الفصل الثالث

معالجة القلب

 

 

«فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ أَيْ بُنَيَّ، وَلُزُومِ أَمْرِهِ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ، وَالاِْعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَأَيُّ سَبَب أَوْثَقُ مِنْ سَبَب بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ، أَحْيِي قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ، وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالاَْيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الاَْوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا، فَإِنَّكَ تَجِدْهُمُ انْتَقَلُوا عَنِ الاَْحِبَّةِ، وَحَلُّوا دارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ، فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَدَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لاَ تَعْرِفُ، وَالْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيق إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الاَْهْوَالِ».

 

تقوى الله تعالى:

قوله (عليه السلام): «فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ أَيْ بُنَيَّ وَلُزُومِ أَمْرِهِ».

هذا فصل يتكفّل سعادة الدارين للإنسان، وعمدة ما يهمّ في النظام النوعي والفردي، وأهمّ ما يقرّره علم الاجتماع.

ففي هذه الكلمة الحثّ على التقوى التي لا يعتمد جمام الإنسان وراحة البشر إلاّ عليها. فرجل التقوى هو الذي تأمن الناس بوادره، وتأمل نجعته ورفده، ولا يتحرّى إلاّ مرضاة ربّه، ويخشى غضبه. وعامل التقوى يحدوا إلى هذه كلّها، ولزوم أمره سبحانه مساوق لما ذكرناه من لوازم التقوى.

ولم تكن هنالك خصلة أصلح للعبد، وأجمع للخير وأعظم بالقدر، وأنجح للآمال من التقوى، والقرآن الكريم مشحون بمدحها وفضلها، وعدّد في مدحها خصالا:

1 ـ المدحة والثناء بقوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ) [آل عمران : 186].

2 ـ الحفظ والتحصين من الأعداء وهو قوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران : 120].

3 ـ التأييد والنصر وهو قوله: (أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة : 194].

4 ـ إصلاح العمل وهو قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً   يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)[الأحزاب : 70-71].

5 ـ غفران الذنوب وهو قوله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران : 31].

6 ـ محبّة الله تعالى وهو قوله: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة : 4].

7 ـ قبول العمل وهو قوله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : 27].

8 ـ الإكرام وهو قوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات : 13].

9 ـ البشارة عند الموت وهو قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ  لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الاْخِرَةِ) [يونس : 63-64].

10 ـ النجاة من النار كما في قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : 72].

11 ـ الخلود في الجنّة كما في قوله تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : 133].

12 ـ تيسير الحساب كما في قوله: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء) [الانعام : 69].

13 ـ النجاة من الشدائد والرزق الحلال كما في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً)[الطلاق : 2 ـ 3].

فلينظر الإنسان إلى ما جمعت هذه الآيات من السعادة والخير، فلا ينس نصيبه منها.

* * *

ذكر الله تعالى:

قوله (عليه السلام): «وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ».

عمارة القلب بذكر الله تعالى ذكراً لا يعتريه النسيان، يستتبع ملازمة الطاعة له، والانسلال عن معصيته في جميع أطوار الإنسان وشؤونه، في سرّه وعلانيته، وفي حلّه ومرتحله، فلا يرد إلاّ في طاعة، ولا يصدر إلاّ عن معصية، فمن كان محبوّاً بهذه الفضيلة فالناس جميعاً محبورون بفضائله وفواضله.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا أُنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الورق والذهب، وخيرٌ لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عزّ وجلّ(1).

وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضاً: سبق المغرّدون، سبق المغرّدون، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: المستغرقون بذكر الله تعالى، وضع الذكر عنهم أوزارهم، فوردوا القيامة خفافاً(2).

وقال الله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال : 45]. وقد انكشف لأرباب البصائر المستنيرة بنور المعرفة أنّ ذكر الله أفضل الأعمال الروحية، والقلبية، والنفسية، والبدنية، ولكن له مراتب بعضها قشور، وبعضها لبوب. وللذاكر أيضاً مراتب بحسبه، ولكلّ ذكر نتيجة أيضاً فإنّ نتيجة ذكر العبد لله ذكر الله له كما قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم) [البقرة : 152].

وقيل: في هذه العبارة تقديم وتأخير لأنّ الله أمرهم بالذكر مع فاء التعقيب كقوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : 54 ]وقوله تعالى: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : 119]، وذلك لأنّ ذكر العبد لله تعالى نتيجة ذكر الله له كما أنّ محبّتهم له ورضاءهم عنه تعالى نتيجة محبّته إيّاهم، ورضوانه عنهم.

والحقّ أنّ لكلّ من القولين وجهاً وجيهاً; لأنّ التقدّم في الأول على سبيل الاعداد والتهيئة، وفي الثاني على سبيل العلّية واللزوم; لأنّ جميع حالات العبد تابعة لما في علم الله وقضائه الاجمالي ثمّ التفصيلي، فذكرنا له تعالى مسبّب عمّا في اللوح المحفوظ والذكر الحكيم.

وأيضاً فإنّ ذكر العبد لله، ومحبّته له، ورضاءه عنه، وسائر صفاته الحسنة، وأعماله الصالحة مؤدّية له إلى أمثال هذه النتائج على وجه أكمل وأعلى، فإنّ لكلّ شيء حادث، كما له مبدءاً كذلك يكون له غاية. والمبادئ للأشياء ذوات الغايات هي نفس الغايات بالذات، وغيرها بالاعتبار كما حقّق في مظانّه. أو لا ترى أنّ تصوّر كلّ فاعل مختار لنتيجة فعله وكمال عمله متقدّم علماً على ثبوت تلك الغاية، وهي متأخّرة عنه عيناً.

فإذا كان هكذا فنقول: لمّا كان الله سبحانه مبدء كلّ شيء وغايته، وأوّل كل فكر وذكر ونهايته، وظاهر كل موجود وباطنه، فالأوّل فيه عين الآخر، والباطن عين الظاهر، والعلم هناك عين العين فقد صحّ كلٌّ من الوجهين في الذكر.

وهذا أيضاً من العلوم المختصّة بأحبّاء الله ومشتاقيه المجذوبين إليه.

هذا ولنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان مراتب الذكر والذاكر ونتيجة كل مرتبة فنقول: أما مراتب الذكر والذاكر: فذكر اللسان، وذكر الجوارح والأركان، وذكر النفس، وذكر القلب، وذكر الروح، وذكر السرّ.

وأمّا تعيينها وتعيين نتائجها: فذكر اللسان الاقرار، ونتيجته حقن الدم والمال بالأمان «فاذكروني بالايمان أذكركم بالأمان».

وذكر الأركان باستعمال الطاعات والعبادات للوصول إلى المثوبات «فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمثوبات».

وذكر النفس بالاستسلام للأوامر والنواهي، للفوز بنور الاسلام «فاذكروني بالاستسلام اذكركم بنور الاسلام». وذكر القلب بتبديل الأخلاق الذميمة، وتحصيل الأخلاق الكريمة للتشبّه بالحق والانخراط في سلك أحبّائه، والاتّصال بجنابه، «فاذكروني بالأخلاق أذكركم بالاستغراق».

وذكر الروح بالتغريد والمحبّة، لحصول المعرفة والحكمة «فاذكروني بالتغريد والمحبّة، أذكركم بالتوحيد والقربة».

وذكر السرّ ببذل الوجود لوجدان المعبود «فاذكروني ببذل الوجود والفناء أذكركم بنيل الشهود والبقاء».

وهذا حقيقة قوله في الحديث القدسي: «وإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي».

وهذا هو لبّ الألباب، وهو الذكر الحقيقي، والغاية الأخيرة لما في الخطاب. وهو يجعل الذاكر مذكوراً، والمذكور ذاكراً. بل الذكر والذاكر والمذكور واحد، كما قال سبحانه: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : 16].

وقال الشاعر:

رقّ الزجاج ورقّة الخمر *** فتشابها وتشاكل الأمر

فكأنّه خمر ولا قدح *** وكأنّه قدح ولا خمر

فافهم ذلك واعرف قدره، فإذا تقرّر ذلك فقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال : 45] يحتمل القياس للجميع، وكذا قياس ما هو نتيجة له بحسب الأقسام من قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فلكلّ ذكر من أقسام الأذكار فلاح يناسب معناه.

فاذكروا الله باللسان لعلّكم تفلحون بالاحقان والأمان، وبعمل الأركان لعلّكم تفلحون بالوصول إلى مثوبات الجنان، وبالنفس بالاستسلام لعلّكم تفلحون بنور الإسلام، وبمحبّة القلب لعلّكم تفلحون بالاستغراق في محبّته، وبالروح لعلّكم تفلحون بمعرفته وحكمته، وبالسرّ من جهة الفناء فيه لعلّكم تفلحون بنيل شهوده وجماله والبقاء به بعد الفناء فيه.

* * *

الاعتصام بحبله تعالى:

قوله (عليه السلام): «وَالاِْعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَأَيُّ سَبَب أَوْثَقُ مِنْ سَبَب بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ».

الاعتصام بحبل الله تعالى يعصم الإنسان عن التورّط في مساقط الهوى، والانهماك في مهاوي الشهوات، فمتى راقه أن يقترف إثماً، أو يلمّ بسيّئة، وجد من نفسه ما يضرب على يده، ويجعجع به عن السير في سنن الهلكات، كما أنّه لا يبارحه حاثّ من نفسه على عمل الخيرات، وما فيه صالح نفسه ومناجح البشر عامة، وليس حبل الله وعروته الوثقى التي يجب أن يستمسك بها غير ذينك الأصلين الذين فيهما السعادة الخالدة، وفوز الدارين.

ثمّ إنّه (عليه السلام) أكّد أمره بالاعتصام بحبله تعالى بأنّه أوثق العرى، وأقوى الأسباب، وفي شريعة الحجى أنّه يجب أن يؤخذ بما لا يخشى انقطاعه ولا يحاذر انفصامه، ولا يدنو منه السقوط والهلكة، ولا يحتمل معه التدهور والتقهقر، فيكون العامل قد ارتجّ على نفسه أبواب الضعة، وكبح الضرر المحتمل الذي يجب المحاذرة عنه.

وهذه مواد حيوية للنفس، يجب التحلّي بها، أفاضها (عليه السلام) على كلّ البشر وهو يخاطب ابنه المحبوب، فجاء مسير كلامه كما قلنا مسير المثل السائر ـ إياك أعني واسمعي يا جارة ـ فإنّ الإمام المجتبى صلوات الله عليه هو منبثق أنوار العظات البالغة، ومنار الحكم والأحكام كلّها، وآية العدل، وشارة الأخلاق، منذ بدء حياته، فهو في غنىً عن المواعظ والوصايا.

 

عليّ رمز الاعتصام:

وقيل: المراد بالحبل هو الولاء لعلي وأولاده الطاهرين المعصومين، والأخبار مستفيضة بذلك، جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): «آل محمّد هم حبل الله المتين الذي أمر بالاعتصام به فقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)» [آل عمران : 103]. وجاء أيضاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «إنّ عليّ بن أبي طالب هو حبل الله المتين»(3).

وفي تفسير البرهان عن جابر بن عبد الله الأنصاري (قدس سره) قال: وفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل اليمن، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): جاءكم أهل اليمن يبسّون بسيساً، فلمّا دخلوا على رسول الله قال (صلى الله عليه وآله): قوم رقيقة قلوبهم، راسخ إيمانهم، منهم المنصور يخرج في سبعين ألفاً ينصر خلفي وخلف وصيّي، حمائل سيوفهم المسك.

فقالوا: يا رسول الله ومن وصيّك؟ فقال: هو الذي أمركم الله بالاعتصام به، فقال عزّ وجلّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران : 103]. فقالوا: يا رسول الله بيّن لنا ما هو الحبل، فقال: قول الله (إِلاَّ بِحَبْل مِنَ اللهِ وَحَبْل مِنَ النّاسِ) [آل عمران : 112]. فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصيّي، فقالوا: يا رسول الله ومن وصيّك؟

فقال: هو الذي أنزل الله فيه (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : 56]، فقالوا: يا رسول الله وما جنب الله هذا؟ فقال: هو ا لذي يقول الله فيه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الْظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا)[الفرقان : 27] هو وصيي والسبيل إليّ من بعدي، فقالوا: يا رسول الله بالذي بعثك بالحق نبيّاً أرناه فقد اشتقنا إليه.

فقال: هو الذي جعله الله آية للمتوسّمين، فإن نظرتم إليه نظر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عرفتم أنّه وصيّي كما عرفتم أنّي نبيّكم، فتخلّلوا الصفوف، وتصفّحوا الوجوه، فمن أهوت إليه قلوبكم فإنّه هو، لأنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : 37] إليه وإلى ذريّته (عليهم السلام).

قال جابر: فقام أبو عامر الأشعري في الأشعريين، وأبو غرة الخولاني في الخولانيين، وظبيان، وعثمان بن قيس، وعزّة الدوسي في الدوسيين، ولاحق بن علاقة، فتخلّلوا الصفوف، وتصفّحوا الوجوه، وأخذوا بيد الأصلع البطين، وقالوا: إلى هذا أهوت أفئدتنا يا رسول الله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أنتم نخبة حين عرفتم وصيّ رسول الله قبل أن تعرفوه، فبِمَ عرفتم أنّه هو؟

فرفعوا أصواتهم يبكون، وقالوا: يا رسول الله نظرنا إلى القوم فلم نجش(4) لهم، ولما رأيناه وجفت(5) قلوبنا، ثمّ أظمأ نفرسنا، فانجاشت أكبادنا، وهملت أعيننا، وتبلّجت صدورنا، حتّى كأنّه أبٌ لنا ونحن عنده بنون.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم، أنتم منه بالمنزلة التي سبقت لكم بها الحسنى، وأنتم عن النار مبعدون. قال جابر: فبقي هؤلاء القوم حتّى شهدوا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) الجمل، وصفين، فقتلوا بصفين. وكان النبي (صلى الله عليه وآله)قد بشّرهم بالجنّة، وأخبرهم أنّهم يستشهدون مع علي (عليه السلام)(6).

وجاء فيه أيضاً عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالساً ذات يوم ومعه أصحابه في المسجد، فقال (صلى الله عليه وآله): يطلع عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنّة، يسأل عمّا يعنيه، فطلع علينا رجل طوال، شبيه برجال مصر، فتقدّم فسلّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجلس فقال: يا رسول الله إنّي سمعت الله عزّ وجلّ يقول فيما أنزل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)، فما هذا الحبل الذي أمرنا الله بالاعتصام به، ولا نتفرّق عنه.

فأطرق رسول الله ملياً ثمّ رفع رأسه، فأشار بيده إلى علي (عليه السلام) وقال: هذا حبل الله الذي مَن تمسّك به عصم به في دنياه، ولم يضلّ في آخرته، فوثب الرجل إلى علي فاحتضنه من وراء ظهره وهو يقول: اعتصمت بحبل الله، وحبل رسوله، ثمّ قام فولّى.

فقام رجل من الناس فقال: يا رسول الله ألحقه فأسأله أن يستغفر الله لي، فقال رسول الله: إذاً تجده موفقاً، فلحقه الرجل فسأله أن يستغفر له، فقال له: أفهمت ما قال لي رسول الله وما قلت له؟ قال: نعم، قال: فإن كنت متمسّكاً بذلك فغفر الله لك، وإلاّ فلا غفر الله لك(7).

ونظير هذا ما حدّث به السيد الرضي أعلى الله مقامه في كتابه الخصائص، نقلا عن أبي الحسن موسى الكاظم صلوات الله وسلامه عليه، في خطبة خطبها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه، فقال (صلى الله عليه وآله): أُدعو لي عمّي ـ يعني العباس ـ فدُعي له، فحمله وعلي حتّى أخرجاه فصلّى بالناس، وإنّه لقاعد.

ثمّ حمل فوضع على المنبر بعد ذلك، فاجتمع لذلك جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، حتّى برزت العواتق من خدورها، فبين باك وصائح، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب ساعة ويسكت ساعة، وكان فيما ذكر في خطبته أن قال:

يا معاشر المهاجرين والأنصار ومن حضرني في يومي وساعتي هذه من الانس والجنّ، ليبلغ شاهدكم غائبكم، ألا وإنّي قد خلّفت فيكم كتاب الله، فيه النور والهدى، والبيان لما فرض الله تبارك وتعالى من شيء، حجّة الله عليكم، وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر، علم الدين، ونور الهدى وضياءه، وهو عليّ بن أبي طالب، وهو حبل الله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهَ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : 103].

أيّها الناس هذا عليّ من أحبّه وتولاّه اليوم وبعد اليوم، فقد أوفى بما عاهد عليه الله، ومن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم، جاء يوم القيامة أصمّ أعمى، لا حجّة له عند الله(8).

ومن النوادر التي ناسب ذكرها هنا ما ذكره البيهقي في كتابه (المحاسن والمساوي) في باب محاسن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): فقد حدّث عن أبي عثمان قاضي الري، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الله بن عباس بمكّة يحدّث على شفير زمزم ونحن عنده، فلمّا قضى حديثه قام إليه رجل فقال: يا ابن عباس إنّي امرؤ من أهل الشام من أهل حمص، إنّهم يتبرّؤون من عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه ويلعنونه.

فقال: بل لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وأعدّ لهم عذاباً مهيناً، ألِبُعْدِ قرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين إيماناً بالله ورسوله، وأوّل من صلّى وركع وعمل بأعمال البر؟! قال الشامي: إنّهم والله ما ينكرون قرابته وسابقته، غير أنّهم يزعمون أنّه قتل الناس.

فقال ابن عباس: ثكلتهم أُمّهاتهم إنّ علياً أعرف بالله عزّ وجلّ وبرسوله وبحكمهما منهم، فلم يقتل إلاّ من استحقّ القتل، قال: يا ابن عباس إنّ قومي جمعوا لي نفقة، وأنا رسولهم إليك وأمينهم، ولا يسعك أن تردّني بغير حاجتي، فإنّ القوم هالكون في أمره، ففرّج عنهم فرّج الله عنك، فقال ابن عباس: يا أخا أهل الشام إنّما مثل عليّ في هذه الأُمّة في فضله وعلمه، كمثل العبد الصالح الذي لقيه موسى (عليه السلام) لما انتهى إلى ساحل البحر، فقال له موسى: «هل أتبعك على أن تعلّمني ممّا علّمت رشداً».

قال العالم: «إنّك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً» قال موسى (عليه السلام): «ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً» قال له العالم: «فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيء حتّى أُحدّث لك منه ذكراً، فانطلقا حتّى إذا ركبا في السفينة خرقها» وكان خرقها لله عزّ وجلّ رضىً، ولأهلها صلاحاً، وكان عند موسى سخطاً وفساداً، فلم يصبر موسى وترك ما ضمن له، فقال: «أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً».

قال له العالم: «ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبراً» قال موسى (عليه السلام): «لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً» فكفّ عنه العالم: «فانطلقا حتّى إذا لقيا غلاماً فقتله» وكان قتله لله عزّ وجلّ رضىً، ولأبويه صلاحاً، وكان عند موسى ذنباً عظيماً، قال موسى ولم يصبر: «أقتلت نفساً زكيةً بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً».

قال العالم: «ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبراً» «قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذراً، فانطلقا حتّى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه» وكانت إقامته لله عزّ وجلّ رضىً، وللعالمين صلاحاً، فقال موسى: «لو شئت لاتّخذت عليه أجراً قال هذا فراق بيني وبينك» [الكهف : 66-78].

وكان العالم أعلم بما يأتي من موسى (عليه السلام)، وكبر على موسى الحق وعظم إذ لم يكن يعرفه. هذا وهو نبيّ مرسل من أُولي العزم، ممّن أخذ الله جلّ وعزّ ميثاقه على النبوّة منه، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك. إنّ علياً (عليه السلام) لم يقتل إلاّ من كان يستحلّ قتله، وإنّي أخبرك إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان عند أمّ سلمة بنت أبي أُميّة، إذ أقبل علي (عليه السلام) يريد الدخول على النبي (صلى الله عليه وآله)، فنقر نقراً خفيّاً، فعرف رسول الله نقره، فقال: يا أُمّ سلمة قومي فافتحي الباب.

فقالت: يا رسول الله، من هذا الذي يبلغ خطره أن أستقبله بمحاسني ومعاصمي؟ فقال: يا أُمّ سلمة إنّ طاعتي طاعة الله جلّ وعزّ، قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) [النساء : 80] قومي يا أُمّ سلمة فإنّ بالباب رجلا ليس بالخرق، ولا النزق، ولا بالعجل في أمره، يحبّ الله ورسوله، يا أُمّ سلمة إنّه إن تفتحي الباب له فلن يدخل حتّى يخفى عليه الوطء.

فلم يدخل علي (عليه السلام) حتّى غابت عنه، وخفي عليه الوطء، فلما لم يحسّ لها حركة دفع الباب ودخل، فسلّم على النبي (صلى الله عليه وآله)فردّ عليه السلام، وقال: يا أُمّ سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا عليّ بن أبي طالب، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نعم هذا علي سيط(9) لحمه بلحمي، ودمه بدمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.

يا أُمّ سلمة هذا علي سيّد، مبجّل، مؤمّل المسلمين وأمير المؤمنين، وموضع سرّي، وعلمى، وبابي الذي يؤوى إليه، وهو الوصيّ على أهل بيتي، وعلى الأخيار من أُمّتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة، وهو معي في السناء الأعلى، إشهدي يا أُمّ سلمة إنّ علياً يقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، قال ابن عباس: وقتلهم لله رضى، وللأُمّة صلاح، ولأهل الضلالة سخط.

قال الشامي: يا ابن عباس من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا علياً بالمدينة، ثمّ نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم، فقال الشامي: يا ابن عباس ملأت صدري نوراً وحكمةً، وفرّجت عنّي فرّج الله عنك، أشهد أنّ علياً (عليه السلام)مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(10).

* * *

إحياء القلب بالموعظة:

قوله (عليه السلام): «أَحْيِي قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ».

أمره (عليه السلام) بإحياء قلبه بالموعظة لما فيها من تنشيط العامل إن كان متحلياً بما تقتضيه الموعظة، وإرجاعه إلى الأمر الحكيم إن كان خلواً منها، فهو كلّ حين بين النشاط والمسرّة، بما آب إليه من الجميل المبهج بلحاظ عواقبه السارّة.

وليس شيء أنفع للمرء من الموعظة، فإنّها تحيي القلب، وتفتح البصيرة، وتوقظ الفكرة، وتشدّ الهمّة، وتبعث العزيمة، وما أُتي الناس إذ تسقط أخلاقهم، وتذهب آدابهم، وينتشر الفساد فيهم إلاّ من قبل عدم الموعظة والواعظين لهم.

وإنّك لتجد الفرق ظاهراً بين رجل يحضر مجالس الوعظ والتذكير، وبين رجل أهمل ذلك، وتباعد عنه، فإنّك ترى من لين الأول وأدبه ورقّته وعطفه، وانصياعه للقول، وإقباله على النصيحة، ما لا ترى في الثاني بل هو على العكس من الأوّل في خشونته، وجفائه، وقطيعته، وعدم التزامه بشيء من الأدب والدين، يمثل الوحوش الضواري في بطشها وسطوتها، وهب أنّه متعلّم فإنّ كثيراً من المتعلّمين يؤتون من قبل علمهم إذا فسدت أخلاقهم، فيتّخذون ما بأيديهم من العلم سلاحاً يتوصّلون به إلى مقاصدهم الفاسدة، وأغراضهم الخبيثة.

أُنظر هذه الأُمم المتناحرة التي يصول بعضها على بعض، ويحاول بعضها ابتلاع بعض، أليس الذين على رأسها هم أكثر الناس علماً، وأوفرهم معرفةً كما يزعمون، أين ذهب عنهم علمهم، وأين ولّت عنهم معارفهم، لو كانت المعارف والعلوم وحدها هي الرادع عن الشر، والوازع عن الأذى والظلم. لا جرم أنّ الأُمم بأخلاقها، وأنّ الأخلاق تأتي من قبل العلم الصحيح، والعلم الصحيح يأتي من قبل القائمين عليه الحافظين لحدوده، وهو والدين الصحيح سواء.

كذب من قال: «العلم في جنب، والدين في جنب» بل هما أخوان متلازمان، وعضدان متوازران، لا ينفك أحدهما عن الآخر، والعقل سراجهما المنير، ومستشارهما الناصح، والوعظ جلاؤه وبه حياته، يقول (عليه السلام): «إحيي قلبك بالموعظة». ويقول في مقام آخر: «إنّ الله سبحانه جعل الذكر ـ التذكير والموعظة ـ جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة(11)، وتنقاد به بعد المعاندة»(12).

ولشرف الوعظ وفضله تولاّه الله سبحانه، ثمّ أمر أنبياءه ورسله أن يتولّوه ويقوموا به.

ومواعظ الله في خلقه كثيرة، ونصائحه لهم عظيمة، يكتبها الدهر، وتقرأها عليك الليالي والأيّام، وأفصحها كتبه المنزلة، وشرائعه المفصلة.

وأفضل كتبه القرآن (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة : 231] وأكمل شرائعه خاتمتها، وأفصح أنبيائه وأنصحهم محمّد (صلى الله عليه وآله) (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة : 128].

ومن السابقين لقمان إذ يقصّ الله علينا من مواعظه (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَتَكُنْ فِي صَخْرَة أَوْ فِي السَّموَاتِ أَوْ فِي الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان : 13و16].

وروي أنّ داود (عليه السلام) كان ينصب له منبراً فيجلسه عليه، ثمّ يجلس هو تحت منبره يستمع لحكمته.

ولقد أهمل الوعظ والتذكير في هذه العصور، تركه العالمون فأنف من الاستماع الجاهلون، ومتى لم يستعمل العالم علمه أنف الجاهل أن يتعلّم.

وإنّ للواعظ شرائط إذا أهملت كلا أو بعضاً، قلّ التأثير ففات الغرض، الأوّل: أن يكون عالماً. الثاني: أن يكون ناصحاً. الثالث: أن يكون ذا بيان. الرابع: أن يكون حكيماً، وذلك أنّ الجاهل لا يعرف ما يعظ به، وغير الناصح ربّما يتخيّر من الكلام، ويستخدم من البيان ما له فيه غرض وغاية ومنفعة، صلح به الناس أم فسدوا.

والذي لا بيان له لا يقدر على التصرّف في إيراد الكلام وإصداره حسبما تقتضيه المصلحة، أما تسمع موسى بن عمران (عليه السلام) حيث يقول وقد كلّف أمر الرسالة: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونَ)[القصص : 34]. وغير الحكيم ربما كان ضرره أكبر من نفعه، لوضع وعظه في غير محلّه، وإيراده في غير موقعه، إنّ الوعظ حكمة، والحكمة إذا أعطيتها لغير أهلها فقد ضيّعتها وظلمتها، والواجب أن يعطى لكلٍّ ما يناسبه، وما ينتفع به ويفهمه.

لقد أُلقيت هذه الوظيفة الشريفة اليوم إلى غير أهلها، وحملها من لا قدرة له على القيام بعبئها، ولكن الذي يخفّف المصيبة أنّه لا تخلو الأرض من عامل عليها بخير وأنّه:

«ما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكّرون بأيّام الله ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، فمن أخذ القصد حمدوا إليه الطريق وبشّروه بالنجاة، ومن أخذ يميناً وشمالا ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة، وكذلك كانوا مصابيح تلك الظلمات وأدلّة تلك الشبهات»(13). وهكذا يكونون، «ولله الحجّة البالغة». ولابدّ لنا في هذا المقام من التنبيه على أُمور:

الأوّل: في التنبيه على آداب الواعظ مع من يعظه.

الثاني: في التنبيه على آداب من يستمع الموعظة.

التنبيه الأول: في آداب الواعظ:

إنّ للواعظ آداباً ينبغي أن يتحلّى بها، ويحرص عليها، لتُعينه على مراده، وتوصله إلى غرضه وقصده.

منها: أن لا يواجه المستمعين بالشدّة، ولا يستقبلهم بالعنف، ولا يلومهم، ولا يعيّرهم لما في اللوم والتعيير من شدّة التحمّل له، ومشقّة الصبر عليه، فيكون الوعظ حينئذ سبباً للنفرة، وداعياً لعدم الاصغاء، وموجباً للتباعد عن القبول والاقبال، وكثيراً ما يوقع في عكس المقصود.

بل الواجب استعمال الرفق واللين، فإنّه أوصل للقصد، وأجلب للقلب، وأقرب إلى مرضاة الرب، ألا ترى وتسمع كيف يأمر الله سبحانه موسى وهارون أن يقولا لفرعون الطاغية المتمرّد: (قَوْلا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه : 44].

وإذا كان يرجى استجلاب فرعون وخشيته وتذكّره على كبريائه وجبروتيّته فكيف غيره، وكم يكون من عداه قريباً من الحقّ حريّاً بالخشية، جديراً بالتذكّر إذا وعظ باللين، وخوطب بالرفق، ودعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

روى الشيخ المفيد (قدس سره) في إرشاده: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قسّم غنائم حنين في قريش خاصّة، وأجزل القسمة للمؤلّفة قلوبهم كأبي سفيان (صخر بن حرب)، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أُميّة، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وزهير بن أبي أُميّة، وعبد الله بن أُميّة، ومعاوية بن أبي سفيان، وهشام بن المغيرة، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن وأمثالهم، وانّه جعل للأنصار من ذلك شيئاً يسيراً، لما فعل ذلك غضب قوم من الأنصار لذلك، وبلغ رسول الله عنهم مقالا أسخطه، فنادى فيهم فاجتمعوا، ثمّ قال لهم: اجلسوا ولا يقعد معكم أحد من غيركم.

فلمّا قعدوا وجاء النبي (صلى الله عليه وآله) يتبعه أمير المؤمنين (عليه السلام) حتّى جلسا في وسطهم، وقال لهم: إنّي سائلكم عن أمر فأجيبوني، فقالوا: قل يا رسول الله، قال: ألستم كنتم ضالّين فهداكم الله بي؟ فقالوا: بلى والله، فلله المنّة ولرسوله، قال: ألم تكونوا على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله بي؟ قالوا: بلى فلله المنّة ولرسوله، قال: ألم تكونوا قليلا فكثّركم الله بي؟ قالوا: بلى فلله المنّة ولرسوله، قال: ألم تكونوا أعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلى فلله المنّة ولرسوله.

قال: ثمّ سكت النبي (صلى الله عليه وآله) هنيئة، ثمّ قال: ألا تجيبوني بماعندكم؟ قالوا: بما نجيبك فداؤك آباؤنا وأُمّهاتنا، قد أجبناك بأنّ لك الفضل والمنّ والطول علينا، قال: أما لو شئتم لقلتم، وأنت قد كنت جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمنّاك، وجئتنا مكذّباً فصدّقناك، قال: فارتفعت أصواتهم بالبكاء وقام شيوخهم وساداتهم إليه، وقبّلوا يديه ورجليه.

ثمّ قالوا: رضينا بالله وعنه، وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا بين يديك، فإن شئت فاقسمها على قومك، وإنّما قال من قال منّا على غير وغر(14) صدر، وغلّ في قلب، ولكنّهم ظنّوا سخطاً عليهم، وتقصيراً لهم، وقد استغفروا في ذنوبهم، فاستغفر لهم يا رسول الله.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اللّهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاة والنعم، وترجعون أنتم سهمكم رسول الله؟ قالوا: بلى رضينا(15).

وروى أبو الفرج الاصبهاني في كتابه (مقاتل الطالبيين) ما مضمونه:

أنّ أبا جعفر المنصور لما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بباخمرى، بعث على العلويين الذين في المدينة فأُتي بهم إلى الكوفة ـ حيث مقر ملكه وسلطانه يومئذ ـ قال: فمكثوا شهراً يتوقّعون فيها القتل، ثمّ دخل عليهم الربيع بن يونس ـ حاجب المنصور ـ فقال: أين هؤلاء العلويّة ليدخل اثنان من ذوي الحجى منكم على أمير المؤمنين، وكان في العلويين الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، والحسن بن زيد، وكان الحسن بن زيد أسنّ من الصادق (عليه السلام)، ومن هنا قال له الصادق (عليه السلام): اجعل لي الكلام اليوم.

فلما دخلا قال المنصور للصادق (عليه السلام): أنت الذي يعلم الغيب.

فقال الصادق (عليه السلام): لا يعلم الغيب إلاّ الله.

قال: أنت الذي يُجبى إليك هذا الخراج؟

قال: إليك يُجبى الخراج يا أمير المؤمنين.

قال: أتدري لم أتيت بكم؟ قال: لا.

قال: أريد أن أهدم رباعكم، وأعقر نخيلكم، وأترككم بالسراة، لا يقرب اليكم أحد من أهل الحجاز ولا من أهل العراق، فإنّهم لكم مفسدة.

قال الصادق (عليه السلام): إن أيّوب ابتلي فصبر، وإنّ يوسف ظلم فغفر، وإنّ سليمان أُعطي فشكر، وأنت من ذلك النسل. وكان المنصور مغضباً فتبسّم ضاحكاً وقال: أعد عليّ هذا القول فأعاده، فقال: مثلك يكون خطيب القوم، ولأصلنّ رحمكم اليوم(16).

فانظر كيف كفّ سورة غضبه، وأعاده إلى رشده، وحمله على صلة رحمه لين كلمته. وهكذا ينبغي أن يكون الواعظ، وهل يقدر على أن يكون هكذا إلاّ العالم؟

مشيناها خُطى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خُطى مشاها

التنبيه الثاني: في آداب من يستمع الموعظة:

ما مني الناس بمرض أفتك في عقولهم، وأردى لنفوسهم من عدم الاتّعاظ، ومن الاعراض عن قبول النصيحة والموعظة، وإنّ من سدّ على نفسه هذا الباب فقد سدّ عليها كلّ باب من أبواب الخير، وكلّ سبيل من سبل الهداية والرشد، وتركها ميداناً لتجوال الهوى، ومسرحاً لعبث الغواية، وملعباً تلعب وتعبث بها بواعث الشهوات، ودواعيها وشياطينها، وما أقرب من كان كذلك إلى الهلكة المخزية، وسوء المصير المردي، أعاذنا الله منه.

فأوّل واجبات المرء أن يأخذ نفسه به أخذاً شديداً، ويحملها عليه حملا مرغماً لا هوادة فيه، وليفضل الحضور في مجالس الوعظ والتذكير على كلّ أمر وإن عزّ وعظم، وليقبل على الاصغاء والاستماع للواعظ بكلّ ما أُوتي من فهم، وليحرص على من يسمعه ويفهمه منه بكلّ ما عنده من قابلية واستعداد، وليعلم أنّ الانتفاع به يحتاج إلى أمرين.

الأوّل: إصلاح العقيدة، فإنّ من فسدت عقيدته قلّت عظته، وعميت بصيرته، وقسا قلبه (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاَْنْهَارَ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءَ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)[البقرة : 74].

الثاني: اجتناب أكل المال الحرام، فإنّه يورث القسوة، ويحجب البصيرة، ويمنع من استماع الموعظة والتأثر بالنصيحة.

قال الحسين (عليه السلام) يوم الطفّ لمن أقدم على قتاله، واستباح الفتك بعياله وأطفاله، بعدما تقدّم إليهم بمواعظه البالغة، ونصائحه المنجية فلم يسمعوا، قال (عليه السلام): وكيف تسمعون لي وقد ملأت بطونكم من الحرام(17).

ولقد كان بعض السلف الصالحين من أهل العلم يقتاتون ببطن الاضطرار(18)، إحتياطاً لأنفسهم من أكل المال الحرام، يرون أنّ ما يأكلونه على هذا الوضع وإن كان حلالا في الظاهر فإنّه يحتمل أن يكون حراماً في الواقع، فيقتصرون منه على ما يضطرّون إليه، فإن كان حلالا فقد انتفعوا بكبح جماح أنفسهم، وقمعها عن شهواتها، وإن كان حراماً لا يضرّهم; لأنّ لهم عند الاضطرار أن يتناولوا من الحرام بمقدار ما يقيم صلبهم، ويدفع الموت عن أنفسهم.

وقد كان حجة الإسلام الشيخ محمّد طه نجف رضوان الله عليه، يفتي بلزوم التقيّؤ على من أكل حراماً ثمّ عرف حرمته بعد ازدراده، والظاهر أنّ ذلك نظراً منه إلى أنّ الحرام يوجب ظلمة في النفس يبتعد بها المرء عن الله سبحانه.

وإنّ الأنبياء (عليهم السلام) كانوا يبالغون في الاجتناب عن ذلك، حتّى أنّهم اقتصروا على أن يأكلوا ممّا كسبت أيديهم، والذي لم يتهيّأ له ذلك يأكل من حشائش الأرض ومنابتها المباحة لسائر الحيوانات.

فكان موسى (عليه السلام) يقتات من حشائش الأرض، حتّى كانت خضرة الحشيش تُبان من صفاق بطنه، وما سأل ربّه حيث قال: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ) [القصص : 24] إلاّ خبزاً يأكله. وكان عيسى (عليه السلام) يقول: «زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وأكلي ممّا تنبت الأرض». وكان سليمان يسفّ الخوص ويأكل من ثمنها، وكذلك كان أبوه داود، يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.

حدّث السيد المرتضى (قدس سره) في كتابه تنزيه الأنبياء: «إنّ داود كان في بدء أمره يأكل من بيت المال، فسئل يوماً عن سيرة نفسه، وكان المسؤول جبرئيل (عليه السلام)، فقال: نعمت السيرة إلاّ أنّه يأكل من بيت المال.

وما كان ذلك عليه حراماً، ولكن الله أراد أن يتنزّه عن ذلك، فقال داود: لقد آلى داود على نفسه أن لا يأكل من بيت المال، ولما علم الله منه صدق النيّة ألان له الحديد، فكان يصنع منه الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.

وإنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) كان أكله خبز الشعير، وما شبع من خبز برّ قط، وكان أحبّ شيء إليه أن يكون خائفاً جائعاً.

وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يضع خبز الشعير في جراب، ثمّ يختم عليه خوفاً من الحسن والحسين (عليهما السلام) أن يلتاه(19) بسمن أو زيت، وهو القائل: وكأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا طعام ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن مبارزة الأقران، ومنازلة الشجعان(20).

وأنت ترى أنّ هؤلاء الأنبياء وأتباعهم، ما كانوا يمنعون أنفسهم ممّا أحلّ الله لهم، إلاّ لمثل هذه الملاحظات القيّمة التي كشفنا لك عن أحدها والله خبير بما يعملون.

 

فيمن وعظ بقليل الموعظة فاتّعظ:

إنّه من الصعب حتّى على الجهبذ المعرفة بنفسيّات الناس والنفوذ إلى العلم بمنطويّاتهم، وإلى الاطلاع على سرائرهم، وفهم قابليّاتهم واستعداداتهم.

نعم ربّما تطفح على وجه المرء إمارات، وتظهر منه أفعال وأعمال، تكشف عن منوياته ومخفياته، إلاّ أنّ العالم بذلك قليل نادر، ولقد وضع الناس لذلك علماً خاصاً سمّوه علم الفراسة، وهو نوع منها يعلم بالدلائل والتجارب والأخلاق، فمن ذلك قولهم: «إنّ سعة الجبهة في الإنسان تدلّ على سعة خلقه، وعرض الصدر يدلّ على شجاعته».

ومن الفراسة ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون بعض أحوال الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الحدس والظنّ، وهو المشار إليه في الحديث: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور الله»(21).

ومن ذلك قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام)لابن عباس في وقعة الجمل: «لا تلق طلحة، فإنّك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه، يركب الصعب، ويقول: هو الذلول، وألق الزبير، فإنّه أرقّ قلباً، وقل له: يقول ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق، فما عدا ممّا بدا»(22).

لقد كان علي (عليه السلام) يعرف نفسيّات الناس، وينفذ بفكره النيّر إلى منويّاتهم ومطويّاتهم، عرف مصير همام وما ينتهي إليه حين سأله أن يصف له المتّقين، فتثاقل عن جوابه حتّى عزم عليه، فما انتهى أمير المؤمنين من كلامه حتى صعق همام صعقة كانت نفسه فيها، فقال (عليه السلام): أما والله لقد كنت أخافها عليه، ثمّ قال (عليه السلام): هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها(23).

 

قصة بشر الحافي:

ولا شكّ إنّ في بعض النفوس قابلية واستعداداً لتلقّي الموعظة وقبولها، والتأثّر بها أكثر من بعض، فإذا خرجت الموعظة من أهلها، وصادفت محلّها أثّرت أثرها وفعلت فعلها، فمن أُولئك الأفذاذ الذين وعظوا بقليل الموعظة فاتّعظوا ـ بشر الحافي  ـ كان هذا الرجل في بدء أمره من أهل المعازف والملاهي فتاب.

ذكر العلاّمة في (منهاج الكرامة) سبب اتّعاظه وتوبته: هو أنّه اجتاز مولانا الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصف، فخرجت من تلك الدار جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الدرب. فقال (عليه السلام) لها: يا جارية، صاحب هذه الدار حرّ أم عبد؟ فقالت: بل حر، فقال (عليه السلام): صدقت، لو كان عبداً خاف من مولاه. فلمّا دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأك؟ فقالت: حدّثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافياً حتّى لقي الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، فتاب على يده واعتذر، وبكى لديه استحياءً من عمله(24).

ويظهر أنّه قد أخلص لله فى التوبة حتّى كان ممّن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرّد بوفور العقل وأنواع الفضل، ولا جرم أنّ من أخلص لله كان كذلك.

واستفاضة الحكمة من قلبه على لسانه.

ومن حكميّاته قوله: عقوبة العالم في الدنيا أن يعمى بصر قلبه.

وقوله: ومن طلب الدنيا فليتهيّأ للذلّ.

وقوله: اجعل الآخرة رأس مالك، فما أتاك من الدنيا فهو ربح.

وقوله: حسبك أنّ قوماً موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأنّ قوماً أحياء تقسوا القلوب برؤيتهم.

وقيل له: بأيّ شيء تأكل الخبز؟ قال: أذكر العافية فأجعلها أداماً.

ويحكى عنه انّه كان يقول:

أقسم لمصّ النوى *** وشرب ماء القُلَب(25) المالحة

أعزّ للإنسان من حرصه *** ومن سؤال الأوجه الكالحة

فاستغن بالله تكن ذا غنى *** مغتبطاً بالصفقة الرابحة

اليأس عزّ والتقى سؤدد *** ورغبة النفس لها فاضحة

من كانت الدنيا له مَرةً *** فإنّها يوماً له ذابحة

وسئل عن القناعة، فقال: لو لم يكن في القناعة شيء إلاّ التمتّع بعزّ الغنى لكان ذلك يجزي، ثمّ أنشأ يقول:

أفادتني القناعة أيّ عزّ *** ولا عزّ أعزّ من القناعة

فخذ منها لنفسك رأس مال *** وصيّر بعدها التقوى بضاعة

تحز حالين تغنى عن بخيل *** وتسعد في الجنان بصبر ساعة

 

قصة إبراهيم بن أدهم:

ومنهم إبراهيم بن أدهم: قال شيخنا الفقيه المعتمد عزّ الدين حسين بن عبد الصمد، والد شيخنا البهائي (قدس سره) في كتابه المسمّى بـ (العقد الطهماسي): إنّ بعض الملوك والأكابر من أهل الدنيا إذا علت هممهم، وكثر علمهم بالله، ولحظتهم العناية الربانية، تركوا الدنيا، وتعلّقوا بالله وحده، كإبراهيم بن أدهم، وبشر الحافي، وأصحاب الكهف، فإنّهم لكمال رشدهم لا يرضون أن يشغلوا قلوبهم بغير الله تعالى لحظة عين(26)، فإنّ الموعظة التي أثّرت في إبراهيم ذلك الأثر ونقلته ممّا كان عليه من عزّ الملك والسلطان، إلى اختيار الفقر والهوان، والسياحة في الممالك والبلدان، أمر عظيم لابدّ من معرفته، والاطلاع عليه، وها أنا ذا أُقدّمه بين يديك.

قال صاحب روضات الجنّات: نقل في سبب توبته أنّه نظر يوماً إلى رجل ساكن في ظلّ قصره قد أخرج من جراب خلق كان عنده رغيف كعك، فأكله وشرب عليه من ماء كان معه، ثمّ استلقى على قفاه ونام، فقام إبراهيم من رقدته، وأخذ يفكّر أنّ النفس إذا كانت تقنع بمثل هذا فما نصنع بالدنيا وزخارفها التي لا تبقى إلاّ حسرة في صدورنا حين وداعنا إيّاها، ثمّ خرج في ساعته من زيّ الملوك، وأخذ طريقة الفقراء في السير والسلوك(27).

ونقل: إنّه كان في الصيد ومعه حاشيته وخدمه، قد أعدّوا له مائدة، ووضعوا بها جدياً مشويّاً، فلما رجع هو ومن معه من أصحابه، رأى طائراً إنقضّ على ذلك الجدي فاحتمله وطار به، فلحقه الفرسان الذين كانوا معه على خيولهم يتوقّعون إدراكه لكونه مثقلا، فرأوه قد انحطّ إلى جهة هناك.

فتبادروا إليه وإذا يرون هناك رجلا مكتوفاً والطير يأخذ اللحم بمنقاره ويضعه في فمه، فلمّا رآهم طار، وسألوا الرجل، فقال: إنّي تاجر، وصلت إلى هذا المكان، فخرج عليّ لصوص أخذوا ما معي وأوثقوني كتافاً، وتركوني على هذا الحال، وإنّي منذ سبعة أيّام هنا، وهذا الطير يأتيني برزقي، فخلوا كتافه، وأتوا به إلى إبراهيم فاتّعظ بذلك.

وإنّ بعضهم سأل إبراهيم عن بدوّ أمره، فقال: كان أبي ملكاً من ملوك خراسان، وكنت شاباً فركبت يوماً الى الصيد على فرس لي ومعي كلب، فأثار أرنباً أو ثعلباً، فبينما أنا أطلبه إذ هتف بي هاتف لا أراه وهو يقول: يا إبراهيم ألهذا خلقت، أم بهذا أمرت.

ففزعت ووقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أرَ أحداً، فقلت: لعن الله إبليس، ثمّ حرّكت فرسي وركضت الثانية، ففعل بي مثل ذلك ثلاث مرّات، ثمّ هتف بي هاتف من قربوس السرج، فقال: والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت، فقلت: أنبهت وانتبهت، جاءني نذير من ربّ العالمين، والله لا عصيت الله بعد يومي إذا ما عصمني ربّي، فرجعت إلى أهلي، فخلّيت عن فرسي ثمّ جئت إلى رعاة لأبي، فأخذت من راع جبّة وكساء، ودفعت إليه ثيابي ثمّ أقبلت إلى العراق.

وكيفما كان فإنّه ممّن وعظ بقليل الموعظة فاتّعظ وتاب ونصح في توبته، وأخلص في عمله، وإنّ له أفعالا حميدة، وأقوالا عالية مجيدة(28).

 

نبذ من أفعاله وأقواله:

فمن أفعاله: اعتزاله عن الناس، وانقطاعه للعبادة وطلبه الحلال من المال، وأكله من كسب يده، والتحاقه بالأئمة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله).

ومن أخباره أنّه قال: قدمت بغداد فعملت بها أياماً، فلم يصف لي بها شيء من الحلال، فشاورت في ذلك بعض العلماء، فقالوا: إذا أردت الحلال فعليك ببلاد الشام، فصرت إلى مدينة يقال لها المنصورة فعملت بها أياماً أنظر البساتين، وأحصد الحصاد، فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال لي: إن أردت الحلال الصافي فعليك بطرطوس، فإنّ فيها المباحات، والعمل الكثير، فتوجّهت إلى مدينة طرطوس، فعملت بها أياماً أنظر البساتين وأحصد الحصاد.

ومن أقواله: وقد نزل من جبل فقيل له: من أين أقبلت؟ قال: من الأُنس بالله، وقيل له: لم لا تصحب الناس؟ فقال: إن صحبت من هو دوني آذاني بجهله، وإن صحبت من هو فوقي تكبّر عليّ، وإن صحبت من هو مثلي حسدني، فاشتغلت بمن ليس في صحبته ملال، ولا في وصله انقطاع، ولا في الأُنس به وحشة.

وقال لرجل جاءه بعشرة آلاف درهم، والتمس منه أن يقبلها فأبى عليه، فلحّ الرجل به فقال له: يا هذا! أتريد أن تمحي اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم لا أفعل ذلك أبداً.

وقال لشقيق البلخي وقد قدم مكة ـ وإبراهيم فيها ـ : يا شقيق على ماذا أصلتم أُصولكم؟ فقال شقيق: أصلنا أُصولنا على أنّا إذا رزقنا أكلنا، وإذا منعنا صبرنا، فقال إبراهيم: هكذا كلاب بلخ إذا رزقت أكلت، وإذا منعت صبرت، فقال شقيق: فعلى ماذا أصلتم أُصولكم يا أبا إسحاق؟ قال: أصلنا أُصولنا على أنّا إذا رزقنا آثرنا، وإذا منعنا حمدنا وشكرنا، فقام شقيق وجلس بين يديه وقال: يا أبا إسحاق أنت أُستاذنا.

وقال: وقد قال له بعضهم: أوصني، فقال: اتّخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً.

وكتب إلى سفيان الثوري: ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن طال أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.

 

قصة النعمان بن المنذر:

ومنهم النعمان بن المنذر ـ صاحب الخورنق ـ :

قال البستاني في كتابه (دائرة المعارف) ما مضمونه: إنّ النعمان صعد ذات يوم إلى غرفة من غرف قصره الخورنق، فنظر إلى نهر العاقول يجري من تحته، فأعجبه ذلك، ودخل عليه في تلك الحال وزيره، وكان رجلا عاقلا، فقال له النعمان: أرأيت أجمل من هذا؟ يشير إلى تلك المناظر.

فقال له: لا أيّها الملك لكن لو كان يدوم، فقال النعمان: وهل هناك شيء يدوم؟ قال الوزير: نعم، الجنّة نعيمها دائم ثمّ وصفها له، فقال النعمان: بماذا تُنال؟ فقال الوزير: بطاعة الله، والانقطاع إلى عبادته، فقام النعمان من فوره، وخرج من القصر، فلم يعد إليه ولا علم أين ذهب إلى الآن(29).

وهذا حديث غريب جداً، ووجه غرابته إنّ الملوك بعيدون عن قبول الموعظة، وعن الاتّعاظ بها مهما بلغت من البلاغة، وتعالت في أساليب الاقناع، ذلك أنّ زهو الملك وكبريائه، والاعجاب بالنفس والغرور بما في أيديهم ووقوعه موقع الرضا والقبول من أفئدتهم، وانعكافهم عليه، وحبّهم إليه غشي على بصائرهم، وأبعدهم عن النظر والالتفات الى مصائرهم، فكيف يقبلون على واعظ، أو يلتفتون إلى لفظ لافظ.

ولكن لا أستبعد ذلك فإنّ لله خواصّاً في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وإنّ النعمان كان من الفهم ودقّة الاحساس، وحدة الخاطر، وغلبة العقل، وكماله في نفوذ أمره وسلطانه بمنزلة لا توصف، وهذا قليل في الناس وحقّ لأُولئك القليل أن يرفع ذكرهم، وينشر خبرهم، ويعلن أمرهم، ليقتدى بهم ويهتدى إلى طريقهم، وليجري من كان له قلب على سبيلهم.

وتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إنّ التشبّه بالكرام فلاح

 

إماتة القلب بالزهد:

قوله (عليه السلام): «وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ».

الزهد يكبح جماحه عن الشهوات وما يخالج الإنسان من دواعي النهمة والشره، فكأنّ القلب إذا انكفأ عنها بتصوير مغباتها السيئة، فإنّ روح الحركات الذميمة قد انتزعت منه وكأنّه ميّت عن الدنايا، وإن كانت تزامله الحياة السعيدة الخالدة.

 

درجات الزهد:

ومعلوم أنّ الزهد من عظائم مكارم الصالحين، وجلائل صفات المتّقين، وجملة مقامات السالكين إلى الله تعالى بقدمي الطاعة واليقين، وهو في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على ثلاث درجات:

الدرجة السفلى منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشتهي، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفت ولكن يجاهدها ويكفّها، وهذا يسمّى المتزهّد في حقّ من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد، والمتزهّد يذيب أولا نفسه ثمّ كيسه، والزاهد يذيب أوّلا كيسه ثمّ يذيب نفسه في الطاعات لا في الصبر على ما فارقه، والمتزهّد على خطر فانّه ربّما تغلبه نفسه، وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا والاستراحة بها في قليل أو كثير.

الدرجة الثانية: أن يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إيّاها بالاضافة إلى ما طمع فيه، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين فإنّه لا يشقّ عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل، ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع يلتفت إليه، فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده، ويظنّ بنفسه أنّه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه، وهذا أيضاً نقصان.

الدرجة الثالثة: وهي العليا أن يزهد طوعاً، ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنّه ترك شيئاً إذا عرف أنّ الدنيا لا شيء، فيكون كمن ترك خنفساء وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة، ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً، والدنيا بالاضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخسّ من خنفساء إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد وسببه كمال المعرفة. ومثل هذا الزهد أمن من خطر الالتفات إلى الدنيا، كما أنّ تارك الخنفساء بالجوهرة أمن من طلب الاقالة في البيع.

قال أبو زيد لأبي موسى عبد الرحيم: في أيّ شيء تتكلّم؟ قال: في الزهد، قال: في أيّ شيء؟ قال: في الدنيا، فنفض يده وقال: ظننت أنّك تتكلّم في شيء، الدنيا لا شيء، أيش تزهد فيه(30).

ومثل من ترك الدنيا للآخرة عند أهل المعرفة، وأرباب القلوب المعمورة بالمشاهدات والمكاشفات مثل من منعه عن باب الملك كلب على بابه، فألقى إليه لقمة من خبز فشغله بنفسه ودخل الباب ونال القرب عند الملك حتّى نفّذ أمره في جميع مملكته، أفترى أنّه يرى لنفسه يداً عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى كلب في مقابلة ما يناله.

فالشيطان كلب على باب الله يمنع الناس من الدخول مع أنّ الباب مفتوح والحجاب مرفوع، والدنيا كلقمة خبز إن أكلها فلذّتها في حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع، ثمّ يبقى ثقله في المعدة، ثمّ ينتهي إلى النتن والقذر، ويحتاج إلى إخراج الثقل، فمن يتركها لينال عزّ الملك كيف يلتفت إليها.

ونسبة الدنيا كلّها أثمن ما يسلم لكلّ شخص منها وإن عمّر مائة سنة بالاضافة إلى نعيم الآخرة أقلّ من لقمة بالاضافة إلى ملك الدنيا، إذ لا نسبةَ للمتثبّت إلى ما لا نهاية له، والدنيا متناهية على القرب ولو كان يتمادى ألف ألف سنة صافية عن كلّ كدورة، لكان لا نسبة له إلى الأبد، فكيف ومدّة العمر قصيرة، ولذّات الدنيا مكدّرة غير صافية، فأيّ نسبة لها إلى نعيم الأبد، فإذن لا يلتفت الزاهد إلى زهده إلاّ إذا التفت إلى ما زهد فيه، ولا يلتفت إلى ما زهد فيه إلاّ لأنّه يراه شيئاً معتدّاً به، ولا يراه شيئاً معتدّاً به إلاّ لقصور معرفته، فسبب نقصان الزهد نقصان المعرفة.

فهذا تفاوت درجات الزهد، وكلّ درجة من هذه أيضاً لها درجات، إذ تصبر المتزهد يختلف ويتفاوت أيضاً باختلاف قدر المشقّة في الصبر، وكذلك درجة المعجب بزهده في قدر التفاته إلى زهده.

درجات الزهد بالاضافة الى المرغوب فيه:

وأما انقسام الزهد بالاضافة إلى المرغوب فيه، فهو أيضاً على ثلاث درجات:

الدرجة السفلى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار وسائر الآلام كعذاب القبر، ومناقشة الحساب، وخطر الصراط، وسائر ما بين يدي العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار إذ فيها أنّ الرجل ليوقف في الحساب حتّى لو ورد مائة بعير عطاشى على عرفه لصدرت رواء، فهذا زهد الخائفين، وكأنّهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإنّ الخلاص من الألم يحصل بمجرّد العدم.

الدرجة الثانية: أن يزهد رغبةً في ثواب الله ونعيمه، واللّذات الموعودة في جنّته من الحور والقصور وغيره هذا زهد الراجين، فإنّ هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعةً بالعدم والخلاص من الألم، بل طمعوا في وجود دائم على نعيم قائم لا آخر له.

الدرجة الثالثة وهي العليا: أن لا تكون له رغبة إلاّ في الله وفي لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها، ولا إلى اللّذات ليقصد نيلها والظفر بها، بل هو مستغرق الهمّ بالله تعالى، وهو الذي أصبح وهمومه همّ واحد، وهو الموحّد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى ـ لأنّ من طلب غير الله فقد عبده، وكلّ مطلوب معبود، وكلّ طالب عبد بالاضافة إلى مطلوبه، وطلب غير الله من الشرك الخفي ـ .

وهذا زهد المحبّين وهم العارفون; لأنّه لا يحبّ الله خاصّة إلاّ من عرفه، وكما أنّ من عرف الدينار وعرف الدرهم وعلم أنّه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحبّ إلاّ الدينار، فمن عرف الله وعرف لذّة النظر إلى وجهه الكريم، وعرف أنّ الجمع بين تلك اللّذة وبين لذّة التنعّم بالحور العين، والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحبّ إلاّ لذّة النظر ولا يؤثر غيره.

ولا تظنّن أنّ أهل الجنّة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذّة الحور والقصور متّسع في قلوبهم، بل تلك اللّذة بالاضافة إلى لذّة نعيم الجنّة كلذّة ملك الدنيا، والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالاضافة إلى لذّة الاستيلاء على عصفور واللعب به، والطالبون لنعيم الجنّة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب، كالصبيّ الطالب اللعب بالعصفور والتارك للذّة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذّة الملك لا لأنّ اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذّ من الاستيلاء بطريق الملك على كافّة الخلق.

درجات الزهد بالاضافة إلى المرغوب عنه:

وأمّا انقسامه بالاضافة إلى المرغوب عنه، فقد كثرت فيه الأقاويل، ولعلّ المذكور فيه يزيد على مائة فلا نشتغل بنقل الأقاويل، ولكن نشير إلى كلام محيط بالتفاصيل حتّى يتّضح أنّ أكثر ما ذكر فيه قاصر عن الاحاطة بالكلّ فنقول:

المرغوب عنه بالزهد له إجمال وتفصيل، ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام، وبعضها أجمع للجمل. أمّا الاجمال في الدرجة الأُولى فهو كلّ ما سوى الله، فينبغي أن يزهد فيه حتّى يزهد في نفسه أيضاً، والاجمال في الدرجة الثانية: أن يزهد في كلّ صفة للنفس فيها متعة، وهذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغيرها.

والاجمال في الدرجة الثالثة: أن يزهد في المال والجاه وأسبابهما إذ إليهما يرجع حظوظ النفس. وفي الدرجة الرابعة: أن يزهد في العلم والقدرة، والدينار والدرهم والجاه، وإن كثر أسبابه فيرجع إلى العلم والقدرة، وأعني به كلّ علم وقدرة مقصودها ملك القلوب، إذ معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها، كما أنّ معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها، فإن جاوزت هذا التفصيل إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا يكاد يخرج ما فيه الزهد عن الحصر.

وقد ذكر الله تعالى في آية واحدة سبعة منها، قال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالاَْنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [آل عمران : 14] ثمّ ردّه في آية أُخرى إلى خمسة، فقال: (إِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلاَدِ)[الحديد : 20 ]ثمّ ردّه في موضع آخر إلى واحد، فقال: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى  فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات : 40-41].

فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس في الدنيا، فينبغي أن يكون الزهد فيه، وإذا عرفت طريق الاجمال والتفصيل، عرفت أنّ البعض من هذا لا يخالف البعض، وإنّما يفارقه في الشرح مرّة والاجمال أُخرى.

وصفوة القول أنّ الزهد عبارةً عن الرغبة عن حظوظ النفس كلّها، ومهما رغب عن حظوظ النفس رغب عن البقاء في الدنيا فقصر أمله لا محالة; لأنّه يريد البقاء ليتمتّع، ويريد التمتّع الدائم بإرادة البقاء، فإنّ من أراد شيئاً أراد دوامه، ولا معنى لحبّ الحياة الدنيا إلاّ حبّ دوام ما هو موجود أو ممكن في هذه الحياة، فإذا رغب عنها لم يردها.

ولذلك لما كتب عليهم القتال قالوا: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَل قَرِيب) فقال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء : 77] أي لستم تريدون البقاء إلاّ لمتاع الدنيا.

فظهر عند ذلك الزاهدون، وانكشف حال المنافقين، أمّا الزاهدون المحبّون لله فقاتلوا في سبيل الله كأنّهم بنيانٌ مرصوص، وانتظروا إحدى الحسنيين، وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنّة، ويبادرون إليه مبادرة الظمآن إلى الماء البارد حرصاً على نصرة دين الله، أو نيل رتبة الشهادة، وكلّ من مات منهم على فراشه يتحسّر على فوت الشهادة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [ البقرة : 16].

وأمّا المخلصون فإنّ الله تعالى (اشْتَرَى مِنْ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : 111] فلمّا رأوا أنّهم تركوا تمتّع عشرين سنة أو ثلاثين سنة بتمتّع الأبد، استبشروا ببيعهم الذي بايعوا به، وهذا بيان المزهود فيه، وإذا فهمت هذا علمت أنّ ما ذكر المتكلّمون في حدّ الزهد لم يشيروا به إلاّ إلى بعض أقسامه، فذكر كلّ واحد ما رآه غالباً على نفسه أو على من كان يخاطبه.

وقد ذكر أبو حامد الغزّالي جملة من أقاويل الناس في الزهد، وبيّن قصورها واحداً واحداً، ثمّ قال(31): وفي الزهد أقاويل وراء ما قلناه فلم نر في نقلها فائدة، فإنّ من طلب كشف حقائق الأُمور من أقاويل الناس ورآها مختلفة، فلا يستفيد إلاّ الحيرة. وأمّا من انكشف له الحقّ في نفسه، وأدركه بمشاهدة من قلبه ـ لا بتلقّف ممّن سمعه ـ وثق بالحقّ واطّلع على قصور من قصّر لقصور بصيرته، وعلى اقتصار من اقتصر مع كمال المعرفة لاقتصار حاجته.

وهؤلاء كلّهم اقتصروا لا لقصور في البصيرة ولكنّهم ذكروا ما ذكروه عند الحاجة، فلا جرم ذكروه بقدر الحاجة. والحاجات تختلف فلا جرم الكلمات تختلف، وقد يكون سبب الاقتصار الاخبار عن الحالة الراهنة التي هي مقام العبد في نفسه، والأحوال تختلف فلا جرم الأقوال المخبرة عنها تختلف، وأمّا الحقّ نفسه فلا يكون إلاّ واحداً، ولا يتصوّر أن يختلف.

أقول: وفي الكافي عن السجاد (عليه السلام): «إنّ الزهد في آية من كتاب الله تعالى (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد : 23]»(32).

وقد ورد هذا في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي الكلمة الجامعة في الزهد، قال (عليه السلام): «الزهد في الدنيا قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة، والورع عن كلّ ما حرّم الله عزّ وجلّ»(33).

وعن الصادق (عليه السلام) أنّه سئل عن الزاهد في الدنيا، فقال: «الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه»(34).

وفي مصباح الشريعة عنه (عليه السلام) قال: «الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار، وهو تركك كلّ شيء يشغلك عن الله من غير تأسف على فوتها، ولا إعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها وطلب محمدة عليها، ولا عوض لها بل ترى فوتها راحة. وكونها آفة، وتكون أبداً هارباً من الآفة معتصماً بالراحة.

والزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا، والذلّ على العزّ، والجهد على الراحة، والجوع على الشبع، وعافية الآجل على محبّة العاجل، والذكر على الغفلة، وتكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة»(35).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(36)، ألا ترى كيف أحبّ ما أبغضه الله، وأيّ خطأ أشدّ جرماً من هذا.

وقال بعض أهل البيت (عليهم السلام): «لو كانت الدنيا بأجمعها لقمة في فم طفل لرجمناه، فكيف حال من ينبذ حدود الله خلف ظهره في طلبها والحرص عليها»(37).

والدنيا دار لو أحسنت إلى ساكنها لرحمتك وأحسنت وداعك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لما خلق الله الدنيا أمرها بطاعته فأطاعت ربّها، فقال لها: خالفي من طلبك ووافقي من خالفك، فهي على عهد الله إليها وطبعها عليه»(38).

قال أبو حامد: فهذا بيان انقسام الزهد بالاضافة إلى أصناف المزهود فيه، فأمّا بالاضافة إلى أحكامه فينقسم الى فرض ونفل وسلامة: فالفرض هو الزهد في الحرام، والنفل هو الزهد في الحلال، والسلامة هو الزهد في الشبهات. وقد ذكرنا درجات الورع في كتاب الحلال والحرام وذلك من الزهد، إذ قيل لبعض السلف ما الزهد فقال: «التقوى».

وأمّا بالاضافة إلى خفايا ما يترك فلا نهاية للزهد فيه إذ لا نهاية لما تتمتّع به النفس في الخطرات واللحظات وسائر الحالات لا سيّما خفايا الرياء، فإنّ ذلك لا يطّلع عليه إلاّ سماسرة العلماء، بل الأُمور الظاهرة أيضاً درجات الزهد فيها لا يتناهى.

فمن أقصى درجاتها زهد عيسى (عليه السلام) إذ يتوسّد حجراً في نومه، فقال له الشيطان: أما كنت تركت الدنيا فما الذي بدا لك؟ فقال: وما الذي تجدد؟ فقال: توسّدت الحجر ـ أي تنعّمت برفع رأسك عن الأرض في النوم ـ فرمى الحجر وقال: خذه فقد تركته لك.

وروي عن يحيى بن زكريا أنّه لبس المسوح حتّى نقب جلده تركاً للتنعّم بلين الثياب، واستراحة حسّ اللمس، فسألته أُمّه أن يلبس مكانها جبة صوف ففعل فأوحى الله إليه: يا يحيى أثرت على الدنيا، فبكى ونزع الصوف وعاد إلى ما كان. وجلس عيسى (عليه السلام) في ظلّ حائط إنسان فأقامه صاحب الحائط، فقال: ما أقمتني أنت إنّما أقامني الذي لم يرض لي أن أتنعّم بظلّ الحائط.

فإذن درجات الزهد ظاهراً وباطناً لا حصر لها، وأقلّ درجاته: الزهد في كلّ شبهة ومحظور. فإن قلت: مهما كان الصحيح هو أنّ الزهد كلّ ما سوى الله فكيف يتصوّر ذلك مع الأكل والشرب واللبس، ومخالطة الناس ومكالمتهم، فكلّ ذلك اشتغال بما سوى الله.

فاعلم أنّ معنى الانصراف من الدنيا إلى الله الاقبال بكلّ القلب إليه ذكراً وفكراً ولا يتصوّر ذلك إلاّ مع البقاء، ولا بقاء إلاّ بضرورات النفس فيما اقتصرت من الدنيا على دفع المهلكات عن البدن، وكان غرضك الاستعانة بالبدن على العبادة لم تكن مشتغلا بغير الله، فإنّ ما لا يتوصّل إلى الشيء إلاّ به فهو منه، فالمشتغل بعلف الناقة في طريق الحج ليس معرضاً عن الحج.

ولكن ينبغي أن يكون بدنك في طريق الله مثل ناقتك في طريق الحج، ولا غرض لك في تنعّم ناقتك باللذّات، بل غرضك مقصوراً على دفع المهلكات عنها حتّى تصير بك إلى مقصدك، فكذلك ينبغي أن تكون في صيانة بدنك عن الجوع والعطش المهلك بالأكل والشرب، وعن الحرّ والبرد المهلك باللباس والمسكن، فيقتصر على قدر الضرورة، ولا نقصد التلذّذ بل التقوّي على طاعة الله فذلك لا يناقض الزهد، بل هو شرط الزهد(39).

* * *

قوّة القلب باليقين:

قوله (عليه السلام): «وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ».

تقوية القلب باليقين هو النزوع إلى أسبابه وموجباته في جميع المعارف الإلهية منذ المبدأ الأعلى إلى منصرم ما يدركه الفكر حتّى يقف البعث والنشور، والتفكير حول هذه المعارف وتصوير براهينها وآثارها لا يبارح الاعتقاد الجازم وهو اليقين المطلوب.

ويشرق لك من أُفق البيانات المطلّة من سماء الشريعة، أنّ اليقين أمرٌ جليل في نفسه، قال (صلى الله عليه وآله): «اليقين الايمان كلّه»(40) وإنّه عزيز الحصول صعب المنال، قال (صلى الله عليه وآله): «أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أوتي حظّاً منهما لم يبال ما فاته من صيام النهار وقيام الليل»(41) وأنّه جيّد الثمرة، مجيد العاقبة، مستقيم الطريق.

قال (صلى الله عليه وآله): «ما آدمي إلاّ وله ذنوب ولكن من كانت غريزته العقل، وسجيّته اليقين لم تضرّه الذنوب; لأنّه كلّما أذنب ذنباً تاب واستغفر وندم، فتكفّر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنّة»(42).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «انّ العمل القليل الدائم على اليقين، أفضل عند الله تعالى من العمل الكثير على غير يقين»(43).

وقال (عليه السلام): «انّ الله تعالى بعدله وقسطه، جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسخط»(44).

وفي وصيّة لقمان لابنه: «لا يستطاع العمل إلاّ باليقين، ولا يعمل المرء إلاّ بقدر يقينه، ولا يقصر عامل حتّى ينقص يقينه»(45).

وهذه النفاسة في اليقين، واستقامة الطريق به، وطيب الثمرة منه، يبعثنا على البحث في معناه، وفي الأسباب المحصّلة له، وفي الموانع المبعدة عنه، وإليك البيان:

كلّ من التفت لأمر ما، فامّا أن يكون شاكّاً فيه أو ظانّاً أو عالماً، وذلك أنّه إن كان متردّداً فيه كان شاكّاً، وإن كان مرجّحاً لأحد الطرفين مع احتمال الطرف الآخر كان ظانّاً، وإن كان لا مع احتمال الآخر كان عالماً، ثمّ العلم إن كان مع عدم مطابقة الواقع فهو الجهل المركّب، وإن كان مع مطابقة الواقع فهو اليقين.

 

تعريف اليقين:

ومن هنا قالوا في تعريف اليقين وتحديده. لغةً: أنّه العلم الذي لا شكّ فيه. اصطلاحاً: اعتقاد مطابق للواقع، ثابت لا يمكن زواله، وعند أهل الحقيقة ـ رؤية العيان بقوّة الايمان لا بالحجّة والبرهان ـ وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب، وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار.

 

مراتب اليقين:

ومراتبه ثلاثة: علم اليقين، عين اليقين، حقّ اليقين. وقد ذكر القرآن هذه المراتب الثلاثة، ففي سورة الواقعة قال تعالى: (إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ)[الواقعة : 95]، وفي التكاثر قال تعالى: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ  لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)وفيها أيضاً: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر : 5 - 7].

وهذه المراتب هي مرتبة في الفضل والكمال، وهي مثل مراتب معرفة النار، فالعلم بالنار مثلا بتوسّط الدخان هو علم اليقين، وهو العلم الحاصل لأهل النظر والاستدلال بالبراهين القاطعة، والعلم بمعاينة جرم النار المفيض للنور هو عين اليقين وهو العلم الحاصل بالكشف للخلّص من المؤمنين، الذين اطمأنّت قلوبهم بالله، وتيقّنوا بمعاينة القلوب (إِنَّ اللهَ نُورُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضَ) [النور : 35] كما وصف به نفسه، والعلم بالنار بالوقوع فيها والاحتراق بها، ومعرفة كيفيتها هو حقّ اليقين، وهو العلم الحاصل بالاتّصال المعنوي لأهل الشهود والفناء في الله.

وهذه المرتبة الأخيرة هي الدرجة العليا، والمنزلة الفضلى التي سألها الإمام علي زين العابدين (عليه السلام) في بعض أدعيته من الصحيفة بقوله: «واجعل يقيني أفضل اليقين».

وتحصل المرتبة الأولى بالنظر والفكر، ثمّ السير على الطريق المستقيم، فإنّ من فكّر أبصر، ومن سار على الدرب وصل، ولقد أخذ الله تعالى على نفسه الوعد بالهداية لمن جاهد فيه (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْـمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : 69] والله لا يخلف وعده.

ولقد حدّثنا القرآن والتاريخ عن رجال من الأُمم السابقة نظروا لأنفسهم، وفكّروا في أمرهم، ثمّ ساروا على الطريق فوصلوا، منهم أصحاب الكهف، ومنهم مؤمن آل فرعون، ومنهم آسية بنت مزاحم ـ امرأة فرعون ـ ، في كثير من أمثالهم من هذه الأُمّة: منهم سلمان الفارسي، ومنهم أبو ذر الغفاري، ومنهم المقداد بن أبي الأسود الكندي، ومنهم عمار بن ياسر العبسي. فارجع إلى تاريخهم، واستعن على نفسك بذكر أحوالهم، والاقتداء بهم تفلح.

وتحصل المرتبة الثانية بالرياضة والتصفية، وحصول التجرّد التام للنفس، وهذه التصفية والتجرّد إنّما تأتي من العمل بموجبات اليقين على ضوء المرتبة الأُولى، أما سمعت قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت : 69]. وقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «الصلاة معراج المؤمن»(46).

فمن حاول الوصول إلى المرتبة الثانية من مراتب اليقين بغير الجهاد في الطاعة حاول عبثاً، أيكون الرقي بغير المرقاة، والعروج بغير المعراج؟ هيهات ذلك، فكما لا يحصل اليقين بغير الدليل، لا يحصل الوصول بغير المسير، فالمشاهدة والرؤية لا  تكون إلاّ بعد قطع المسافة والنظر.

روي أنّه سأل ذعلب اليماني علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: أرأيت ربّك؟ فقال له (عليه السلام): «لم أعبد ربّاً لم أره»(47). أراد من الرؤية هذه الرؤية القلبيّة الحاصلة من اليقين، كما فسّر هو ذلك في مقام آخر حيث يقول (عليه السلام) مشيراً إلى الله سبحانه: «لم تره العيون بمشاهدة العيان، بل رأته القلوب بحقائق الايمان»(48)، وبقوله: «رأى قلبي ربّي» ولقد وصف المتّقين بقوله: «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن رآها فهم فيها معذّبون»(49).

وتحصل المرتبة الثالثة بحصول وحدة معنويّة، وربط حقيقي بين العاقل والمعقول ـ أي بين المتيقِّن والمتيقَّن به ـ ; بحيث يرى العاقل ذاته رشحة من المعقول، ومرتبطاً به غير منفكّ عنه، ويشاهد دائماً ببصيرته الباطنة فيضان الأنوار والآثار منه إليه.

وعبّر بعضهم عن هذه المراتب بتعبير أوضح وأجلى، فقال:

للعلم ثلاث مراتب، أوّلها: علم اليقين، وهي مرتبة البرهان. وثانيها: عين اليقين، وهو أن يرى المعلوم عياناً فليس الخبر كالعيان. وثالثها: حقّ اليقين، وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحداً، ولعلّه لا يعرف حقّ هذه المرتبة إلاّ من وصل إليها كما أنّ طعم العسل لا يعرفه إلاّ من ذاقه.

ولعزّة هذه المرتبة وقلّة الواصلين إليها، لم يتعرّض لبيانها الأكثرون.

قال الشيخ بيان الحقّ أبو القاسم محمود بن أبي الحسن النيسابوري في كتاب (خلق الإنسان): قالوا: إنّ اليقين يقينان: أحدهما ينفي الشكّ، وهذا لا يغلب الشهوة، وهو يقين التوحيد، والآخر نور مشرق للصدر، غالب للشهوات، مبطل للاختيار، صارت لصاحبه أُمور الدنيا والآخرة وأحوال الملكوت معاينة، وأصبحت لأمره خاضعة طائعة، وعلى هذا جاء عن الله تعالى في الزبور المنزل على داود (عليه السلام): «لو صدق يقينكم ثمّ قلتم للجبل انتقل فقع في البحر فوقع».

وذلك أنّ القلب إذا وصل إلى الله تعالى وامتلأ من عظمته، وأشرق بنور جلاله وهيبته، فبعد ذلك أينما وقع البصر دار الفكر حوالي ما امتلأ به القلب إذ وصل إلى الله، وامتلأ من عظمته من العمل الصرف الصافي الخالص غير الممزوج بالشبهات المكدّر بالشائبات، بمنزلة الشمس إذا دار قرنها واستوى حاجبها، وأشرق ضياؤها.

فحيث ما سرت من بلاد الله فضوؤها منك يريك الأشياء بألوانها وهيآتها وتقاديرها وأشكالها، فكذلك شمس اليقين اذا أشرقت واستضاءت بنورها النفس، أراه ذلك أمر الملكوت وأحوال الدنيا والآخرة، وبواطن الأشياء والأسرار التي في الغيوب ممّا كشفها الله لأنبيائه، وأطلع عليها قلوب خيرته وأصفيائه.

وممّا يؤيّد هذا المعنى ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح بإسناده عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقناً.

فعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، على الأرائك متّكؤون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار، وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا عبدٌ نوّر الله قلبه بالايمان، ثمّ قال له: ألزم ما أنت عليه، فقال الشابّ: أُدع لي يا رسول الله أن أُرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله) فاستشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر(50). وهذا الشاب هو حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري.

وممّا يدلّ على التفاوت في اليقين حتّى في الأنبياء (عليهم السلام) ما روي في مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «اليقين يوصل العبد إلى كلّ حال سني، ومقام عجيب»(51).

وكذلك أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عظم شأن اليقين حين ذكر عنده عيسى بن مريم (عليه السلام) وأنّه كان يمشي على الماء، فقال (صلى الله عليه وآله): «لو زاد يقينه لمشى في الهواء»(52).

فدلّ بهذا أنّ الأنبياء (عليهم السلام) مع جلالة محلّهم من الله، كانت تتفاضل على حقيقة اليقين لا غير، ولا نهاية لزيادة اليقين إلى الأبد، والمؤمنون أيضاً متفاوتون في قوّة اليقين وضعفه، فمن قوي منهم يقينه فعلامته التبرّي من الحول والقوّة إلاّ بالله، والاستقامة على أمر الله، واستقامته على أمر الله وعبادته ظاهراً وباطناً قد استوت عنده حالتا العدم والوجود، والزيادة والنقصان، والمدح والذمّ، والعزّ والذل; لأنّه يرى كلّها من عين واحدة.

ومن ضعف يقينه تعلّق بالأسباب، ورخّص لنفسه بذلك، واتّبع العادات وأقاويل الناس بغير حقيقة، والسعي في أُمور الدنيا وجمعها وإمساكها، يقرّ باللسان أنّه لا مانع ولا معطي إلاّ الله، وإنّ العبد لا يصيب إلاّ ما رزق وقسم له، والجهد لا يزيد في الرزق وينكر ذلك بفعله وقلبه، قال الله عزّ وجلّ: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران : 167].

ومن أخبار أهل اليقين: ما حكاه إبراهيم الخواص، قال: لقيت غلاماً في التيه كأنّه سبيكة فضّة، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكّة، فقلت: بلا زاد ولا راحلة، فقال: يا ضعيف اليقين، الذي يحفظ السماوات والأرض لا يقدر أن يوصلني إلى بيته بلا علاقة، فلمّا دخلت مكة إذا هو في الطواف يقول:

يا عين سحي أبدا *** يا نفس موتي كمدا

ولا تحبّي أحدا *** إلاّ الجليل الصمدا

فلمّا رآني ناداني: يا شيخ أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين، إنّ من وثق بالله في رزقه، لم يطلب الرزق قبل وقته.

 

موانع اليقين:

إنّ للحصول على اليقين والاستمرار عليه إلى النهاية موانعاً وحجباً وسدوداً، تعرض للسالك فتمنعه عن الوصول إلى معرفة الحق، والاستمرار عليه فضلا عن اليقين به والثبات فيه.

منها: ما يعرض له في طريقه، ويقف له في سبيله فيلويه عن الجادة، ويحيد به عن الطريق السوي، وهما التعصّب لما هو عليه، والتقليد الأعمى لمن اقتدى به، فإنّ كثيراً ما يحيد بالمرء تعصّبه، ويميل به تقليده فيتأوّل الأدلّة ويتصرّف بالبراهين فيفسّرها بغير معانيها، ويحملها على غير وجوهها، إرضاءاً لتعصّبه، وانقياداً لتقليده. ومحال أن يقتنع بغير ما هو عليه، وينصرف إلى غير ما هو فيه، ولو أتيتهم بكلّ آية ما اتّبعوا قبلتك.

وثالث الموانع الهوى والغرض، فإنّه يعمي ويصمّ «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان، اتّباع الهوى، وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن حقّ»(53).

وإنّك لتجد الكثير من الناس تسلّط عليهم الهوى والغرض، فهم له تبع قد أعماهم عن الحقّ، وأضلّهم عن سواء السبيل، (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمّد : 14].

ومنها: ما يزيغ بالمرء ولو بعد الوصول فينأى به عن الحق، ويبعد به عن الهدى، ويعمى به عن الرشد، ويُحال بينه وبين الاستمرار على معارج اليقين، ولقد حكى الله عن قوم صالحين علموا أنّ القلوب تزيغ بعد الهداية فقالوا: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران : 8].

ومن نظر في كتاب الله علم أنّ الله سبحانه إنّما يزيغ قلوبهم عن المعرفة والهداية عند الزيغ عن الطاعة (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : 5].

تقول فتاة الحي تطمع أن ترى *** بعينيك ليلى مُت بداء المطامع

وكيف ترى ليلى بعين ترى بها *** سواها وما طهّرتها بالمدامع

وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى *** حديث سواها في خروق المسامع

* * *

تنوير القلب بالحكمة:

قوله (عليه السلام): «وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ».

إنارة القلب بالحكمة بلحاظ أنّ المبدع الحكيم سبحانه لم يخلقه عبثاً، وإنّما أبدع خلقه لأشرف الغايات والتدرّج في الرقي إلى مستوى الإنسان الكامل، والتحيّز في منبثق أنوار الطاعة نصب عين البارئ الكريم، وحيث تلوح مرضاته، ويشهد رغباته، فيجب عليه وهو عالم بهذه الحكمة البالغة أن لا يفتر عن العمل الصالح، وإسداء الجميل الى أُمّته بالتعليم والارفاد فيكون واعظاً ومتّعظاً.

ومن المحتمل أن يكون مراده صلوات الله عليه من الحكمة، معرفة علل الأشياء ومعلولاتها، باعتبار كونها علماً غامضاً صعباً، لا يكاد يطّلع عليه ويصل إليه إلاّ ورثة الأنبياء وخلفاؤهم والقائمون مقامهم بالحقّ، ثمّ المرتاضون بالعلوم الإلهية والحكم الربانيّة، الآخذون أنوار الحكمة من مشكاة النبوّة والولاية، وهم الفلاسفة الحقّة الذين أفعالهم محكمة، وصنايعهم متقنة، وأقاويلهم صادقة جميلة، وآراؤهم صحيحة، وأعمالهم زكيّة، وعلومهم حقيقيّة.

وهي معرفة حقيقة الأشياء، وكميّة أجناسها وأنواع تلك الأجناس، وخواصّ تلك الأنوار، واحداً بعد واحد، والبحث عن عللها، بهل هي، وما هي، وكم هي، وكيف هي، وأين هي، ومتى هي، ولِمَ هي، ومَن هي.

فالحكيم المستحقّ اسم الحكمة بعد أن يجيب على هذه المسائل التسعة إذا سئل عنها، ويقيم عليها الأدلّة والبراهين الشاهدة على صحّتها، من بلغت نفسه النطقية إلى كمالها العقلي، واستغنى عن الحركات والأفكار، فحينئذ يصير علمها عملا، وعملها علماً كما أنّ العلم والقدرة في المفارقات بالنسبة إلى ما تحتها واحد.

 

تعريف الحكمة:

فالحكمة على ما قيل: استكمال النفس الإنسانيّة بتحصيل ما عليه الوجود في نفسه، وما عليه الواجب ممّا ينبغي أن يكتسب تعلّمها، ليصير عالماً معقولا مضاهياً للعالم الموجود، ويستعدّ للسعادة القصوى الأُخرويّة بحسب الطاقة البشريّة.

والأسماء تختلف بحسب اختلاف طرق التعليم، فإن أدركها بزمان يسير من غير تعلّم بشري وكان مأموراً من الملأ الأعلى باصلاح النوع الإنساني، سمّيت نبوّة مأخوذة من النبوة ـ وهو ما ارتفع من الأرض ـ ، فمعنى النبوّة الرفعة، ومعنى النبيّ الرفيع.

وإن كان بالتعلّم والدراية، سمّيت الفلسفة في لسان اليونانيّين، والفيلسوف محبّ الحكمة، وأصله «فيلاسوفا»، و «فيلا» هو المحبّ، و «سوفا» الحكمة، وهي أُمّ الفضائل، ومعرفتها مبعدة عن الرذائل، وموصلة الى الأوائل.

 

لوازم الحكمة:

ويلزمها صفات شريفة:

أحدها: أنّها تنوّر النفس بالنور الإلهي، فيشرف على جميع المجهولات العلمية، فلا يخفى عليه شيء من المجهولات. كما يقال: «إنّ آخر درجة الحكمة أوّل درجة النبوّة».

ثانيها: أنّها تزهد في هذا العالم، وتحقّره عند النفس; لأنّ الزهد من الدنيا من ضرورة الحكمة، ومن لم يزهد في الدنيا ما ظفر بالحكمة، فإنّ المشتغل بأُمور الدنيا، والمتكالب على ما يقوم بحال جسده ومشتهياته، غير مستحقّ لعلم الفلسفة والتسمّي بالحكيم، ومثله كمثل من جلس بعد النبي في مجلسه للتسلّط والتسلطن، والتفوّق على الأُمّة والتحكيم، فيصير مستعدّاً للعذاب الأليم.

ثالثها: أنّها ترغِّب في الرحلة عن هذا العالم الفاني إلى ذلك العالم الباقي; لأنّ الموت يطيب ويسهل على العارفين الذين قد استقاموا على طريق النجاة، وتحقّقوا أنّهم ملاقوا ربّهم، فعند ذلك يتمنّون الموت، واللّحوق بدار السعادة، ومفارقة دار البلاء والهوان، فهم كما قال بعض أهل العرفان:

اقتلوني اقتلوني يا ثقات *** إنّ في قتلي حياةٌ في حياة

ورابعها: أنّها يعرف ما علّة هذا العالم وما معلوله، وما المتوسّط بين العلّة والمعلول، فعلّة العلل هو الباري تعالى، والعلل المتوسّطة هي العقول الثابتة المجرّدة، والمعلول الجسم وما يتعلّق به من الجسمانيّات، والمتوسّط بينهما النفس، فمن أدرك المتوسّط أدرك الطرفين، لكون العقل مضيئاً بالنور الأوّل تعالى لا يشوبه ظلمة وكدر أصلا.

ومعرفته في أوّل وهلة من غير متوسّط مشكل جدّاً، والجسم وقواه لا علم له ولا معرفة لكثرة القشور والأدناس، فبقيت النفس متوسّطة في أُفقها، ولكن كلّما كانت أشرق قلّ قشورها، وكثر ضياؤها، فتيسّر لها بقوّة نورها إدارك الطرفين، ومعرفة الجانبين.

ومن هذا لما سُئِل المعلّم الأوّل أرسطاطاليس: كيف تَعمى النفس عن معرفة نفسها وهي أُمّ الحكمة؟ فقال: اذا غابت الحكمة عن النفس عميت عن نفسها وغيرها، كما يعمى البصر عن نفسه وغيره إذا غاب عنه المصباح.

ومن كلامه أيضاً: «انّ العقل الذي هو السيّد يوجد في النفس كثيراً والنفس متّصلة به، إلاّ أن يتعدّى حدودها، ويرتدّ عن رقيها، فإذا فارقته كان ذلك هو موتها وفسادها، فإذا اتّصلت به يصير كأنّهما شيءٌ واحد حيث بحياة دائمة».

وما أحسن ما قال بعض الحكماء: «إنّ العلوم كلّها في النفس بالقوّة، فإذا عرفت ذاتها صارت العلوم كلّها بالفعل».

فالنفس العاقلة في العالم الصغير ـ الذي هو الإنسان ـ بمنزلة النبي في الإنسان الكبير ـ الذي هو العالَم ـ إلاّ أنّ العقل لا يهتدي إلى الأحكام إلاّ بمعاونة ضوابط الشرايع، فإنّ معرفة كثير من الجزئيات أو حلّها بحيث يجب الاحتراز عن الأولى دون الثانية، لا يعرفه العقل ولا سبيل له إلى معرفته بدون الشرع، كما في كثير من الجزئيات المعلومة بالشرع، كالمنع من وطء الحائض وجوازه في المستحاضة، واختلاف العدّة وأمثال ذلك ممّا يطول تعدّده، أنّى للعقل أن يدركه فإنّه إنّما يوصل به إلى كليّات الأُمور دون جزئيّاتها، والشرع يحكم على الكليّات والجزئيّات.

فعلم أنّ بالشرع حصلت الاعتقادات، واستقامة الأحوال بين صحيحها وسقيمها، فهو الدليل على المصالح الدنيوية والأُخروية، فالضالّ عنه ضالّ عن قصد السبيل، قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا)[الاسراء : 15] فالعقل بامداد الشرع يسوق سفينة النفس عن آفات بحر الدنيا، ويوصل إلى ساحل النجاة.

قال بعض أهل العرفان:

العقل نور الله إلاّ أنّه *** للعالَم المحسوس غير ممازج

فمتى اكتفيت بفعل عقل داخل *** فَسَدت أُمورك كلّها من خارج

وبالحقيقة العقل شرع من داخل، والشرع عقل من خارج، فهما متعاونان متعاضدان.

 

الحكمة لا تخالف الشريعة:

وقد يتوهّم أكثر الضعفاء أنّ أقوال الحكماء وحججهم مخالفة للشرايع الإلهيّة ولما جاءت به الأنبياء (عليهم السلام)، وليس الأمر كذلك فإنّ الحكمة الحقّة المتقنة غير مخالفة للشرايع الإلهية، وإنّما يقول بمخالفتها من لا معرفة له بتطبيق الخطابات الشرعيّة على البراهين الحكمية، ولا يعرف ذلك إلاّ من هو مؤيّد من عند الله عزّ مجده، كامل في العلوم الشرعية والحكمية، مطّلع على الأسرار النبويّة، فإنّه قد يكون الإنسان كاملا في الحكمة، ولا حظّ له من العلوم الشرعية بالعكس، ومن أحاط الجانبين، وأحرز الطرفين، وجد توافقهما وتطابقهما.

يقول الله تعالى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا)[النساء : 83] قيل: إنّ الفضل هو العقل، والرحمة هو الشرع، وفي قوله تعالى: (إِلاَّ قَلِيلا) إشارةً إلى أنّ هناك طائفة هم الصفوة والخيار من البريّة ليس من شأنهم اتّباع الشيطان باعتبار الاصطفاء والاختيار، ولولا هم لما كانت الأكوان ولا دارت الأدوار.

والمرويّ أنّ مولانا موسى بن جعفر (عليه السلام) قال لهشام بن الحكم: «يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرية وحجّة باطنية، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأمّا الباطنية فالعقول»(54).

فبان أنّ درجة الحكمة منحة، ولا مرتبة في المعاد عنده تعالى للجاهل بها، والقرآن العزيز وأحاديث أصحاب العصمة سلام الله عليهم وكلمات أساطين أهل الولاية مشحونة بمدحها.

 

الأمر بتحصيل الحكمة:

والحكيم المطلق هو الله تعالى، وكلّ من أدرك من المعقولات نصيباً سمّي على سبيل التجوّز حكيماً لدنوّه من الله تعالى وتشبّهه به، وقربه منه بالادراك والعلم الذي هو صفته تعالى شأنه بالقرب المعنوي والدنوّ الإدراكي، فإذا كانت السعادة الأبديّة هو القرب منه، ومشاهدة جلاله ومعاينة كبريائه، وذلك لا يحصل ولا يتيسّر إلاّ بالحكمة، فلا شيء أعظم ولا أتمّ فائدة منها.

وقد أمر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بتعلّم الحكمة أين وجدت، ولو من المنافقين بقوله: «خذ الحكمة أنّى كانت، فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتّى تخرج فتسكن إلى صاحبها في صدر المؤمن»(55).

وقال أيضاً: «الحكمة ضالّة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»(56).

كنّى (عليه السلام) بتلجلجها عن اضطرابها وعدم ثباتها في صدر المنافق، وكونه ليس مطيّةً لها، فهي غير مستقرّة فيه إلى أن تخرج إلى مطيّتها، وهي صدر المؤمن فتسكن إلى صاحبها، فيجب على المؤمن أخذها من مطيّته، وإخراجها من غير أهلها، فإنّ الحكمة تفسد عند غير أهلها كما تقلب السبخة طيب البذر إلى العفن.

ومن هنا ورد في كلامه (عليه السلام): «إنّ كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً، وإذا كان خطأً كان داءً»(57). وذلك لقوّة اعتقاد الخلق فيهم، وشدّة قبولهم لما يقولونه، فإن كان حقّاً كان دواءً من الجهل، وإن كان باطلا وجب للخلق علاج داء الجهل.

روى الشيخ الكليني طاب ثراه عن مولانا أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «قام عيسى بن مريم (عليه السلام) خطيباً في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل لا تحدّثوا الجهّال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تعينوا الظالم على ظلمه فيبطل فضلكم»(58).

فمن منح الجهّال علماً أضاعه *** ومن منع المستوجبين فقد ظلم

وما زال الحكماء والسلاّك يوصون تلاميذهم بكتمان العلم، وصيانة الحكمة عن غير المستوجبين، ويوجبون عليهم بذل ذلك إلى المستعدّين وأهل الاستيهال.

قال بعض الأعاظم من علمائنا: إنّ الحكمة سداها ولحمتها نفض غشاوة الوهم، ورفض كورة الطبيعة، والاستضاءة بأضواء عالم القدس، ومن ليست تلك شاكلته فهو في سبيل العلم كالأكمه في ساحة الأرض، أو كالزمن في أن يكون قيحاً.

 

آداب الحكيم:

فينبغي لمن أراد الشروع في الحكمة أن يكون على ما نصّ عليه معلّم الصناعة (الشيخ الفارابي): «شاباً صحيح المزاج، متأدّباً بآداب الأخيار، وقد تعلّم القرآن وعلوم الشرع واللغة أوّلا، ويكون عفيفاً صدوقاً، معرضاً عن الفسق والفجور والغدر، والخيانة والمكر والحيلة.

ويكون فارغ البال من مصالح معاشه، مقبلا على أداء الوظائف الشرعيّة، غير مخلّ بركن من أركانها، ولا بأدب من آدابها، معظماً للعلم والعلماء، ولا يكون لشيء عنده قدراً إلاّ العلم وأهله، ولا يتّخذ علمه لأجل الحرفة، ومن كان بخلاف ذلك فهو حكيم زور ولا يعدّ من الحكماء».

 

الحكمة العلميّة والعمليّة:

ولمّا كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها، وإنّما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها، وهي لا تنال إلاّ بالحكمة الحقّة، فالحكمة امّا ليُعلَم بها وامّا ليُعمَل بها، فانقسمت الحكمة حينئذ إلى قسمين: علمي وعملي. والقسم العملي هو عمل الخير، والقسم العلمي هو علم الحق، والقسمان ممّا يوصل إليهما بالعقل الكامل والرأي الراجح.

وأكثر الأنبياء (عليهم السلام) أُيّدوا بامداد روحانيّة لتقرير القسم العملي، وبطرف ما من القسم العلمي.

فغاية الحكيم هو أن يتجلّى لعقله أصل الكون، ويتشبّهه بإله الحق بغاية الامكان، وغاية النبيّ أن يتجلّى له نظام الكون، فيقدّر على ذلك مصالح العامة حتّى يبقى نظام الكون وتنتظم أُمور بني آدم.

قال الحكيم المهرجاني من حكماء إخوان الصفا: «إنّ الشريعة طبّ المرضاء، والفلسفة طبّ الأصحاء، والأنبياء يطبّبون المرضى حتّى لا يتزايد مرضهم، ويزول المرض بالعافية فقط، وأمّا الفلاسفة فإنّهم يحفظون الصحة على أصحابها حتّى لا يعتريهم مرض أصلا».

أقول: الظاهر أنّ حفظ الصحّة أسهل من مداواة المرض; لأنّ حفظ الحاصل واستدامته أسهل من تحصيل الزائل واسترداده، فإنّ الطبيب الجسماني لا يحتاج في حفظ الصحّة إلاّ الى سبب واحد، وأمّا في مداواة المرض فإنّه يحتاج الى تحصيل أسباب متعدّدة.

وما هو موقوف على سبب أسهل ممّا هو موقوف على أسباب متعدّدة، وإنّ المخاطرة في المرض أشدّ; لأنّ خطر المرض الموت وخطر الصحّة المرض، فالاحتياج إلى إزالة المرض أشد، وعموم الناس اليه أحوج.

فبان أنّ المزيل للأمراض الروحانية هو المفيض للحياة الدائمة(59).

* * *

تذليل القلب بذكر الموت:

قوله (عليه السلام): «وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا».

وتذليله بذكر الموت: هو كفّه عن غلوائه في مظانّ الغرور ومواقع الخيلاء.

وتذكيره بالفناء: بإعلامه أنّ الإنسان في منصرم أمره، ومنتهى عمره لابدّ أن يلاقي أجله المحتوم له، فهنالك منقطع حياته وعمله وأمله وإن بلغ من الكبر عتيّاً، ومن طول البقاء أمراً قصيّاً، وحينئذ فلا التكبّر يجديه، ولا المطامع تنفعه، ولا الآمال تنجعه، ويعود هو وجشعه ونهمته كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

وتبصيره بفجائع الدنيا: هو حمله على النظر في تلكم الكوارث والمحن بنظر الاعتبار، ولفت نظره إلى أنّه ليس من مخبأ عن تلكم الفجائع، ولا من منجا عن إصابتها دون من أصابته من الغابرين، وبطبع الحال أنّ «حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد» وبهذا يعلم المغزى.

* * *

تحذير القلب:

قوله (عليه السلام): «وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ، وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالاَْيَّامِ».

فإنّ من الأُصول الموضوعة أنّ الزمان ليس من المشخَّصات، وأنّ من الممكن التشابه في أجزاء الدهر، وما أصاب السابقين إن كانت عقوبة على ذنب فليحذر الإنسان عن اقتراف مثله، وإن كانت بلاءً حسناً يستوجب عليها الأجر فليسأل المولى سبحانه أن يجزل أجره بغير هاتيك الشدائد.

وفي تذكيره بأخبار الماضين، وبما أصاب من قبله من الأوّلين عظات بالغة وعبر، فلينظر الإنسان كيف طوت أُولئك صروف الدهر وطحنتهم فجائع الأيام، وفي غالب الظنّ أنّه سيمضي لدة(60) أُولئك النفر، فليبتهل إلى ربّه أن يكفّ عنه الأسواء والسيّئات، ويكفه عن المآثم والموبقات الموجبة لمشارفة الملمّات الوبيلة.

* * *

التدبّر في آثار الماضين:

قوله (عليه السلام): «وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا، وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا، فَإِنَّكَ تَجِدْهُمُ انْتَقَلُوا عَنِ الاَْحِبَّةِ، وَحَلُّوا دارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ، فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ».

والسير في ديارهم: أعمّ من الحلّ والترحال في مرابض الأقوام المذكورين، ومن سِيَرِ أخبارهم والنظر في أعمالهم السيئة والحسنة، وتحرّي الحسن ممّا جاؤوا به، ورفض القبيح ممّا اجترحوه حتّى يبلغ في سيره إلى مستوى الصلاح، متنكّباً عن قاعة السوء، ومقيل الأهواء والشهوات.

والنظر في ما ارتحلوا عنه: إشارةً إلى الموت الذي لابدّ منه في منصرم الحياة، وأنّه لا خلود للانسان فيطيل معه الأمل أو يتسامح في العمل، فهنا يعرف الإنسان أنّهم ما انتقلوا إلاّ عن الأحبّة، وعن أُنس الديار المألوفة، وبهجة الحياة المونقة، إلى وحشة المقابر والأجداث، وممارسة الديدان والحشرات، ومحاولة الغربة والكربة.

فمن واجب الإنسان أن يتّخذ من العمل الصالح مصباحاً لذلك المنفى المظلم، ومؤنساً لذاك المعهد الوعر الموحش; لأنّه قال (عليه السلام): عن قريب يصير كأحدهم فيصيبه ما أصابهم، فليكن غالب جهده في أن لا تصيبه إلاّ السعادة والخير، وتكون الصالحات جنّة له عن شقاء المقتبل، فليصلح مثواه ولا يبع آخرته بدنياه.

* * *

الاحتياط في القول والعمل:

قوله (عليه السلام): «وَدَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لاَ تَعْرِف، وَالْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيق إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حِيرَةَ الضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الاَْهْوَالِ».

وترك القول فيما لا يعرف يصون الإنسان عن مزلاّت الجهل، ومغبّات الخطأ التي يتدهور إليها الإنسان من حيث لا يشعر متى رمى القول على عواهنه، ولهج بما لا يتقنه من الكلام.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبعض أصحابه: «كيف بك اذا بقيت في حثالة من الناس، مَرِجتْ عهودهم وأماناتهم، وصاروا هكذا، وشبّك بين أصابعه؟ قال: فقلت: مُرني يا رسول الله، فقال: خُذ ما تعرف، ودَع ما لا تعرف، وعليك بحويضة نفسك»(61).

ومثله التدخّل فيما لا يُعنى الإنسان به، حذراً من أن يصيبه المكروه من جرّاء ما ليس بصالحه، من قول أو عمل. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»(62) من جهة أنّ التكلّم فيما لا يعني المرء ممّا لا فائدة فيه أصلا، لا في الدين ولا في الدنيا على أنّه مذموم شرعاً، وقد وردت في ذمّه أخبار كثيرة، والسرّ في ذلك أنّه ربّما أدّى الى الكذب بالزيادة والنقصان.

فقد ورد أنّه استشهد يوم أُحد غلام من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ووجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أُمّه التراب من وجهه، وقالت: هنيئاً لك الجنّة يا بني، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): وما يدريك لعلّه كان يتكلّم بما لا يعنيه ويمنع ما لا يضرّه(63).

وورد أيضاً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لبعض أصحابه وهو مريض: أبشر، فقالت أُمّه: هنيئاً لك الجنّة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وما يدريك لعلّه قال ما لا يعنيه حوسب عليه، وإنّما تتهنّأ الجنّة لمن لا يُحاسب، ومن يتكلّم فيما لا يعنيه حوسب عليه، وإن كان كلامه مباحاً فلا يتهنّأ بالجنّة مع المناقشة في الحساب فإنّه نوع من العذاب(64).

وكما أنّ التكلّم بما لا يعني المرء مذموم، كذلك سؤاله غيره عمّا لا يعنيه مذموم، بل هو أشدّ ذماً، حتّى قال بعض أهل العرفان ـ ولعلّه مصيب في رأيه ـ : لو سألت غيرك عن عبادته، فتقول له: هل أنت صائم، فهو سؤال عمّا لا يعنيك، وربّما كنت مذموماً عليه محاسباً من جهته، لأنّه إذا قال لك: نعم، كان مُظهراً عبادته، فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل الرياء سقطت عبادته لا أقل من ديوان عبادة السر، وعبادة السرّ تفضل عبادة الجهر بدرجات.

وإن قال: لا، كان كاذباً، والكذب ممقوت عليه صاحبه، وإن سكت كان مستحقراً إيّاك وتأذّيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر الى تعب وجهد فيه، فكنت عرّضته بالسؤال، امّا للرياء أو الكذب أو للإستحقار أو التعب في حيلة الدفع.

وكذلك سؤالك عن كلّ ما يخفي الإنسان ويستحي من إظهاره، أو عمّا يحتمل أن يكون في إظهاره مانع، كأن يحدّث به أحداً غيرك فتسأله وتقول: ماذا تقول، وفيم أنتم، فإنّ جميع ذلك وأمثاله من فضول الكلام والخوض فيما لا يعني، ويتضمنّ إثماً وإيذاءً، وليس من مجرّد التكلّم بما لا يُعنيه والفضول، وإنّما مجرّد ما لا يُعنيه هو ما لا يتصوّر فيه إيذاء، وكسر خاطر واستحياء من الجواب.

كما روي أنّ لقمان دخل ذات يوم على داود (عليه السلام) وهو يسوّي الدرع ولم يكن يراها قبل ذلك، فجعل يتعجّب ممّا يرى، فأراد أن يسأله عن ذلك، فمنعته الحكمة، فأمسك نفسه ولم يسأله، فلمّا فرغ داود قام ولبسها وقال: نِعْمَ الدرع للحرب، فقال لقمان: الصمت حكمة وقليلٌ فاعله(65).

فهذا وأمثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر وهتك ستر، وايقاع في رياء أو كذب، فهو ممّا لا يعني وتركه من حُسن الإسلام.

وقد ورد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال ذات يوم: إنّ أوّل من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنّة، فلمّا دخل قالوا له: أُخبرنا بأوثق عملك من نفسك ترجو الله به، فقال: إنّي رجل ضعيف العمل، وأوثق ما أرجو الله به سلامة الصدر وترك ما لا يعني(66).

وقال (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: ألا أُعلّمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هو الصمت، وحسن الخلق، وترك ما لا يعنيك(67).

وقال (صلى الله عليه وآله): طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله(68). ولكن أُنظروا كيف قلبنا الأمر فأمسكنا فضل المال وأطلقنا فضل اللسان.

وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عمّا كفيت، ولا أتكلّف ما لا يعنيني(69).

وقد نقل أنّ ابن عباس قال: خمس هنّ أحسن وأنفع من حُمُر النِعَم:

لا تتكلّم فيما لا يعنيك فإنّه فضل، ولا أؤمن عليك الوزر منه.

ولا تتكلّم فيما لا يعنيك حتّى تجد له موضعاً، فإنّه رُبّ متكلّم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعبث.

ولا تمار حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يغلبك بصمته، وإنّ السفيه يؤذيك بمنطقه.

واذكر أخاك إذا يغيب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، واعفه ممّا تحبّ أن يعفيك منه.

واعمل عمل رجل يرى أنّه مجازى بالاحسان مأخوذ بالجرائم(70).

 

خطبة الامام علي (عليه السلام) في صون اللسان:

ولعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة في هذا الموضوع ذكرها الرضي في نهج البلاغة، قال (عليه السلام):

«إيّاكم وتهزيع(71) الأخلاق وتصريفها، واجعلوا اللسان واحداً، وليختزن الرجل لسانه، فإنّ هذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى عبداً يتّقي تقوى تنفعه حتّى يختزن لسانه، وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شرّاً واراه، وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه.

ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه وهو نقيّ الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم، فليفعل»(72).

أخذ (عليه السلام) بالتحذير عن تهزيع الأخلاق الملازمة للنفاق، فقال: إيّاكم وتهزيع الأخلاق وتفريقها وتصريفها وتقليبها، ونقلها من حال إلى حال، كما هو شأن المنافق فإنّه لا يبقى على خُلُق، ولا يستمرّ على حال واحدة، بل قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً، وتارةً وفيّاً وأُخرى غادراً، ومع الظالمين ظالماً ومع العدول عادلا.

(إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلاّ قليلا  مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) [النساء : 142-143]. ليسوا من المؤمنين وليسوا من المسلمين، يظهرون الايمان ويصيرون إلى الكفر والتكذيب لعنهم الله.

 

اللسان الواحد:

ولما حذّر (عليه السلام) عن تصريف الأخلاق والنفاق، أخذ في اتّحاد اللّسان بقوله: «واجعلوا اللسان واحداً» وذلك أنّ تعدّد اللسان أيضاً من وصف المنافق; لأنّه يقول في السرّ غير ما يقوله في العلانية، وفي الغياب غير ما يقوله في الحضور، ويتكلّم مع هذا غير ما يتكلّم مع ذاك.

يقول الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): «بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إنْ أُعطي حسده، وإن ابتلي خذله»(73).

وقال أيضاً: إنّ الله تعالى قال لعيسى: يا عيسى ليكن لسانك في السرّ والعلانية لساناً واحداً، وكذلك قلبك، إنّي أُحذّرك نفسك وكفى بي خبيراً، لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان»(74).

قال بعض شرّاح الكافي: إنّ الله تعالى أمره بثلاث خصال هي أُمّهات جميع الخصال الفاضلة والأعمال الصالحة.

الأوّل: أن يكون لسانه في جميع الأحوال واحداً، يقول الحقّ ويتكلّم به، فلا يقول في السرّ خلاف ما يقول في العلانية كما هو شأن الجهّال; لأنّ ذلك خدعة ونفاقاً، وحيلةً وتفريقاً بين العباد وإغراء بينهم.

الثاني: أن يكون قلبه واحداً للحقّ وحده، غير متلوّث بالحيل، ولا متلوّث بالمكر والختل، فإنّ ذلك يميت القلب ويبعده من الحقّ، ويورثه أمراضاً مهلكة.

الثالث: أن يكون ذهنه واحداً وهو الذكاء والفطنة، ولعلّ المراد به هنا الفكر في الأُمور الحقّة النافعة ومباديها، وبوحدته خلوصه عن الفكر في الباطل والشرور، وتحصيل مباديها وكيفيّة الوصول إليها، وبالجملة أمره أن يكون لسانه واحداً، وقلبه واحداً، وذهنه واحداً، ومطيه واحداً.

ولما أمرهم (عليه السلام) بجعل لسانهم واحداً أردفه بالأمر بحفظه وحرزه فقال: «وليختزن الرجل لسانه» يعني ليلازم الصمت، فإنّ هذا اللسان جموح بصاحبه، يقحمه في المعاطب والمهالك، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نجاة المؤمن من حفظ لسانه»(75).

وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «من علامات الفقيه العلم والحلم والصمت، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة، إنّ الصمت يكسب المحبّة، إنّه دليل على كلّ خير»(76).

وورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً، فإذا تكلّم كتب محسناً أو مسيئاً»(77).

إذ لا يخلو كلامه إمّا أن يكون مرضيّاً أو لا يكون، فقد أراد بذلك كلّه أنّ سلامة الإنسان في حفظ اللسان، وأنّ نجاته من وبال الدنيا ونكال الآخرة في الإمساك عن فضول الكلام.

 

توقف التقوى على صون اللسان:

وإليه أشار (عليه السلام) بقوله: «والله ما أرى عبداً يتّقي تقوى ينفعه حتّى يختزن لسانه»(78).

فإنّ التقوى النافع هو ما يحفظه من غضب الجبّار، وينجيه من عذاب النار، ولا يحصل ذلك إلاّ بالاتّقاء من جميع المحرّمات والموبقات الموقعة في الجحيم والسخط العظيم.

والكذب والغيبة والهجاء والسعاية والنميمة والقذف والسبّ ونحوها من حصائد الألسن من أعظم تلك الموبقات، فلابدّ من الاتّقاء منها واختزان اللسان عنها.

ولمّا أمر (عليه السلام) باختزان اللسان ونبّه على توقّف التقوى النافع عليه، أردفه بالتنبيه على أنّ اختزانه من فضول الكلام، وسقطات الألفاظ من خواصّ المؤمن، وعدم اختزانه من أوصاف المنافق، وذلك قوله (عليه السلام): وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه ـ يعني أنّ لسانه تابع لقلبه ـ وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه ـ يعني قلبه تابع للسانه ـ .

 

لسان المؤمن وراء قلبه:

بيان ذلك ما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه وتفكّر في عاقبته، فإن كان خيراً ورشداً تكلّم به ـ أي أظهره وأبداه ـ ، وإن كان شرّاً وغيّاً اختزن عنه ـ أي واراه وأخفاه ـ ; لأنّه تابع قلبه، حيث أنّه نطق به بعد العقل وإجازته.

وإنّ المنافق يسبق حذفات لسانه وفلتات كلامه مراجعة فكره، ويتكلّم من دون فكر ورويّة بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له وماذا عليه، فكأنّ قلبه تابع لسانه; لأنّه بادر إلى التكلّم من غير ملاحظة، ثمّ رجع إلى قلبه فعرف أنّ ما تكلّم به مضرّة له، ثمّ استشهد (عليه السلام) بالحديث النبوي على أنّ استقامة الايمان هو باستقامة اللسان على الحق، وخزنه عن الباطل وهو قوله: «ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(79).

كنّى (عليه السلام) باستقامة الايمان والقلب واللسان عن كمالها، يعني من أراد أن يكون إيمانه كاملا، أي إيماناً نافعاً في العقبى، لابدّ من أن يكمل قلبه، ـ يعني يكون بريئاً سالماً من الأمراض النفسانيّة ـ .

ولما كان القلب رئيس الأعضاء والجوارح كلّها، ومن جملتها اللسان، كان استقامته مستلزمة لاستقامتها، وكذلك استقامتها مستلزمة لاستقامته; لأنّها لو لم تكن مستقيمة ـ بأن صدر منها الذنب والباطل ـ ، يسري عدم استقامتها أي فسادها إلى القلب فيفسد بفسادها.

ويدلّ على ذلك ما رواه صاحب الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما من عبد إلاّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب واستغفر ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قوله تعالى: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين : 14]»(80).

فإنّ هذه الرواية والآية المستشهد بها كما ترى مضافة إلى الروايات الأُخر، تدل على اسوداد لوح القلب بكثرة الذنوب الصادرة من الجوارح، وفي الحقيقة الغرض من الحديث، التنبيه والإرشاد إلى تكميل القلب واللسان لتحصيل كمال الايمان.

ونظيره ما رواه الحلبي رفعه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أمسك لسانك فإنّها صدقة تصدَّق بها على نفسك»، ثمّ قال (عليه السلام) : «ولا يعرف عبدٌ حقيقة الايمان حتّى يخزن من لسانه»(81).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «من استطاع منكم أن يلقى الله تعالى وهو نقيّ الراحة والكف من دماء المسلمين ـ يعني سالماً من قتلهم وأموالهم ـ ، سليم اللسان من أعراضهم ـ يعني متجنّباً من الغيبة والفحش والنميمة والهجاء ونحوها ـ فليفعل»(82); لأنّ ذلك من شرائط الإسلام ولوازم الايمان، فإنّ المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه.

واللسان رحب الميدان، وسيع الجولان، ليس له مَرَدٌّ، ولا لمجاله منتهى ولا حدّ، فله في الخير مجال رحب، وفي الشرّ مجرى سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مُرخى العنان، سلك به الشيطان في كلّ ميدان، وأوقعه في أودية الضلالة والخذلان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطرّه إلى الهلكة والبوار.

ولذلك قال سيّد الرسل محمّد (صلى الله عليه وآله): «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم»(83)، فلا يُنجى من شرّ اللسان إلاّ أن يقيّد بلجام الشرع، ولا يطلق إلاّ فيما ينفع في الدنيا والآخرة، ويكفّ عن كلّ ما يخشى غائلته في العاجلة والآجلة.

 

فضيلة الصمت:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الصمت شعار المحقّقين بحقائق ما سبق وجفّ به القلم، وهو مفتاح كلّ راحة من الدنيا والآخرة، وفيه رضاء الربّ، وتخفيف الحساب، والصون من الخطايا والزلل، قد جعله الله ستراً على الجاهل، وزيناً للعالم، ومعه عزل الهوى، ورياضة النفس، وحلاوة العبادة، وزوال قسوة القلب، والعفاف والمروّة، فاغلق باب لسانك عمّا لك منه بدلا، سيّما إذا لم تجد أهلا للكلام والمساعد في المذاكرة لله وفي الله.

كان بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يضع حصاة في فمه، فإذا أراد أن يتكلّم بما علم أنّه لله وفي الله ولوجه الله أخرجها»(84).

 

حكاية الربيع بن الخيثم:

وكان الربيع بن خيثم ـ وهو من أصحاب علي (عليه السلام) ـ لم يتكلّم بشيء من أُمور الدنيا عشرين سنة، وكان يضع قرطاساً بين يديه فيكتب كلاماً يتكلّم به، ويحاسب نفسه عشيّة ما له وما عليه، ويقول: واه، نجى الصامتون وبقينا، فما رُؤي متكلّماً بشيء من أُمور الدنيا عشرين سنة، إلاّ أنّه قال: العجب من قوم يعملون لدار يبعدون منها كلّ يوم مرحلة، ويتركون العمل لدار يرحلون إليها كلّ يوم مرحلة، ثمّ ندم.

ولم يتكلّم إلى أن قتل مولانا الحسين (عليه السلام) جاءه رجل فقال له: يا ربيع قتل ابن رسول الله، فلم يتكلّم، ثمّ جاءه آخر وأخبره بذلك، فلم يقل شيئاً إلى أن ورد عليه ثالث بالخبر، فبكى وقرأ (قُلِ اللّهُمَّ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر : 42] ثمّ قال: آه آه قُتل والله من كان النبي (صلى الله عليه وآله)يجلسه في حجره، ويضع فاه على فيه، ثمّ قال لرجل ممّن شهد واقعة الطفّ: جئتم بها معلّقات ـ يعني برؤوس الشهداء ـ على أسنّة الرماح، فوالله لقد قتلتم صفوةً لو أدركهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)لقبّل أفواههم، وأجلسهم في حجره.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) المحاسن 1 : 109 ح45; عنه البحار 93 : 157 ح29.

(2) الجامع الصغير 2 : 44 ح4651، وكنز العمال 1 : 417 ح1773.

(3) البحار 68 : 233; وتفسير البرهان 1 : 306 ح6 و 7; عن تفسير العياشي 1 : 194 ح122 و 123.

(4) النجش: استثارة الشيء.

(5) وجف: اضطرب.

(6) تفسير البرهان 1 : 305 ح1 سورة آل عمران.

(7) تفسير البرهان 1 : 306 ح2 سورة آل عمران.

(8) خصائص الأئمة : 74; عنه البحار 22 : 486 ضمن حديث 31.

(9) قال في لسان العرب: السوط: خلط الشيء بعضه ببعض،... وحديثه مع فاطمة رضوان الله عليها: «مسوط لحمها بدمي ولحمي» أي ممزوج ومخلوط.

(10) المحاسن والمساوي : 43 في محاسن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

(11) العشوة : ضعف البصر.

(12) نهج البلاغة، الخطبة رقم222.

(13) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 222.

(14) الوغر: الحقد والضغن.

(15) الارشاد : 76 في غزوة حنين; عنه البحار 21 : 158 ح6.

(16) مقاتل الطالبيين : 300.

(17) البحار 45 : 8.

(18) كناية عن عدم الاكل الا عند الضرورة وبمقدارها.

(19) يلتاه: بمعنى يخلطاه.

(20) نهج البلاغة : الكتاب 45; عنه البحار 33 : 473.

(21) البحار 24 : 128 ح9.

(22) نهج البلاغة : الخطبة 31; عنه البحار 32 : 75 ح49.

(23) نهج البلاغة : الخطبة 193.

(24) منهاج الكرامة : 32 ضمن الوجه الرابع (مخطوط).

(25) القلب: جمع قليب وهو البئر.

(26) راجع روضات الجنات 1 : 139 رقم 34 عن العقد الطهماسبيّ.

(27) روضات الجنات 1 : 140 رقم 34.

(28) روضات الجنات 1 : 141 رقم 34.

(29) دائرة المعارف 7 : 498 حرف الخاء/خورنق.

(30) راجع كشف المحجّة 7 : 358 كتاب الفقر والزهد.

(31) راجع المحجّة البيضاء 7 : 362.

(32) الكافي 2 : 128ح4.

(33) الكافي 5 : 71 ح3.

(34) البحار 70 : 310 ح6.

(35) مصباح الشريعة : 137; انظر المحجة البيضاء 7 : 363.

(36) البحار 70 : 315 ح20.

(37) البحار 70 : 315 ح20; والمحجة البيضاء 7 : 363 عن مصباح الشريعة.

(38) المصادر نفسها.

(39) راجع المحجة البيضاء 7 : 362-364.

(40) كنز العمال 3 : 437 ح7331.

(41) البحار 82 : 137 ح22.

(42) احياء العلوم 1 : 7 / آفات العلم.

(43) الكافي 2 : 57 ح3; عنه البحار 70 : 147 ح8.

(44) الكافي 2 : 57 ح2; عنه البحار 70 : 143 ح7.

(45) احياء العلوم 1 : 7 / آفات العلم.

(46) تفسير صدر المتألهين 1 : 168.

(47) ارشاد القلوب 2 : 374.

(48) نهج البلاغة : الخطبة 179; عنه البحار 4 : 52 ح29.

(49) نهج البلاغة : الخطبة 193; عنه البحار 67 : 315 ح50.

(50) الكافي 2 : 53 ح2; عنه البحار 70 : 159 ح17.

(51) مصباح الشريعة : 177; راجع البحار 70 : 179 ح45.

(52) المصدر نفسه.

(53) الكافي 2 : 336; عنه البحار 70 : 88 ح19.

(54) البحار 1 : 137 ح30.

(55) نهج البلاغة، قصار الحكم 79; عنه البحار 2 : 99 ح56.

(56) نهج البلاغة، قصار الحكم 80; عنه البحار 2 : 99 ح57.

(57) نهج البلاغة، قصار الحكم 265; عنه البحار 2 : 99 ح55.

(58) الكافي 1 : 42 ح4; والبحار 2 : 66 ح8.

(59) من كتابنا «الحكمة والحكماء» مخطوط.

(60) كذا في الأصل.

(61) كنز العمال 11 : 212 ح31270.

(62) البحار 1 : 216 ح28.

(63) الترغيب والترهيب 3 : 541 ح54.

(64) المحجة البيضاء 5 : 200 / كتاب آفات اللسان.

(65) المحجة البيضاء 5 : 203 / آفات اللسان.

(66) المحجة البيضاء 5 : 201 / آفات اللسان.

(67) المحجة البيضاء 5 : 201 / آفات اللسان.

(68) البحار 75 : 29 ح22.

(69) البحار 13 : 417 ح10.

(70) الترغيب والترهيب 3 : 535 ح38، والمحجة البيضاء 5 : 201 / آفات اللسان.

(71) هزّعت الشيء تهزيعاً: كسّرته وفرّقته.

(72) نهج البلاغة : الخطبة 176; عنه البحار 71 : 290 ح62.

(73) البحار 78 : 310 ح1.

(74) الكافي 2 : 343 ح3; عنه البحار 75 : 206 ح14.

(75) الكافي 2 : 114 ح9; عنه البحار 71 : 300 ح73.

(76) قرب الاسناد : 369 ح1321; عنه البحار 71 : 276 ح8.

(77) الكافي 2 : 116 ح21; عنه البحار 71 : 307 ح85.

(78) نهج البلاغة : الخطبة 176.

(79) المصدر نفسه.

(80) الكافي 2 : 273 ح20; عنه البحار 73 : 332 ح17.

(81) راجع الكافي 2 : 114 ح7; عنه البحار 71 : 298 ح71.

(82) راجع نهج البلاغة : الخطبة 176.

(83) البحار 71 : 303 ضمن حديث 78.

(84) البحار 71 : 284 ح38.