنّها عرفت ونظرت أنّ الوثيقة التي صاغت شعاراتها ومبادئها، هي أصول موضّحة ومركّزة عند الإمام علي (عليه السلام) في «نهج البلاغة» بكثير وكثير من المتانة، لاندهشت وذهلت وانخفظ صوتها، حتّى لكأنّ الإمام عاش أيّامهم، وتطوّرات زمانهم، وأحوال مجتمعاتهم، وأدرك الكثير من تجاربهم واختباراتهم.

وإذا أنت تابعت سيرة الإمام علي (عليه السلام) بتفهّم وعمق، تجده لا يغفل عن صغيرة أو كبيرة ممّا يخصّ الحقوق الإنسانية. وإذا به ينبهك إلى ما يراه ولا تراه، لا جاهداً ولا متكلّفاً، وإذا أقواله وأعماله في هذا الباب واحدة لا تتناقض ولا تتعارض بل تنبع من معين واحد، كما تنبع المياه من الأرض، لا يتبدّل طعمها بين ليل ونهار ولا يختلف، فإذا اختلف فإنّما يختلف لفظاً وعبارةً لا جوهراً وأصلا.

وإذا أقواله وأعماله تدور جميعاً على محور واحد ذي قطبين:

أمّا القطب الأول (أو المصدر): فالشخصية الواحدة المتأجّجة بنار واحدة، الآخدة المعطية على صعيد واحد.

وأمّا القطب الثاني (أو الغاية): فخدمة الإنسان واحترام الحياة. وإذا توحّد المصدر، وتوحّدت الغاية جاءت الأفكار والنظريّات والأعمال واحدة وإن اختلفت ظروفها، وتباينت موضوعاتها. وهذا الذي ينبثق عنه في مختلف الأحوال والظروف، هو الذي يجعل لأقواله، وتعاليمه، وعهوده، قيمة الدستور المنظم، المبني على أُصول، والموجّه الى غايات.

أما الآن، فإلى الكلام عن وثيقة «حقوق الإنسان» المنبثقة عن جهود الإنسانية بكاملها، والتي وضعت الثورة صيغتها، ثمّ إلى الكلام عمّا كشف الإمام علي (عليه السلام) من أُصولها وأركانها.

أوّل ما نلفت إليه الأنظار هنا، هو أنّ فارق الزمان أمر حريّ بالاعتبار، وعلى هذا يجب أن ينظر في الأصول العميقة التي تجوز حدود الزمان والمكان، وتصطبغ بالصبغة الإنسانية العامة. أمّا ما يتعلّق بالزمان والمكان فليس بذي شأن كثير في موضوع هذه المقابلة إذا التقى الوجهان المقابلان على صعيد الإنسانية العام.

ونعطيك على هذا مثالا عاجلا: فالذي يقول لك اليوم: «لا تذهب إلى تلك المدينة إلاّ راكباً سيارة» كالذي قال لك من ألف سنة: «لا تذهب إلى تلك القرية إلاّ راكباً جملا»; فالعام المتعلّق بجوهر هذا الطلب هو «الركوب لا المشي»، والخاصّ المتعلّق بالزمان والمكان وهو: «السيارة والجمل»، فإذا تمّ المعنى العام أو الجوهر في الطلبين جازت المقابلة.

وعلى كلّ حال، فالعبرة هنا بروح النصّ وبما يتحمّل من تفصيل يتعلّق بجوهره، ثمّ بما يتضمّنه من معان شاملة، وسوف ترى أن النصّ الذي لم يفرغه علي (عليه السلام) في القالب العصري ـ كما نفهمه اليوم ـ مفرغ في سلسلة من التجارب العملية الحيّة التي تعطيها معنى العلم كما تعطيها في أكثر الأحيان قالبه وشكله.

 

المقارنة بالتفصيل:

أمّا وثيقة حقوق الإنسان الفرنسيّة فإليك مبادئها واحداً واحداً، متبوعاً كلّ منها بما أعطاه الإمام علي (عليه السلام) من أُصول توافقها في المعنى، ومن نصوص ترادفها أو تماشيها في الغاية.

المبدأ الأول: الحرية والمساواة:

يقول المبدأ الأول:

«الناس يولدون ويظلّون أحراراً ومتساوين في الحقوق».

فيما يخص الشق الأول من هذا المبدأ «الناس يولدون ويظلون أحراراً» يقول الامام علي (عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً»(3).

هذه الآية العلوية توافق الشق الأول من الوثيقة الفرنسية روحاً وغاية ونصاً، ولا حاجة بنا الآن لايضاح ما هو واضح فيها. وقد تحدّثنا طويلا في كتابنا ـ علي ونهج البلاغة ـ عن عمل علي في إيقاظ روح الحرية في الناس، وعن اعترافه الصريح بأن قوة الوجود جعلت الناس أحراراً، لهم أن ينظروا في شؤونهم فيستغنوا بما علموا، لا إكراه في ذلك ولا قسر. ولهم أن ينكروا متى شاؤوا، وأن يؤازروا، وأن يكونوا من أمورهم جميعاً على ما يبدو لهم، فلا سلطان لانسان على إنسان بحكم المولد، ولا منّة يطوق بها رجل عنق رجل بما أذن له به من حرية التصرّف، فكلا الرجلين موجود حراً يرى ويفكر ويعلم ويريد.

نعم: ربما خشي علي (عليه السلام) ألا يستشعر الناس بقوة وجلاء أنهم أحرار أصلا، وأنهم يظلون أحراراً بما يترتب على هذه الأصالة. فاذا به يمكِّن فكرة الحرية في نفوسهم ويسعى في تدعيمها بكلّ وسيلة، فيخاطبهم جميعاً وفيهم الصديق والعدو، والمحب والكاره، والمعاون والمنابذ، فيقول: «لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين». ويقول أيضاً: «وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون».

ومعنى هاتين العبارتين مترتب على معنى العبارة الأولى: «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً». فالذي جُعل حرّاً لا يمكن أن يكون في شيء من حالاته مكرهاً لأن الاكراه ينقض الحرية. ويمعن في ذلك فيقول لأحد خصومه: «وقد أذنت لك أن تكون من أمرك على ما بدا لك»(4). ومعنى ذلك:

أنّ السلطة التي كانت بيد علي (عليه السلام) ليست بالسلطة التي تجيز لنفسها نقض الأصل الذي هو «حرية الرأي وحرية الاختيار». وحرية الرأي والاختيار لا تكون لازمة للإنسان إلاّ إذا كان «مولوداً حرّاً» على نحو ما في الوثيقة الفرنسية، ولا يترتّب نقضها إلاّ إذا نقض هذا الأصل.

وفي هذا الضوء الساطع من الاعتراف الصريح بأنّ الناس يولدون أحراراً، يتوجّه علي إلى الآباء قائلا لهم: «لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنّهم مولودون لزمان غير زمانكم»(5).

وفي هذا المبدأ من تعريف «الولادة الحرّة» شيء كثير; فإنّ الأبناء إن تخلّصوا من القسر والإكراه والاستعباد من جانب السلطة والقوانين، فإنّهم لا يتخلّصون عادةً من أخلاق آبائهم، وعاداتهم، وميولهم، وسائر ما يفرض عليهم فرضاً بحكم نزوع الآباء إلى أن ينشأ أولادهم على ما نشأوا عليه.

فإذا بعليّ (عليه السلام) يلتفت إلى هذا الواقع، إلتفاتاً هو من صميم الاعتراف بحريّة المولد، ومن صميم الاشارة إلى أنّ الحريّة لا تتقيّد حتّى بشروط يضعها الآباء قسراً أو فرضاً; لأنّ الحريّة في أقصى معانيها وأهدافها دافع إلى التطوّر وباعث على التقدّم.

ومذهب علي (عليه السلام) في الحريّة يوجب عليه أن ينتبه إلى الجانب الوجداني منها تنبّهاً شديداً، فيلحظ أنّ الإكراه إساءة إلى حياة الإنسان الداخلية تلحق الأذى في المكرِه والمكرَه، فيقول: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالا وَإِدْبَاراً، فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عُمِيَ»(6).

وفي هذا الموقف السليم يقطف عليّ من وجدان الناس اعترافاً أصيلا بأنّهم أحرار في المولد والمنشأ لا قسر عليهم ولا إكراه.

وهكذا، فإنّ الناس «يولدون ويظلّون أحراراً» في وثيقة حقوق الإنسان الفرنسيّة، وهي كذلك في دستور الإمام علي (عليه السلام) مع مراعاة ما يختلف بعض الاختلاف الشكلي في صيغة هذه المادة من الوثيقة الفرنسيّة وصيغة العبارات العلويّة.

هذا من ناحية الشقّ الأوّل من المادة الأُولى، أمّا الشقّ الثاني منها فيقول: «ومتساوين في الحقوق».

ولعليّ (عليه السلام) نصوص كثيرة تجدها في عهوده إلى الولاة، منها ما يقرّر مباشرةً هذه «المساواة في الحقوق» بين جميع الناس، ومنها ما يشير إليها، ومنها ما يدور في روحها، ويؤول إلى معناها.

وإليك ما يقوله بصدد «المساواة في الحقوق» نصّاً صريحاً كأنّه منتزع من المبدأ الأوّل من وثيقة حقوق الإنسان، أو كأنّ هذا المبدأ منتزع منه.

«اَلْحَقُّ لاَ يَجْرِي لاَِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ»(7).

وليس في هذا المبدأ العلوي ما يحتاج إلى توضيح، فهو الشقّ الثاني من أوّل مبادئ وثيقة حقوق الإنسان معنىً ولفظاً.

ثمّ إنّنا نجد في عهده إلى الأشتر النخعي هذه القاعدة:

«إياك والاستئثار بما الناس فيه أُسوة». أي احدز أن تخصّ نفسك أو غيرك من البشر بكثير أو قليل من الأُمور التي تجب فيها المساواة بين الناس وهي: الحقوق العامّة.

ثمّ يقول له ولسواه: «وليكن أمر الناس عندك في الحقّ سواء». ومعنى هذه العبارة، كما هوواضح، أنّ الناس متساوون في الحقوق لا فرق فيهم بين كبير وصغير، أو بين قريب وبعيد، أو بين عربي وأجنبي; لأنّ هؤلاء جميعاً هم الذين يعبّر عنهم بلفظة «الناس».

ثمّ يشدّد عليّ على هذا المعنى خشية أن يلتبس على الولاة ما أراد، فينبّه كلاًّ منهم إلى أصل الأصول، وهو أنّ البشر جميعاً متساوون في الحقوق; لأنّهم متساوون في المولد، ثمّ في صفة الإنسان قبل أن يكونوا أقارب وأباعد، عرباً وعجماً، قائلا: «كلّ إنسان نظير لك في الخلق»(8).

ولذلك كان «للأقصى ـ في دستور علي ـ مثل الذي للأدنى». ولذلك يقول في غير المسلمين: «أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» ما جاز عليهم جاز على غيرهم، وما حرّم عليهم حرّم على غيرهم كذلك.

وعلى هذا فإنّ الناس «يولدون ويظلّون أحراراً ومتساوين في الحقوق» في وثيقة حقوق الإنسان التي انجلت عنها الثورة الفرنسيّة الكبرى. وهم كذلك في دستور الإمام علي (عليه السلام).

المبدأ الثاني: حق الملكية والأمن:

وإليك الآن المبدأ الثاني من وثيقة حقوق الإنسان:

«الغاية من كلّ مجتمع إنساني صيانة الحقوق الطبيعيّة للإنسان. تلك الحقوق التي لا تزول مهما تقادم عليها الزمان، وتعاقب الليل والنهار وهي: الحريّة، والتملّك، وطمأنينة النفس ـ أو الأمن ـ ومقاومة الجور والاضطهاد».

تبيّن لنا أنّ مجتمع الإمام علي (عليه السلام) ليس بالمجتمع القبلي. فالمجتمع القبلي في عُرفه غاشم ظالم يأخذ أبناءه بالقسوة دون اللين، وبالعصبيّة دون الشعور الإنساني الرفيع، وبامتيازات الوجهاء دون حقوق المواطنين ودون جهودهم، والنزعة القبليّة تستوجب المفاخرة بظنّ لا يصيب، وتدعو المرء إلى أن يتكبّر على ابن أُمّه، ويتجبّر على أبيه، وحجّته في ذلك غواية أو هي من حبال الهوي. وهي فوق ذلك مدعاة للفتنة، والفتنة خراب البلاد، وهلاك العباد، ويأس القلوب، وظلمة الأرض.

وتبيّن لنا كذلك أنّ مجتمع علي (عليه السلام) ليس بالمجتمع العنصري الذي يرى للعربي فضلا على الأعجمي بمولده ونسبه. فالمجتمع العنصري في عرفه هو المجتمع القبلي الغاشم الظالم، ولكن على نطاق أوسع في عدد الناس، فكما أنّ علياً لم يكن ليرى فضلا لقرشيّ على تميمي، أو أسدي أو عبسي، ولا لمضري على ربعي، لم يكن ليرى فضلا لعربيّ على روميّ أو فارسي بالمولد والنسب. فالانسان لديه هو الإنسان لا فرق بينه وبين أخيه إلاّ بما يعلم ويعمل.

فالعلم والعمل هما أساس المفاضلة بين الناس; لأنّ «أقلّ الناس قيمةً أقلّهم علماً وأبعدهم عن أن يعمل بعلمه»; ولأنّ أكثرهم قيمةً «من كان يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه»; ولأنّ الناس متساوون على هذا النحو كان عليهم أن يعقدوا فيما بينهم «حبل الأُلفة فينتقلوا في ظلّها ويأووا إلى كنفها»; لأنّ «الأُلفة نعمة أرجح من كلّ ثمن، وأجلّ من كلّ خطر».

وكلّ من النزعة القبليّة والعصبيّة العنصريّة مدعاة إلى تفكيك المجتمع الذي يريده علي إنسانياً يعيش بنعمة الأُلفة، ويتعاون على الخير.

والعصبيّة على كلّ حال هي نخوة الشيطان، وغاية شرّه، وما وضع أساس العصبيّة غير الشيطان، فباتت مأخذ يده، وموطئ قدمه; لأنّها تجمع أبناءها على التكبّر، والحقد، والعداوة، والغضب، والاستئثار، والاحتكار، والحميّة الفارغة.

يقول علي (عليه السلام) في خطبته المعروفة بالقاصعة:

«... اعترضته الحميّة ـ يعني إبليس ـ فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه لأصله، فَعُدّ إمام المتعصّبين، وسلف المتكبّرين، الذي وضع أساس العصبيّة».

ثمّ يقول مخاطباً للناس:

«فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبيّة، وأحقاد الجاهلية، واعتمدوا على خلع التكبّر من أعناقكم، ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أُمّه من غير فضل فيه سوى ما ألحقت العصبيّة بنفسه من عداوة الحسد. واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر. واحذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال فتذكروا في الخير والشرّ أحوالهم»(9).

ونعيد هنا ما سبق أن ذكرناه من قول علي (عليه السلام) الذي يدلّ بصراحة مطلقة على وحدة الجنس البشري، ووحدة الجهود المشتركة بين الناس جميعاً، ثمّ على وحدة الواجبات، ووحدة الحقوق بين أبناء المجتمع الذي لا يكون على هذه الصورة إلاّ مجتمعاً إنسانياً خالص الإنسانيّة لا نزعة قبليّة فيه، ولا عصبيّة عنصريّة.

قال: «ثمّ جعل الله حقوقاً لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب افتراض بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض»(10). وعلى هذا يكون المجتمع العلوي إنسانيّاً، وهو كذلك بالضرورة لا بالاختيار; لأنّ واجبات الناس نحو الناس سلسلة متواصلة متماسكة، وكذلك حقوقهم التي تتكافأ ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض.

فالمجتمع في المبدأ الثاني من وثيقة حقوق الإنسان مجتمع «إنساني» لا فرنسي، وهو في دستور علي «إنساني» كذلك لا عربي.

أمّا الغاية من هذا «المجتمع الإنساني» في الوثيقة الفرنسيّة، فهي «صيانة الحقوق الطبيعيّة للإنسان»، فما هي في مجتمع الإمام علي. يقول علي (عليه السلام) نصّاً:

«إنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الناس البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيظلمهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع.»

وفي هذا النصّ من الصراحة ما لا يحتاج إلى كثير من التفسير أو التعليق. فمن صفة الوالي القائم على رأس الحكومة تعرف الحقوق الواجبة على الحكومة نحو هذا المجتمع كما تعرف الغاية من وجود هذا المجتمع.

فالانسان الذي يعيش في مجتمع الإمام الإنساني، هو كائن مصانة حقوقه فأمواله له، وهو آمن لا يعتدى عليه، ولا يضطهد في حال من أحواله، وهو مطمئن إلى أنّ حكومته لا تجفو فتقطعه عنها وعن المجتمع بهذا الجفاء، وهو مطمئنّ كذلك إلى أنّه مساو لجميع المواطنين; لأنّ القانون يفرض هذه المساواة فلا يتمتّع بحمايته قوم دون قوم، ولا يلجأ إلى حماة إنسان دون إنسان.

وهو واثق بأنّ سائر حقوقه، صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها، لن تذهب عنه الى سواه; لأنّ وظيفة الحكم أن يصونها لا أن يذهب بها. وكلّ من الناس يجب أن يرعى حقّه في دستور علي القائل للحاكم: «وكلّ من الناس قد استرعيت حقّه»(11).

وهذه الحقوق في الوثيقة الفرنسيّة هي: الحريّة، والتملّك، وطمأنينة النفس ـ أو الأمن ـ ومقاومة الجور.

وهي كذلك في دستور علي (عليه السلام).

أمّا حقّ الحريّة، فقد مرّ الكلام عليه.

وأمّا حقّ التملّك، فلعلي فيه نصّ يعترف به ويثبته، يقول: «ولا تمسنّ مال أحد من الناس»(12). والمال كناية عن الملك، وهذا الملك الذي يحوزه من عمل في مذهب علي، لا من احتكر أو استغفل، أو أضاف إلى نفسه جهد سواه، جدير بأن يدعو صاحبه للمحافظة عليه، ولئلاّ ينام عن اغتصابه. وفي ذلك يقول علي (عليه السلام): «ينام الرجل على الثكل ولا ينام على الحرب»(13). والحرب هو سلب الأموال، واغتصاب الملك.

ويقول علي في مكان آخر: «لا تبخسوا الناس أشياءهم»، «وإنّما يعاب من أخذ ما ليس له» و «المال مال الناس». وفي ذلك كلّه اعتراف بأنّ للناس أشياء، وهم مالكوها، وبأنّ الدولة هي المحافظة على هذه الأشياء، أو هذه الحقوق، ويجب ألاّ يبخس صاحب الحقّ حقّه.

أمّا حقّ الأمن، فعلي يضعه في طليعة الحقوق، وهو ميسور بها جميعاً مترتّب عليها، فإذا نهى عن الحرب والفتنة; فلأنّ «في السلم أمناً للبلاد»; ولأنّ كلّ إساءة إلى هذا الأمن في غير موضعها هي شر، و «الغائب بالشر مغلوب». وعلي لا يرى لمجتمعه الإنساني الحقوق العامّة غاية أجمل من أن يسوده الأمن، فيطمئنّ الناس بعضهم الى بعض، ويرتفع سلطان واحدهم عن الآخر، لذلك نراه ينسب التعدّي إلى الوحوش الضواري كما ينسب الجشع في الابتلاع إلى البهائم، فيقول: «إنّ السباع همّها التعدّي، وإنّ البهائم همّها بطونها»(14).

أمّا الإنسان فهمّته في غير ذلك، همّة الإنسان في شرع الإمام علي (عليه السلام) هي أن يكون امرءاً «لا تخاف له غائلة، آمن جاره». وهو لا يرى في كلّ دستور، وفي كلّ شريعة أعظم من أن تكون في هذه الشريعة أو ذاك الدستور وفي خاتمة كلّ حساب: «أمان أهل الأرض» فالرغبة في الأمن في نظر الإمام (عليه السلام) واجب خلقي يتميّز به الإنسان عن الوحش الضاري. والأمن لديه غاية ينتهي إليها كلّ دستور صالح وكلّ شريعة، وهو كذلك واجب يرعاه الوالي وترعاه الدولة. وبرعاية الأمن ورفع التعدّي ـ بعد رعاية الحقوق العامّة كافّة ـ يستقيم أمر الناس لدولهم في نهج الإمام.

ومفهوم الأمن عنده ليس مفهوم الأمن عند كثير من فلاسفة العصور القديمة، وولاتها ومشرّعيها، فالأمن عند كثير من أُولئك لا يعني أكثر من الاستكانة إلى أمر السلطان، والخضوع لأوامره، والاستسلام للحالة الراهنة مهما طغى الطغاة، وتجبّر المتجبّرون، وهدرت حقوق الناس.

أمّا الأمن عند علي (عليه السلام) فهو رضى الناس عن حكومتهم، وقبولهم العافية لما يُصان من حقوقهم، ويتوفّر من أسباب عيشهم، ويشيع بينهم من عدل، ويراعى فيهم حقّ المساواة، بهذا وحده يسود الأمن في الناس وتظهر مودّتهم لحكومتهم.

يقول علي (عليه السلام) في دستوره: «وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعيّة، وأنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلاّ بقلّة استثقال دولهم»(15).

إذن، فالناس في مجتمع علي (عليه السلام) من حقّهم أن يكونوا آمنين، والدولة من واجباتها رعاية هذا الحقّ بكلّ وسائلها الطبيعية الممكنة. وعلى أيّة حال فإنّ علياً (عليه السلام) هو صاحب هذا المبدأ: «من أمنت أذيّته فارغب في أُخوّته» وهو كذلك أوّل من رأى أنّ الدولة هي من الناس بمنزلة الوالدين قائلا لعامله على مصر ـ  مالك الأشتر ـ : «ثمّ تفقّد من أُمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما» وهذه هي الغاية التي لا غاية بعدها في ما يؤول إلى الأمن، وفي واجب الدولة نحو الناس وهم «أبناؤها».

أمّا حقّ «مقاومة الجور» الذي تعلنه وثيقة الثورة الكبرى، فإنّ الحديث عنه يملأ نهج علي (عليه السلام)، وقلّما تخلو خطبة له، أو وصيّة أو عهد من إعلان هذا الحقّ، وتنبيه الجماعة إليه، ويتميّز علي عن أكثر مفكّري العصور السابقة بأنّه لم يجعل دفع الظلم أمراً منوطاً بإرادة الحاكم أو المشرّع إن شاء ظلمَ وإن شاء عدل; بل جعله حقاً من حقوق الجماعة يولون من يرفع عنهم الجور، ويعزلون من جار واضطهد وأساء.

وأوامره التي يعلن بها عن حقّ الإنسان في مقاومة الظلم والاضطهاد، تخالها مصوغة بروح مفكّري الثورة الكبرى وبأُسلوبهم. يأمر أتباعه أوّل الشيء قائلا لهم: «كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(16) و «خذوا على يد الظالم السفيه».

ثمّ يضع مقاومة الجور موضع المقابلة مع الرفق، فيرى أنّ الرفق أولى في كلّ حال، إلاّ ساعة يشتدّ ظالم على مظلوم فإنّ أخذ الأُمور أخذاً رفيقاً إذ ذاك لا يغني ولا يفيد، فيقول: «وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم الشدّة حين لا يغني عنك إلاّ الشدّة»(17).

ومقاومة الظالم بالسيف حقّ مشروع للناس، لذلك يحذّر علي (عليه السلام) الحاكم من أن يظلم، مذكّراً إيّاه بحقّ الناس في قتاله جائراً مستبدّاً، فيقول لممثّل الحكومة: «استعمل العدل، واحذر العسف والحيف، فإنّ العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف»(18) أمّا العسف فالشدّة في غير حقّ، وأمّا الحيف فالظلم. وغاية علي (عليه السلام) من إطلاق هذه العبارة ـ كما هو واضح ـ النزوع بالمظلومين إلى القتال لانقاذ أنفسهم.

ومن هذا الباب قوله مخاطباً من وقع عليهم الظلم وظلّوا ساكتين: «ألا تسخطون وتنقمون أن يتولّى عليكم السفهاء الظالمون، فتعمّوا بالذلّ، وتقرّوا بالخسف، ويكون نصيبكم الخسران». ويقرّر هذا الحقّ في أقوال أُخرى منها:

«ألا إنّ لكلّ دم ثائراً، ولكلّ حق طالباً»(19). ومنها هذه الآية الصريحة في حمل الناس على دفع الظلم من حيث أتى: «ردوّا الحجر من حيث جاء». وردّ الحجر من حيث جاء، كناية عن مقابلة الشرّ بما يدفعه ويردع فاعله عن أن يعود إليه، هذا إذا لم تنفع الحسنى. ومنها: «الوفاء لأهل الغدر، غدر عند الله».

المبدأ الثالث: الشعب مصدر السلطات:

وإليك المبدأ الثالث من وثيقة حقوق الإنسان الفرنسيّة:

«كلّ سلطة مصدرها الشعب وحده، ولأيّ فرد أو جماعة أن يأمروا أو ينهوا إلاّ إذا استمدّوا السلطة من الشعب».

يتعارض مدلول لفظة «شعب» أو «أُمّة» عادة مع مدلول «طبقة» أو «خاصّة». أمّا اللفظة التي كانت تعني «الشعب» في زمن علي (عليه السلام) فهي لفظة «العامة»، وكانت «الخاصة» معارضة لها، ومثل «العامة» لفظة «السواد» أي الأكثريّة الساحقة من الناس، وكذلك لفظة «الجماعة». فإذا أدركنا ذلك تبيّن لنا أنّ علياً لا يقبل السلطة إلاّ أن تكون ممثّلة لإرادة الشعب أو الأُمّة. وفي ذلك يقول نصّاً:

«وألزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله مع الجماعة»(20) أي سيّروا القوانين والأنظمة بما يتّفق مع مصلحة الشعب; لأنّه هو الأصل، وهو السبب في وجود السلطة، ويد الله معه وحده، ومن الطبيعي ألاّ ترضى «الفئة القليلة» بأن تعلوها إرادة الجماعة; لأنّها تريد القوانين في خدمتها. لذلك تسخط، وتثور، وتحاول قلب الأوضاع لمصالحها.

وعلي (عليه السلام) يأبى أن يكون في الناس راضون وساخطون، ولكن السخط إذا جاء من قبل الخاصة التي جعلت همّها اغتصاب الخيرات واحتكار المنافع، والاستئثار بما الناس فيه أُسوة، فليسخطوا ولينقموا; لأنّ العافية لا تكون إلاّ برضى المجموعة الشعبية. وفي ذلك يقول: «سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة».

وعلي (عليه السلام) لا يرى معنى لوجود السلطة إذا لم تكن ممثّلة لإرادة الشعب. لذلك يحدّد معنى أصحاب السلطة هذا التحديد الجمهوري الذي لا يختلف معنىً ولا لفظاً عن تحديدات الثورة الفرنسيّة لها، فيقول في القائمين على السلطة إنّهم: «خزّان الرعيّة، ووكلاء الأُمّة» وخزّان الرعيّة هم الذين يتولّون خدمة الناس، فهم بذلك خدّام الشعب، ومصرفوا أعماله، والمحافظون على مصالحه وأمواله وحقوقه، ولا عمل لهم في غير ذلك. ووكلاء الأُمّة هم نوّابها الذين تثق بهم فينوبون عنها في رعاية شؤونها والسهر على حقوقها، ولا عمل لهم في غير ذلك.

وبما أنّ مصدر السلطة هو الشعب وحده في نهج علي (عليه السلام) فإنّ وجودها لا يعني أكثر من تجسيم هذه الإرادة العامّة. فإذا استقام أمر الناس بأصحاب السلطة، استقامت السلطة وبقي أصحابها في مناصبهم، وإلاّ فليعزلوا في الحال: «ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة أمر الرعيّة»(21) وأمر كلّ سلطة مرهون بهذه الإرادة العامّة: «أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعيّة، وأنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلاّ بقلّة استثقال دولهم»(22).

ولمّا ولّي علي الخلافة بادر الناس بهذا القول: «أيّها الناس، إنّما أنا واحدٌ منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم، والحقّ لا يبطله شيء»(23). وكان يقول: «ولا أخفيت شيئاً من الأمر عنكم».

وكان (عليه السلام) يضع نظريّته في معنى السلطة موضع التنفيذ في كلّ حال، فينبّه الشعب إلى حقّه في مراقبة صاحب السلطان، وإلى أنّ مصدر هذا السلطان مستقرّ فيه. فكان إذا ولّي أحدهم إقليماً من الأقاليم، أو مدينة من المدن، أعطاه عهداً يقرأه على الناس. فإذا أقرّه الناس بعد أن يقرأ عليهم العهد، كان هذا العهد عقداً بينهم وبينه، لا يجوز له أن يتأوّله أو يخالفه في كثير أو قليل. فإذا تأوّله أو خالفه عزل في الحال. ومن تأكيداته هذا القول يخاطب به الوالي:

«فإن ولّوك في عافية، وأجمعوا عليك بالرضا، فقم في أمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه».

وأظنّ أنّ الصلة الجوهريّة بين هذا المبدأ ومبدأ «سيادة الشعب» الذي تبنّته وثيقة الثورة، واضح ساطع الوضوح.

على هذه الصورة نجد المبدأ الثالث من مبادئ الثورة الفرنسيّة الكبرى، في دستور الإمام علي (عليه السلام) معنىً ونصاً صريحين.

المبدأ الرابع: عدم إلحاق الضرر بالآخرين:

أمّا المبدأ الرابع فيقول:

«قوام الحريّة أن يستطاع عمل كلّ ما لا يضرّ بالغير، فرداً أو جماعةً».

علمنا أن القاعدة في نهج الإمام علي (عليه السلام) هي إقرار حقّ الناس بأن يكونوا أحراراً في ما يعملون، فليس لأحد أيّاً كان، أن يقسر آخراً أيّاً كان على عمل لا يرتضيه، ولا يرى فيه خيراً.

غير أنّا علمنا أيضاً، أنّ هذه الحريّة مقيّدة في نهجه بمصلحة الجماعة. فليس حرّاً في عمله من يحمل الأذى للآخر فيما يعمل. من ذلك ما رأينا ممّا أباحه للتجّار وأهل الصناعة من حريّة، وممّا أوجبه على الحكومة من حمايتهم ورعايتهم، حتّى إذا استأثروا واحتكروا عدّهم معتدين، فقيّد حريّتهم إلاّ أن يتركوا الاحتكار.

ومن ذلك ما رأينا ممّا أباحه للناس من حريّة الاعتقاد والمذهب السياسي، حتّى إذا أساء هؤلاء استخدام هذه الحريّة فتصرّفوا بما يضرّ الجماعة حمل عليهم، وقيّد حريّتهم، وضبط تصرّفاتهم، في نطاق من مصلحة الهيئة العامّة.

وكانت آياته في ذلك تدور جميعاً حول هذا المعنى: «قد أذنت لك أن تكون على ما بدا لك من رأي وعمل إلاّ أن تسيء وتؤذي». ومن أوامره التي أنزلها منزلة القانون: «ولا يطمعنّ منك أحداً في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك»(24).

المبدأ الخامس: لا يحق للقانون منع الاعمال غير المضرة:

أمّا المبدأ الخامس فيقول:

«لا يحقّ للقانون أن يمنع غير الأعمال المضرّة بالهيئة العامّة».

هذا المبدأ ليس في حاله أكثر من حدّ لحريّة القانون في نطاق ما يصلح الجماعة، وهو يجري من المبدأ السابق جرياً منطقيّاً خالصاً. فإذا كان قوام الحريّة أن يستطاع عمل كلّ ما يضرّ بالغير، فإنّ القانون لا يمكنه عند ذاك أن يمنع غير هذه الأعمال المضرّة.

وقد تبيّن معنا هنا وهناك أنّ علياً (عليه السلام) لم يتشدّد في قول، أو عمل من شأنه أن يرفع القانون الى غير مكانة، فيجعله في مرتبة فوق مصلحة الناس. وقول علي وعمله كانا بمثابة القانون بوصفه مشرّعاً ومنفّذاً وقدوةً. قد رأيناه يخضع كلّ قانون لمفاهيم الخير العام. ورأيناه يعطي الحريّة، التاجر والصانع والزارع فيما يعملون، ويرعى هذه الحريّة حتّى إذا تحوّلت إلى نشاط عدواني يضرّ بالهيئة العامة، قيّدها في الحال أو عطّلها.

ورأيناه يعطي الحريّة للولاة، والعمّال، والقضاة، ورؤساء الجند، حتّى إذا طغوا، واستبدّوا، واعتدوا، وسلكوا في الهيئة العامّة مسلكاً مضرّاً، قيّد هذه الحريّة أو عطّلها في الحال.

ورأيناه يأذن لأخصامه في العقيدة والمذهب أن يكونوا على ما بدا لهم، حتّى إذا خرجوا، وأفسدوا، وأقلعوا فأضروا بالهيئة العامّة، قيّد حريّتهم في الحال أو عطّلها.

ورأيناه يفعل أكثر من ذلك، رأينا يعطّل القانون نفسه إذا كان في تعطيله ما ينفع الهيئة العامّة بكاملها، أو ببعض طبقاتها المعوزة، فإذا نصّ القانون على جباية الخراج في مواسم معيّنة، بعث إلى الناس من يجبي هذا الخراج، فاذا أنكروا حقّ الحكومة في هذه الجباية لفقر أو لحاجة، عطّل القانون وأمر بألاّ يؤخذ مال الخراج من أهله حتّى تزول عنهم الشدّة، ويسارعوا من أنفسهم لدفع هذا المال.

وإذا نصّ القانون على حدّ الزانية بما فعلت، عالج أحوالها واستنطقها، فإذا تبيّن له أنّها زنت لضرورة قاهرة، عطّل القانون في الحال، وخلّى سبيلها إصلاحاً لأمرها ورحمةً بها.

فمن ذلك ما رواه البيهقي في «السنن» قال:

«أُتي عمر بن الخطاب في خلافته بامرأة جهدها العطش فمرّت على راع فاستسقته، فأبى الراعي أن يسقيها إلاّ أن تمكنه من نفسها، ففعلت فشاور عمر الناس في رجمها. فقال علي (عليه السلام): هذه مضطرّة أرى أن يخلّى سبيلها، ففعل(25).

وفي كلّ ذلك اعتراف من الإمام، بأنّ القانون ليس شيئاً مقدّساً بذاته; وإنّما يكتسب هذه القداسة حين يكون خدمة ورحمة ورعاية. ومن ثمّ فليس لهذا القانون أن يتغاضى عن حاجات الناس، وليس له أن يمنع عملا لا يضرّ بالهيئة العامّة.

المبدأ السادس: القانون تعبير عن إرادة الاُمة:

ويقول المبدأ السادس:

«القانون هو مظهر الإرادة العامّة، ولكلّ المواطنين الحقّ في أن يشتركوا في وضعه بأنفسهم أو بواسطة نوّابهم، وهو واحد بالنسبة للجميع سواء أكان مانحاً أم مانعاً، حامياً أم معذراً. والناس سواء أمام المراتب والوظائف العامّة لا تفاضل بينهم إلاّ في اختلاف كفاءاتهم، ولا تمييز إلاّ فيما تقتضيه فضائلهم ومواهبهم».

من الواضح انّ هذا المبدأ إعادة أو تأكيد للمبدئين الأوّل والثالث من الوثيقة الفرنسيّة. أمّا الشقّ الأوّل من هذا المبدأ فهو إعادة وتأكيد وتفصيل للمبدأ الثالث القائل بأنّ «كلّ سلطة مصدرها الشعب وحده». وأمّا الشقّ الثاني فهو إعادة وتأكيد وتفصيل للمبدأ الأوّل القائل بأنّ «الناس يولدون ويظلّون أحراراً ومتساوين في الحقوق». وعلى هذا يكون الكلام على المبدأ السادس قد مرّ في الكلام على هذين الأصلين من مبادئ الوثيقة، فارجع إن شئت إليه.

المبدأ السابع والثامن: العقوبة عند مخالفة القانون:

أمّا المبدآن السابع والثامن، فيقولان:

«لا يمكن الشكوى على أيّ إنسان كان، أو القبض عليه، أو توقيفه، إلاّ في الأحوال المبنيّة في القانون، وكلّ من ينفّذ أمراً إستبدادياً مخالفاً للقوانين، أو يأمر به أو يوعز بتنفيذه يستحقّ العقاب».

«لا يسوغ للقانون أن يضع غير العقوبات الضرورية ضرورة أكيدة وصريحة، تستلزمها الحالة الاجتماعية. ولا يمكن معاقبة أيٍّ كان إلاّ بموجب قانون وضع ونشر، وأصبح نافذاً قبل وقوع الجرم وعمل به على النظام».

يقول علي (عليه السلام) في نطاق من روح هذين المبدأين قولا يختلف عنهما نصّاً وينزع عن جوهرهما موضوعاً وغايةً، وممّا جاء في بعض عهوده:

«اطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنك سبب كلّ وتر، وتغاب عن كلّ ما لا يصح لك، ولا تعجلنّ الى تصديق ساع فإنّ الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين. وإيّاك والعجلة بالأُمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كلّ أمر موضعه، وأوقع كلّ أمر موقعه»(26).

وأظنّ أنّ القارئ واقع على ما بين المبدأين السابع والثامن وبين قول علي (عليه السلام)من وحدة في موضوع الكلام وجوهره. فإذا لم يتعجل الحاكم بالأمور قبل أوانها ـ  والحاكم هو منفّذ القانون ـ وإذا تغابى عن كلّ ما لا يصحّ له ـ أي ما لا يأمر به القانون ـ وإذا لم يأخذ الناس بغش المساعي، فإنّما ينتهي الأمر إلى النتيجة ذاتها التي ينتهي إليها هذا القول: «لا يمكن الشكوى على أي إنسان كان أو القبض عليه أو توقيفه» الخ.

وكذلك إذا لم يتهاون في الأمور عند إمكانها، ولم يهن عنها إذا استوضحت، بل وضع كلّ أمر موضعه وأوقع كل أمر موقعه، وقطع عن نفسه سبب كل عداوة ـ أي قطع سبب كلّ هوى يعطل القانون الصالح ـ فإنّه عند ذاك لا ينفّذ أمراً استبدادياً مخالفاً للقوانين، ولا يأمر به ولا يوعز بتنفيذه، على نحو ما جاء في الوثيقة الفرنسية. أمّا إذا فعل شيئاً من هذا، فهو معاقب في مبادئ الوثيقة، وهو معاقب كذلك في دستور علي (عليه السلام); لأنّه «آثم ظالم مخالف لمصلحة الرعية».

أما كون القانون «لا يسوغ له أن يضع غير العقوبات الضرورية ضرورة أكيدة تستلزمها الحاجة العامة» فقد مرّ الكلام عليه في حديثنا عن المبدأ الخامس.

المبدأ التاسع: كل انسان برئ حتى تثبت إدانته:

وإليك المبدأ التاسع من الوثيقة الفرنسية:

«يعتبر كلّ إنسان بريئاً حتّى تثبت إدانته، فإذا دعت الضرورة للقبض على امرئ واستعمل بحقّه عنف لم يكن ضرورياً للتأمين من شخصه، فعلى القانون أن يعاقب على ذلك بكلّ شدّة».

يتألّف هذا المبدأ من شقّين اثنين; أما الشقّ الأول القائل: «يعتبر كلّ إنسان بريئاً حتّى تثبت إدانته»، فيقول علي (عليه السلام) في معناه هذا القول الصريح: «لا آخذ على التهمة ولا أُعاقب على الظنّ» أي أنّ براءة جميع الناس هي الأصل، فاذا اتّهموا أو ظنّ بهم الخروج على القوانين العامة، فلا يؤخذون على تهمة، ولا يعاقبون على ظن، وإنّما يظلّون في نظر القانون أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم فإذا ثبتت جاز عقابهم.

وفي هذا المعنى يقول أيضاً متمّماً هذا المبدأ من دستوره (عليه السلام): «لا يجوز القصاص قبل الجناية». وهاتان الآيتان العلويتان هما الشقّ الأوّل من المبدأ التاسع من مبادئ الوثيقة الفرنسية نصّاً ومعنىً. أضف إليهما هذه الثالثة التي يطلقها علي (عليه السلام) لتلفّ القانون والناس جميعاً بجمال المنطق الإنساني ودفء العاطفة الإنسانية، فإذا هي قانون وما فوق القانون في وقت معاً: «واعذروا من لا حجّة لكم عليه».

أما الشقّ الثاني الذي يعاقب بموجبه كلّ من لجأ إلى العنف في أخذ امرئ قُبض عليه قبل ثبوت إدانته، فلعلي بمعناها أوامر كثيرة، وهو لا يرى عذراً في منطق القانون لمن يعاقب امرءاً عقاباً ما قبل أن تثبت عليه تهمة تستوجب هذا العقاب. ولفظة «العمد» التي ترد في أقوال علي بهذا الموضوع تعني: الأخذ بما لا يبرّره القانون، سواء أكان هذا الأخذ عنيفاً أو ليّناً. يقول (عليه السلام) في عهده إلى الأشتر:

«ولا تقوينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عندي في قتل العمد».

ومعنى هذا أنّ عقاب امرئ بالقتل قبل ثبوت إدانته ممّا يستوجب هذا العقاب أمراً لا عذر لصاحبه لدى القانون، والذي يرتكب مثل هذا العمل يعاقب بزوال سلطانه.

ومن أخبار علي (عليه السلام) التي تعود بالايضاح على ما لديه من مبدأ يتّفق والمبدأ التاسع من وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية، ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج، قال: قال علي (عليه السلام): «... ثمّ جاءني ـ أحدهم ـ فقال لي: إنّي قد خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب، وزيد بن حصين الطائي. إنّي سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما حتّى تقتلهما أو توثقهما، فلا يزالان بمحبسك أبداً، فقلت له: إنّي مستشيرك فيهما فماذا تأمرني به؟

قال الرجل: إنّي آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما. فعلمت أنّه لا ورع له ولا عقل، فقلت له: ما أظنّ لك ورعاً ولا عقلا لقد كان ينبغي أن تعلم أنّي لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته، ولقد كان ينبغي لك لو أردت قتلهم أن تقول لي: إتّق الله، بم تستحلّ قتلهم ولم يقتلوا أحداً»(27).

ومن نهجه في أخذ من تثبت إدانته أخذاً يكون فيه قصاص عادل لا إهانة ولا تعنيف ولا تعذيب، قوله مشيراً إلى من أساؤوا: «ونكّل بهم في غير إسراف».

المبدأ العاشر: حريّة إبداء الآراء:

«لا يجوز تنكيد أيٍّ كان بسبب آرائه حتّى الدينيّة منها مادام إبداؤها لا يخلّ بالنظام العام الذي يقرّره القانون».

المضمون العام لهذا المبدأ إعادة وتأكيد لما رأيناه في المبدأين الرابع والخامس، تضاف إلى ذلك التفاتة خاصة الى حقّ الناس في الاعتقاد بما يشاؤون.

وقد مرّ بنا الكلام في مجال البحث في المبدأين الأول والثاني، على أنّ علياً (عليه السلام)يعترف للناس في دستوره بحقّهم في أن يدينوا بما يريدون، شرط ألاّ يلحقوا ضرراً بالقانون الذي هو قانون الجماعة. ونعيد هنا رأيه الصريح في هذا الشأن، قال:

«لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لحكمت في أهل التوراة بتوراتهم، وفي أهل الانجيل بانجيلهم، وفي أهل القرآن بقرآنهم، حتّى تركت كلّ كتاب ينطق من نفسه»(28).

لقد صدق علي (عليه السلام)، ومن صفات القانون الرئيسي عنده ألاّ يؤذى إنسان بسبب عقيدته الدينية. قال مخاطباً الناس الذين يعيشون في ظلّ سلطة عادلة: «ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد».

ومن أوامره العامة لمنفّذي القوانين: «آمرك بالعدل على أهل الذمّة، وبانصاف المظلوم، وبالشدّة على الظالم، وبالعفو عن الناس والاحسان ما استطعت». ومنها أيضاً: «لا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمّة»(29).

وليس بعد هذه الأقوال غاية تقصد في معنى حرية الاعتقاد، وفي تقرير حقّ الناس في ما يذهبون إليه من رأي في الدين يخالف آراء الآخرين.

المبدأ الحادي عشر: حريّة النشر:

أما المبدأ الحادي عشر فيقول:

«حرية نشر الأفكار والآراء حقّ من أثمن حقوق الإنسان، فلكلّ امرئ إذن أن يتكلّم ويكتب ويطبع بملء الحريّة إلاّ أنّه مسؤول عن خرق هذه الحريّة في الأحوال المعيّنة في القانون». هذا المبدأ إعادة وتأكيد للمبدأ السابق.

المبدأ الثاني عشر:

«ضمان حقوق الإنسان والوطنيّين ستلزم قوّة عامة وهذه القوّة ـ أو السلطة ـ العامة منشأة لمصلحة المجموع لا لمصلحة من يوكّل إليهم إدارتها».

يتألّف هذا المبدأ من أصلين، الأول: ضرورة وجود سلطة عامة، والثاني: قيام هذه السلطة للمصلحة العامة.

أما في الأصل الأوّل فيقرّر علي (عليه السلام) أنّه: «لابدّ للناس من إمام». أي لابدّ من حكومة تضمن للناس حقوقهم وترعى فيهم العدل وتقيم الحق. وقد قرّر هذا المبدأ بعد أن قال الخوارج: «لا إمرةَ إلاّ لله». ويستنتج من قول الإمام في هذا الظرف بالذات، أنّ الناس لا يتركون في رعاية الله وحده، ولا في رعاية أنفسهم، بل في رعاية قانون زمني ترعاه حكومة زمنية تحيي حقاً وتزهق باطلا، وتجعل البشر سواسية أمامه.

ومن أقواله في ضرورة قيام حكومة مركزيّة يعود إليها تصريف الأمور بناءً على قاعدة ودستور، هذه الكلمة التي يؤنّب بها القوم ساعة ينزعون عن إرادتهم الفرديّة في ما يتعلّق بالتصرّفات العامة: «... وتعويلهم في المهمّات على آرائهم كأن كلّ امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات، وأسباب محكمات»(30).

وهو لا يلومهم مثل هذا اللوم إلاّ ساعة تقوم بينهم حكومة ديموقراطيّة الاتجاه تعي مسؤوليّاتها ولا تجهل وظيفتها، وهم لا يستشعرون لها وجوداً، لذلك يلحق هذا القول بقول آخر هو: «عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته»(31).

والجهل في الحاكم أو صاحب السلطة، عذر للناس في ألاّ يطيعوا في نهج علي (عليه السلام).

أمّا الأصل الثاني من هذا المبدأ، فلعليّ فيه أوامر وأحكام تحدّثنا عنها، وخلاصته: أنّ من يوكّل إليهم ادارة السلطة العامة ليسوا إلاّ بشراً في خدمة القانون ـ الذي وضع في خدمة الناس ـ يصون ما عليهم من المسؤوليات; لأنّهم «خزان الرعيّة، ووكلاء الأُمّة»; ولأنّ «عملهم ليس بطعمة»; ولأنّ الأموال التي تحت أيديهم «ليست لهم بل هي أموال من جاء قبلهم من الناس ومن سيأتي بعدهم»; ولأنّ «الإمام رجل من الناس، له ما لهم وعليه ما عليهم».

وإذا كان الأمر كذلك، فعلى أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بالعامة، ومن أوامره (عليه السلام) التي تشرع للحاكم هذه المساوات بينه وبين الناس جميعاً والتي تقصيه عن كلّ امتياز شخصي، قوله (عليه السلام) لحكّام زمانه:

«إيّاك والاستئثار بما الناس فيه أُسوة، والتغابي عمّا تعنى به ممّا قد وضح للعيون، فإنّه مأخوذ منك لغيرك. وعمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم، والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، وتجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك الى هواها.

وأنا أسأل الله أن يوفّقني وإيّاك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه، وإلى خلقه مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد»(32).

المبدأ الثالث عشر: الضرائب العامة:

«يتحتّم للقيام بهذه القوّة العامة ونفقات الادارة وضع رسوم عامّة يجب توزيعها على جميع المواطنين بالسواء كلٌّ على قدر طاقته».

مرّ الكلام على هذا الموضوع في بحث الضرائب، فعد إليه إن شئت.

المبدأ الرابع عشر: الضرائب يحدّدها الشعب:

«لأهل البلاد جميعاً الحقّ في أن يقرّروا بأنفسهم أو بواسطة نوّابهم الضرائب التي تستلزمها القوّة العامة، وأن يقبلوا بها عن رضى، وأن يحدّدوا مقدارها ومدّتها وكيفية تقسيمها وتحصيلها، وأن يتتبّعوا كيفية إنفاقها».

لو تتبّعنا أعمال الإمام علي (عليه السلام) وأقواله في ما يتّصل بمضمون هذه المادة لرأينا عجباً، ولعلّ الإمام (عليه السلام) أوّل حاكم في تاريخ الشرق، بل في تاريخ الإنسانيّات القديمة جميعاً، يأمر بما لا يألفه زمانه، وأبناء زمانه ففيما كان حكام العصور القديمة مشرّعوها وفلاسفتها يحدّدون الضرائب العامة إستناداً إلى نظريّاتهم الخاصّة وحسب، ويحدّدون طرق جبايتها على الأُسلوب الذي يقرّرونه هم وحدهم، ويسلكون في إنفاقها الطريق الذي يرون، لا نظر للجمهور في كلّ ذلك ولا رأي، كان الإمام (عليه السلام) ينزع في هذا الباب المنزع الذي أقرّه مفكّروا فرنسا في القرن الثامن عشر، وأصبح القاعدة الأصل لكلّ ما يتعلّق بالضرائب في أنحاء الأرض في عصرنا هذا.

ولقد ألقينا ضوءاً على أُسلوب الإمام في معنى هذه المادة، بصدد الحديث عن الضرائب، وإليك قليلا من المزيد للتأكيد والتقرير.

رأينا أنّ علياً (عليه السلام) يطلق على الحكّام لقب «نوّاب الأُمّة».

ثمّ رأيناه يأمر هؤلاء النوّاب بأن يساووا بين الناس في الضرائب، وألاّ يجبوا منها إلاّ ما تستلزمه المصلحة العامة، وألاّ يأخذوا من أحد الناس ضريبة لا يتمكّن من دفعها، بل أن يسقطوها عنه كليّاً ويأخذوا عوضاً عنها من أموال الأغنياء.

ثمّ رأيناه يربط بين يسر الناس وتحصيل الضريبة ربطاً محكماً، ويأمر الناس أنفسهم بألاّ يدفعوا ضريبةً إلاّ عن رضاً، فإن لم يرضوا عنها أُعيد النظر فيها، فإن لم يرضوا بعد ذلك تركوا وشأنهم.

ورأينا فوق ذلك يأمر هؤلاء الحكّام بألاّ ينفقوا قرشاً واحداً من أموال الضرائب إلاّ في المصلحة العامة، ثمّ يطلب إلى الناس أن يستخدموا حقّهم في مراقبة هذا الانفاق فإمّا رضاً وإمّا إنكاراً، فإن رضوا بقى للحاكم سلطان عليهم تحدّده مصلحة الجماعة، وإن أنكروا زال هذا السلطان من تلقاء نفسه.

وفي ذلك كلّه ما تستوي فيه نظرية الإمام ومضمون المادّة الرابعة عشرة من وثيقة الثورة الكبرى، وفيه ما يتجاوز هذا المضمون إلى عطف على الناس عظيم، وإحسان إليهم لا مزيد عليه، ممّا ينسجم مع دستوره في لزوم التعاطف والتعاون الكاملين بين الحاكم والشعب أو بين «الوالد وأبنائه» على حدّ تعبيره (عليه السلام). أمّا ما يتجاوز في دستوره مضمون المادّة المذكورة فهو إسقاط الضريبة عمّن لا يستطيع إلى تأديتها سبيلا.

المبدأ الخامس عشر: حق المحاسبة:

«للهيئة العامة أن تسأل كلّ موظّف عام عن إدارته، وتراقبه في أعماله».

يقول علي (عليه السلام) مخاطباً الحاكم:

«إن ظنّت بك الرعيّة حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم باصحارك»(33). أي: إذا ظنّ بك الناس اعوجاجاً أو انصرافاً عن لزوم الحقّ والعدل، فما عليك إلاّ أن تبرز لهم في الحال وتبيّن عذرك; لأنّك مسؤول أمامهم ولأنّهم محقّون في سؤالك عمّا تفعل وفي مراقبة أعمالك، فأنت «نائب الأُمّة».

ومن مقرّراته (عليه السلام) هذا القول الذي أطلقه قانوناً وأشهد عليه الناس وعمل به: «أيّها الناس، إنّما أنا واحد منكم، لي ما لكم وعليّ ما عليكم، والحقّ لا يبطله شيء»(34). وهذا القول أيضاً: «ولا أخفيت شيئاً من الأمر عنكم».

وفي كلّ ذلك أساس واضح المعالم للمبدأ الذي يعترف بحقّ الهيئة العامة في مراقبة القائمين على أمر الدولة، وسؤالهم عمّا يعملون.

المبدأ السادس عشر: الفصل بين السلطات:

«كلّ هيئة عامّة لا ضمانة فيها لحقوق الإنسان، ولا فصل فيها بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تعتبر أنّها ليست على شيء من القانون الأساسي».

تبيّن معنا أنّ دستور علي يوجب ضمانة الحقوق العامة. أمّا الفصل بين السلطات الثلاث فليس القول فيه إلاّ من نتاج العصور الحديثة. لذلك لا نجد مثل هذا الفصل في دستور علي (عليه السلام). إلاّ إنّا نستدرك ونلفت النظر إلى ما رأيناه من الأساس الذي وضعه علي لفصل القضاء ـ مبدئياً ـ عن السلطة التنفيذية.

المبدأ السابع عشر:

«ولما كان التملّك حقاً مقدّساً لأيّ شخص، فلا يمكن نزعه عن أيّ إنسان كان، إلاّ إذا استلزمت ذلك المصلحة العامة استلزاماً بيّناً ثابتاً شرعاً، وبشرط دفع تعويض عادل مقدماً».

تبيّن معنا أنّ التملّك حقّ من حقوق الناس في دستور الإمام (عليه السلام)، وكذلك نزع هذا الحقّ عن أحد الناس لمصلحة الجماعة، وإنّا نجد في أوامره وأعماله ما يشير دائماً إلى ذلك، إذ يقرّر الأصل الذي هو مصلحة الجماعة أوّلا. من ذلك أنّه انتزع من الولاة والأغنياء الذين أثروا في عهد عثمان على غير بلاء، واقتطعوا الأراضي والضياع ما كانوا يملكون من زمن بعيد، إنتصافاً منهم للمصلحة العامة.

وأخال القارئ بعد هذا كلّه قد أدرك ووعى أنّ هذه المبادئ التي أشاعها أُدباء الإنسانية، ولم تأخذ صيغتها القريبة من الكمال إلاّ في عقول أُدباء الثورة الكبرى وفي قلوبهم، إنّما هي مبادئ فكّر بها منذ أربعة عشر قرناً عملاق العقل العربي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وصاغها صريحة تعلن عن ذاتها جوهراً في كلّ حين، ونصّاً وجوهراً في أكثر الأحيان.

 

قصّة ظريفة:

وهنا قصة ظريفة أودّ أن أروي خطوطها للقارئ بشيء من الايجاز غير المخلّ، وفيها ختام الفصل، مع علمي أنّها توقد شعلة الأسى والأسف في قلب كلّ مسلم غيور، أرسمها في كتابي هذا ـ علي والأُسس التربوية ـ وأنا في النجف الأشرف عاصمة العالم الإسلامي سنة 1378 هـ ، أجل أرسمها لعلّ أن ينتبه المسلمون من رقادهم، وقد آن وقت الانتباه.

ذكر جورج جرداق في كتابه «صوت العدالة الإنسانية» قال: حدّثني الكاتب اللبناني الصديق ج.ح. قال:

يوم كنت في أحد البلدان الأوربية التي تسعى في تحرير الإنسان من العوز والفاقة وويلاتهما، قلت لوزير معارف ذلك البلد: نحن العرب سبقناكم أكثر من ألف عام إلى إدراك حقيقة المجتمع الطبقي التي تعملون أنتم اليوم على توضيحها. فقال الوزير الأوربي: وكيف كان ذلك، قال: منذ بضعة عشر قرناً قال عليّ بن أبي طالب: «ما رأيت نعمةً موفورةً إلاّ ألى جانبها حقّ مضيّع».

فقال الأوربي: إنّما نحن أفضل منكم، قال: لم؟ وكيف؟ قال: لأنّ عربيّاً منكم اكتشف هذه الحقيقة منذ بضعة عشر قرناً وأنتم ما تزالون في مظلمة اجتماعية، فيما طبّقناها نحن قبلكم، فأنتم متأخّرون عنّا بضعة عشر قرناً في هذا المعنى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) في نهج البلاغة: فصدفني.

(2) نهج البلاغة : الكتاب 45، إلى عثمان بن حنيف.

(3) نهج البلاغة، الكتاب رقم31.

(4) نهج البلاغة، الخطبة رقم208.

(5) شرح نهج البلاغة 20 : 267 باب102.

(6) نهج البلاغة : قصار الحكم 193.

(7) نهج البلاغة : خطبة 216.

(8) نهج البلاغة، الكتاب 53.

(9) نهج البلاغة، الخطبة: 192.

(10) نهج البلاغة، الخطبة : 216.

(11) نهج البلاغة، الكتاب : 53.

(12) نهج البلاغة، الكتاب : 51.

(13) نهج البلاغة : قصار الحكم 307.

(14) نهج البلاغة، الخطبة 153.

(15) من عهده (عليه السلام) الى الأشتر.

(16) نهج البلاغة : الكتاب 47.

(17) نهج البلاغة، الكتاب رقم46.

(18) نهج البلاغة، قصار الحكم: 476.

(19) نهج البلاغة : الخطبة 105.

(20) نهج البلاغة : الخطبة 127.

(21) نهج البلاغة : الخطبة 127.

(22) نهج البلاغة : الكتاب 53.

(23) شرح نهج البلاغة 7 : 36 باب 91.

(24) من عهده (عليه السلام) الى الأشتر.

(25) السنن الكبرى للبيهقي 8 : 236.

(26) من عهده إلى الأشتر.

(27) شرح نهج البلاغة 3 : 148 باب 44.

(28) راجع البحار 40 : 153 ح54.

(29) من عهده إلى الأشتر.

(30) نهج البلاغة : الخطبة 88.

(31) نهج البلاغة : قصار الحكم 156.

(32) من عهده (عليه السلام) إلى الأشتر.

(33) من عهده (عليه السلام) إلى الأشتر.

(34) شرح نهج البلاغة 7 : 36 باب 91.