الفصل الرابع
الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
«وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ، وَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ فِي الْحَقِّ! وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلهِكَ، فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْف حَرِيز، وَمَانِع عَزِيز. وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ، وَأَكْثِرِ الاِْسْتِخَارَةَ، وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَلاَ تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً، فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْم لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْم لاَ يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ».
* * *
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قوله (عليه السلام): «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ».
هذان أصلان قويمان يتقوّم بهما الدين الحنيف، وتحكم بهما أُسسه ويُشاد علاه، وهما من فروض الكفاية، تعاقب الأمر بهما والحثّ عليهما في الكتاب والسنة، وقام إجماع الأُمة على وجوبهما، وتصافقت على ذلك آي الكتاب الكريم، وتواترت الأحاديث النبوية، والمأثور عن أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ .
وهما بمنزلة القوة المجرية، والسلطة المنفذة لطقوس الإسلام ونواميسه، وهما اللذان يخضعان النفوس الجامحة، والطبايع الشرسة للإتمار والانتهاء، ولا سيما إذا كانا مشفوعين بالارهاب حيث تستدعيه الحالة وتقتضيه الحكمة.
وأمّا كون العامل بهما من أهل المعروف، فلأنّه إن كان الأمر خاضعاً للأمر الربوبي حق الخضوع، وواعياً إيّاه حق الوعي في إلزام الناس للأوامر الإلهية، وزجرهم عن مناهي المولى، فهو نفسه أولى من غيره بأن يمضي عليها ويتمرّن بها، فإنّه مهما بلغ من التسامح وإسلاس قياد النفس، فليس يرضى لها الوقوع في الهلكة المسببة عن اقتراف المآثم، وليس هو بعدوّ نفسه لا محالة.
ومن مراتب النهي عن المنكر مباينة مرتكبيه بكلّ ما يملكه الناهي ويسعه من حول وطول، بيده ولسانه والاعراض عنه، والتظاهر بالاشمئزاز مما يرتكبه، وجعل العراقيل دون سيره الوبيل.
فعل المعروف والأمر بالمعروف:
المعروف إسم جامع لكل فعل يعرف حسنه بالعقل والشرع.
المعروف إسم جامع لما عرف من طاعة الله سبحانه والاحسان إلى الناس في الواجب المندوب.
المعروف ضدّ المنكر في معناه ومصداقه، والتباين بين المنكر والمعروف بنحو السلب الكلي من الطرفين، فلا شيء من المنكر بمعروف، ولا شيء من المعروف بمنكر.
المعروف صفة شريفة معروفة، المنكر صفة رديئة منكرة، يختص المعروف بالأفعال الواجبة والمندوبة شرعاً وعقلا، ولا يدخل فعل المباحات شرعاً وعقلا في فعل المعروف، لأنّه خلو من الرجحان، وما لا رجحان فيه لا خير فيه، والمعروف كله خير.
ويختصّ المنكر بالمحرّمات شرعاً وعقلا، فكلّ ما منع الشرع العقل من فعله ففعله منكر، وأما ما منع منه الشرع والعقل على نحو التنزيه عن فعله بدون إلزام بالمنع ـ وهو المكروه ـ ، فلا ريب في خروجه عن دائرة المعروف، وهو أشدّ خروجاً من المباح، المباح لا يدخل في المنكر، وأما المكروه فربما كان بعض المكروهات من المنكرات إذا تكرّر فعله.
يمتاز أهل المعروف بمعروفهم، ولهم مكانة معروفة، وفي الحديث الشريف «من بذل معروفه آتاه الله جزاء معروفه» وفيه «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة»(1). ومعناه أن أهل المعروف في الدنيا يصنعون المعروف في الآخرة، أو أنّهم معروفون في الآخرة.
وفي حديث ابن عباس قال: «يأتي أهل المعروف يوم القيامة فيُغفر لهم لمعروفهم، وتبقى حسناتهم تامّة فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته، فيُغفر لهم فيدخلون الجنّة، فيجتمع لهم الاحسان إلى الناس في الدنيا والآخرة»(2).
هذا الحديث ينطبق على الأولياء والنقباء، وأهل الاخلاص في ذات الله، الذين بذلوا أنفسهم وما لديهم في مرضاة الله سبحانه.
وفي الحديث «ليس شيء أفضل من المعروف الاّ ثوابه» وفي الحديث: «ليس كلّ من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، وليس كلّ من يرغب فيه يقدر عليه، ولا كلّ من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والاذن، تمّت السعادة للطالب والمطلوب إليه»(3).
وفي هذا الحديث دلالة على أن الأعمال الخيرية تحتاج إلى التوفيق من الله سبحانه بعد الرغبة والقدرة.
وفي الحديث «صنائع المعروف تدفع ميتة السوء، وتقي مصارع الهوان»(4). وهذا يدلّ على أنّ فعل الاحسان إلى الناس والرفق بهم، سبب للوقاية من موارد الذلّ والهوان.
إنّ من المعروف الأمر بالمعروف:
لا نرتاب بأنّ الأمر بالمعروف من أهله في محله ربما كان أعظم من فعل المعروف، لأنّ فيه حفظ النظام بين أفراد النوع الإنساني على ما ذكرنا، وبه إكتساب الفضائل الدينية والعقلية، وإزالة الأخلاق الفاسدة، والعمل بما فيه الحياة في الدارين.
ولا أراك تشك بأن التهذيب والتعليم والالزام لشخص بما فيه ظهور كماله، وجميل صنعه، وحسن سيرته خير له من إعطائه ألف دينار يتنعم بها في معاشه مع تلوثه بأقذار المفاسد، وتدهوره في هوّة الجهالة.
وجوب الأمر بالمعروف وشروطه:
الأمر بالمعروف وفعل المعروف واجبان بحكم العقل والشرع وجوباً كفائياً على كافة العقلاء، ولا شرط لوجوب فعل المعروف سوى القدرة عليه، إن تأثير الأمر بالمعروف له شروط يتوقف تحريك خطابه للمكلّفين عليها:
الأول: القدرة على الأمر بالمعروف، وغير القادر لا يجب عليه.
الثاني: العلم أو الظن أو إحتمال التأثير فيمن يأمره بالمعروف.
الثالث: أن يكون الآمر بالمعروف عاملا به، وإلاّ لم يكن أهلا لأن يأمر به لأن «فاقد الشيء لا يعطيه»، نعم فاقد الشيء لا يعطيه، إذ كل شيء تتصوّره وترى أنك تفقده يستحيل أن تعطيه لمن يطلبه منك، فالمرتكب للمنكر نجد من المنكر نهيه عنه، فضلا عن كونه لا يؤثّر نهيه بأحد، والتارك للفعل الحسن مع قدرته عليه لا يحسن منه أن يأمر به ولا يؤثّر أمره بأحد، كلّ ذلك لأنّ «فاقد الشيء لا يعطيه».
جاء النص في القانون الإسلامي على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال سبحانه: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [آل عمران : 104].
دلّت هذه الآية الشريفة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصرّحت بانحصار الفلاح فيمن قام بهما، والعقل يحكم بلزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظاً للنظام، وسدّاً لأبواب الفساد.
ومن ظاهر الآية عرفنا أن الوجوب كفائي حيث قال سبحانه: (ولتكن منكم أُمة) ولو كان الوجوب عينياً لكن الخطاب بغير هذا البيان.
وقال سبحانه في صفة من آمن بالله حقيقة الايمان:
(يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) [آل عمران : 114].
قرن ايمانهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تنبيهاً على أهمية وجوبهما وأثرهما.
قال صاحب الدعوة الإسلامية الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله): «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه»(5).
وقال (صلى الله عليه وآله) حين سئل عن خير الناس قال: «آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم وأرضاهم»(6).
وقال (صلى الله عليه وآله): «لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو ليسلّطنّ الله عليكم سلطاناً ظالماً، لا يجلّ كبيركم، ولا يرحم صغيركم، وتدعوا خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تُنصرون، وتستغيثون فلا تُغاثون»(7).
وقال (صلى الله عليه وآله): «يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر»(8).
أعاذنا الله من بلاء ذلك الزمان، ووفقنا لفعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه.
* * *
الجهاد في الله:
قوله (عليه السلام): «وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم».
الجهاد هو تحمّل الجهود الجبّارة لنصرة الدين، سواءً كان ذلك بالانضواء إلى راية الحق والمناضلة بالآلات الحربية حسب ما تقتضيه الظروف الحاضرة، من غير جمود على كونه بالسيف والسنان، فمن مصاديقه القتال بالبنادق والمدافع، وفي البوارج وعلى الطائرات على حدّ قوله تعالى: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم)(9).
فاعداد القوى والارهاب يشملان كل هاتيك، ورباط الخيل لا غنى عنه في ساحة الحرب في أغلب صورها، وسواء كان بالقلم واكتساح معرَّة الشكوك والشبهات، وتفنيد ورطات المرجفين بالاسلام، كما في الكتب المؤلّفة والكلم المنشورة على الصحف، والدعاوات المبثوثة على صهوات الأعواد.
وبما أنّ هذا الجهاد قد تحفّ به لائمة من مناوئ، أو مخاطرة من مُدافع، طفق الإمام يوصي ولده البار بعدم الاكتراث بشيء من ذلك، فإنّ تثبيت الحقّ أهمّ من التحفّظ على البقيا وجمام النفس، أو التفصّي عن لومة اللوائم.
الجهاد في سبيل الله:
خلق الله تعالى الإنسان وأودع فيه قوّتين مختلفتين، احداهما: نزّاعة إلى الشر، أمارة بالسوء، والأُخرى: نزّاعة إلى الخير ميّالة للعدل، محبّة للقرب من الله تعالى، توّاقة للوصول إليه.
وقد اقتضت حكمته عزّ وجلّ ـ رحمة للإنسان وإرادة لسعادته وكماله ـ أن يشرفه بالتكليف، وهو عبارة عن جهاد ونضال بين هاتين القوّتين المتخالفتين في المنازع والأغراض، جهاد لا نهاية له إلاّ بانتهاء الحياة وافتراق البدن والروح.
فالانسان ما وجد في هذه الحياة الدنيا إلاّ للمجاهدة والكفاح في ميادينها الواسعة النطاق، المترامية الأطراف، وعلى قدر جهاده وكفاحه تكون منزلته من الله تعالى ومقامه عنده، ويكون ترقيه في مقامات الرفعة والكمال.
ومن كلمات الصوفية في هذا المقام: «من زيّن ظاهره بالمجاهدة زيّن الله باطنه بأنوار اليقين، ومن كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة».
يريدون أنّ كمال المعرفة واشراق القلب بنور اليقين لا يكون مع التكاسل والتخاذل، بل لابدّ من المجاهدة والمكابدة، وإماتة صفات النفس المذمومة، واستبدال الأخلاق الفاضلة بها، وليس يعجز الله تعالى أن يمنح الكمال بلا مشقّة، ويكرم عبده بدون جهاد ولا تكليف، ولكن هكذا سبق في علمه القديم، وتقديره الحكيم أنّ لكلّ شيء سبباً، فالفوائد في طيّ الشدائد، والعطايا على متن البلايا.
والله تعالى أحكم الحاكمين ناط السعادة بالجد، والمثوبة بالعمل الصالح إظهاراً لحكمته، وإشعاراً بجلال ربوبيّته (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) [الملك : 2ـ1].
أنواع الجهاد:
والجهاد لا يكون إلاّ بين خصمين متنازعين، وعدوّين متشاحنين، وأنواعه ثلاثة:
1 ـ جهاد النفس والشيطان.
2 ـ جهاد المتهاونين في الدين وفي أحكامه وتعاليمه.
3 ـ جهاد أعداء الدين المخالفين لنا في العقيدة.
أما النوع الأول جهاد النفس والشيطان، فهو الجهاد الأكبر لأنّه جهاد مع عدو باطن يراك ولا تراه، شديد المكر، عظيم الحيلة، ملازم لك في الليل والنهار، في النوم واليقظة، والحركة والسكون، يجري منك مجرى الدم في العروق، ومن أجل ذلك جعل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) جهاد النفس من أعظم درجات الجهاد فيما روي من قوله: «أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه»(10).
وفي رواية «أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله»(11).
وفي حديث آخر «المجاهد من جاهد نفسه»(12).
بل لقد سمّى الرسول (صلى الله عليه وآله) جهاد الكفار جهاداً أصغر في جانب جهاد النفس حيث قال: «قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، مجاهدة العبد هواه»(13).
ومرجع هذا الجهاد إلى تخلية النفس من أوصافها الذميمة كالحقد والحسد، والكبر والعجب، والرياء والبخل، والطمع والحرص، وما إلى ذلك من الأمراض الباطنية المهلكة، وتحليتها بالأخلاق الفاضلة الكريمة.
والنوع الثاني من أنواع الجهاد هو الجهاد مع إخواننا في الدين، المشتركين معنا في الانتماء إليه، ولكن فَتَنَتهم الدنيا بمناظرها الجذّابة، ومظاهرها الخلاّبة، حتّى أصبحوا أُسارى بأيدي الشهوات، سكارى بمحبة اللذات، تساهلوا في تطبيق أحكام الدين والعمل بأوامره ونواهيه، من غير جحود ولا إنكار.
وهذا الضرب من الجهاد، هو عبارة عن التصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اشتدّ مسيس الحاجة إليه في الآونة الحاضرة لما انتشر فينا من القبائح والزور، ولما فشا بيننا من التفريط والاهمال، مع أنّه أساس حياة الأُمّة وبدونه لا تتوفر لها سعادة ولا هناء، كما صرحت الأحاديث الشريفة.
كقوله (صلى الله عليه وآله): «من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان».
وقال أيضاً: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً».
والقائم في حدود الله معناه المنكِر لها، القائم في دفعها وازالتها، والمراد بالحدود ما نهى الله عنه، ومعنى استهموا اقترعوا.
والنوع الثالث من الجهاد هو جهاد مخالفينا في العقيدة والدين، فمحصّله: القيام بالدعاية الدينية المنظَّمة، والمجادلة بالتي هي أحسن، الخالية من الشدة والعنف، وعندنا أنّ هذا النوع من الجهاد متى نُظّم وأُحكمت وسائله فإنّه يأتي بأحسن النتائج وأطيب الثمرات.
وقد رسم لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطّته بما قام به في أُخريات حياته المباركة من إرسال البعوث والرسائل إلى القبائل والنواحي لنشر الدين، وتبليغ أحكامه وآدابه.
هذا، والجهاد في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) [العنكبوت : 69] معناه شامل لهذه الأنواع الثلاثة من الجهاد، أي جاهدوا النفس والهوى والشيطان، وجاهدوا كل خارج على الدين أُصوله وفروعه على الطريقة التي سار عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي طريقة واضحة جليّة لا لبس فيها ولا ايهام، سداها ولحمتها الاخلاص لله تعالى والتفاني في محبته، والاعتماد عليه مع الثبات على الحق وعدم المساومة فيه، أو الانخداع عنه بالحيل المموّهة.
* * *
قوله (عليه السلام): «وَخُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ».
يريد ـ صلوات الله عليه ـ تأكيد مسألة الجهاد بالتفاني دونه ولومع الاستماتة، والتهيّؤ لاصابة الشدائد والأهوال، فلا تذهب بالقارئ الظنون إلى أنّ للجهاد أمداً محدوداً، ومنصرماً حيث تصادمه الأضرار، فهناك تتعلّل النفوس الخائرة بسقوط التكليف، وأما النفوس القويّة ذوات الايمان الكامل فلا يزالون يمضون قدماً إلى إنقاذ الحق وتحقيقه وتثبيته، ولو باسالة النفوس كما سبق إلى ذلك الشهداء الصالحون، كل ذلك حيث يجدي التفاني نفعاً يبقى معه التكليف.
واما النطاح حيث لا قبل للإنسان به فمن التكليف بما لا يطاق، إلاّ أن يكون بقتل الإنسان وإبادته في حد نفسه أثر مرموق إليه مرغوب فيه، كما جاء به إمام الهدى وسيد الشهداء الحسين (عليه السلام)، فقتل هو وآله وذووه وصحبه ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ .
* * *
التفقه في الدين:
قوله (عليه السلام): «وَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ».
التفقّه في الدين هو أقصى ما يراد من أيّ ابن أنثى، فهو الغاية في الخلقة، وأبهج حُلّة للإنسان الكامل، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يتمنّى أن تكون السياط على رؤوس أصحابه حتّى يتفقّهوا في الدين(14). وفي أخبار الإمام الحجة ـ عجل الله تعالى فرجه ـ انّه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقّه في الدين(15).
ومراتب التفقه مقولة بالتشكيك(16)، فيصدق على من ألمَّ بتعلّم الفتاوى المجرّدة فحسب للعمل بها، فهو أول واجب للمكلَّف، وهو مناط صحة العبادة، وعلى من تطلَّبها بتدبّر في المبادئ والغايات، كما هو وظيفة العارفين والأفاضل، وعلى من حصَّل عليها عن استنباط في الأدّلة، وهو سُنّة المجتهدين،ولهم تدرّج في مراتب العلم والعمل، ففاضل وأفضل، وكلّ منهم فقيه في ذاته وإن تفاوتت الفضيلة المقسطة بينهم على حسب مراتبهم في الفقاهة، ولا يكلّف صاحب المرتبة الدانية بما تحلّى به صاحب المرتبة العالية، ولا يُقتنع من الأفضل بما يقتنع به من الأحسن، فالحجة عليه أتم، والتكليف عليه أعظم.
والغرض المقصود من الفقه حفظ «الدين» بالعبادات، و «النفس» بشرع القصاص والديات، و «العقل» بحظر ما يزيله من المسكرات، و «النسب» بالمناكح والمواليد، و «المال» بالمعاملات والمداينات، و «الكل» بالسياسيّات كالحدود والتعزيرات والقضاء والشهادات.
أدلّة الفقه:
وأدلّته الموصلة إلى معرفة أحكامه بعد معرفة كيفيّة الاستدلال بها أربعة: الكتاب والسنة والاجماع والعقل. ويحتاج من يريد الوصول إليها إلى معرفة علم النحو، والصرف، والتفسير، واللغة، والبلاغة لأجل معرفة معاني الكتاب والحديث، وإلى معرفة علم المنطق وأُصول الفقه لأجل معرفة كيفية الاستدلال، وإلى علم الحساب لأجل معرفة الفرائض والمواريث.
ومن هنا كانت هذه العلوم مبادئ لعلم الفقه، وربما رأوا إدخال علم الكلام أيضاً فيها وجعله منها، باعتبار أنّ العلم بالتكليف فرع عن العلم بالمكلِّف وهو علم الكلام، فلا بد من معرفة المكلِّف قبل العلم بالتكليف، ويدخل في ذلك أيضاً علم الحكمة باعتباره مقدمة لعلم الكلام، فتكون العلوم المتوقف عليها علم الفقه لهذا الاعتبار ـ تسعة ـ ولابد من إضافة علم دراية الحديث لمعرفة صحيح الحديث من غيره. وعلم الرجال لمعرفة حامليه من عدل وغير عدل، فيكون المجموع أحد عشر علماً.
ولا يعتبر من هذه العلوم الاجتهاد فيها، بل يكفي من ذلك الالمام بمسائلها، بصورة يتمكّن من الرجوع في المسألة المتوقّفة عليها الى مظانّها واستنباط الحكم منها.
قال شيخنا المتبحّر الشيخ ملاّ كاظم (رحمه الله)(17) في باب الاجتهاد والتقليد من كفايته: «لا يخفى احتياج الاجتهاد الى معرفة العلوم العربيّة في الجملة، ولو بان يقدر على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع الى ما دوّن فيه، ومعرفة التفسير كذلك، وعمدة ما يحتاج اليه هو علم الأصول، ضرورة أنّه ما من مسألة إلا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في الاصول.
وبالجملة لا محيص لأحد في استنباط الأحكام الفرعية من أدلّتها إلا بالرجوع الى ما بني عليه في المسائل الأصولية، وبدونه لا يكاد يتمكن من استنباط واجتهاد، مجتهداً كان أو أخبارياً»(18).
ويظهر من كلامه أنّ الاجتهاد في الفقه يتوقّف على الاجتهاد في أصول الفقه، أما غيره من العلوم فيكفي منها الالمام بها، كما انه ظهر منه عدم اعتبار العلوم الأخرى التي أشرنا اليها وهي الصحيح.
حدّث العلامة الجليل الشيخ حبيب المهاجر العاملي حفظه الله تعالى في كتابه ـ الاسلام في معارفه ـ قال: «ومن الطرائف انّي اجتمعت ببعض علماء إخواننا السنة ـ ومذهبهم بسد باب الاجتهاد في الفقه معروف ـ وببعض المناسبات قال لي: إنّ الاجتهاد يتوقّف على معرفة مائة الف حديث ـ تأمّل ـ قلت: لا يحتاج إلى معرفة ولا حديث، وإنّما يحتاج إلى العلم بما أُشير إليه، فمتى حصل على ذلك أمكنه استخراج الحكم الشرعي من دليله، وصحّ له العمل برأيه، وصحّ للعامي أن يقلّده ويرجع إليه في الفتوى والحكم بعد احراز عدالته وتقواه.
نعم إذا تعدّد المجتهدون وتفاوتت درجاتهم، فالمتعيّن الأخذ بقول الأعلم لأنّه أصوب، ولأنّ الأخذ بقوله مبرئ للذمة قطعاً، وغيره مختلف فيه، فالرجوع إلى المقطوع به مقدم على الرجوع إلى المختلف فيه.
إغلاق باب الاجتهاد:
ولقد تنبّه جمع من أعلام السنة وعلى رأسهم المرحوم الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصرية إلى الخطأ في هذه المسألة، وعرفوا أنّهم قد أخذوا بها، وأنّه قد خبا نور الشريعة عندهم، وانطفأ مصباحه لديهم، وان ليس التجاؤهم إلى فقه غيرهم في المحاكمات الجزائية وغيرها من المحاكم المدنية إلاّ نتيجة الذهاب إلى القول بسد باب الاجتهاد(19) الأمر الذي جعلهم يرضخون إلى أحكام القوانين غير الإسلاميّة، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى وباله، ولا يتلافى وهنه ولا يجبر كسره (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة : 44].
والعجب كيف يرضى الناس لأنفسهم الرضوخ والخضوع لغير حكم الله(20)وعندهم القرآن فيه حكم الله، (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)[المائدة : 50].
مخاطر إغلاق باب الاجتهاد:
أجل لقد نبع من المسلمين رجال تقدّموا في تلك المضامير، وتأخّر آخرون قعدت بهم الهمم وتقاعست منهم النفوس، فارتأوا أن يقيّدوا حريّة الناس، ويحبسوهم أو يمنعوهم عن النظر والجولان في معالم دينهم، بارجاعهم إلى أشخاص مخصوصين لم يكونوا في ذلك العصر، بداهة أنّ ذلك كان في القرن الرابع الهجري، في عصر الشريف المرتضى، والأئمة الأربعة الذين أرجعوا الناس إليهم وهم: أبو حنيفة، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، كانوا قبل ذلك.
ثم رأوا إغلاق باب الاجتهاد كأنه باب خشب بيدهم فتحه وإغلاقه، فنتج من ذلك أمور ثلاثة، كلّ واحد منها كاف بان يقضي على هذه الأُمة، ويطفئ نورها، ويرجعها إلى الوراء تمشي خلف غيرها.
الأمر الأول: أنّه انطفأ نور الشريعة، وخبا ضوؤها، وأمست جواهرها المكنونة، ولآلئها المبذولة في بحري الكتاب والسنة، لا غائص عليها، ولا باحث عنها.
الثاني: أنّ لكلّ واحد من المقلّدين أتباع، أخذ يؤيّد مقلّده ومتبوعه بشتّى الأساليب ومختلف الوسائل، الأمر الذي أدى إلى التنازع والخصام، ثم إلى التفسيق والتكفير، ثم إلى القتل والقتال، وانتهاب الأعراض والأموال.
الثالث: الرجوع إلى فقه الغير بحكم الحاجة إليه، نظراً للجمود الذي عرا الفقه الإسلامي، والتحجر الذي أصابه من أهله، حتّى أدّى الأمر إلى ما ترون، وحتّى أصبح المسلمون وهم أهل دين الله، يرضخون ويخضعون ويحكمون بغير أحكام الله مستعبدين مستعمرين.
إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء للناس بشريعة وقوانين، يريد أن يدخل العالم كله تحت حكمها، يريد أن يجعل من الناس كلهم أمة واحدة تجمعهم ثقافة واحدة، ولغة واحدة، ودين واحد، يريد أن يجعل من الدنيا جنة ينعم بها الناس قبل انتقالهم إلى الجنة الكبرى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّلَ على محمّد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) [محمّد : 2].
فما بال المسلمين أصبحوا عيالاً على غيرهم في ثقافتهم وفي فقههم وفي أخلاقهم، من أين أُوتوا، أليس هذا من تفرّقهم واختلافهم، من انصرافهم عن البحث في فقههم، وعدم الانتاج والاستنباط من لآلئ علومهم، وعلم الفقه من أهمّ العلوم بعد علم التوحيد، وأعظمها نفعاً وأجلّها فائدة، وأحراها وأجدرها بالحرص والاستباق إليه.
أوّل من صنّف الفقه:
وأوّل من صنّف فيه، وسبق إليه، وجمعه ورتّبه على الأبواب المألوفة هو «علي بن أبي رافع» مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من التابعين، وكان كاتباً لأمير المؤمنين (عليه السلام).
قال النجاشي في ذكر الطبقة الأُولى من المصنّفين من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام): «علي بن أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو تابعي من خيار الشيعة، كانت له صحبة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان كاتباً له، وحفظ كثيراً، وجمع كتاباً في فنون الفقه والوضوء والصلاة وسائر الأبواب»(21).
ولعلّ من هنا تجد كثيراً من المؤلّفين يبدؤون في كتبهم ويقدّمون فيها مباحث الوضوء، مع أن الترتيب يقتضي تقديم مباحث المياه وما يتلوها لأنها مقدّمة للوضوء، ولكنهم جروا على ما جرى عليه علي بن أبي رافع، بملاحظة انّه تفقّه على أمير المؤمنين (عليه السلام) وجمع كتابه في أيامه، فلابد أنّه كان ذلك باشارته.
قال النجاشي: «تفقّه على أمير المؤمنين وجمعه ـ يعني كتابه ـ في أيامه، أوّله باب الوضوء، إذا توضّأ أحدكم فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده، قال: وكانوا يعظمّون هذا الكتاب»(22)
* * *
الصبر على المكاره:
قوله (عليه السلام): «وَعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ فِي الْحَقِّ!».
فضيلة الصبر:
التصبّر هو الحجر الأساسي للملكات الفاضلة كلّها، فإنّه اما أن يكون على الطاعة أو عن المعصية، فإن كان تحمّلا على جهود الطاعة ففيه أنواع العبادات البدنية، وإن كان جَلَداً على بثّ الثراء فمن العبادات المالية، وإن كان تحمّلا على وعثاء السفر وضرب آباط الإبل، فهو المرغبات التي تكون في الضرب في الأرض كالحج والأسفار المشروعة كلها.
وإن كان صبراً على مضاضة الحروب، وعضّ السلاح والمخاطرة بالنفس، ومعاناة الجروح الدامية، ومقاسات الحبوس والمشانق والأسر، فتلك فضيلة الجهاد، وقد يكون بمكافحة النفس، وكسر سورة الغضب، وكظم الغيظ الثائر، فذلك الحلم الذي رغب فيه العقل والشرع.
ولن تجد في الصفات الفاضلة صفة تلازم مخالفة النفس، أو السير في سفر الطاعة إلاّ ولها أتمّ صلة بالصبر أو ابتناء عليه، ولذلك تطابق الكتاب والسنة على الحثّ به، والترغيب فيه والدعوة إليه، فهو جماع الفضائل، وأصل تفرّعت منه فروع البر والاحسان، وأسس بنيت عليها قواعد الطاعة والايمان.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الصبر نصف الايمان، واليقين الايمان كله ولن يفترقا»(23). واليقين هو المعرفة بالله عزّ وجلّ الباعثة على طاعته، والصبر هو العمل بمقتضى المعرفة التي تحمله على الطاعة وإن شقت، وتصرفه عن المعصية وإن عذبت ولذت.
وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فلا خير في إيمان لا صبر معه كما لا خير في جسد لا رأس معه»(24).
وفي حديث عطاء عن ابن عباس لما دخل النبي (صلى الله عليه وآله) على الأنصار، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا، فقال أحدهم: نعم يا رسول الله، قال: فما علامة ايمانكم؟ فقال: نشكر على الرخاء، ونصبر على البلاء، ونرضى بالقضاء، فقال: مؤمنون ورب الكعبة(25).
وقال ابن عباس: «أفضل العدة الصبر عند الشدة» لما في ذلك من محمود العاقبة في العاجل والآجل.
وأكثر الناس يصبرون ولكنّهم لا يستحقّون اسم الصبر، لأنّ الصابر على الحقيقة لا يشك أن الذي يصيبه من المصائب، وينزل به من الحوادث هو خير له، لعلمه بحسن لطف الله تعالى به وجميل صنعه له، كمثل غارس الجنة الذي لا يزال يجيد عمارتها، ويوالي سقيها، ودفع الضر عنها، وهو مع ذلك يتعهّدها بتقليم أغصانها ، وتعريتها من بعض أوراقها لما يعلم في ذلك من المنفعة لها، ويرجوه من دفع المضرّة عنها.
فلو علم ابن آدم لطف الله تعالى به، وميّز جميل صنعه فيه، وعرف حسن تدبيره له لأيقن رفقه، ووفى الصبر حقه، وعلم النعمة في المنع هي النعمة الطائلة الدائمة، وأنّ النعمة في الاعطاء والاتساع في أحوال الدنيا ربما كان مؤدّياً إلى منع نعيم الأخرى، ألا ترى إلى قول الله عزّ وجلّ: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) [العلق : 6-7].
وقال لقمان لابنه: «يا بني الذهب يجرب بالنار، والعبد الصالح يجرب بالبلاء»(26).
وقال الفضل بن عيّاض: «إن الله ليتعهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعهّد الرجل أهله بالخير»(27).
ولولا أنّ في حلول الكوارث ونزول الحوادث تخفيفاً من الأوزار، وحطّاً من الذنوب، ومحواً من السيئات ما استطعنا عليها صبراً، ولولا أنّ في موافقة اللذات، ومقارفة الشهوات أنواعاً من المكاره وأصنافاً من الشدائد ما وجدنا عنها صبراً، ولكثر إليها إسراعنا، وقلّ عنها امتناعنا.
لا جرم أنّ جميع خلال الخير، وخصال البر، وأحوال الطاعة، وما جعل الله في الإنسان من حسن الشيم، وكرم الأخلاق، وأسباب الديانة، ودواعي الايمان إنّما هي كلّها مرتبطة بالصبر، وراجعة إلى الصبر، ومحمولة على الصبر، وجارية مع الصبر كيفما تأملتها، وعلى أيّ حال تدبرتها، فإنّه قطب تدور عليه جميع الأفعال المحمودة.
ألا ترى أنّ الكرم صبر على مفارقة المال وعلى حبه، وأنّ العدل صبر على إمضاء الحكم وإن شقّ، وأنّ الصدق صبر فربما خالطه شوائب تكره، وانّ الحلم جامع لأشتات الصبر.
والأخبار في فضيلة الصبر على البلاء وعظم ثوابه وأجره أكثر من أن تحصى، فينبغي للمرء أن يتدرّع به، ويروض نفسه منذ زمن الحداثة عليه.
أقسام الصبر:
والصبر في أصل معناه اللغوي الحبس، وهو باعتبار متعلّقه ينقسم ثلاثة أقسام: (الصبر عن...) (والصبر على...) (والصبر في...):
فالأول: حبس النفس عن فعل السوء والشر، ودواعي الهوى والشهوة، وكلّ ما يمسّ كرامه الإنسان، ويشوّه سمعته.
والثاني: الصبر على المكروه والألم، وتحمّل الرزايا والمصائب، وكل ما يقلق الراحة، وينغص العيش، ومن ذلك الصبر على ما يفوت الإنسان من المآرب والحظوظ الدنيوية.
والثالث: الصبر في مواطن الخوف والذعر، بل في مواطن الخطر أحياناً دفاعاً عن حق، أو حماية لمصلحة، أو وقاية لعرض وشرف، وهذا النوع من الصبر يسمّى الشجاعة والاقدام، فالشجاعة إذ ذاك ضرب من الصبر، قال الله تعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة : 177].
وقال بعض الحكماء: «ليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون الرجل قوي الجسد على الكد والتعب، لأنّ هذا تشاركه فيه الدابة، ولكن أن يكون للنفس غلوباً، وللخطوب حمولا، ولجأشه عند الحفاظ مرتبطاً».
وانّ أعزّ شعوب هذا العصر، وأرفعها شأناً، وأوسعها سلطاناً هو الشعب الذي عرف من أخلاقه الصبر والثبات في مواطن الأخطار، ولدى اشتداد الأهوال، فهو يعدّ للأُمور عدّتها، ويهيّئ لها أسبابها ووسائلها، ثم يصبر صبراً بعد صبر، حتّى يحين الوقت، ويتضح الأمر، وإذ ذاك يجني ثمرته، ويجتني فائدته.
هذا الخُلُق يصح أن نسمّيه «الخلق القرآني» لكثرة ما ذكر في القرآن من التنويه به، والحضّ عليه في أكثر من سبعين آية: من ذلك قوله تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأُمور) [لقمان : 17]، ومعنى كون الصبر من عزم الأُمور أنّه مما يتأكد طلبه، وتجب على الشخص ممارسته من أُمور الأخلاق.
(وأن تصبروا خير لكم) [النساء : 25].
(إن الله مع الصابرين) [الأنفال : 46].
(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا) [السجدة : 24].
وأما الاستسلام إلى المكروه والصبر على المصيبة، والتقاعد عن دفعها بالطرق والوسائل المشروعة الممكنة، فليس مما يرضاه الشرع ولا العقل لنا، ولا يكون الصبر حينئذ صبراً محموداً، ولا خُلُقاً مشكوراً، ينزل بالمرء فقر أو ضائقة، وله عيال يتضوّرون جوعاً، وأسباب الرزق ممهدة بين يديه، فيعرض عنها ويقول: «إنّه صابر وإنّ الصبر مفتاح الفرج».
يصاب المرء بمرض مؤلم، ويكون له علاج أو دواء ناجع أو مخفف، فيتقاعد المريض عن تناول ذلك العلاج، ويقول عن نفسه: «إنّه صابر، وإنّ الصبر سلاح المؤمن».
يعتدي معتد عليك، أو يغتصب بعض حقك، ويكون في مكنتك كفّ أذاه باحدى الطرق والوسائل، لكنك لا تفعل بل تذل وتخضع، وتدّعي أنّك صابر، وأنّ الله مع الصابرين، وغير ذلك كثير من أحوال الناس وأطوارهم التي تتكرر مشاهدها تحت مواقع أبصارنا من وقت إلى آخر.
كلّ أولئك ليس من الصبر في قليل ولا كثير، ولا ينبغي أن يُقرَّظ صاحبه عليه، وإنّ استنكار ذلك وبعده عن الأخلاق ، ومنافاته للخلال الفاضلة، أمرٌ ظاهر لا يحتاج إلى استدلال، بل يكاد يكون الشعور باستنكاره أمرأ بديهيّاً.
وقد مني المسلمون في أخريات أيّامهم بشيء كثير من هذا الذي يسمّونه صبراً وتوكّلا، فساءت حالهم، ووهت عزائمهم، وكلَّت هممهم، فصاروا أُكلَة لآكل، وغرضاً لنابل.
* * *
اللجوء الى الله:
قوله (عليه السلام): «وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلهِكَ، فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْف حَرِيز، وَمَانِع عَزِيز».
إنّ في هذا التصميم جمام النفس في الدنيا، وراحة المنقلب غداً، فإنّ العقل مهما استند إلى ملجأ لا يخاف انهياره، استقبلته الطمأنينة في اتجاهه، فلا يخشى خوراً ولا يحاذر ذلاً إن كان صادقاً في إلتجائه، (لا يسر حسواً في ارتغاء) فيفضحه الكذب في قوله، والخيانة في عمله.
فهذه الطمأنينة لا تبارحه في حياته كلّها لأنّه استند إلى كهف حريز، ومانع عزيز لا تدانيه سطوة عدوّ أو غلبة مناجز، وهو متى وحّد اتجاهه نحوه سبحانه، وعلم أن لا مَنجى منه إلاّ إليه توحَّد فكره، وانحسر عن المناحي المتفرقة فلا يذهب شعاعاً، وينصرف عن الأباطيل جمعاء إلى الذي يوحّده في العبادة والالتجاء والآمال والأعمال، فلذلك حسن أن يتوكّل عليه، ويَلْتَجِئ في كلّ أُموره إليه.
التوكل على الله:
نصّ القانون الإسلامي على التوكل في جميع الأُمور على الله، وهو السبب لتحقيق الرضا والتسليم، وأثره ترك الجشع والعدوان، فهو من مكارم الأخلاق.
التوكل هو اظهار العجز والانقطاع إلى من يتكل عليه، فإذا أظهر الإنسان عجزه عن فعل من الأفعال لإنسان مثله، وانقطع إليه كان متوكّلا عليه، ولا ريب في أنّه يسعى له في قضاء فعله إذا كان ذلك الفعل تحت قدرته، وكانت صفات الإنسانية كاملة في ذلك الإنسان، وإن لم يكن تحت قدرته يعتذر إليه، ولم يكن ذلك الاتكال مصادفاً لمحلّه.
أما التوكل على الله سبحانه القادر على كلّ شيء، المنزه عن ظلم عباده لاستغنائه عنهم وقدرته عليهم، فإنّ العقل السليم حاكم برجحانه، وإنّ التوكل على الله ـ وإن لم يرد به نصّ من الله في كتابه الكريم ـ فهو لازم على الإنسان، لأنّ وظيفة العبد الاتكال على مولاه في تدبير أُموره، فالانسان يتوجه بحسب إرادته ورغبته إلى ما يرتضيه من الأعمال، ويسعى بمقدار قدرته، وهو متوكّل على الله في نجاح سعيه وإتمام عمله، فإن كان صلاحه في إتمامه أقدره الله عليه، وإلاّ رجع عنه بعد أن كان تحت قدرته وفي قبضته بحسب ما يراه.
وربما أنّه يرى أن لا يمنعه منه أحد، فإذا رجع عنه قد يظهر له بلا مهلة عدم حسن ذلك الفعل، ويمكن ظهوره بعد زمان طويل كما يمكن استمرار جهله بحسنه وعدمه، فالعارف بالله المؤمن به لا يتوكّل على انسان مثله في قضاء عمل له، نعم له أن يطلب منه قضاءه وهو متوكّل على الله بأن يقدره عليه بتوسط ذلك الإنسان أو غيره من العباد، وهذا الذي ينطبق عليه نص القانون الإسلامي، ويساعد عليه الوجدان والنص، قال سبحانه: (ألاّ تتخذوا من دوني وكيلا) [الاسراء : 2].
هذه الآية صريحة بالنهي منه سبحانه لعباده عن الاتكال والاعتماد في شيء من أمورهم على أحد من العباد، إذ لا يمكن أن يقضي أحد حاجة أحد إلاّ بالاقدار والتوفيق من الله سبحانه، فالذي يحسن أن يتخذه الإنسان وكيلا ومعتمداً هو الله، يقول سبحانه: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) [الطلاق : 3] أي من يعتمد على الله في أموره فالله يكفيه ولا يلجئه إلى أحد سواه، وقال سبحانه (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) [إبراهيم : 12].
إنّ هذه الآية الشريفة لمن تدبّرها وعرف المراد منها نعمة نفسية، وحياة قلبية، يكفيانه في الحياة الدنيوية، وفيها الكفاية في باب التوكل تعطيك معنى التوكل بجوهره، وتعرب لك عن لبابه لأنّها بكل صراحة نصها: (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) [ابراهيم : 12].
ولم يكن نصها وعلى الله فليتوكل العباد أو الانسان أو العقلاء، فالمتوكلون جمع، واحده متوكل، وهو هنا بمعنى المتيقن، فهو عبارة عن المتوكل على الله عن يقين ثابت، وهو التوكل على الله حق توكله، وذلك بأن يجزم بأن كل رزق وعطاء ونعمة وسعادة من الله سبحانه، ثم يسعى في الطلب على الوجه الجميل بحيث يخاف من الله وحده، ولا يطمع في أحد سواه.
وربما يتوهم البسطاء أن التوكل على الله هو عبارة عن ترك التكسب والسعي في أمر المعاش، وهذا توهم فاسد، وتفسير قد منع الشارع منه.
مراتب التوكل:
ومِنَ التدبر في الآيات الربانية، والآثار الوجدانية، نعلم بأن التوكل له مراتب، فأضعفه ما كان توكلا بسيطاً لا يقين معه، وأرقى منه ما كان معه يقين يتخلله الشك في موارد التوكل، والمرتبة العليا هي التوكل على الله عن يقين ثابت بحيث لا يعترضه الشك في موارد التوكل، وهذا القسم هو المراد من هذه الآية.
ولا ينافي هذا القسم فضلا عما تقدّمه أن يكون لمن توكل على الله في أموره حتى التوكل سعي تام، وحركة عقلائية، وأسباب عادية للتوصل إلى مطلوبه، لأنّ الله سبحانه أمر بالسعي وجعل لكل شيء سبباً، فإذا كان كذلك في أحواله كان جارياً على ما هو تكليفه وتحت قدرته، ونحن وكل مؤمن عرف حقيقة الايمان لا نرتاب بأن التوكل على الله من كمال الايمان، وفيه ما فيه من التسليم والرضا، وهو السبب في ارتياح النفس واطمئنانها وتجردها عن البغي والجشع.
وهيهات هيهات بعد تحقق هذه المرتبة الأخلاقية أن ينازع الإنسان من فوقه بالمعصية، أو من يساويه ومن دونه بالغلبة، وفي ذلك سلامة الإنسان في أكوانه من العبث والفساد، والظلم والالحاد، وبذلك ينال السعادة في الدارين.
* * *
الاخلاص في المسألة:
قوله (عليه السلام): «وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ».
هذا من ولائد ما قدّمنا شرحه من صدق الالتجاء، فإنّ الإنسان إذا كان غير خائن فيما يلفظه من قول، أو يرتكبه من عمل، أو يتظاهر به من عقيدة، فلا مناص له إلاّ الصدق والاخلاص، لأنّه جد عليم أنّه لا ينجيه إلاّ ذلك، وأن المولى سبحانه لا تنطلي عنده اكذوبة خائن ولا غشّ مخادع، على انّه لا تنقطع آماله من ربه الغني، فهو كلّ حين بين مسألة لمنح عطاء، أو منع خطر مخبت لأنّ بيده جلَّت قدرته لا بيد غيره العطاء والمنع.
* * *
استخارة الله:
قوله (عليه السلام): «وَأَكْثِرِ الاِْسْتِخَارَةَ».
هذا من توابع ما سبق من صدق الالتجاء والاخلاص في القول والعمل، فإنّ تلكم المراتب لا يبارحها طلب الخير من الله سبحانه بعد اليقين والعقيدة الجازمة بأنه لا منيل للخير سواه، ولا منال له في غير ساحة قدسه، إن أريد من الاستخارة طلب الخير كما هو ظاهر من متعارف الأخبار والاحاديث، ومتفاهم الكثير من العلماء الفطاحل.
وإن أريد بها ما هو المتداول بين الناس من استكشاف الخير والشر بكيفيات مأثورة بالحصى، والبنادق(28)، وآي القرآن الكريم، والقرعة، فهو أيضاً من مظاهر طلب الخير ومصاديقه، وإن كان إطلاق اللفظ وشموله عليها على الاطلاق ممنوعاً.
فلسفة الاستخارة:
من المعلوم أنّ عالم الدنيا وهو الذي يعبّر عنه عند أرباب العلوم العقلية بعالم الشهود، دار تزاحم وتمانع، والتضارب واقع على الدوام بين الأسباب المقتضية لمسبباتها، فإنّ سبباً قد يقتضي شيئاً ويمانعه آخر فيدفعه عن مقتضاه.
ألا ترى انّ الأرض الصالحة للزرع إذا كفّرت(29) فيها الحبة، وسقيت على نظام قانون الري، تكون سبباً لنبات تلك الحبة، وبلوغها إلى غايتها المتوخاة التي هي الاثمار، فإذا صادفها برد شديد يمانعها في مقتضاه فيميت الزرع.
والإنسان في جميع حركاته وسكناته يطلب ما هو الأصلح له في دنياه وآخرته، وبما أن الدافع له إلى طلب شيء أو إلى الهرب منه ليس إلاّ إحرازه السبب المرجح للطلب أو الهرب، فإذا أحرز ذلك حسب ما تصل إليه فكرته، وأحرز وجود الشرائط وفقدان الموانع، لا يتوقف في الحركة بل يجري على مقتضى إحرازه.
وقد يقع بين سببين متساويين بالاضافة إلى الايجاب والسلب في حيرة توجب الوقفة، وحيث أنّه محجوب عن الاحاطة بجميع المصالح النفس الأمرية(30)، وخارج عن وسعه ترجيح ما هو الراجح في نفس الأمر فيقف عن الحركة.
والشارع الحكيم من لطفه على عبده يريد جريه على العمل، وإخراجه عن الحيرة، جعل له طريقاً إلى كشف ما هو الراجح في نفس الأمر، والأصلح بحاله في الواقع، وذلك الطريق هو الاستخارة التي هي استرشاد واستهداء ممن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة إلى ما فيه الرشد والصلاح.
ومن هذا الباب أيضاً أمرهم بالمشورة، فإنّ فيها تتعاضد العقول إلى معرفة الأصلح، وعند وقوفها عن إحرازه أمرهم بالرجوع إلى خالق العقول وجاعل الألباب بالاستخارة، والأحاديث في أمر الاستخارة مستفيضة متكاثرة.
فقد أثر عن الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) انّه كان يقول: «إذا استخرتُ الله في أمر لا أُبالي على أيّ جنبي وقعت»(31). وعنه (عليه السلام) انّه قال: «يقول الله عزّ وجلّ: من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال ولا يستخيرني»(32).
وقال (عليه السلام): «من دخل في أمر بغير استخارة ثم ابتلي لم يؤجر»(33).
وقال (عليه السلام) لبعض أصحابه وقد سأله من أكرم الخلق على الله تعالى؟ «قال: أكثرهم ذكراً لله وأعملهم بطاعته، قلت: فمن أبغض الخلق إلى الله تعالى؟ قال: من يتّهم الله، قلت: وأحد يتّهم الله؟ قال: نعم، من استخار الله فجاءته الخيرة بما يكره فسخط، فذلك يتّهم الله تعالى»(34).
وجاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انّه قال لعلي (عليه السلام) لما بعثه إلى اليمن والياً، فكان من جملة ما أوصاه أن قال له: «يا علي ما حار من استخار، ولا ندم من استشار»(35).
طرق الاستخارة:
وللإستخارة عدة طرق ووجوه:
الطريق الأول: الاستخارة بالقرآن، قال العلامة المجلسي (رحمه الله) ـ في مفاتيح الغيب ـ «إنّه المشهور وهو الدعاء بطلب الخيرة من الله تعالى، وفتح القرآن، والنظر إلى أول الصفحة اليمنى والعمل بها، فإن كانت آية رحمة، أو أمر بخير فهي جيدة، وان كانت آية غضب، أو نهي عن شر، أو أمر بعقوبة فهي ردية، وإن كانت ذا وجهين فهي متوسطة».
ويدلّ على جواز الاستخارة بهذا النحو ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن اليسع بن عبد الله القمي قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): اني أريد الشيء فأستخير الله فيه، فلا يوثق فيه الرأي أفعله أو أدعه، فقال (عليه السلام): أنظر إذا قمت إلى الصلاة ـ فإنّ الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصلاة ـ أي شيء يقع في قلبك فخذ به، وافتح المصحف فانظر إلى أول ما ترى فيه فخذ به»(36).
ـ والظاهر ـ ان المراد بأوّل ما يراه أول الصفحة اليمنى، لو قوع النظر عليه غالباً ابتداءاً، ولأنّه أمر مضبوط تحسن الاحالة عليه، ولو أريد أول ما يقع عليه النظر من أي موضع كان لم يكن إحالة على أمر مضبوط، إذ ربما يقع النظر على آيتين تدلّ إحداهما على الخير والأُخرى على الشر، أو أكثر من آيتين.
ومما يؤيد جواز الاستخارة بالقرآن، ما عن السيد ابن طاووس (رحمه الله) في كتاب «فتح الأبواب» انّه قال: ذكر الشيخ الإمام المستغفري الخطيب في سمرقند في دعواته، إذا أردت أن تتفأل بكتاب الله عزّ وجلّ فاقرأ سورة الاخلاص ثلاث مرات، ثم صلّى على النبي وآله ثلاثاً، ثم قل: «اللهم اني تفألت بكتابك، وتوكلت عليك، فأرني في كتابك ما هو المكتوم في سرّك المكنون في غيبك» ثم افتح الجامع ـ يعني القرآن ـ وخذ الفأل من الخط الأول في الجانب الأول من غير أن تعد الأوراق أو الخطوط، كذا ورد مسنداً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)(37).
الطريق الثاني: الاستخارة بالسبحة; ما نقله العلامة المجلسي (رحمه الله) في «مفاتيح الغيب» عن والده، عن شيخنا البهائي انّه كان يقول: «سمعنا مذاكرة عن مشايخنا عن صاحب الأمر ـ صلوات الله عليه ـ في الاستخارة بالسبحة انّه يأخذها ويصلي على النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات، ويقبض على السبحة، ويعد إثنتين إثنتين، فإن بقيت واحدة فهو إفعل، وإن بقيت إثنتان فهو لا تفعل».
الطريق الثالث: الاستخارة بالرقاع; وهذه أضبط الاستخارات، وأحسنها وأشهرها، وصورتها ما رواه الكليني في «الكافي»، والشيخ في «التهذيب» بأسانيد معتبرة عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا أردت أمراً فخذ ست رقاع، واكتب في ثلاث منها: بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان ابن فلانة إفعله. وفي ثلاث منها: بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان ابن فلانة لا تفعله.
ثم ضعها تحت مصلاك، ثم صلِّ ركعتين، فإذا فرغت فاسجد سجدة وقل فيها مائة مرة: «استخير الله برحمته خيرة في عافية» ثم استوي جالساً وقل: «أللهم خر لي واختر لي في جميع أموري في يسر منك وعافية» ثم اضرب بيدك إلى الرقاع فشوشها وأخرج واحدة واحدة، فإن خرج ثلاث متواليات لا تفعل فلا تفعله، وإن خرجت واحدة إفعل والأخرى لا تفعل، فأخرج من الرقاع إلى خمس فانظر أكثرها فاعمل به، ودع السادسة لا تحتاج إليها»(38).
* * *
العلم النافع:
قوله (عليه السلام): «وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَلاَ تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً، فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْم لاَ يَنْفَعُ، ولا يُنتفع بعلم لا يحق تعلّمه».
العلم النافع هو ما أعقب تفقّهاً في الدين، أو تهذيباً للنفس، أو سجاحة(39) في الخُلُق، أو دماثة في الضرائب، أو عظة بالغة، أو عبرة زاجرة، وهناك علوم لم تمنع عنها الشريعة، ولعلّ في غضون مأثوراتها ترغيباً في تعلّمها، أو أنّ لها صلة بغير واحد من الأحكام الدينية، كغير واحد من الرياضيات من حساب، وهندسة، والعلوم الفلكية والجغرافية الطبيعية.
وهناك علوم جمة باقية على إباحتها، وهي مجلبة للفضل والكمال لمن تطلَّبها إذا لم تكن ملهية عن الدينيات.
وعلوم محظور تعلمها، وهي التي لا خير فيها كما في قوله (عليه السلام)، لأنّ في تعلمها صدّ عن سلوك سبيل الله، والعلم المؤدي إليه، وتلك هي العلوم التي نهت الشريعة عن تعلمها كالسحر والكهانة والنجوم ونحوها مما لا يكون فيها سبيل إلى المقاصد الحقيقيّة التامة.
العلوم المحرّمة:
والذي يلوح من سرّ نهي الحكمة النبوية عن تعلم هذه العلوم أمران:
أحدهما: إشتغال متعلّمها بها، واعتماد كثير من الخلق السامعين لأحكامها فيما يرجون ويخافون، فما يسنده إلى الكواكب والأوقات، والاشتغال بالفزع إليه وإلى ملاحظة الكواكب عن الفزع إلى الله تعالى، والغفلة عن الرجوع إليه فيما يهم من الأحوال، وهذا يضاد مطلوب الشارع الأقدس، لأنّ غرضه ليس إلاّ دوام التفات الخلق إلى الله سبحانه، وتذكرهم لمعبودهم بدوام حاجتهم إليه.
الثاني: انّ أحكام هذه العلوم إخبارات عن أمور ستكون، وهي تشبه الاطلاع على الأُمور الغيبية، وأكثر الخلق من العوام والنساء والصبيان لا يميزون بينها وبين علم الغيب والاخبار به، فكان تعلم تلك الأحكام والحكم بها سبباً لضلال كثير من الخلق، وموجباً لاعتقاداتهم في المعجزات ـ إذ الاخبار عن الكائنات منها ـ .
والشك في عظمة بارئهم، ويشككهم في صدق عموم قوله تعالى (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاّ الله)[النمل : 65]، (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو) [الأنعام : 59]، وقوله تعالى:( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) [لقمان : 34].
فصاحب هذه العلوم إذا حكم لنفسه بأنه يصيب كذا في وقت كذا، فقد ادعى أنّ نفسه تعلم ما تكسب غداً، وبأي أرض تموت، وذلك عين التكذيب للقرآن، وهذان الوجهان المقتضيان لتحريم هذه العلوم.
وصفوة القول: أن كل علم لا يحق تعلمه ـ أي لا يثبت في الشريعة تعلمه وجوباً ولا ندباً ـ فهو علم لا ينتفع به في طريق الآخرة فلا خير فيه، لأنّ الخير الحقيقي هو المنفعة الباقية عند الله، فما لا منفعة فيه لا خير فيه، ولذلك استعاذ الرسول (صلى الله عليه وآله) منه فقال (صلى الله عليه وآله): «وأعوذ بك من علم لا ينفع»(40) فينتج أن كل علم لا يحق تعلمه فلا خير فيه.
العلوم الواجبة:
فالواجب اذاً تحصيله من العلوم كما هو أشرفها وأحسنها، هو العلم الإلهي المعرّف لأصول الدين، وعلم الأخلاق المعرف لمنجيات النفس ومهلكاتها، وعلم الفقه المعرف لكيفية العبادات والمعاملات، وهذه العلوم الثلاثة وإن وجب أخذها إجمالاً إلاّ أنّها في كيفية الأخذ مختلفة.
فعلم الأخلاق: يجب أخذه عيناً على كل أحد على ما بينته الشريعة، وأوضحه علماء الأخلاق.
وعلم الفقه: يجب أخذ بعضه عيناً أما بالدليل أو التقليد من مجتهد حي، والتارك للطرفين غير معذور عند الله عزّ وجلّ، ولذا ورد الحث الاكيد على التفقه في الدين.
فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «عليكم بالتفقه في دين الله، ولا تكونوا أعراباً فإنّه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يوزن له عمل»(41).
وقال ـ صلوات الله عليه ـ : «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقهوا في الحلال والحرام»(42).
وقال: «إن الكذاب بأن يخبرك بخبر السماء والأرض والمشرق والمغرب فإذا سألته عن حرام الله وحلاله لم يكن عنده شيء»(43).
وأما أُصول العقائد فيجب أخذها من الشرع والعقل، وهما متلازمان لا يتخلف مقتضى أحدهما عن مقتضى الآخر، إذ العقل هو حجة الله الواجب امتثاله، والحاكم العدل الذي تطابق أحكامه الواقع، ولولاه لما عرف الشرع، ولذا ورد أنّه «ما أدّى العبد فرائض الله حتّى عقل عنه»(44).
ولا يبلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما يبلغ العاقل، فهما متعاضدان ومتظاهران، وما يحكم به أحدهما يحكم به الآخر أيضاً، وكيف يكون مقتضى الشرع مخالفاً لمقتضى ما هو حجة قاطعة، وأحكامه للواقع مطابقة، فالعقل هو الشرع الباطن والنور الداخل، والشرع هو العقل الظاهر والنور الخارج.
وما يتراءى في بعض المواضع من التخالف بينهما إنما هو لقصور في العقل، أو لعدم ثبوت ما ينسب إلى الشرع منه، فإنّ كل عقل ليس يدرك كل شيء، وكلما ينسب إلى الشرع ليس ثابتاً منه، فالمناط هو العقل الصحيح، وأصح العقول وأقواها، وأمتنها وأصفاها هو عقل صاحب الوحي، ولذا يدرك بنوريته ما لا سبيل لأمثال عقولنا إلى دركه.
ثم ما اجتمعت الأُمّة المختارة عليه من أُصول العقائد هو أن الواجب سبحانه موجود، وأنّه واحد في الألوهية، وبسيط عن شوائب التركيب، ومنزه عن الجسمية وعوارضها، وأن وجوده وصفاته عين ذاته، وأنّه متقدم على الزمان والمكان ومتعال عنهما، وأنّه حي قديم، أزلي قادر، مريد عالم بجميع الأشياء، وعلمه بها بعد إيجادها كعلمه بها قبله، ولا يزداد باحداثها علماً، وإن قدرته عامة بالنسبة إلى جميع الممكنات، وأنّه يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، وبالجملة مستجمع لجميع الصفات الكمالية وليس كمثله شيء.
وان القرآن كلامه، ومحمّد (صلى الله عليه وآله) رسوله، وما أتى به من أمور النشأة الأخرى من الجنة والحساب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، والشفاعة وغير ذلك مما ثبت في شريعته المقدسة حق ثابت، فيجب حينئذ على كلّ مؤمن أن يأخذ بجميع ذلك، ويتشبث به، ويجرّد باطنه له بحيث لو أورد عليه ما ينقضه لم يقبله، ولم يعرضه شك وريب.
ثم ان المكلّفين مختلفون في كيفية التصديق والاذعان بالعقائد المذكورة، فبعضهم فيها على يقين مثل ضوء الشمس بحيث لو كشف عنهم الغطاء ما ازدادوا يقيناً، كتصديق أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ إذ يقول علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً»(45).
وبعضهم على يقين دون ذلك، وأقل هؤلاء رتبة أن تصل مرتبة يقينهم إلى طمأنينة لا اضطراب فيها، وبعضهم على مجرد تصديق ظني يتزلزل من الشبهات والقاء النقيض، وإلى هذه الاختلافات أشار الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام)بقوله:
«إنّ المؤمنين على منازل: منهم على واحدة، ومنهم على اثنين، ومنهم على ثلاث، ومنهم على أربع، ومنهم على خمس، ومنهم على ستة، ومنهم على سبع، فلو وهبت لصاحب الواحدة إثنان لم يقو، ولصاحب الاثنين ثلاث لم يقو، وقس على ذلك»(46).
والإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) بقوله: «إن للايمان حالات ودرجات، وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه»(47).
ولا ريب في أنّ تحصيل ما يطمئنّ به القلب في العقائد الواجبة أخذه مما لابد منه لكل مكلف، ومجرد التصديق من غير اطمئنان القلب غير كاف للنجاة الأخروي، والوصول إلى مراتب المؤمنين، ومع حصول الاطمئنان تحصل النجاة والفوز بالفلاح.
وجوب الاطمئنان:
أجل أن الاطمئنان لازم لجميع العبادات والأعمال، لا لمجرد التصديق والاذعان بالعقائد فقط، فإنّ الصلاة التي هي من أهم العبادات والواجبات إذا لم يكن فيها اطمئنان لا ينظر إليها، فقد ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه وبدنه» فالاطمئنان في الصلاة هو عبارة عن حضور القلب والتفاته إلى ما يقوله، بحيث لا يشغله شاغل من أمور الدنيا إذا قام إلى الصلاة ووقف بين يدي ربه.
والصلاة المشتملة على الاطمئنان هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى: (إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر)[العنكبوت : 45].
وجاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إن العبد ليرفع له من صلاته نصفها وثلثها وخمسها وربعها، فما يرفع له إلاّ ما أقبل عليها بقلبه»(48) وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إنما الصلاة، تمكُّن وتواضع، وتضرّع وتيأس، وتندّم وتقنّع».
آداب الصلاة:
فالأحوال التي تكمل بها الصلاة، ويحكم العقل بلزومها، وورد الشارع المقدس بها، والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر، هي ستة: حضور القلب، والتفهم، والتعظيم، والهيبة، والرجاء، والحياء، فهذه ست خصال شريفة، وحالات كريمة، وملكات عظيمة لا يوجد جميعها إلاّ في مؤمن قوي الايمان، ثابت الجنان، نوّر الله قلبه بنور الايمان والعرفان.
1 ـ أما حضور القلب: فهو تفريغه عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به، وصرفه إلى ما يتلبس به من الأفعال ويتكلم به من الأقوال، فإذا حصل ذلك للمصلي، وعرف بأن الغرض المطلوب منه هو الايمان والتصديق بأمر الآخرة خير وأبقى، وأن الصلاة وسيلة إليها، وأضاف إلى تلك المعرفة العلم بحقارة الدنيا وحسنها وزوالها، انصرف القلب حينئذ عن مهماتها لا محالة، وتوجه إلى صلاته الموصلة له إلى سعادة الآخرة، وهذا معنى حضور القلب.
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المعنى: «إني لأحب للرجل المؤمن منكم إذا قام في صلاة فريضة أن يتوجه بقلبه إلى الله تعالى، ولا يشغل قلبه بأمر الدنيا، فليس من عبد يتوجه بقلبه في صلاته إلى الله تعالى إلاّ أقبل الله بوجهه إليه، وبقلوب المؤمنين إليه بالمحبة بعد حب الله إياه»(49).
وقال أمير المؤمنين علي ـ صلوات الله عليه ـ : «لا يقومنّ أحدكم في الصلاة متكاسلا ولا عابثاً، ولا يفكرنّ في نفسه فإنّه بين يدي ربه عزّ وجلّ، وإنما للعبد من صلاته ما أقبل عليها بقلبه»(50).
وقد علمتم لما كانت الصلاة في الحقيقة هي معراج المؤمن، ومناجاة الرب المعبود، فلا بد حينئذ أن يكون فيها من الاقبال، لأنّ من لا يقبل عليك لا يستحق إقبالك عليه، كما لو حادثك من تعلم غفلته عن محادثتك، وإعراضه عن محاورتك، فإنّه يستحق إعراضك عن خطابه، واشتغالك بجوابه.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «من أراد أن ينظر منزلته عند الله فلينظر منزلة الله عنده، فإنّ الله ينزل العبد مثل ما ينزله العبد من نفسه»(51).
2 ـ وأما التفهم: فهو التدبر في معنى اللفظ، وهو أمر وراء حضور القلب، فربما يكون القلب حاضراً مع اللفظ ولا يكون حاضراً مع معنى اللفظ، فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ هو المراد بالتفهم، وقد ذمّ الله أقواماً على ترك التدبر حيث قال: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمّد : 24].
وفي الحديث قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «من صلى ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف وليس بينه وبين الله ذنب إلاّ غفر له»(52).
ثم الناس في هذا المقام ـ أعني مقام التفهم ـ متفاوتون، إذ ليس يشترك الجميع في تفهم معاني القرآن والتسليمات، وكم من معان لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة ولم تكن بقلبه قبل ذلك، ومن هذا الوجه كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فانما يفهم أموراً هي مانعة من الفحشاء لا محالة.
فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إن الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحب أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته فلينظر، فإن كانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنكر فانما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز، ومن أحب أن يعلم ما له عند الله فليعلم ما لله عنده»(53).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) انّه قال: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بعداً(54)، لأنّ الله تعالى هو الذي يقول: (إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر)[العنكبوت : 45].
وعنه (صلى الله عليه وآله): «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وإطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر»(55).
وروي أن رجلا من الأنصار كان يصلي الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله) ويرتكب الفواحش، يوصف ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله)فيقول (صلى الله عليه وآله): «إن صلاته تنهاه يوماً مّا فلم يلبث أن تاب»(56).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أحب أن يعلم أن صلاته قبلت أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه»(57).
هذا هو الحق الذي لا محيص عنه، لأنّ القرآن ورد بثبوت هذه الخاصية للصلاة، فالذي لم تكن فيه هذه الخاصية، ووجدت فيه الصورة، فلا محالة يكون العمل من النفاق الخالص، لأنّه لو وجد فيه شيء من الروح فبقدره يؤثر في النهي عن الفحشاء، فما لم يوجد فيه شيء من التأثير علم عدم وجود شيء من الروح فيه، فعمل لم يوجد فيه من حقيقة الصلاة حتّى جزء يسير فهو من النفاق الخالص، والأخبار عن أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ في هذا الباب مستفيضة.
3 ـ وأما التعظيم: فهو أمر وراء حضور القلب والفهم، فربما يخاطب الرجل عبده بكلام وهو حاضر القلب فيه متفهم لمعناه ولا يكون معظماً له، فالتعظيم أمر زائد عليهما، وهو حالة للقلب منشؤها معرفة جلال الرب سبحانه، وكبريائه وعظمته، مع معرفة حقارة النفس وخشعتها، وكونه عبداً مسخراً مربوباً، فيتولد من هاتين المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله سبحانه، فيعبر عنه بالتعظيم.
ففي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع والاقبال على صلاتك فانّ الله تعالى يقول: (الذين هم في صلاتهم خاشعون)(58)[المؤمنين : 2].
ثم الخشوع كما يكون في القلب كذلك يكون في الجوارح، ويدلّ عليه ما رواه الطبرسي ـ في مجمع البيان ـ ان النبي (صلى الله عليه وآله)رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال (صلى الله عليه وآله): «أما انّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»(59).
4 ـ وأما الرجاء: فلا شك انّه زائد على ما سبق، فكم من معظِّمِ مَلِكاً من الملوك يهابه أو يخاف سطوته، ولا يرجو إنعامه ومبرته، والعبد ينبغي أن يكون راجياً بصلاته ثواب الله، كما انّه خائف بتقصيره عقاب الله.
ومنشأ الرجاء معرفة لطف الحق وكرمه، وعميم جوده وإحسانه، وشمول رحمته وإنعامه، ومعرفة صدقه في وعده على الصلاة بالثواب، وبشراه بالجنة وحسن المآب، فمجموع المعرفة بلطفه سبحانه، والمعرفة بصدقه، يحصل الرجاء.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الصلاة مرضات الله، وحب الملائكة، وسنّة الأنبياء، ونور المعرفة، وأصل الايمان، وإجابة الدعاء، وقبول الأعمال، وبركة في الرزق، وراحة في البدن، وسلاح على الأعداء، وكراهة الشيطان، والشفيع بين صاحبها، والسراج في القبر ، والفراش تحت جنبه، وجواب منكر ونكير، والمؤنسة في السرّاء والضرّاء، والصائرة معه في قبره إلى يوم القيامة»(60).
5 ـ وأما الحياء: فزيادة على ما سبق واضحة مستنده إستشعار تقصير وتوهّم ذنب، ومنشأ استشعار التقصير وتوهّم الذنب علم المكلف بالعجز عن القيام بوظائف العبودية، والتعظيم على ما يليق بحضرة الربوبية سبحانه، ويزيد ذلك بالاطلاع على كثرة عيوب النفس وآفاتها، وفرط رغبتها في أفعالها وحركاتها وسكناتها إلى الدنيا وشهواتها، وقلة إخلاصها في طاعاتها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله وعظمته وكبريائه، ومع المعرفة بأنه خبير بصير مطلع على السرائر، عالم بالضمائر، وهذه المعارف إذا حصلت يقيناً انبعث منها الحياء.
6 ـ وأما الهيبة: فأمر زائد على التعظيم والرجاء والحياء، وهي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم، لأنّ من لا يخاف لا يُسمى هائباً، والمخافة من العقرب والحية وسائر المؤذيات، ومن العقوبة وسوء خلق العبد وما يجري مجرى ذلك من الأسباب الخسيسة لا تسمى مهابة.
فالهيبة خوف مصدره الاجلال، وهي متولدة من المعرفة بقدرة الله وسطوته، ونفوذ أمره ومشيته فيه، مع قلة مبالاته به، وانّه بحيث لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه مثقال ذرّة، لا سيما إذا انضم إلى ذلك ملاحظة ما جرى على الأنبياء والأولياء من أنواع المحن والمصائب والبلايا.
وكلما زاد العلم بالله وكبريائه زادت الهيبة والخشية، ولأجل ذلك قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)[فاطر : 28].
روي أن إبراهيم الخليل (عليه السلام) كان يُسمع له وهو في صلاته أزيز(61) كأزيز المرجل، وكان يسمع تأوّهه على حد ميل، وكذلك كان يسمع من صدر سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل ذلك(62).
قال بعض أزواجه: كان النبي (صلى الله عليه وآله) يحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه(63).
وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذا أخذ في الوضوء يتغيّر وجهه من خيفة الله، وكان إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن، فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال فأَبَينَ أن يَحملْنَها وأشفقن منها(64).
وروي أنّه وقع نصل في رجله (عليه السلام) فلم يمكّن أحداً من إخراجه، فقالت أم كلثوم: أخرجوه في حال صلاته فإنّه لا يحسّ حينئذ بما يجري عليه، فأُخرج وهو في صلاته فلم يحس به أصلا، وما ذاك إلاّ لاشتغال حواسه وجميع جوارحه بالعالم القدسي.
وكانت فاطمة (عليه السلام) تنهج في الصلاة من خيفة الله، وكان الحسن بن علي (عليه السلام) إذا فرغ من وضوئه تغير لونه، فقيل له في ذلك فقال: حق على من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغير لونه(65).
وكان الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) إذا توضأ اصفرّ لونه، فيقال له: ما هذا الذي يعتورك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يديَ من أريد أن أقوم(66).
وقال أبو حمزة الثمالي: رأيته يصلي فسقط رداءه عن منكبه، فلم يسوّه حتّى فرغ من صلاته، فسألته عن ذلك فقال: ويحك أتدري بين يديَ من كنت؟ ان العبد لا تقبل منه صلاة إلاّ ما أقبل فيها بقلبه، فقلت: جعلت فداك هلكنا، قال: كلا انّ الله يتم ذلك بالنوافل(67).
وروي أنّه (عليه السلام) إذا قام إلى الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه إلاّ ما حركت الريح منه(68).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار 74 : 412 ح25; وكنز العمال 3 : 407 ح7170.
(2) كنز العمال 6 : 580 ح16998 نحوه.
(3) البحار 74 : 414 ح31.
(4) البحار 96 : 177 ح9.
(5) كنز العمال 3 : 75 ح5564.
(6) كنز العمال 3 : 689 ح8474 .
(7) احياء العلوم 2 : 287 / في الأمر بالمعروف ...
(8) احياء العلوم 2 : 287 / في الأمر بالمعروف ...
(9) الانفال : 60.
(10) كنز العمال 4 : 430 ح11262.
(11) كنز العمال 4 : 43 ح11265.
(12) الوسائل 11 : 124 ح10.
(13) كنز العمال 4 : 430 ح11260.
(14) الكافي 1 : 31 ح8.
(15) اعلام الورى : 445، عن البحار 52 : 381، في التذييل.
(16) التشكيك مصطلح منطقي يُقصد به تعدّد المراتب والدرجات في مقابل (المتواطيء) حيث يقصد به وحدة المرتبة واستواء الدرجة في جميع الافراد المنظورة.
(17) الملقب بالآخوند الخراساني.
(18) كفاية الاصول : 534، في بيان ما يتوقف عليه الاجتهاد.
(19) قالت جمعية التقريب بين المذاهب الإسلامية، في ص7 من بيانها الذي أصدرته: «ثم جاءت بعد ذلك طبقات من المقلدين والمتعصبين للمذاهب، كَلَّت هممهم عن حمل ما كان يحمله سلفهم من العلم والنظر، وصادف ذلك عهود الضعف السياسي، وانقسام الأُمّة إلى دويلات صغيرة، قالت بهذا وبغيره تأثر أكثر المشتغلين بالفقه، فحكموا على أنفسهم وعلى جميع أهل العلم في زمانهم بأنهم ليسوا أهلا للنظر والاستنباط، ولا لفهم كتاب الله وسنة رسوله، ومن ثم حكموا باغلاق باب الاجتهاد، وترتّب على ذلك أن وقّف الفقه وجمد».
(20) قالت جمعية التقريب في بيانها ص8 : «ومن ثم رأينا القذى في العيون، والشجى في الحلوق، حين رأينا أُمم الإسلام تحكم في بلادها بغير فقه الإسلام ومنهاج الإسلام».
(21) رجال النجاشي : 6 رقم 2.
(22) رجال النجاشي : 7 رقم 2.
(23) كنز العمال 3 : 271 ح6498 .
(24) نهج البلاغة : قصار الحكم 82.
(25) احياء العلوم 4 : 61 في فضيلة الصبر، المحجة البيضاء 7 : 107.
(26) احياء العلوم 4 : 127 / الركن الثالث من كتاب الصبر والشكر.
(27) احياء العلوم 4 : 127 / الركن الثالث من كتاب الصبر والشكر.
(28) البنادق: جمع بندقيّة وهي كل حبّة متسديرة على شكل كرة.
(29) كُفرت: بمعنى اُخفَيت ودُفنتِ، والكفر لغةً بمعنى الاخناء، ومنه يطلق على من يكفر بالله حيث أنه يخفي فطرته، ويدفن وجدانه.
(30) النفس الأمري: مصطلح فلسفي يُقصد به الواقع الذي هو في علم الله تعالى.
(31) البحار 91 : 223 ضمن حديث 3.
(32) البحار 91 : 222 ح1.
(33) المحاسن 2 : 432 ح4; عن البحار 91 : 223 ح2.
(34) المحاسن 2 : 432 ح5; عن البحار 91 : 223 ح2.
(35) البحار 91 : 225 ح5.
(36) التهذيب 3 : 31 ح6 باب 13.
(37) فتح الابواب : 156 الباب السادس; عن البحار 91 : 241 ح1.
(38) التهذيب 3 : 181 ح6، الكافي 3 : 47 ح3.
(39) خُلُقٌ سجيح: ليّن سهل.
(40) البحار 86 : 18 ح15.
(41) الكافي 1 : 31 ح7; البحار 7 : 223 ح140 عن المحاسن.
(42) المحاسن 1 : 358 ح167; عنه البحار 1 : 213 ح12.
(43) الكافي 2 : 340 ح8; عنه البحار 72 : 248 ح11.
(44) الكافي 1 : 12 ضمن حديث 11.
(45) البحار 69 : 209 ح22.
(46) الكافي 2 : 45 ح3; عنه البحار 69 : 167 ح6.
(47) الكافي 2 : 34 ضمن حديث 1; عنه البحار 69 : 23 ح6.
(48) البحار 84 : 238 ح18.
(49) البحار 84 : 240 ح24.
(50) البحار 84 : 239 ح21.
(51) البحار 71 : 156 ح74.
(52) البحار 84 : 239 ح22.
(53) البحار 78 : 199 ح23.
(54) كنز العمال 7 : 525 ح20083.
(55) البحار 82 : 198.
(56) المصدر السابق.
(57) المصدر السابق .
(58) البحار 84 : 260 ضمن حديث 59.
(59) مجمع البيان / تفسير سورة المؤمنين.
(60) ارشاد القلوب : 191; عن البحار 87 : 160 ح52; ومستدرك الوسائل 6 : 335 ح6942.
(61) أزّت القدر: إذا اشتدّ غليانها.
(62) عدة الداعي : 151.
(63) عدة الداعي : 152.
(64) البحار 84 : 248 ضمن حديث 39.
(65) عدة الداعي : 151.
(66) البحار 80 : 347 ح33.
(67) البحار 46 : 66 ح28.
(68) البحار 84 : 248 ضمن حديث 39.