الفصل السادس

أهمية العلم والتعلّم وعلوم القرآن

 

 

«أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ; حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ; بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نخيله، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَمُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُو نِيَّة سَلِيمَة، وَنَفْس صَافِيَة، وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَأْوِيلِهِ، وَشَرَائِعِ الاِْسْلاَمِ وَأَحْكَامِهِ ، وَحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ ، لاَ أُجَاوِزُ ذلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ».

* * *

طرق تحصيل العلم:

قوله (عليه السلام): «أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي ـ إلى قوله: فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ».

يبيّن ـ صلوات الله عليه ـ في هذه الفقرات شتّى طرق تحصيل العلم بتلكم الأحوال للإنسان الملمّ بآثار الماضين وأخبارهم وتجاريبهم، وكلّ هذه طرق معقولة عدا ما كان عند الإمام (عليه السلام) من العلم بالحاضر والغابر، وما كان وما سوف يكون ممّا ثبت في العقيدة حصوله له، ولا يعزب علمه عنه.

والنظر الذي يوعز إليه ـ سلام الله عليه ـ في الحقيقة هو النظر بالمنظار الإلهي، وهو محض التنبّه إلى ما جريات الأحوال، وما ترتّب عليها من حسنة وسيّئة، وليس كنظر غير الإمام في الوقائع الغير الملموسة، فإنّها في غيره في حاجة ماسّة إلى القرب الزماني والمكاني، فهو لا يعرفها إلاّ إذا نظر إليها من كثب، أو أخبر عنها المطلّع عليها من أُمم.

فموقفنا من التأريخ موقف عظات وعبر، نطالع أخبار من سبق فكأنّنا معهم، تحزننا المآسي، وتسوؤنا المخازي، وتنغّص عيشنا المجازر البشرية، وتنشّطنا الأفراح، وتبعث في نفوسنا البهجة والحياة الروحية.

فإذا قرأنا حديث مولد النبي (صلى الله عليه وآله) وما فيه من إرهاصات النبوّة، فإنّا نجد أنفسنا محلقة إلى الملأ الأعلى، لتشاركهم في أفراحهم وسعاداتهم، ثمّ نراها تهبط لتشارك من في الأرض في البشر والهناء، ثمّ لا تلبث أنفسنا حتّى تجد لها مسارب إلى سكان البحار لتجاريهم في مغداتهم ومراحتهم، ثمّ تطفو على وجه الماء لترى نور النبوّة المشعّ في شرق الأرض وغربها.

وتعكسنا الحالة إذا تلونا في صحيفة التاريخ أسطراً سوداء من مأساة يوم الطف، يوم تطاولت الأيدي الأثيمة إلى سيّدنا السبط المفدّى، فأبدت تلكم القسوة والخزاية التي ما سنح لها الدهر بمثيل.

إذن فالتاريخ ليس سلوةً للمتسلّي، ولا أُلعوبة بيد الصغير; بل هو درس من دروس الحياة، نستقي منه كيفية الحياة وأنّها كيف يجب أن تدرج، ثمّ هو يكسح من أمام أرجلنا دياجير الظلام، لينير لنا الطريق اللاحب المهيع الذي سلكه الماضون فنجحوا أو خابوا.

 

وجوب الوعظ والارشاد والتعليم:

قوله (عليه السلام): «فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نخيله ـ إلى قوله: ـ وَنَفْس صَافِيَة».

هاهنا يوعز ـ سلام الله عليه ـ إلى أنّ الإنسان إذا كملت عنده مواد الحكمة ونتائج العلم، يجب عليه أن لا يحتكرها، أو يؤثر بها نفسه فحسب، فيصغّر دائرة المنفعة، ويضيّق منفذ الخير، ولما لهذه من أهمية ومنزلة ومكانة اجتماعية، جاء الحديث عمّن لا تجود نفسه ببثّ الموعظة والعلم عند الحاجة إليها: «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل لعنه الله».

وفي الناس من لا تجود نفسه حتّى على نفسه ـ وهو العالم الذي لا يعمل بعلمه ـ وهنا يتراءى لنا المثل المشهور: «العلم يهتف بالعمل وإلاّ ارتحل» فيرينا أنّ فائدة العلم منوطة بالعمل.

وبدهي أنّ مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلاّ بانتظام الدنيا، ولا يستقيم نظام الدنيا إلاّ بتفهّم عالم المخلوقات بالبحث عن طبائع الموجودات وخواصّها، وذرائع استخدام ما لا غنى عنه في بقاء الإنسان أو كماله، ثمّ استقراء شؤون الاجتماع وما يتبع ذلك من سنن التعاون على أسباب المعيشة وضبطها، وطرق اصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس، وارشادها إلى ما فيه رفعتها في الدنيا وسعادتها في الآخرة.

ومن هذا يتبيّن أنّ الإنسان لا تتمّ له حكمة خلقه، وتسخير هذا الكون له إلاّ بالعلم والعمل، فبهما سعادة الدنيا، وهما طريق الفوز في الأُخرى، ولو أنّ شخصاً جمع علوم الأوّلين والآخرين ثمّ لم يكن له أثر يذكر في هذه الحياة وتطوّرها فهو من أهل القبور، بل الأموات خير منه، فالعبرة بآثارالمعرفة وفوائدها لا بالمعرفة نفسها.

 

العلم:

كلمة العلم من أكثر الكلمات شياعاً المستعملة قديماً وحديثاً، وهي في كلّ دور من أدوارها تطلق على ما يضادّ الجهل على الاطلاق، وكثيراً ما لحق بها التخصيص في أحوال معيّنة فصارت تعني ما يضادّ الجهل بنوع محدود من المعارف.

فالمعتبر من حال هذه الكلمة عند العرب مثلا في حال جاهليّتهم، أنّها كانت تُطلق على ما ينافي الجهل بمعارف الجاهليّين المحدودة، وكانت لا تتعدّى الشعر، والكهانة، والقيافة، والخطابة، والأنساب، فلمّا ظهر الإسلام كان يراد من العلم ما ينافي الجهل بما ظهر من المعارف الجديدة، وهي الكتاب والسنّة وأخبار الملاحم.

ولمّا ازدادت معارف العرب صارت تطلق على ما ينافي الجهل بما ظهر من المعارف الجديدة; كالفقه، والتفسير، وشرح السنّة، والتاريخ، وطبقات رواة الحديث، والنحو، ثمّ انتشرت العلوم الكونيّة فيهم، وتشعّبت المعلومات لديهم فصار يستعملها كلّ فريق فيما هو بسبيله، فاتّسع مدلولها اتّساعاً يناسب اتّساع مجالات المعارف الجديدة، ولكنّها اليوم تعني في أُوربا مجموع المعارف الإنسانية المؤيّدة بالدلائل الحسّية، وجملة النواميس التي اكتشفت لتعلّل حوادث الطبيعة تعليلا مؤسّساً على تلك النواميس الثابتة، ولا تستعمل إلاّ مفردة.

ومع هذا فقد تطلق على مجموع معارف في فرع خاص من المعارف الإنسانية، وفي هذه الحالة يلحق بها التخصيص فيقال: علم الكيمياء وعلم الفلك مثلا، وقد يعتريها الجمع فيقال: العلوم الكونية والعلوم الرياضية، وقد كابد العلم تخصيصاً معنوياً في هذه القرون المتأخّرة، فصار لا يطلق إلاّ على المعارف التي تقع تحت أحكام المشاعر وتخضع لامتحانها.

فإذا قال قائل: «العلم قرّر ذلك» خرج منه علم الدين، لأنّ مدار الدين على المسائل الاعتقادية، ومعتمد التسليم بمقرّرات لا تخضع للإمتحان والتجربة، ومن هذا نشأت مسألة المناقضة بين العلم والدين، فالعلم لا يعترف بمسألة إلاّ إذا قبلها العلم وأيّدها الحسّ، وقبلت الخضوع لأُسلوبه من الاختبار والتمحيص، ولكن الدين يفرض التسليم بأُمور غيبية يسندها إلى الوحي، ويعزوها إلى الله تعالى أو يعلن سموها عن كلّ جدال.

وقد اتّخذ الماديون في أُوربا هذا الأمر سلاحاً لمقاتلة الدينيين والنعي عليهم، فلم يجيء القرن التاسع عشر حتّى كان أنصار الدين في ضعف مطلق أمام خصومهم، وظهرت المبادئ المادية ظهوراً لا مزيد عليه، وتذرّعوا بهذا السلاح لنكران الخالق والروح والخلود، لخروج هذه العقائد عن دائرة اختصاص العلم.

وما زال الماديون ظاهرين على خصومهم حتّى ظهرت المباحث الروحانيّة في سنة (1846) بأمريكا أوّلا، ثمّ انتقلت منها إلى أُوربا وتناولها فيهما رجال العلم من كلّ المذاهب، فثبت منها ـ بالاختبار والتجربة، وهما من مميّزات العلم الطبيعي ـ إنّ الحياة تقوم بغير المادّة، وإنّ ماوراء هذه الطبيعة المحسوسة طبيعة روحانية أرقى منها سمّاها بعضهم عالم الأرواح.

وتوقّف بعضهم عن تسميتها، فأصبح علم الدين في أُوربا الآن مؤسّساً على نفس الأُسس التي تأسّس عليها العلم الطبيعي، ومرادنا بالدين المطلق لا ديناً خاصّاً، فصارت العقائد الأوّلية العامة لجميع الأديان، مثل الروح والخلود وعلم الملأ الأعلى، ممّا يدخل في دائرة اختصاص العلم.

 

تاريخ العلم:

يختلط تاريخ العلم بتاريخ العقل الإنساني وتدرّجه نحو الكمال، ويبتدئ مع ظهور الإنسان نفسه على سطح الأرض.

قال العلاّمة الفرنسي «كوندرسيه»: «يولد الإنسان متمتّعاً بخاصة قبول الشعورات، وملاحظة وتمييز البسائط المؤلّفة منها، وحفظها ومعرفتها ومزج بعضها ببعض، والمقارنة بين هذه الممتزجات، وأخذ ما هو مشترك بينها، والحاق علامات بكلّ منها ليعرفها على أحسن وجه، وليسهل تمييزه لممتزجات أُخرى جديدة، ولقد تمّت فيه هذه الخاصة بفعل المؤثرات الخارجية عليه أي بوجود شعورات مركّبة ثباتها في تشابهها وفي نواميس تغيّراتها مستقلّ عنه كلّ الاستقلال.

ثمّ إنّ هذه الخاصيّة فيه تزداد نموّاً بالوسائط الصناعية التي يصل إليها الإنسان بتلك الوسائل الأوّلية، شعورات الإنسان يصحبها ألم ولذّة، وللإنسان في مقابل ذلك خاصّة تحويل هذه التأثيرات الوقتيّة إلى شعورات عند مواجهته، أو تذكّره للذّات أو آلام كائنات أُخرى شاعرة، وباتّحاد هذه الخاصّة بخاصّة تكوينه وتأليفه أفكاراً جديدة تتولّد بينه وبين أمثاله علاقات تؤدّي إلى حقوق وواجبات ناطت الطبيعة بها الشقّ الأثمن من سعادتنا، والجانب الأوجع من آلامنا».

هذا غاية ما يقال عن قبول الإنسان للإجتماع، وهو الدافع الأوّل له لاكتناه العلوم والجري وراء المعارف، فالعلوم نشأت عن الصنائع المفيدة، وهذه الصنائع ما كانت لتوجد لولا تضامن الأقوام الأوّلين في حياتهم واستعانة بعضهم ببعض، وإنّ العلاقات الاجتماعية ضرورية حتّى لتكوين أبسط نظريّة علميّة.

أوّل ما عُرف من آثار العلم هو ما نشأ في آسيا الغربية، وهي آثار ضئيلة في حقيقتها، ولكنّها كانت بذرة العلم العظيم الشأن الذي بلغ نموّه الآن في أُوربا، فنشأت أوّل نظريات علم الفلك في بلاد الكلدانيّين، فقد كانوا يدرسونها هناك للعمل بها، فقد كان كهنة ذلك الشعب يعتقدون أنّ لسير الكواكب تأثيراً على الحياة الإنسانية الأرضية، ولذلك كان اهتمامهم بدرس حركاتها وانقلاباتها عظيماً جدّاً، ليدركوا حوادث المستقبل من وراء ذلك.

وقد نشأت صناعة البناء والملاحة عند الأقوام المحصورين في الأراضي الجافّة المحرقة، معرّضين لجميع أنواع التقلّبات الجويّة، ومجاورين للبحر مع جواذبه غير المتناهية، فظهرت النظريّات الأوّلية في علم الهندسة والميكانيك، وقد دفعت الحاجة إلى الأدوات والأسلحة للدفاع عن الذات لصناعة استخراج المعادن في باطن الأرض.

ولمّا ساح المؤرّخ اليوناني «هيردوت» في مصر وجد أنّ المصريّين يعرفون أنّ السنة الشمسية عدد أيّامها ثلاثمائة وخمسة وستّون يوم، أمّا في بلاد الآشوريّين فكانوا يعرّضون المرضى للمارّة في الطرقات ليدلّهم من يكون قد أُصيب بمثل دائهم على العلاج الذي شفي هو به، وكان المريض الذي يشفى من دائه يذهب إلى هيكل إله الطبّ فيكتب داءه والعلاج الذي نال به الشفاء، وقد رووا أنّ أبقراط استفاد علماً جمّاً من هذه الكتابات في هيكل «كوس».

وقد روى المؤرّخ «ديودورد وسيسيل» إنّ المصريّين القدماء كانوا يعرفون المقيئات المسهلات وفوائد الحمية في إزالة الأمراض، وكانوا يعرفون من تصبير الموتى ما لا يعرفه أحد الآن، وقد نقل المؤرّخ القديم «هيرودوت» أنّه كان لدى المصريّين طبيب خاصّ لكلّ نوع من أنواع الأمراض.

ليس لنا أن نكثر من أمثال هذه الأقوال عن بدايات العلوم، ويكفينا أن نقول: أنّ العلم لم ينشأ إلاّ من الصنائع النافعة، وإنّ الحاجة كانت السائق الأكبر للإنسان إلى الجري وراء المعلومات المختلفة.

ثمّ إنّ الصنائع ذاتها لم تنشأ إلاّ رويداً رويداً، ولم تتكمّل إلاّ في أدوار متعاقبة أدرك الإنسان في خلالها نقصها، وحملته الحاجة إلى تكميلها، وفي أثناء تطوّراته هذه نشأت النظريّات الأوّلية على مواد وأدوات تلك الصنائع، ومن هنا نشأت البذرة الأوّلية للعلم.

ولا شبهة في أنّ الحاجة للحساب وللملاحة وللسكنى نشأت منها العلوم الحسابية والميكانيكيّة والهندسية، والحاجة لشفاء الأمراض نتجت عنها النظريّات الأُولى لعلم الطبّ، والمباحث السطحيّة لعلم التشريح، ثمّ أنّ البحث عن المعادن لاستخدامها لعمل الأدوات والأسلحة أدّى بلا مشاحة إلى مبادئ علم الكيمياء.

في هذا العهد كانت المعارف الإنسانية كلّها مندمجة بعضها ببعض يطلق عليها اسم الفلسفة، فكان على العالم في هذا الدور أن يحيط بكلّ المعارف الإنسانية جملة، لاعتقاد العلماء وهم الفلاسفة إذ ذاك أنّ الكلّ شيء واحد، وهذا من المدركات العالية إلاّ أنّ قصور عقل الفرد عن إدراك الكلّ على درجة مرضيّة أصاب العلم بالقصور المطلق، وأسر العقل الإنساني مدّة طويلة.

هذه الحال أوجبت على كبار الفلاسفة أن يقسّموا العلم تقسيماً يناسب المباحث المختلفة، فكان هذا دور جديد للعلم خرج منه من أسر الحدود الأوّل، وارتقى على يد الاختصاصيّين إلى منصّات عالية، وحصل كلّ فرع منه على استقلال ذاتي كان له أكبر الأثر في جملة المعارف الإنسانيّة.

فكابدت الفلسفة في هذا الدور تجزّءاً في دائرتها المعروفة، فانقسمت إلى علم النفس، وعلم ماوراء الطبيعة، وهذا العلم الأخير قد حاولت الفلسفة الحسّية أن تحذفه من دائرة المباحث العلمية، ثمّ حدث حادث لم يسمع بمثله في تاريخ المعارف الإنسانية، وهو التنازع بين العلم والفلسفة على نحو التنازع الذي كان بين الفلسفة والدين، فاقتصر العلم على المباحث التجريبيّة المؤيّدة بالمشاهدات والملاحظات الدقيقة، وأخذ ينازع الفلسفة حقّها من السيطرة على العقول مبيّناً لها أخطاءها المعيبة وأساليبها الناقصة.

العصر الذي كانت فيه الفلسفة هي مجموع المعارف البشرية، كان على عهد الفيلسوفين «طاليس» و «فيثاغورس» وكانا قد نقلاها عن مصر وبابل، كان فيثاغورس هذا تلميذاً لطاليس فترك بلاد اليونان ورحل إلى بلاد آشورية، ثمّ رحل منها إلى مصر ولازم كهنتها سنين طويلة، وأخذ عنهم أسرار الفلسفة وأُصول العلم.

ثمّ عاد إلى بلاد اليونان، فرفع عن وجه الحقائق العرفانية كثيراً من الحجب التي أسدلتها عليها الوساوس الكهنوتيّة، ودعم العلم على دعائم وإن كانت قليلة المتانة إلاّ أنّها أخرجته من حالته الطلسمية إلى الباحات الجليّة، فاعتبر فيثاغورس وطاليس مؤسّساً للعلم الذي أثمر ونفع الإنسانية، ولا يزال ينفعها إلى اليوم، فاتّبع العلم خطّة الترقي من ذلك العهد.

ولم يزل يأخذ حظّه من النموّ والترقي إلى أن جاءت «القرون الوسطى» ـ وهي فترة تبلغ ألف سنة، من القرن الرابع إلى الخامس عشر ـ وقع فيها العالم الأُوربي في ظلام حالك من الجهل ونضوب المعارف، العماية طمست عندهم معالم العلم، ودرست مناره، وأصبح الناس كما كانوا على عهد الجاهلية الأُولى، ذلك بالتأثير المزدوج لغلبة فلسفة أرسطو وسلطة العقائد الدينية، فتنازل العلم عن وظيفته للتعصّب الذي قام به رجال الدين هناك.

وكان من يتجرّأ على التلفّظ بكلمة علم أو نظرية جديدة يجارى بالقتل حرقاً باسم مبتدع، وقد عدّ من أحرق من العلماء العاملين، والمؤلّفين المفكّرين في أُوربا لذلك العهد، فبلغ نحو ثلاثمائة ألف وخمسين ألفاً، إلى أن جاء «القرن الخامس عشر» وقد كانت النفوس قد حقدت أشدّ الحقد على رجال الكنيسة الذين أسرفوا في الانتصار لأُصولهم فظهرت «البروتستانتيّة» في جميع الممالك، وشجّع أهل العلم على المجاهرة بعلومهم ونظريّاتهم، وسمّي ذلك الدور بدور النهضة الفكرية لأُوربا.

أجل، إنّ أُوربا في القرون الوسطى على ما بينّا وقعت في ظلام حالك من الجهل، فوقف بها تيّار العلم، ونضبت(1) موارد الحكمة، وبقي الناس في غياهب مظلمة نحواً من ألف سنة، بينما كانت بلاد المسلمين في تلك الفترة ملجأ العلم والحكمة، وموطن المدنيّة والحضارة، فبلغت فيها المعارف والفنون أرفع ما قدّر لها في تلك القرون البعيدة.

 

اعترافات علماء الغرب:

ولسنا نسمح لأنفسنا بأن نصف ما كانت عليه بلاد المسلمين في ذلك العهد من النور والحياة الراقية بقلمنا حتّى لا ننسب للتحيّز، فندع القول لكبار علماء الغرب ومؤرّخيه، وهم أبعد الناس عن محاباتنا في هذه الوجهة ليكون القول أوقع في النفوس.

قال العلاّمة «درابر» الأُستاذ بجامعة نيويورك الأمريكية في كتابه «المنازعة بين العلم والدين» في النسخة الفرنسية في طبعتها العاشرة التي ظهرت سنة 1900 ما ترجمته:

وبعد وفاة محمّد ترجمت إلى اللغة العربية أهمّ المؤلّفات اليونانية، وترجمت القصائد اليونانية الشهيرة «كالألياذة» و «الأوديسية» إلى اللغة السريانية ليطّلع عليها العلماء دون العامّة لما رأوه فيها من الأقاصيص الخرافية عن آلهة اليونانيّين ممّا يخشى منه على عقائدهم.

ولمّا ولّي الخلافة أبو جعفر المنصور من سنة 753 إلى 775 نقل عاصمة الملك إلى بغداد وجعلها عاصمة فخمة، فلم يأل جهداً في بذل الوسع في درس العلوم الفلكية، وتأسيس مدارس الطبّ والشريعة، ولمّا جلس حفيده هارون الرشيد على عرش الملك سنة 876 اتّبع أثر جدّه في هذه الفتوحات العلمية، وأمر باضافة مدرسة إلى كلّ مسجد في جميع أرجاء ملكه.

ولكن عصر العلم الزاهر في القارّة الآسويّة لم يشرق إلاّ في خلافة المأمون الذي تولّى الخلافة من سنة 813 إلى 832 ، فإنّه جعل بغداد العاصمة العلميّة العظمى، وجمع إليها كتباً لا تُحصى، وقرب إليه العلماء، وبالغ في الحفاوة بهم.

هذا المركز الذي اكتسبه العرب(2)، وهذا الذوق السليم في العلم استمرّ لديهم حتّى بعد أن انقسمت المملكة إلى ثلاث أقسام حتّى أنّ العباسيّين في آسيا، والفاطميّين في مصر، والأُمويّين في اسبانيا لم يكونوا متناظرين متغايرين على الحكومة فقط، بل كانوا كذلك على الآداب والعلوم أيضاً.

ذاق العرب في الفنون الأدبية كلّ ما من شأنه أن يحدّ القريحة ويصقل الذهن، وقد افتخروا فيما بعد بأنّهم أنجبوا من الشعراء بقدر ما أنجبت الأُمم كلّها مجتمعة، أمّا في العلوم فقد كان تفوّقهم فيها ناشئاً من الأُسلوب الذي توخّوه في المباحث، وهو أُسلوب أخذوه عن فلاسفة اليونان الأُوربيّين، فإنّهم قد تحقّقوا أنّ الأُسلوب العقلي النظري لا يؤدّي إلى التقدّم، وإنّ الأمل في وجدان الحقيقة يجب أن يكون معقوداً بمشاهدة الحوادث ذاتها.

ومن هنا كان شعارهم في أبحاثهم الأُسلوب التجريبي، والدستور العملي الحسّي، وكانوا يعتبرون الهندسة والعلوم الرياضية أدوات ومعدّات لعلم المنطق.

وقد يلاحظ المطالع لكتبهم العديدة على الميكانيكيا والايدروستاتيك (علم موازنة السوائل وضغطها على جدران أوعيتها) ونظريات الضوء والأبصار، بأنّهم قد اهتدوا إلى حلول مسائلهم من طريق التجربة والنظر بواسطة الآلات، وهذا هو الذي قاد العرب لأن يكونوا أوّل الواضعين لعلم الكيمياء، والمكتشفين لجملة آلات التقطير والتصعيد والاسالة (إسالة الجوامد) والتصفية، الخ.

وهذا بعينه أيضاً هو الذي جعلهم يستعملون في أبحاثهم الفلكية الآلات المدرجة، والسطوح المعلمة، والأُسطرلابات (هي آلات لقياس أبعاد الكواكب)، وهو أيضاً الذي بعثهم لاستخدام الميزان في العلوم الكيمياوية، وقد كانوا على ثقة تامّة من نظريّته.

وهو أيضاً الذي أرشدهم لعمل الجداول عن الأوزان النوعية للأجسام، والأزياج الفلكية (وهي جداول تعرف منها حركات الكواكب) مثل التي كانت في بغداد وقرطبة وسمرقند، وهو أيضاً الذي أوجب لهم هذا الترقي الباهر في الهندسة وحساب المثلثات، وهو أيضاً الذي همّ بهم لاكتشاف علم الجبر، ودعاهم لاستعمال الأرقام الهندية، هذا هو ثمرة تفضيلهم لأُسلوب أرسطو الاستدلالي على مقالات افلاطون الاستنتاجية.

ولقد دأبوا على جمع الكتب بصفة منتظمة لأجل أن يتوصّلوا إلى تكوين المكتبات التي تكلّمت عنها، وقد قيل أنّ المأمون نقل إلى بغداد مائة حمل بعير من الكتب، وقد كان أحد شروط معاهدة الصلح بينه وبين الامبراطور «ميشيل الثالث» أن يعطيه إحدى مكتبات القسطنطينيّة التي كانت فيها بين الذخائر الثمينة الأُخرى كتاب بطليموس على الرياضيّات السماوية، فأمر المأمون بترجمته للعربية وسمّاه «المجسطي».

وقد حصلت عناية بأمر هذه المكتبات حتّى أنّ مكتبة القاهرة كان بها نحو من مائة ألف كتاب، أُعتني بكتابتها وتجليدها غاية الاعتناء، وكان يوجد من بين هذه الكتب ستّة آلاف وخمسمائة مجلّد في الطبّ والعلوم الفلكية فقط، وكان من نظام هذه المكتبة أنّها تعير كتبها للطلبة الساكنين في القاهرة، وكان بتلك المكتبة كرتان أرضيّتان إحداهما من الفضّة والأُخرى من البرنز، قيل أنّ الأُولى صنعها بطليموس الفلكي نفسه، وإنّها استدعت ثلاثة آلاف كورون (نقود يونانيّة) من الذهب.

وقد اشتملت مكتبة خلفاء الأندلس فيما بعد على ستمائة ألف مجلّد، وكان جدول أسمائها وحده محتوياً في أربعة وأربعين جزءاً وغير هذا، فقد كان بالأندلس سبعون مكتبة عامة، وكثير من المكتبات الخاصّة.

وممّا يحكى أنّ أحد الدكاترة العرب رفض دعوة سلطان بخارى له محتجّاً بأنّ كتبه لا يمكن نقلها إلاّ على أربعمائة بعير، لقد كان يوجد في كلّ مكتبة محلّ خاص للنسخ والترجمة، وقد كان لبعض الخاصّة مثل ذلك، فإنّ هونيان الطبيب النسطوري كان له محلّ من هذا القبيل ببغداد سنة 805 ترجم فيه كتباً لأرسطو وافلاطون وهيبوكرات وغاليان، الخ.

أمّا المؤلّفات الحديثة فقد كان من عادة أساتذة هذه الجامعة أن يؤلّفوا كتباً في الفروع العلمية التي تُطلب منهم، وكان لكلّ خليفة مؤرّخ خاصّ يكتب تاريخه، ومن ينظر إلى تلك الأقاصيص والحكايات التي هي ألف ليلة وليلة يعرف مقدار التطوّر الشعري الذي كان لدى العرب.

ولم يقف بحث العرب عند حد، فقد كتبوا في كلّ فن وفي كل علم، كالتاريخ والشريعة والسياسة والفلسفة وتراجم الرجال وتراجم الخيول والابل، وكل هذه المؤلّفات كانت تنشر بدون رقابة ولا حجر، وما يعلم من المراقبة على الكتب اللاّهوتية فقد حدث فيما بعد هذا التاريخ، وقد كانت الكتب الزاخرة بالمعلومات التي تصلح لأن تتّخذ مادة في العلوم كثيرة جدّاً في الجغرافية والاحصاءات والطبّ والتاريخ وقواميس اللغة.

وكان لديهم دائرة معارف علميّة ألّفها «محمّد أبو عبد الله»، وكان للعرب ذو دقيق في صنع الورق النظيف الناصع البياض، وفي اعطاء الحبر الألوان المختلفة، وفي زخرفة وجوه الكتب بتشبيك تلك الألوان المتلفة من الحبر والابداع في تنميقها وتذهيبها على صفات شتّى.

كان الملك الإسلامي العربي مملوءاً بالمدارس والكلّيات، وكانت بلاد المغول والتتار ومراكش والأندلس حاصلة على عدد منها، وكان في طرف من أطراف هذه المملكة الواسعة ـ التي فاقت المملكة الرومانية كثيراً ـ مرصد في سمرقند لرصد الكواكب، وكان يقابله في الطرف الآخر مرصد «جيراك» في الأندلس، وقال جيبون عند ذكر الحماية والرعاية التي بذلها المسلمون للعلوم ما يأتي:

«كان أُمراء المسلمين في الأقاليم يناظرون الملوك في حماية العلم والعلماء، وكان من نتيجة تنشيطهم هذا للعلماء أن انتشر الذوق العلمي في المسافة الشاسعة التي بين سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة، ويروى عن وزير لأحد السلاطين انّه تبرّع بمائتي ألف دينار لتأسيس كلية علمية في بغداد، ووقف عليها خمسة عشر ألف دينار سنويّاً.

وكان عدد الطلبة فيها ستة آلاف لا فرق بين الغني والفقير، فكان ابن السيد العظيم وابن الصانع الفقير على السواء، وكانوا يكفون التلاميذ الفقراء مؤنة دفع أجر التعليم، ويعطون الأساتذة مرتباتهم بكرم وسماحة، وكانت المؤلّفات الجديدة الأدبية تنسخ وتجمع سدّاً لحاجة أهل العلم وشهوة الأغنياء في جمع الكتب» انتهى كلام العلاّمة جيبون.

ثمّ قال درابر: وكانت قيادة المدارس مودعة لذوي المدار الواسعة، فكانت بيد النسطوريّين أو اليهود، لأنّ المسلمين لم يكونوا يتحرّون عن جنسية العالم وديانته، وما كانوا يزنون قدره إلاّ من أعماله، ولقد فاه الخليفة الكبير «المأمون» بفكره عن حقيقة العلماء فقال: «إنّ صفوة خليقة الله وأفضل عباده وأنفعهم، هم الذين يقفون حياتهم على تربية مواهبهم الطبيعية، وإنّ الذين يعملون العلم والحكمة للناس هم مصابيح العالم، لولاهم لارتكس الخلق في عماية الجهالة وغياهب البربرية».

ثمّ قال درابر: وقد اتبعت المدارس الطبّية عامة، مثال مدرسة الطبّ في القاهرة في اختبار الطلبة قبل اخراجهم نهائياً بحيث لا يستطيع أحدهم أن يشتغل بمهنة التطبيب إلاّ بهذا الشرط.

أوّل مدرسة أُنشئت من هذا القبيل في أُوربا هي المدرسة التي أسّسها العرب في «سالون» من ايطاليا، وأوّل مرصد أُقيم فيها هو الذي أقامه المسلمون في أشبيلية بأسبانيا، ولو أردنا أن نستقصي كلّ نتائج هذه الحركة العلمية العظمى لخرجنا عن حدود هذا الكتاب، فإنّهم قد رقوا العلوم القديمة ترقية كبيرة جدّاً، وأوجدوا علوماً أُخرى لم تكن معروفة من قبلهم.

ثمّ تكلّم المؤلّف على براعتهم في العلوم الرياضية، وعلى التسهيلات التي أدخلوها عليها، وعلى تفوّقهم في حساب المثلثات والعلوم الفلكية، وما ألّفوه فيها من الكتب وما سطروه من الجداول والتقاويم، ثمّ قال:

العلماء الفلكيّون من العرب اهتمّوا أيضاً بتحسين آلات الارصاد وتهذيبها، وبحساب الأزمنة بالساعات المختلفة الأشكال، والساعات المائية والسطوح المدرجة الشمسية، وهم أوّل من استعمل البندول (الرقاص) لهذا الغرض.

أمّا في عالم العلوم التجريبية فقد اكتشفوا الكيمياء، وبعضاً من محلّلاتها الشهيرة، مثل حمض الكبريتيك، وحمض النتريك والكحول (الاسبرتو)، استخدم العرب علم الكيمياء في الطبّ لأنّهم أوّل من نشر علم تحضير العلاجات والأقرباذينات، واستخراج الجواهر المعدنية.

أمّا في علم الميكانيكا فإنّهم عرفوا وحدّدوا قوانين سقوط الأجسام، وكانوا عارفين تمام المعرفة بعلم الحركة، أمّا في «الايدروستاتيك» وهو علم موازنة السوائل، وتقدير الضغط الواقع منها على أوانيها، فقد كانوا أوّل من عمل الجداول المبيّنة لأنواع الأوزان النوعية، وكتبوا أبحاثاً على الأجسام السابحة والغائصة تحت الماء.

أمّا في نظريات الضوء والإبصار فقد غيّروا الفرض اليوناني الذي مقتضاه انّ الإبصار يحصل بوصول شعاع من البصر إلى الجسم المرئي، وقالوا بعكس ذلك أيْ أنّ الإبصار يحصل بوصول الشعاع من المرئي إلى العين، وكانوا يعرفون نظريات انعكاسات الأشعة وانكساراتها، وقد اكتشف الحسن الشكل المنحني الذي يأخذه الشعاع في سيره في الجو، وأثبت بذلك أنّنا نرى القمر والشمس قبل أن يظهرا حقيقة في الأُفق، وكذلك في الغروب نراهما قليلا بعد أن يغيبا.

إنّ نتائج هذه الحركة العلمية تظهر جليّاً بالتقدّم الباهر الذي نالته الصنائع في عصرهم، فقد استفادت منها فنون الزراعة في أساليب الري، والتسميد، وتربية الحيوانات، وشتّى النظامات الزراعية الحكيمة، وإدخال زراعة الأرز والسكّر والبن، وقد انتشرت المعامل والمصانع لكلّ نوع من أنواع المنسوجات كالصوف والحرير والقطن، وكانوا يذيبون المعادن، وكانوا يجرون في عملها على ما حسّنوه وهذّبوه من صنعها وسبكها.

وكان العرب من عشّاق الموسيقى والشعر، وقد وهبوهما وقتاً كبيراً وحبوهما مكانة من أفئدتهم، وهم الذين علّموا الأُوربيّين لعب الشطرنج، وبثّوا فيهم ذوق مطالعة الأقاصيص.

وكان للعرب لذّات روحية حتّى في المجلاّت الزاهرة للأدبيات الفلسفية، فكان لديهم مؤلّفات عالية جداً في تقلّب الأحوال الإنسانية وعلى نتائج عدم التديّن، وعلى زوال النعم، وعلى أصل العالم وبقائه وآخرته، وإنّا ندهش أحياناً حينما نرى في مؤلّفاتهم من الآراء العلمية ما كنّا نظنّه من نتائج العلم في هذا العصر، من ذلك أنّ مذهب النشوء والتحوّل للكائنات العضوية الذي يعتبر مذهباً حديثاً كان يُدرس في مذاهبهم، وقد كانوا وصلوا به إلى أبعد ممّا وصلنا إليه، وذلك بتطبيقه على المواد الجامدة والمعدنية أيضاً، فإنّ النظرية التي ابتنى عليها علم الكيمياء (كيمياء استخراج الذهب) هي زعمهم أنّ المعادن تكوّنت تكوّناً تدريجياً.

قال الخازني: إذا سمع الجهّال قول العلماء بأنّ الذهب تكوّن بالتدريج على طريق الترقي، يفهمون من هذا بأنّه استحال أوّلا إلى معادن أُرى بمعنى أنّه كان في مبدأه رصاصاً، ثمّ صار خارصيناً، ثمّ برنزاً، ثمّ صار فضّةً، ثمّ استحال إلى الذهب، ولم يعلموا أنّ الفلاسفة يقولون ما يقولونه عن الذهب كما يقولون عن الإنسان، أي أنّه ما صار إنساناً إلاّ من طريق الترقي التدريجي، وهذا لا يستلزم أن يكون قد استحال إلى استحالات نهائية كأن كان أوّلا ثوراً، ثمّ صار حماراً، ثمّ صار قرداً، ثمّ انتهى أخيراً بأن صار إنساناً. انتهى ما نقلناه عن «درابر».

وجاء في كتاب «تمدّن العرب» للدكتور الشهير «جوستاف لوبون»، قال الدكتور المومأ إليه ما نصّه:

العرب مع ولوعهم بالأبحاث النظرية لم يهملوا تطبيقها على الصنائع، فقد أكسبت علومهم لصنائعهم جودة عالية جدّاً، وإنّنا وإن كنّا لم نزل نجهل أكثر الطرائق التي سلكوها في ذلك إلاّ انّنا نعرف نتائجها وآثارها، فنعرف مثلا انّهم احتفروا المناجم، واستخرجوا منها الكبريت والنحاس والزئبق والحديد والذهب، وانّهم قد برعوا جدّاً في صناعة الصباغة، وانّهم مهروا في سقي الفولاذ مهارةً بعيدة المدى حتّى أنّ صفائح طليطلة أصدق البراهين على ذلك، ونعرف أيضاً أنّه كان لمنسوجاتهم وأسلحتهم ومدبوغاتهم من الجلود ولورقهم شهرة عامة، وانّهم في كثير من فنون الصنائع برعوا براعة لم يلحق لهم شأو فيها للآن. (تأمّل)

ومن بين المكتشفات المعزوّة للعرب أشياء ذات شأن كبير كالبارود مثلا، وهذه المكتشفات لا يجمل بنا أن نسردها سرداً بل علينا أن نهبها شيئاً من التفصيل ... إلى أن قال: ممّا مرّ يتجلّى للقارئ أنّ ديوان المكتشفات العربية في العلوم الطبيعية لا يقل في الخطورة والقدرة عمّا كان لهم منها في العلوم الرياضية والفلكية، وما نسرده عليك هنا يبرهن لك عن تلك الخطورة، وذلك انّه كانت لهم معلومات عالية في الطبيعة النظرية، خصوصاً في نظريّات الضوء والإبصار، وقد حفظ عنهم اختراعهم لأجهزة ميكانيكية من أدقّ ما يعرف من نوعها، واكتشافهم للجواهر التي تعدّ من أعظم أركان علم الكيمياء، مثل الكحول وحمض النتريك وحمض الكبريتيك، وقد سجّلت لهم أكبر الأعمال الأساسية مثل التقطير مثلا، وأثر عنهم استخدام الكيمياء لفنّ الصيدلة.

هذا بعض ما كتبه علماء أُوربا عن اشتغال آبائنا بالعلوم الكونية والفلسفة التي لها الفضل الأوّل على مدنيّة أُوربا.

 

أنواع العلوم عند المسلمين:

المطّلع على ما دوَّنه المسلمون من العلوم يدهش من توسّعهم في أسمائها وموضوعاتها، فقد عدّ لهم العلاّمة شمس الدين محمّد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري في رسالته «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد» ستّين علماً.

هذا ولم تكن العلوم الحديثة النشأة كالبكتريولوجيا، والباليونتوجيا وغيرها قد ظهرت، وهو ما يدلّ القارئ على أنّ العرب كانوا من أميل الأُمم إلى العلوم والتوسّع فيها والجري وراء غاياتها، ونحن لا يسعنا في هذا الفصل إغفال ذكر أنواع العلوم التي كان يدرسها المسلمون أيّام عظمتهم المدنيّة، فلنأت على ذكرها مستفادة من رسالة العلاّمة شمس الدين محمّد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري المذكور فنقول:

 

القول في حصر العلم:

كلّ علم فأمّا أن يكون مقصوداً لذاته أو لا، والأوّل العلوم الحِكَميّة، والمراد بالحكمة هنا استكمال النفس الناطقة قوّتيها النظرية والعملية بحسب الطاقة الإنسانية، والأوّل يكون بحصول الاعتقادات اليقينيّة في معرفة الموجودات وأحوالها، والثاني يكون بتزكية النفس باقتنائها الفضائل، واجتنابها الرذائل، وأمّا الثاني وهو ما لا يكون مقصوداً لذاته بل آلة لغيره، فأمّا للمعاني وهو علم المنطق وأمّا لما يتوصّل به إلى المعاني من اللفظ والخط، وهو علم الأدب.

 

العلوم الحكمية النظرية:

والعلوم الحكمية النظرية تنقسم إلى أعلى وهو العلم الإلهي، وأدنى وهو العلم الطبيعي، وأوسط وهو العلم الرياضي، وذلك لأنّ نظره وإن كان في أُمور مجرّدة عن المادة الجسمية وعلائقها في العقل والحسّ فهو العلم الإلهي، وإن كان في أُمور مادية في الذهن وفي الخارج فهو العلم الطبيعي، وإن كان في أُمور يصحّ تجرّدها عن الماديات في الذهن فهو العلم الرياضي، وعكس هذا القسم ممتنع لاستحالة تجرّد شيء في الخارج دون الذهن.

وتنحصر العلوم الرياضية في أربعة علوم: الهندسة، والهيئة، والعدد، والموسيقى، لأنّ نظره أمّا أن يكون فيما يمكن أن يفرض فيه أجزاء تتلاقى على حدّ مشترك بينها أو لا، وكلّ واحد منهما قار الذات أو لا، والأوّل الهندسة، والثاني الهيئة، والثالث العدد، والرابع الموسيقى.

 

العلوم الحكمية العملية:

والعلوم الحكمية العملية تنقسم إلى السياسة والأخلاق وتدبير المنزل، وذلك لأنّ اعتباره أمّا للأُمور العامة فعلم السياسة، أو الأُمور الخاصة، فأمّا بالشخص وحده فعلم الأخلاق، أو مع خاصّته فعلم تدبير المنزل، فهذه العلوم الأصلية وما عداها فهي فرعية، فلنذكر هذه العلوم مرتبة فنقول:

1 ـ علم الأدب: وهو علم يتعرّف منه التفاهم عمّا في الضمائر بأدلّة الألفاظ والكتابة، وموضوعه اللفظ والخط، ومنفعته إظهار ما في نفس الإنسان من المعاني وايصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني حاضراً كان أو غائباً، وهو حلية اللسان والبيان وبه يتميّز ظاهر الإنسان على سائر الحيوان.

وإنّما ابتدأت به لأنّه أوّل أدوات الكمال، ولذلك من عري عنه لم يهتمّ بغيره من الكمالات.

وتنحصر مقاصده في عشرة علوم، وهي: علم اللغة، وعلم التصريف، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وعلم القوافي، وعلم النحو، وعلم قوانين الكتابة والقراءة، وذلك لأنّ نظره امّا في اللفظ والخطّ، والأوّل فأمّا في اللفظ المفرد أو المركّب أو ما يعمّهما، وأمّا نظره في المفرد فاعتماده أمّا على السماع وهو اللغة، أو على الحجة وهو التصريف، وأمّا نظره في المركب فأمّا مطلقاً أو مختصّه بوزنه، والأوّل إن تعلّق بخواص تركيب الكلام وأحكامه الاسنادية فعلم المعاني وإلاّ فعلم البيان.

والمختصّ بالوزن فنظره أمّا في الصورة أو المادّة، والثاني علم البديع، والأوّل إن كان مجرّد الوزن فهو علم العروض وإلاّ فعلم القوافي، وما يعمّ المفرد والمركّب علم النحو، والمتعلّق بالخطّ أمّا بوضعه فعلم قوانين الكتابة، أو بالاستدلال به فعلم قوانين القراءة، وهذه العلوم لاتختصّ بالعربية بل توجد في سائر لغات الأُمم.

2 ـ علم اللغة: هو علم نقل الألفاظ الدالّة على المعاني المفردة وضبطها وتمييز الخاصّ بذلك اللسان من الدخيل، وتفصيل ما يدلّ على فيه الذوات ممّا يدلّ على الأحداث وما يدلّ على الأشخاص، وبيان الألفاظ المتباينة والمترادفة والمشتركة والمتشابهة، ومنفعته الإحاطة بهذه المعلومات خبراً، وطلاقة العبارة، والتمكّن من التفنّن في الكلام، وايضاح المعاني بالألفاظ الفصيحة والأقوال البليغة، ويحتاج إلى علمي النحو والتصريف.

3 ـ علم التصريف: هو علم بأُصول أبنية الكلم وأحوالها، فيبحث فيه عن الحروف البسيطة كم هي، وأين مخارجها وأحوال تركيبها، وما هو مضاعف وتقديره، وما هو ثلاثي أو رباعي ونهاية ذلك، وما الأصلية منها التي لا تبدّل وما المزيدة، ومعرفة الصحيح منها والمعتلّ، وأنواع الأبنية وتغيّرها عند اللواحق، وأمثلة الألفاظ المفردة في الزنة والهيئة، وما يختصّ منها بالأفعال وما يختصّ بالأسماء.

وتمييز الجامد منها والمشتقّ، وأصناف الاشتقاق وكيف هو، وكيف يبدّل بصيغة الفعل حتّى يصير أمراً ونهياً، وتعريف التثنية، والجمع، والفصل، والوصل، والوقف، والابتداء، وما يدغم من الحروف، وما يقلب، وما يخفى، وما يجب إظهاره، وهو يتقدّم على المعاني والبيان تقدّماً ضرورياً، ويحتاج إليه في اللغة والقوافي، ولم يزل هذا العلم مندرجاً في علم النحو حتّى ميّزه وأفرده أبو عثمان المازني.

4 ـ علم المعاني: هو علم يُعرف منه أحوال الألفاظ المركّبة من خواص تركيبها وقيود دلالاتها ونسبها الاسنادية، وأحوال المسند والمسند إليه في الجمل، وأحوال الفصل والوصل بينهما، وصيغ الأجوبة بمقتضى الحال، ومنفعته فهم الخطاب وإنشاء الجواب بحسب المقاصد والأغراض جرياً على قوانين اللغة في التركيب، ويعين في البلاغة معونة بليغة.

5 ـ علم البيان: هو علم يُعرف فيه أحوال الأقاويل المركّبة المأخوذة عن الفصحاء والبلغاء من الخطب والرسائل والأشعار من جهة بلاغتها وخلوّها عن اللكن، وتأديتها المطلوب بها تأدية وافية، منفعته حصول الملكة على انشاء الأقاويل المذكورة بحسب المألوف منها، كافية في التأليف والتبيين إذا ضيف ذلك إلى طبع منقاد وذهن وقاد.

6 ـ علم البديع: هو علم يبحث فيه عن مواد الأقاويل الشعرية، وكيف تستعمل للتزيين والتحسين في سائر أحوالها، منفعته تكميل الأقاويل الشعرية نظماً كانت أو نثراً في بلوغها غايتها وتأدية المطلوب بها، وانّها كيف تفنّن بحسب الأغراض لتفيد ما يقصد بها من التحصيل الموجب لانفعال النفس من بسط وقبض، والشيء يذكر بضدّه، فتذكّر المحاسن بالذات والعيوب يحتاج إلى اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والاستكثار من مختار الشعر.

هذه العلوم هي وسائل فهم كتاب الله المنزل وكلام نبيّه المرسل، إذ كانا من الفصاحة والبلاغة في حدّ الاعجاز.

7 ـ علم العروض: هو علم يتعرّف منه صحيح أوزان الشعر وفاسدها، وأنواع الأوزان المستعملة المسمّاة بالبحور، وكيفية تحليلها إلى أجزائها المسماة بالتفاعيل، ومقادير الأبيات والمصاريع، وأصناف التغايير المسماة بالعلل والزحافات.

منفعته معرفة ما هو من الكلام شعر من حيث الصورة، وأي نوع هو، وما يجوز أن يستعمل فيه من الاختلافات، وربّما احتيج إليه في دفع المعاند في شعر ما، وقيل إنّه يستغني عنه السليم الطبع المستكثر لأنواع الشعر، وما ينتفع به البليد، ويحتاج إليه من عداهما وهم الأكثر.

8 ـ علم القوافي: هو علم يتعرّف منه أحوال نهايات الشعر على أيّ وجه تكون، وكم هي وأيّ النهايات بحرف، وأيّها بأكثر من حرف، وكم أكثرها، وما يجوز أن يبدّل منها بما يساويه في الزنة، منفعته نحو منفعة العروض وأشدّ لكثرة الاشتباه في القوافي وأحكامها.

9 ـ علم النحو: هو علم يتعرّف منه أحوال اللفظ المركب من جهة ما يلحقه من التغايير المسماة بالاعراب والبناء، وأنواعها من الحركات والحروف، ومواضعها ولوازمها، وكيفية دخولها في الحلّ لتبيين دلالتها على المقصود ودفع اللبس عن سامعها، فإنّ القائل: «ما أحسن زيد» بسكون الدال يحتمل أحد أُمور ثلاثة: التعجّب من حُسنه، والاستفهام عن أي شيء منه أحسن، وسلب الاحسان عنه حتّى يعرف فيتميّز.

10 ـ علم قوانين الكتابة: هو علم يتعرّف منه صور الحروف المفردة وأوضاعها، وكيفية تركيبها خطاً، وما يكتب منها في السطور، وكيف سبيله أن يكتب وما لا يكتب، وابدال ما يبدّل منها وبماذا يبدّل ومواضعه.

11 ـ علم قوانين القراءة: هو علم يعرف منه العلامات الدالّة على ما يكتب في السطور من الحروف المميزة بين المشتركة منها في الصور المتشابهة في النقط والاشكال والعلامات الدالّة على الادغام والمدّ والقصر والوصل والفصل والمقاطع، وأحوال هذه العلامات وأحكامها.

12 ـ علم المنطق: هو علم يتعلّم فيه ضروب الانتقالات من أُمور حاصلة في ذهن الإنسان إلى أُمور مستحصلة فيه، وأحوال تلك الأُمور وأصناف ما ترتّب الانتقال فيه، وهيأته جارية على الاستقامة وأصناف ما ليس كذلك، موضوعه المعلومات التصوّرية والتصديقية من حيث توصل إلى مطلوب تصوّري أو مطلوب تصديقي تأدياً صواباً، واشتقاقه من النطق الداخلي، أي القوّة العاقلة، وقد رتّبه ارسطوطاليس على تسعة أجزاء:

الأوّل; يسمّى «ايساغوجي» ومعناه المدخل، ويتبيّن فيه الألفاظ والمعاني المفردة من حيث هي عامة كلية، وهي الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام.

الجزء الثاني; يسمّى «قاطيغورياس» أي المقولات، ويتبيّن فيه المعاني المفردة الشاملة بالعموم لجميع الموجودات، وهي الجواهر والأعراض التسعة التي هي: الكمّ والكيف والأين والوضع ومتى والملك والاضافة والفعل والانفعال.

الجزء الثالث; يسمّى «بارميناس» ومعناه العبارة، ويتبيّن فيه كيفية تركيب المعاني المفردة بالنسبة الايجابية أو السلبية حتّى تصير قضيّة وخبراً يلزمه أن يكون صادقاً أو كاذباً.

الجزء الرابع; يسمّى «أنولوطيقي» ومعناه التحليل بالعكس، ويتبيّن فيه كيفية تركيب القضايا حتّى يصير منها دليل يفيد علماً بمجهول وهو القياس.

الجزء الخامس; يسمّى «بادبيطيقي» ومعناه البرهان، ويتبيّن فيه شرائط القياس اليقيني ومقدّماته.

الجزء السادس; يسمّى «طوبيقي» ومعناه المواضع، ويراد بها الجدلية، ويتبيّن منه القياس الجدلي النافع في مخاطبة من يقصر علمه عن البرهان، والمواضع التي يستخرج منها المقدّمات الجدلية ووصايا المجيب والسائل.

الجزء السابع; يسمّى «ريطوريقي» ومعناه الخطابي، ويتبيّن منه القياسات الخطابية والبلاغية المقنعة النافعة في مخاطبات الجمهور على سبيل المشاورات والمخاصمات والمشاجرات والحيل النافعة في الاستعطاف والاستمالة.

الجزء الثامن; يسمّى «طوريقي» ومعناه الشعري، ويتبيّن فيه حال القياسات الشعرية ومقدّمتها، وكيف يستعمل التشبيه المفيد للتخييل الموجب للانفعالات النفسانية، وقبول الترغيب والترهيب والمدح والذمّ والاغراء والتحذير والتحقير وما أشبهها.

الجزء التاسع; يسمّى «سوفسطيقي» ومعناه نقض شبه المموّهين، ويتبيّن فيه القياسات الغالطية، وأصناف الغلط الواقعة في الحدود والأقيسة من جهة اللفظ والمعنى من مادة أو صورة، ووجه التحرّز منها، وربّما جعل هذا الجزء تالياً للبرهان فيكون سابقاً.

13 ـ العلم الإلهي: هو علم يبحث فيه عن الموجودات كلّها من حيث تعيّنها وثبوتها، وتحقّق حقائقها وما يعرف لها، ونسب ما بينها ما يعمّها وما يخصّها من حيث هي موجودات مجرّدة عن المادة وعلائقها، وموضوعه الموجودات وأحوالها من هذه الحيثيّة، ويعبّر عنه بالعلم الكلّي لاشتماله على علم الربوبيّة، وبالعلم الكلّي لعمومه وشموله بالنظر لكليّات الموجودات، وبعلم ما بعد الطبيعة لتجرّد موضوعه عن المواد ولواحقها.

أجزاؤه الأصلية خمسة:

الأوّل: النظر في الأُمور العامّة مثل الوجود، والماهية، والوحدة، والكثرة، والوجوب، والامكان، والقدم، والحدوث، والأسباب، والمسبّبات، وما يجري هذا المجرى.

الثاني: النظر في مبادئ العلوم كلّها، ويتبيّن مقدّماتها ومراتبها.

الثالث: النظر في إثبات وجود الإله الحقّ، والدلالة على وحدته وتفرّده بالربوبيّة، واثبات صفاته، وبيان أنّها لا توجب كثرة في ذاته.

الرابع: النظر في اثبات الجواهر المجرّدة من العقول، والنفوس الإنسانية، والملائكة، والجنّ، والشياطين، وحقائقها وأحوالها.

الخامس: أحوال النفوس البشرية بعد مفارقتها الهياكل، وحال المعاد وكيفية ارتباط الخلق بالأمر.

14 ـ علم النواميس: هو علم يُعرف به أحوال النبوّة وحقيقتها ووجه الحاجة إليها، ويطلق الناموس على الوحي وعلى الملك النازل به وعلى السنّة.

منفعته بيان وجوب النبوّة، وحاجة الإنسان إليه في بقائه ومنقلبه إلى الشرع، والفرق بين النبوّة الحقّة والدواعي الباطلة، ومعرفة المعجزات المختصّة بالصدّيقين والأولياء.

وفيه كتاب لأرسطو وآخر لأفلاطون، وأكثر مسائله في خلال مسائل آراء المدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي الفيلسوف الإسلامي المشهور.

وينتظم في سلك هذا العلم ثمانية علوم شرعية; وهي علوم القراءة، ورواية الحديث، والأُصول، وأُصول الفقه، والجدل، والفقه.

15 ـ علم القراءة: هو علم بنقل لغة القرآن وإعرابه الثابت بالسماع المتّصل.

16 ـ علم الحديث: هو علم بنقل أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وأفعاله بالسماع المتّصل وضبطها وتحريرها.

17 ـ علم التفسير: هو علم يشتمل على معرفة فهم كتاب الله واستخراج أحكامه وحكمه، والعلوم الموصلة إليه هي اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع والقراءات، ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول، وأحكام الناسخ والمنسوخ، وإلى معرفة أخبار أهل الكتاب، ويستعان فيه بعلم أُصول الفقه وعلم الجدل.

18 ـ علم رواية الحديث: هو علم يتعرّف منه أنواع الرواية وأحكامها، وشروط الرواة وأصناف المرويّات واستخراج معانيها، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه علم التفسير من اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبديع والأُصول، ويحتاج إلى تاريخ النقلة.

19 ـ علم أُصول الدين: هو علم يشتمل على بيان الآراء والمعتقدات التي صرّح بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) واثباتها بالأدلّة العقلية، ونصرتها وتزييف كلّ ما خالفها.

أوّل من تكلّم في هذا العلم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما من رجال المعتزلة لما وقعت لهم الشبهة في كتاب الله تعالى، كيف يكون محدثاً وهو صفة من صفات القديم، وكيف يكون قديماً وهو أمر ونهي وخبر.

والشبهة في مسألة القدر إذا كانت الأشياء الكائنة كلّها بقدرة الله ولا قدرة للعبد في الخروج عنها فكيف العقاب، وإن كان للعبد قدرة على مخالفة المقدور فيلزم تغيّر علم الأوّل بالكائنات إلى غير ذلك من المسائل، وأخذ عنهم أبو الحسن الأشعري وخالفهم في كثير من المسائل.

20 ـ علم أُصول الفقه: هو علم يتعرّف منه تقرير مطالب الأحكام الشرعية العلمية، وطريق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بالنظر.

21 ـ علم الجدل: هو علم يتعرّف منه تقرير الحجج الشرعية، ودفع الشبه وقوادح الأدلّة، وترتيب النكت الخلافية، وهذا متولّد من الجدل وهو أحد أجزاء المنطق، لكنّه خصّص بالمباحث الدينية.

22 ـ علم الفقه: هو علم بأحكام التكاليف الشرعية العلمية كالعبادات والمعاملات والعادات ونحوها، والمشهور أنّ أوّل من دون كتبه وسبق إليه وجمعه ورتّبه هو «عليّ بن أبي رافع» مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما مرّ في الفصل الرابع.

23 ـ العلم الطبيعي: هو علم يبحث فيه عن أحوال الجسم المحسوس من حيث هو متعرّض للتغيّر في الأحوال والثبات فيها، فالجسم من هذه الحيثية موضوعه، وقد جرى العرب فيه على ترتيب أرسطو على ثمانية أجزاء، هي:

الجزء الأوّل; ويسمّى السماع الطبيعي وسمع الكيان، يتبيّن فيه الأُمور العامّة لجميع الطبيعيّات، مثل المادة والصورة والحركة والطبيعة واللاّنهاية وأشباهها.

الجزء الثاني; ويسمّى السماء والعالم، يتبيّن فيه أحوال الأثيريات والعناصر وطبائعها ومواضعها والحكمة في تنضيدها.

الجزء الثالث; ويسمّى الكون والفساد، يتبيّن فيه أحوال ما يتكوّن وما يفسد من المركّبات، والتولّد والتوالد والنشوء والبلى والاستحالات.

الجزء الرابع; ويسمّى الآثار العلوية، يتبيّن فيه أحوال العناصر قبل الامتزاج، وما يعرض لها من التخلخل والتكاثف، وأصناف الجزئيّات بتأثير السماويات فيها، وأحوال الكائنات في الجوّ مثل الغيوم، والأمطار، والرعد والبرق، والهالة، وقوس قزح، والصواعق، والشهب، والعلامات، وأحوال الكائنات عنها فوق الأرض كالثلج، والبرد، والطل، والصقيع، والرياح، والبخار، والمدّ، والجزر، وأحوال الكائنات عنها تحت الأرض كالزلزلة، والرجفة، والخسف.

الجزء الخامس; المعادن، يتبيّن فيه أحوال الكائنات الجمادية من الفلزّات، والجواهر النفيسة، وغيرها من الزاجات والشبوب والأملاح والكباريت والزئبق وكيفية تولّدها.

الجزء السادس; النبات، يعرف فيه أحوال الكائنات غير الحسّاسة من النجم والشجر وكيفية اعتدالها ونشوئها وتوليدها.

الجزء السابع; الحيوان، يعرف فيه أحوال الكائنات النامية الحساسة المتحرّكة بالارادة من البحرية والهوائية والبريّة والأهلية، وما يتولّد منها وما يتوالد.

الجزء الثامن; يسمّى الحسّ والمحسوس، ويُعرف فيه القوى المحرّكة المدركة خصوصاً للإنسان، وأحوال النوم والرؤيا واليقظة.

منفعته أن يعرف منه أحوال الأجسام البسيطة والمركّبة من الأفلاك، والعناصر والمولّدات الثلاث وموادّها وصورها ومباديها الفاعلة لها، والغايات التي لأجلها وجدت، وأعراضها اللاّزمة لها أو المفارقة، والاطّلاع على أسرارها كالخواصّ الفلكية، وغرائب الممتزجات العنصرية، كجذب حجر المغناطيس للحديد ونحوه، وحال الشجرة المعروفة بالعاشقة والمعروفة بالغيرانة ونحوهما، وغرائب المزاجات الثانية كلبن العذراء ونحوه.

وبالنسبة إلى علم الهندسة لأنّ به مظهر معلوماته للحسّ، ويتسلّم منه بعض مباديه، وبالنسبة إلى علم الهيئة أيضاً بهذا الاعتبار، وبالنسبة إلى العلم الإلهي فإنّه يمهّد الذهن لمباحثه، ولذلك قُدّم عليه في التعلّم، وبالنسبة إلى العلوم الفرعية التي تتفرّع عليه ممّا يأتي ذكره.

وأمّا العلوم التي تتفرّع عليه وتنشأ منه فهي عشرة: علم الطبّ، والبيطرة، والبيزرة، والفراسة، وتفسير الرؤيا، وأحكام النجوم، والسحر، والطلسمات، والسيمياء، والكيمياء، والفلاحة، وذلك لأنّ نظره امّا أن يكون فيما يتفرّع على الجسم البسيط أو الجسم المركّب أو ما يعمّهما.

والأجسام البسيطة أمّا الفلكية فأحكام النجوم، وأمّا العنصرية فالطلسمات، والأجسام المركّبة أما ما يلزمه مزاج فهو علم السيمياء، أو يلزمه مزاج فأمّا بغير ذي نفس فالكيمياء، أو بذي نفس فأمّا غير مدركة فالفلاحة، وأمّا مدركة فأمّا لها مع ذلك أن تعقل أو لا.

الثاني البيطرة والبيزرة وما يجري مجراها، والذي بذي النفس العاقلة هو الإنسان، وذلك أمّا في حفظ صحّته واسترجاعها فهو الطب، أو أحواله الظاهرة الدالّة على أحواله الباطنة فالفراسة، أو أحوال نفسه حال غيبته عن حسّه وهو قصير الرؤيا، والعام البسيط المركّب السحر، فلنذكر هذه العلوم على النهج المتقدّم.

24 ـ علم الطبّ: هو علم يبحث فيه عن بدن الإنسان من جهة ما يصحّ وما يمرض لالتماس حفظ الصحّة وازالة المرض.

موضوعه بدن الإنسان وما يشتمل عليه من الأركان، والأخلاط، والأعضاء، والأرواح، والقوى، والأفعال، وأحواله من الصحّة، والمرض، وأسبابها من المآكل، والمشارب، والأهوية المحيطة بالأبدان، والحركات، والسكونات، والاستفراغات، والاحتقانات، والصناعات، والعادات، والأجناس، والأسنان، والواردات الغريبة، والعلامة الدالّة على أحوال من ضرر أفعاله، وحلالات بدنه، وما يبرز منه، وللتدبير بالمطاعم، والمشارب، واختيار الهواء، وتقدير الحركة، والسكون، والأدوية البسيطة والمركّبة، وأعمال اليد لغرض علم الصحّة، وعلاج الأمراض بحسب الامكان.

ينقسم إلى جزءين: نظري وعملي، وقد كان قبل أن يتجذب تقتصر فرقة من أمره على التجارب وفرقة على القياس، والمحقّقون جمعوا بين التجربة والقياس.

ومباديه بعضها اتّفاقية تجربية، وبعضها إلهامات الهيّة.

25 ـ علم البيطرة والبيزرة: الحال فيه بالنسبة إلى هذه الحيوانات كالحال في الطبّ بالنسبة للإنسان.

وقد عني بالخيل دون غيرها من الأنعام لمنفعتها للإنسان في الطلب والهرب ومحاربة الأعداء، وجمال صورها وحسن أدواتها.

وعني علم البيزرة بالجوارح لمنفعتها وأدبها في الصيد وامساكه.

26 ـ علم الفراسة: هو علم يتعرّف منه الأخلاق الإنسانية من هيئة الإنسان ومزاجه وتوابعه.

وحاصله انّه الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن، منفعته جليلة في تقدمة المعرفة بأخلاق من يضطرّ الإنسان إلى مخالطته من صديق وزوج ومملوك، ليصير على بصيرة من أمره، فإنّ الإنسان ممنوّ بذلك لأنّه مدنيّ بالطبع.

ويقرب من هذا العلم قيافة الأثر، وقيافة البشر، وليست علوماً اكتسابية، وإنّما هي تخمينات حدسية، وكذلك النظر في غضون الأكف وأسارير الجبهة ونحوها.

27 ـ علم التعبير: هو علم يتعرّف منه الاستدلالات من التخيّلات الحلمية على ما شاهدته النفس حال النوم من عالم الغيب، فخيلته القوّة المخيلة بمثال يدلّ عليه في عالم الشهادة.

28 ـ علم أحكام النجوم: هو علم يتعرّف منه الاستدلال بالتشكيلات الفلكية على الحوادث السفلية.

29 ـ علم السحر: هو علم يُستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفيّة، فطريق الهند فيه تصفية النفس وتجريدها عن الشواغل البدنية بحسب الطاقة الإنسانية، لأنّهم يرون أنّ تلك الآثار إنّما تصدر عن النفس البشرية.

وطريق النبط عمل أشياء مناسبة للغرض المطلوب، مضافة إلى رقية ودخنة بعزيمة نافذة في وقت مختار له، وتلك الأشياء تارةً تكون تماثيل كالطلسمات، وتارةً تكون تصاوير ونقوشاً كالشعابيذ، وتارةً عقداً تعقد وينفث عليها، وتارةً كتباً تكتب ونحو ذلك وتُدفن في الأرض، أو تُطرح في الماء، أو تُعلّق في الهواء، أو تُحرق بالنار، وتلك الرقية يكون فيها تضرّع إلى الكوكب لاعتقادهم أنّ هذه الآثار إنّما تصدر عن الكواكب، وقد نقل كتاب سحر النبط «ابن وحشية» وهو يشتمل على تفصيل هذا الاجمال.

وطريق اليونان تسخير روحانية الأفلاك والكواكب، واستنزال قواها بالوقوف والتضرّع إليها، لاعتقادهم أنّ هذه الآثار إنّما تصدر عن روحانية الأفلاك والكواكب لا عن أجرامها، وهذا هو الفرق بينهم وبين الصابئة، وللوقوف لكلّ واحد من الكواكب وقت خاص، وترتيب وشرائط مخصوصة، ولها أيضاً مطالب تختصّ بكلّ واحد منها تشتمل على معرفتها كتب الوقوفات للكواكب.

وفي كتاب طيماوس لأرسطو وغيره من كتبه ورسائله إلى الاسكندر ذكر فصول من هذا الباب هي قواعده.

وفي كتاب غاية الحكيم لـ «مسلمة المجريطي» منها أيضاً جمل كافية، وقدماء الفلاسفة يميلون إلى هذا الرأي.

وطريق العبرانيّين والقبط والعرب الاعتماد على ذكر أسماء مجهولة المعاني كأنّها أقسام وعزائم بترتيب خاصّ كأنّهم يخاطبون بها حاضراً لاعتقادهم إنّ هذه الآثار إنّما تصدر عن الجن، ويدعون في تلك الأقسام انّها تسخر ملائكة قاهرة للجنّ.

ويحصرون الطرق الموصلة إلى تسخير الروحانية في ثلاثة: الاستخدام وهو أعلاها وأعمقها نفعاً، وإنّما تقع الاجابة فيه بعد مدّة، وتختلف المدّة باختلاف جهات الاستخدام، ويليه الاستنزال، والاجابة فيه على الفور إلاّ أنّ الانتفاع به إنّما هو في كشف أُمور غائبة وفي علاج المصاب ونحوه، وأدناها الاستحضار ولا يتعدّى كشف الأُمور، وإذا كان يقظة بتوسّط تلبّس الروح ببدن منفعل كالصبي والمرأة، والنطق بلسانه حال غيبته عن الحسّ أطلقوا عليه اسم الاستحضار.

وإذا كان مناماً فأحضره فأطلقوا عليه اسم الجليان، ويقرب من السحر اظهار غرائب خواص الامتزاجات ونحوها فكأنّه من جملة مقدّماته عند النبط واليونان، يجعلونه علماً برأسه ويعبرون عنه بالنيرنجات، وألحق معهم بالسحر ما هو من الأفعال العجيبة مرتّب على سرعة الحركة وخفّة اليد، وهذا ليس بعلم إنّما هذا هو الشعبذة، كما ألحق بعضهم بالسحر غرائب الآلات الموضوعة على ضرورة عدم الخلاء الذي هو من فروع الهندسة.

30 ـ علم الطلسمات: هو علم يتعرّف منه كيفية تمزيج القوى العالية الفعّالة بالقوى السافلة المنفعلة ليحدث عنها فعل غريب في عالم الكون والفساد، وقد نقل «ابن وحشية» كتاب طيقانا عن النبط، وهو انموذج عمل الطلسمات ومدخل إلى عملها، وكتاب غاية الحكيم للمجريطي أودعه قواعد هذا العلم لكنّه ضنّ بالتعليم فيه كلّ الضنّ.

31 ـ علم السيمياء: قد يُطلق على غير الحقيقي من السحر وهو الأشهر، وحاصله احداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس، ويُطلق على ايجاد تلك المثالات بصورها في الحس، وتكون صوراً في جوهر الهواء، وسبب سرعة زوالها سرعة تغيّر جوهر الهواء وكونه لا يحفظ ما يقبله زماناً طويلا لكنّه سريع القبول لرطوبته، وأمّا كيفية احداث هذه الصورة وعللها فليس هذا موضعه.

32 ـ علم الكيمياء: علم يُراد به سلب الجواهر المعدنية خواصّها، وافادتها خواصّ لم تكن لها، والاعتماد فيه على أنّ الفلزات كلّها مشتركة في النوعية، والاختلاف الظاهر بينها إنّما هو أُمور عرضية يجوز انتقالها، لأنّ الاستحالة في الطبيعة غير منكرة.

والجمهور من الحكماء يدبرون دواء يعبّرون عنه بالأكسير وعن مادّته بالحجر المكرم، يلقون الأكسير على الحجر حال انفعاله بالذوبان فيحيله كإحالة اسم الجسد الوارد عليه لكن إلى الاصلاح، ولهم بدل عن الحجر يقوم منه إكسير دون إكسير الحجر، ولهم شبيه بالحجر وشبيه بالبدل.

33 ـ علم الفلاحة: يتعرّف منه كيفية تدبير النبات من بدء كونه إلى تمام نشوئه، وهذا التدبير إنّما هو إصلاح الأرض بالماء وبما يخلخلها ويحميها من المعفنات كالسماد ونحوه مع مراعاة الأهوية.

34 ـ علم الهندسة: يتعّرف منه أحوال المقادير ولواحقها وأوضاع بعضها عند بعض، ونسبها وخواص أشكالها، والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها، واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينيّة، وموضوعه المقادير المطلقة أعني الجسم التعليمي والسطح والخطّ ولواحقها من الزاوية والنقطة والشكل، وأجزاءه الأصلية عشرة:

الأوّل: يتبيّن فيه أحوال الخطوط المستقيمة من كيفية اتّصالها وانفصالها وأوضاعها.

الثاني: يتبيّن فيه أحوال الدوائر والقسي الواقعة في أسطحة مستوية وأوتارها والخطوط المماسة لها.

الثالث: يتبيّن فيه حال الخطوط المنحنية التي تسمّى الزائد والناقص والمكافي وخواصّها، وإضافتها إلى الخطّ المستقيم والمستدير والأشكال الحادثة عنها.

الرابع: يتبيّن فيه حال الأشكال المستقيمة الخطوط وإحاطتها بالدوائر وإحاطة الدوائر بها.

الخامس: يتبيّن فيه النسب الكلية الاجمالية والتفصيلية.

السادس: يبرهن فيه على الخواص العددية.

السابع: يتبيّن فيه حال الأشكال الحادثة عن الدوائر الواقعة على الكرة.

الثامن: يتبيّن فيه أحوال المجسمات المستوية السطوح.

التاسع: يتبيّن فيه أحوال المجسمات الكروية والأسطوانية والمخروطية.

العاشر: يتبيّن فيه حال الكرة المتحرّكة وخواصها.

وأمّا العلوم المتفرّعة عليه فهي عشرة علوم: عقود الأبنية، والمناظر، والمرايا المحرقة، ومراكز الأثقال، والمساحة، وانباط المياه، وجرّ الأثقال، والبنكامات، والآلات الحربية، والآلات الروحانية.

35 ـ علم عقود الأبنية: يتعرّف منه أحوال أوضاع الأبنية، وكيفية شقّ الأنهار، وتقنية القنن، وسدّ البثوق، وتنضيد المساكن، ومنفعته عظيمة في عمارة المدن والقلاع والمنازل وفي الفلاحة.

36 ـ علم المناظر: يعرف منه أحوال المبصرات في كمّيتها وكيفيتها باعتبار قربها وبُعدها عن المناظر، واختلاف أشكالها وأوضاعها وما يتوسّط بين الناظر والمبصرات وعلل ذلك، ومنفعته معرفة ما يغلط فيه البصر من أحوال المبصرات، ويُستعان به على مساحة الأجرام البعيدة والمرايا المحرقة أيضاً.

37 ـ علم المرايا المحرقة: يتعرّف منه أحوال الخطوط الشعاعية المنعطفة والمنعكسة والمنكسرة ومواقعها وزواياها ومراجعها، وكيفية عمل المرايا المحرقة بانعكاس أشعّة الشمس عنها ونصبها ومحاذاتها، ومنفعته بليغة في محاصرات المدن والقلاع.

38 ـ علم مركز الأثقال: يتعرّف منه كيفية استخراج مركز ثقل الجسم المحمول، والمراد بمركز الثقل حدّ في الجسم عنده يتعادل بالنسبة إلى الحامل، ومنفعته كيفية معرفة معادلة الأجسام العظيمة بما هو دونها لتوسّط المسافة كما في القرسطون.

39 ـ علم المساحة: يتعرّف منه مقادير الخطوط والسطوح والأجسام بما يقدرها من الخطّ والمربع والمكعب، ومنفعته جليلة في أمر الخراج، وقسمة الأرضين، وتقدير المساكن وغيرها.

40 ـ علم أنباط المياه: يتعرّف منه كيفية استخراج المياه الكامنة في الأرض واظهارها.

41 ـ علم البنكامات: يتبيّن منه كيفية ايجاد الآلات المقدّرة للزمان، ومنفعته معرفة أوقات العبادات، واستخراج الطوالع من الكواكب، وأجزاء فلك البروج.

42 ـ علم الآلات الحربية: يتبيّن فيه كيفية ايجاد الآلات الحربية كالمجانيق وغيرها.

43 ـ علم الآلات الروحانية: يتبيّن فيه كيفية ايجاد الآلات المرتبة على ضرورة عدم الخلاء ونحوها من آلاف الشراب وغيرها، ومنفعته ارتياض النفس بغرائب هذه الآلات، كقدحي العدل والجور والسرج والقطارة وأمثال ذلك.

44 ـ علم الهيئة: يُعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها ومقاديرها وأبعاد ما بينها، وحركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها، وموضوعه الأجسام المذكورة من حيث كمّياتها وأوضاعها وحركاتها اللاّزمة لها، أجزاؤه الأصلية أربعة:

الأوّل: يبحث فيه عن جملة الأفلاك ووضع بعضها عند بعض ونسبها، وبيان أنّها متحرّكة وأنّ الأرض ساكنة.

الثاني: يتبيّن فيه حركات الأجرام السماوية وأنّها كلّها كروية، وكم هي، وكيف هي، وما منها بالارادة، وما منها بالقسر، وجهاتها والسبيل إلى معرفة مكان كلّ واحد من الكواكب من أجزاء البروج في كلّ وقت، ولواحق الحركات السماوية مثل الخسوف والكسوف وغيرهما.

الثالث: يبحث فيه عن الأرض المغمور منها والمعمور والخراب، وقسمة المعمور بالأقاليم وأحوال المساكن، وما يلزمها من الحركة اليومية، وما يتعلّق بها من المطالع والمغارب ومقادير الليالي والأيام.

الرابع: يتبيّن فيه مقادير أجرام الكواكب وأبعادها ومساحة الأفلاك.

أمّا العلوم المتفرّعة عليه فهي خمسة: علم الزيجات، والتقاويم، والمواقيت، وكيفية الإرصاد، وتسطيح الكرة، والآلات الحادثة عنه، والآلات الظلية، وذلك لأنّه أمّا أن يبحث عن ايجاد ما يبرهن بالفعل أو لا، الثاني كيفية الإرصاد، والأولى أمّا حساب الأعمال أو التوصّل إلى معرفتها بالآلات، والأوّل منهما ان اختصّ بالكواكب المتحيّزة فهو علم الزيجاب والتقاويم وإلاّ فهو علم المواقيت والآلات أمّا شعاعية أو ظلّية.

45 ـ علم الزيجات: يتعلّم منه مقادير حركات الكواكب السيارة منتزعاً من الأُصول الكلّية، منفعته معرفة وضع كلّ واحد من الكواكب بالنسبة إلى فلكه وإلى فلك البروج وانتقالاتها ورجوعها واستقامتها وتشريقها وتغريبها وظهورها واختفائها في كلّ مكان وزمان، وما يلزم ذلك من اتّصال بعضها ببعض، وكسوف وخسوف القمر وما يجري هذا المجرى.

46 ـ علم المواقيت: يتعرّف منه أزمنة الأيام والليالي وأحوالها وكيفية التوصّل إليها، منفعته معرفة أوقات العبادات وتوخّي جهتها والطوالع والمطالع من أجزاء البروج من الكواكب الثابتة التي منها منازل القمر ومقادير الظلال والارتفاعات وانحراف البلدان بعضها عن بعض وسموتها.

47 ـ علم الأرصاد: يتعرّف منه كيفية تحصّل مقادير الحركات الفلكية والتوصّل بها بالآلات الرصدية، منفعته كمال علم الهيئة وحصول عمله بالفعل.

48 ـ علم تسطيح الكرة: يتعرّف منه كيفية ايجاد الآلات الشعاعية، منفعته الارتياض بعلم هذه الآلات وعملها، وكيفية انتزاعها من أُمور ذهنية مطابقة للأوضاع الخارجية، والتوصّل إلى استخراج المطالب الفلكية.

49 ـ علم الآلات الظلّية: يتعرّف منه مقادير ظلال المقاييس وأحوالها والخطوط التي ترسمها بأطرافها، منفعته معرفة ساعات النهار بهذه الآلات كالبسائط والقائمات والمائلات من الرخامات ونحوها.

50 ـ علم العدد: ويسمّى الأرتماطيقي، يتعرّف منه أنواع العدد وأحوالها وكيفية تولّد بعضها من بعض، موضوعه الأعداد من جهة لوازمها وخواصّها، ينقسم إلى جزئين:

الأوّل منهما: يبحث فيه عن لواحق الأعداد في ذاتها كالزوجية والفردية ونحوها.

وثانيها: يبحث فيه عن لواحق الأعداد عند اضافة بعضها إلى بعض كالتساوي والتفاضل والتناسب والتباين ونحوها، واستخراج ما سبيله أن يستخرج منها، وهذا العلم كالعلم الإلهي في استغنائه عن غيره، وتتفرّع عنه ستّة علوم وهي: الحساب المفتوح، وحساب التخت والميل، وحساب الجبر والمقابلة، وحساب الخطأين، وحساب الدور والوصايا، وحساب الدرهم والدينار.

51 ـ علم الحساب المفتوح: يتعرّف منه كيفية مزاولة الأعداد لاستخراج المعلومات الحسابية من الجمع والتفريق والتناسب، منفعته ضبط المعلومات، وحفظ الأموال، وقضاء الديون، وقسمة التركات وغيرها، يحتاج إليه في العلوم الفلكية وفي المساحة والطب، وقيل يحتاج إليه في سائر العلوم.

52 ـ علم حساب التخت والميل: يتبيّن فيه كيفية مزاولة الأعمال الحسابية برقوم تدلّ على الآحاد وتغني عمّا بعدها من المراتب، وهذه الرقوم التسعة منسوبة إلى الهند، منفعته تسهيل الأعمال الحسابية وسرعتها خصوصاً الفلكية.

53 ـ علم الجبر والمقابلة: يتبيّن منه كيفية استخراج المجهولات العددية بمعادلتها لمعلومات تخصّها، ومعنى الجبر أنّه إذا كانت مقادير يُراد معادلتها لمقادير أُخر وفيها استثناء، رفع ذلك الاستثناء بزيادة الناقص ويُزاد في الجهة الأُخرى نظيره ليعتدلا في المعادلة.

ومعنى المقابلة اسقاط الزائد من أحد الجملتين بعد الجبر ليعتدلا في المعادلة، وسير المقدّرات الموزونة بالوزن يقع فيه جبر ومقابلة، منفعته استعلام المجهولات العددية إذا كانت معلومة العوارض ورياضة الذهن.

54 ـ علم حساب الخطأين: يتبيّن منه استخراج المجهولات العددية إذا أمكن صيرورتها في أربعة أعداد متناسبة، منفعته نحو منفعة علم الجبر والمقابلة إلاّ أنّه أقلّ عموماً منه وأسهل عملا، وإنّما سمّي حساب الخطأين لأنّه يفرض فيه المطلوب شيئاً ويختبر فإن وافق فذاك وإلاّ حفظ الخطأ الثاني، واستخرج المطلوب منهما ومن المقدارين المفروضين وعلى هذا إذا اتّفق وقوع المسألة أوّلا في أربعة أعداد متناسبة أمكن استخراجها بخطأ واحد.

55 ـ علم الدور والوصايا: يتبيّن منه مقدار ما يوصى به إذا تعلّق بدور في بادئ النظر، ولابدّ من ايضاح هذا المعنى لصورة من صور مثالها: رجل وهب لمعتقه في مرض موته مائة درهم لا مال له غيرها، فقبضها ومات قبل سيّده وخلّف بنتاً والسيد المذكور، ثمّ مات السيد، فظاهر المسألة إنّ الهبة تمضي من المائة في ثلثها فإذا مات المعتق رجع إلى السيّد ثلثي الجائزة بالهبة، بناءاً على أنّ منجزات المريض من الثلث لا من أصل المال.

56 ـ علم حساب الدرهم والدينار: يتبيّن منه استخراج المجهولات العددية التي تزيد عدّتها على المعادلات الجبرية، ولهذه الزيادة لقّبوا تلك المجهولات بالدرهم والدينار والفلس ونحوها، منفعته نظير منفعة الجبر والمقابلة فيما تكثر فيه أجناس المعادلة.

57 ـ علم الموسيقى: يتبيّن به النغم والايقاع وأحوالها، وكيفية تأليف اللحون وايجاد الآلات الموسيقية، موضوعه الصوت من جهة تأثيره في النفس باعتبار نظامه في طبقته وزمانه، أجزاءه خمسة:

الأوّل: في المبادئ وكيفية استنباطها.

الثاني: في النغمات وأحوالها، والنغم صوت لابث زماناً ما، يجري من الألحان مجرى الحروف من الألفاظ، وبسائطها سبع عشرة نغمة، وأدوارها أربعة وثمانون دوراً، اختار الفرس منها اثني عشر دوراً لقّبوها البردوات وأسماؤها: عشاق، نوى، بوسليك، راست عراق، اصفهان، كجك، نزرك، زنكولة، رهاوي، حسيني، حجازي، وأتبعوها بستّة أدوار لقبّوها الأوزات وهي: شهناز، مائة، سلك، نوروز، كردانية، كوشت، والعرب كانت تنسب النغمات إلى شدود العود لشهرته.

الثالث: في الايقاع وهو اعتبار زمان الصوت، وأدوار الايقاعات عند العرب ستّة: الثقيل الأوّل والثاني، والماحوزي، والرمل وخفيفه، والهزج، والفرس تقتصر على أربعة أضرب، ضرب يعلم بضرب الأصل وهو قريب من الثقيل الأوّل، وضرب يعلم بالمحمس وهو قريب من الماحوزي، وضرب يعلم بالتركي، وضرب يعلم بالفاختي وهو من الفروع.

الرابع: في كيفية تأليف الألحان وبيان الملائم منها.

الخامس: في ايجاد الآلات الموسيقية وتقديرها، وإنّما وضعوا هذه الآلات لضرورة ومنفعة، أمّا الضرورة فاشتغال الأصوات الإنسانية بالتنفّس ونحوه فيتخلّلها فترات تخلّ باللذة، وأمّا المنفعة فما وجد في بعض الآلات ممّا ليس في الطبيعة فلم يحسن الاخلال به.

58 ـ علم السياسة: يتعرّف به أنواع الرياسات والسياسات والاجتماعات المدنيّة وأحوالها، موضوعه المراتب المدنية وأحكامها، منفعته معرفة الاجتماعات المدنية الفاضلة والردية، ووجه استبقاء كلّ واحد منها وعلّة زواله، ووجه انتقاله وما ينبغي أن يكون على الملك في نفسه وحال أعوانه، وأمر الرعية وعمارة المدن.

59 ـ علم الأخلاق: يعلم منه أنواع الفضائل وكيفية اكتسابها، وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها، موضوعه الملكات النفسية من الأُمور العادية، منفعته أن يكون الإنسان كاملا في أفعاله بحسب امكانه لتكون أولاه سعيدة وأُخراه حميدة.

60 ـ علم تدبير المنزل: يعلم منه الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجه وولده وخدمه ووجه الصواب فيها، موضوعه أحوال الأهل والخدم، منفعته انتظام أحوال الإنسان في منزله ليتمكّن من كسب السعادة العاجلة والآجلة.

هذه جملة أسماء العلوم التي كان يعرفها العرب، وألّفوا فيها المؤلّفات الكثيرة في أبان حضارتهم، وقد حرصنا أن نأتي عليها بأسمائها عندهم وحدودها لديهم، مع استخدام عباراتهم التي كانت خاصّة بهم، ليدرك القارئ مبلغ ما كان عليه العرب من البسطة العلمية في الوقت الذي كانت فيه أُوربا تخبط في دياجير جهالة القرون الوسطى.

ولولا أن أصاب المسلمين جمود يشبه الموت البحت، لترقّت هذه العلوم مع الزمن وبلغت أعظم شأوها اليوم، وهي عربية خالصة من العجمة، ولم تكن في حاجة لنقل العلم الأُوربي إلى لغتنا، وكانت آتتنا من ثمراتها في الصنائع والفنون بما يباري ما لدى أُوربا منهم أو يزيد عليها، ولكنّ الله قضى غير هذا ولا رادّ لقضائه، ولا شكّ أنّ في ذلك حكمة لا ندركها.

* * *

علوم القرآن:

قوله (عليه السلام): «وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَأْوِيلِهِ، وَشَرَائِعِ الاِْسْلاَمِ وَأَحْكَامِهِ، وَحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ ، لاَ أُجَاوِزُ ذلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ».

وأن ابتدئك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله، إذ أهمّ ما يلزم للمرء تعلُّم القرآن والتدبّر في معانيه، والوقوف على حقائقه ومتشابهاته، وناسخه ومنسوخه، لأنّ فيه قوانين الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وفيه ما تحتاجه الأُمّة في شؤون عقائدهم ومعادهم ومعاشهم، بل حتّى ما يعود لصحّتهم.

قال (عليه السلام): «إنّ في القرآن علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم»(3).

يريد الإمام بكلمته هذه أن يقول: إنّ في القرآن علم ما يأتي وعلم ما كان، وهو المعبّر عنه بقوله: «حديث الماضي» وفيه علم الحاضر، المعبّر عنه بقوله: «دواء دائكم» وهو علم الطبّ نفسياً وبدنياً ووقائياً، وبقوله: «نظم ما بينكم» وهو سائر العلوم سياسية وثقافية واجتماعية، لأنّ في كلّ من هذه تنظيماً لحياتنا الجماعية.

ولولا ما نعتصم به من نظام في حياتنا لكنّا من غير نوع الإنسان المسيطر على ما دونه من الحيوان والنبات والجماد، والفضل في ذلك للعقل القائم في تهذيب الإنسان على تعاليم القرآن ووصاياه، فليتدبّر قارئي ما أفضي إليه به من التدليل على هذا الحكم.

 

الطب في القرآن:

قال صاحب لي وهو يتحدّث إليّ: يتناقل أهل القرية التي هي مولدي وكانت فيها نشأتي الأُولى، يتناقل أهلها بحيث أسمع، أنّ فتاة تلقّب «بالكبشة» وقد رأيتها، أصابها داء الصرع وهي صبيّة، فبعثت أُمّها أخاها إلى عالِم معروف بفقه الدين والتقوى، بعثت أخاها ومعه هدية للشيخ ليكتب «تميمة» لابنتها المريضة، وكان أخوها لا يثق بهذا النوع من العلاج، فتصرّف بالهدية وعاد إليهما آخر النهار، وقد احتال عليهما بقرطاس لقطه من الشارع وذهب به إلى الخرّاز فخاط عليه جلدة يوهمهما أنها تميمة، ويشاء الله أن تحمل هذه المريضة التميمة الوهمية ويكون في حملها شفاء لها من داء الصرع، ثمّ يشاء الله أن يموت الفقيه بعد عام وأن يتحدّث الناس بفضله، ومن هؤلاء الناس أم طالب وهي أُمّ المريضة، ظلّت تشيد بفضل الفقيه الراحل على ابنتها بتميمة شفتها من داء الصرع، ويضيق ابنها ذرعاً بحديثها فيصارحها بأنّ التميمة من صنعه هو، وأنّ العلاج بالتمائم من خرافات العقل البائد، فتعمّد الأُمّ وابنتها إلى فكّ التميمة فيتّضح صدق ابنها وتزول الثقة من نفس الأُم والبنت، فإذا بها تعود إلى الصرع ثمّ ترافقها إلى القبر.

سقت هذا المثل لأدلّ على أنّ العلم الحديث لم يخطئ بارجاع كثير من الأمراض إلى علم النفس، وقد أصبح العلاج النفسي لمرضى الأعصاب من البديهيّات، وأنّ تأثير العقيدة، والارادة، والاطمئنان، والثقة على الجسم في رأس الأُصول التي يقوم عليها الطبّ النفسي.

وأنّ العقيدة لها المكان الأوّل في التأثير على النفس، سواء كانت صحيحة أو فاسدة، ففي الحديث الشريف: «لو اعتقد أحدكم بالحجر لأفاده» وليس ذلك بضارّ في الدين لأنّ الإسلام لم يأت بخلق جديد في العقائد، وإنّما جاء ليصحّحها بالتوجيه إلى الحقّ، كما أنّه لم يأت بما يمحق العواطف العاصفة بالعقل وإنّما جاء ليهذّبها ويصرفها عن الشرّ إلى الخير.

من هنا نصل إلى أنّ العقيدة في الصنم أحالها الدين إلى عقيدة بالله، من أجل كرامة الإنسان، وأنّ هذا العقل القائم فيه لا يليق به عبادة الحجر أو الشجر، وإنّما هو نور يشقّ للإنسان حجب الغيب عن ربّه الخليق بالدينونة والعبودية.

ففي القرآن دواء دائنا حقّاً لأنّ عقيدة المسلم وقفت عنده، واستحالت فيه من وراء عقله المؤمن به والشاخص إليه، فكان من الطبيعي، وهو الصلة بينه وبين ربّه خالق الموت والحياة، أن يتّخذ منه وسيلة لشفائه من كلّ داء، وقد آمن بذلك الطبّ الحديث وعمل به، إذ وجدنا كلّ طبيب نفسي يأتي مريضه من طريق المؤثرات عليه عقلياً ونفسياً، ثمّ يعالجه بالطريقة القائمة على علم النفس.

والعقيدة هذه لا تؤثر على صاحبها فقط، وإنّما تتعدّاه إلى غيره.

قال صاحبي وهو مستمرّ في حديثه: حدّثتني أُمّي وصادق على حديثها أبي: أنّ أخاً لي ولدته قبلي وكان اسمه اسمي، وكانت قد يئست بعده من الحمل، وأنّ أبي أيقظها ليلة القدر، وكان قد قرأ تلك الليلة حديث: «من مات له ثلاثة أولاد وصبر فله الجنّة»، وكان قد فقد ولدين.

فأيقظ والدتي ثمّ قرأ عليها الحديث وقال لها: إنّ أعمالنا لا توجب لنا دخول الجنّة وقد فقدنا ولدينا وصبرنا، فلندع الله إن كان هذا الحديث صحيحاً أن يأخذ أحد هذين الولدين، فاطمة ومحمّد، ليكون لنا بفقد الثلاثة سبيل إلى رحمته، قالت أُمّي: فصمت إذ ذاك ثمّ بكيت وقلت له: سأنزل على حكم الله وسأصبر على بلائه، فافعل ما تشاء فأنا راضية بما أنت به راضي والله على ما أقول شهيد.

قال أبي إذ سألته صدق الحديث عن أُمّي: لقد صدقت وإنّي لأذكر أنّي صلّيت ركعتين قربى لله بعد أن هجعت أُمّك ثمّ سألت الله: إن صحّ هذا الحديث فأنا متنازل عن أحبّ الولدين وهو أخوك محمّد، فلم نصبح تلك الليلة حتّى كانت الحمى تغور في جسد أخيك ولم تمهله أكثر من ليلتين، وإذا به يفارقنا، فلم نجزع ولعلّنا كنّا على العكس فرحين بأن أجاب الله ما سألناه وصدّق ما رواه الرواة عن رسوله، ثمّ لم تلبث أُمّك بضعة أشهر حتّى حملت بك بعد يأسها وكنت أنت خليفة أخيك.

فما قول علماء النفس في هذا الحدث؟ وما هو تعليلهم هذا التأثير من أب يصلّي، وطفل هاجع لا يعلم ما وراء هجوعه؟ وهل يستجيب الله لرجل يضحّي بولده في سبيل الزلفى إلى ربّه؟ هل عند علماء النفس تعليل لهذا غير أنّ للروح عالماً تتجاوب جزئيّاته في حدود كلِّية العام؟

أنّ للمادة عالماً تتجاوب جزئيّاته كذلك في حدود كلِّية القائم فيه، فكما أنّ الجرم المادي يتأثّر من وراء اصطدامه بجرم مادي آخر كذلك نرى انّ الجرم الروحي يتأثر من وراء اصطدامه بجرم روحي آخر، وكما أنّ تأثّر الجرم المادي بمثله يختلف قوّة وضعفاً باختلاف الجرمين في الكبر والصغر، كذلك نجد تأثّر الجرم الروحي مختلفاً قوّة وضعفاً باختلاف الجرمين في الكبر والصغر، ومن هنا كان تأثير الارادة القوية على الارادة الضعيفة قوياً فيما نسمّيه بالعين.

فقوّة الارادة في الأب أو الشجاع أو المظلوم وهو يتصوّر الموت ويستنزله لوليده أو مبارزه أو ظالمه أثّرت على ضعف الارادة في الولد أو المبارز الجبان أو الظالم الغافل، وهو يتصوّر الحياة ابقاء على نفسه، فجزئي الروح في الفاعل له السلطان على جزئي الروح في المنفعل، لذلك نرى القوي والغني والعالم يسيطرون على الضعيف والفقير والجاهل، ونرى هؤلاء يستجيبون لأُولئك في الخضوع لارادتهم والاستسلام لسلطانهم.

هذا من ناحية الطبّ النفساني، وأمّا الطبّ البدني فالقرآن يضمّ الكثير من عقاقيره، ففي قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا) [الأعراف : 31] أبلغ عقار لدرء الأمراض الباطنية إذ كانت المعدة وما زالت بيت الداء، وأكثر أدوائها ينشأ عن التخم الناشئة عن اسراف الأكل في طعامه أو شرابه.

وفي تحريم القرآن لكثير من المآكل الخبيثة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وتحريم الخمور والخبائث من الشراب الآسن والطعام المتعفّن، وتحريم القذارة وسؤر الكلاب والخنازير، والزام الإنسان بالطهارة في عبادته أو سلوكه مع غيره، أقول: إنّ في تحريم ذلك وايجاب هذا كثيراً ممّا يفتقر إليه الطبّ البدني الحديث في الوقاية والعلاج.

ذكرنا في بعض فصول هذه الوصية شيئاً من اثبات أنّ علم ما بين أيدينا طبّاً وسياسةً وقضاءً واجتماعاً مشار إليه في القرآن، إمّا تصريحاً أو تلميحاً، فالتصريح فيما مرّ، وأمّا التلميح ففي أمثال قوله عزّ من قائل: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) [النمل : 8] فقوله: يخلق ما لا تعلمون، تلميح يكاد ينافس التصريح في الدلالة على آلات البخار والكهرباء وما ينشأ عنها من مسخّرات الإنسان للركوب وغيره.

وهذا كلّه يشير إلى علوم حديثة لم تكن ثمّ كانت، ولعلّ التصريح بها في ذلك العهد يعزّز الأرجاف والشكّ في صدور ضعيفيّ الايمان بالأخبار عن أشياء يستعصي تصوّرها على عقولهم الضعيفة، ولذلك كان في صميم الرسالة الإسلامية الدعوة إلى العلم، والحضّ عليه من المهد إلى اللحد لتقوى عقولنا على تصوّر العلوم والفنون، ولتحقّق في مستقبلنا ما كان قبلا من قبيل الخيال.

 

علم الماضي والمستقبل في القرآن:

أمّا إنّ في القرآن علم ما كان المعبّر عنه في قول الإمام بالحديث عن الماضي، فلا يحتاج إلى تدليل ويكفي لاثباته ما يشير إليه الكتاب الكريم في قصّة ذي القرنين، وقصّة أهل الكهف، وقصص الأنبياء والرسل، فإنّها مشحونة بعلوم الأوّلين. منها ما حقّقه العلم الحديث كبساط الريح، وعرش ملكة سبأ في قصّة سليمان، إذ كان العلم يدرك السرعة التي أوتيها سليمان في الطيران بواسطة الأثير «اللاّسلك».

وأمّا سرعة النقل بحيث يقطع الجرم في مسيره آلاف الأميال ببضع ثوان كما فعل مستشار سليمان في نقل العرش، أمّا هذه السرعة فقد أشار إلى امكانها العلم الحديث في استخدام الذرّة للسلام العالمي، إذ صرّح أحد علماء الذرّة بأنّ في الامكان القريب سير الأجرام بسرعة الضوء.

وهكذا نجد أنّ حديث الماضي في القرآن لا يشعرنا بعلم ما كان فحسب، وإنّما يتعدّاه بالاشارة إلى علم ما يكون، كما في قصّة أهل الكهف من اغفالهم قروناً ثمّ بعثهم أحياء، وفي قصّة موسى وعيسى من فلق البحر وانفجار الصخر عن الماء، واحياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص.

وفي قصّة سليمان من تكليم الطير، وغير ذلك ممّا يصل إلى تعليله وتأويله أهل الحضارة بالعلوم والفنون، وفي ذلك ما يثبت صحّة قول الإمام (عليه السلام) بأنّ في القرآن علم ما يأتي به مستقبل الإنسان.

فخذ مثلا على ذلك علوم الأثير اليوم وفي طليعة فنّ التوجيه للطائرات والصواريخ، في سنة 1946 جرى في أمريكا توجيه أوّل طائرة قذفاً باللاّسلكي من نيويورك إلى لندن كما يقذفون الأصوات مركّزة على موجات الأثير بالأجهزة اللاّقطة في المذياع، وذهب في الطائرة بعض المهندسين لا لقيادتها بل للإشراف على ضبط سيرها فقط، وبعد أن أصابت الهدف بهم وهبطت الهوينا على أرض لندن، قدّموا تقريراً لمصادر التوجيه في أنّ القذف أضبط من القيادة، وأنّها لم تحدّ في سيرها عن الخطّة التي رسمت لها قط.

ففي قوله تعالى: (وأرسل عليهم طيراً أبابيل  ترميهم بحجارة من سجّيل  فجعلهم كعصف مأكول) [الفيل : 5-3] اشارة تكاد تكون صريحة في الدلالة على توجيه القذائف بواسطة الأثير، فكلمة أبابيل مجهولة المعنى، ولعلّها من قبيل ميكائيل واسرافيل وعزرائيل، وغيرها من الأسماء المضافة إلى اسمه تعالى، فيكون المقصود بالطير جماعة من الملائكة تقذف هؤلاء المعتدين على الكعبة والذين هم أصحاب الفيل، تقذفهم بحجارة.

قيل في التفسير: إنّ كلّ حجر مكتوب عليه اسم الذي قذف به، فكان يصيبه فيصعقه ولا يتجاوز إلى غيره، ويفسّرون السجيل بالطين المطبوخ، وأرى أنّه من التسجيل وهو الرقم ليتناسب مع التفسير، بأنّ اسم كلّ مقذوف من العتاة وجد محفوراً على الحجر الذي قُذف به، فيكون المعنى، والله أعلم: إنّ ملائكة أبابيل رمت هؤلاء الطغاة بقذائف سجّلت عليها أسماء المقذوفين بها لئلاّ تتعدّاهم.

كما نرى اليوم في الحروب القائمة ـ بآلاتها المدمّرة ـ على العلوم الحديثة من أنّها تحكم بتوجيه القذائف لأعدائها بحيث لا تتعدّاهم إلى غيرهم من المسالمين، وكما نرى من ضبط ارسال الصوت في الأثير على موجات خاصّة لا تتعدّاها إلى غيرها من الأمواج الأثيرية، والقرآن الكريم حافل بكثير ممّا يفتح للأجيال المقبلة طرق الكشف والابداع في مجال الحياة لمن أراد أن يستقصي ويتعمّق في البحث عن ذلك.

 

فضائل القرآن وخصائصه:

ومن هنا نرى الإمام عليّاً (عليه السلام) يصف القرآن بأدقّ وصف، يستعرض محاسنه وما اشتمل عليه من درر الفوائد، بقوله في خطبة له:

«ثمّ أنزل عليه ـ أي على النبي (صلى الله عليه وآله) ـ الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يُدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وبنياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تخشى أسقامه، وعزّاً لا تهزم أنصاره، وحقّاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي(4) الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه»(5).

ففي كلامه هذا ـ صلوات الله عليه ـ : نبذ من فضائل القرآن وخصائصه ومناقبه وفوائده.

أوّلها: كونه نوراً لا تطفأ مصابيحه: أمّا انّه نور فلاهتداء الناس به من ظلمات الجهل، كما يهتدى بالنور المحسوس في ظلمة الليل، وأمّا مصابيحه: فاستعارة لطريق الاهتداء، وفنون العلوم التي تضمّنها القرآن.

ثانيها: كونه سراجاً لا يخبو توقّده: أمّا انّه سراج لا يخبو توقّده فالمراد به عدم انقطاع اهتداء الناس به واستضاءتهم بنوره.

والثالثة: أنّه بحر لا يُدرك قعره: وذلك أنّ استعارة البحر له باعتبار اشتماله على النكات البديعة، والأسرار الخفيّة، ودقائق العلوم التي لا يدركها بُعد الهمم، ولا ينالها غوص الفطن، كما لا يدرك الغائص قعر البحر العميق.

الرابعة: كونه منهاجاً لا يضلّ نهجه: أي طريقاً واضحاً مستقيماً إلى الحقّ لا يضلّ سالكه.

والخامسة: كونه شعاعاً لا يظلم ضوءه: أي حقّاً لا يدانيه شكّ وريب، ولا تشوبه ظلمة الباطل فتغطّيه وتستره، كما قال تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه)[البقرة : 2] وقال: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [فصلت : 42].

والسادسة: كونه فرقاناً لا يخمد برهانه: أي فارقاً بين الحقّ والباطل، وفاصلا بينهما لا تنتفي براهينه الجلية، وبيّناته التي بها يفرق بينهما، كما قال تعالى: (إنّه لقول فصل  وما هو بالهزل) [الطارق : 14-13] وقال: (هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان) [البقرة : 185].

والسابعة: كونه بنياناً لا تهدم أركانه: شبّهه (عليه السلام) ببنيان مرصوص وثيق الأركان فاستعار له لفظه، والجامع انتظام الأجزاء واتّصال بعضها ببعض، وقوله (عليه السلام): لا تهدم أركانه: ترشيح للاستعارة، وفيه اشارة إلى أنّ البنيان الوثيق كما أنّه مأمون من التهافت والهدم والانفراج، فكذلك الكتاب العزيز محفوظ من طرق النقص والخلل والاندراس.

والثامنة: كونه شفاءً لا تخشى أسقامه: يعني أنّه شفاء للأبدان والأرواح، أمّا الأبدان فبالتجربة والعيان، مضافاً إلى الأحاديث الواردة في خواصّ أكثر الآيات المفيدة للاستشفاء والتعويذ بها، مثل ما في «الكافي» في اسناده عن السكوني، عن الإمام الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «شكى رجل وجعاً إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في صدره فقال: استشف بالقرآن فإنّ الله تعالى يقول: (وشفاء لما في الصدور)» [يونس : 57](6).

وعن سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر يقول: «من لم يبرءه الحمد لم يبرءه شيء»(7).

وعن إبراهيم بن مهزم، عن رجل سمع أبا الحسن يقول: «من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله، ومن قرأها في دبر كلّ فريضة لم يضرّه ذو حمة»(8).

وفي «مجمع البيان» من كتاب العياشي باسناده إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟ قال: فقال له جابر: بلى بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله علّمنيها، قال: فعلّمه الحمد أُمّ الكتاب.

ثمّ قال: يا جابر ألا أُخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأُمّي فأخبرني، فقال: هي شفاء من كلّ داء إلاّ السام ـ والسام الموت ـ(9)، إلى غير هذه الأحاديث المستفاضة ممّا لا حاجة إلى ايرادها هنا بعد أن استوفيناها في المجلّد الثاني من كتابنا «الجواهر الروحية».

وأمّا الأرواح فلأنّه بما تضمنه من فنون العلوم شفاء لأمراض الجهل، فقد ظهر بذلك كونه شفاءً للأبدان من الأوجاع والأسقام، وشفاءً للقلوب من كلّ شك وريب وشبهة، ويصدّق ذلك قوله تعالى في سورة فصّلت آية 44: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) وفي سورة بني اسرائيل آية 82: (وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً).

قال الطبرسي: وجه الشفاء فيه من وجوه: منها ما فيه من البيان الذي يزيل عمى الجهل وحيرة الشك، ومنها ما فيه من النظم والتأليف والفصاحة البالغة حدّ الاعجاز الذي يدلّ على صدق النبي (صلى الله عليه وآله)، فهو من هذه الجهة شفاء من الجهل والشك والعمى في الدين، ويكون شفاءً للقلوب.

ومنها أنّه يتبرّك به وبقراءته، ويستعان به على دفع العلل والأسقام، ويدفع الله به كثيراً من المكاره والمضارّ على ما تقتضيه الحكمة، ومنها ما فيه من أدلّة التوحيد والعدل وبيان الشرائع، فهو شفاء للناس في دنياهم وآخرتهم، ورحمةً للمؤمنين ـ أي نعمةً لهم ـ وإنّما خصّهم بذلك لأنّهم المنتفعون به، فقد يحصل من ذلك أنّه شفاء لا يخاف أن يعقب سقماً، لأنّ الكمالات النفسانية الحاصلة من قراءته وتفكّره وتدبّر آياته تصير ملكات راسخة لا تتبدّل بأضدادها ولا تتغيّر.

والتاسعة: كونه عزّاً لا تهزم أنصاره: أي لا تغلب ولا تقهر.

والعاشر: كونه حقّاً لا تخذل أعوانه: والمراد بأعوانه وأنصاره هم المسلمون العارفون بحقّه، العاملون بأحكامه.

والحادية عشر: ما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: «فهو معدن الايمان وبحبوحته» أمّا أنّه معدن الايمان فلأنّ المعدن عبارةً عن منبت الجوهر من ذهب وفضة ونحوهما، ولما كان الايمان بالله وبرسوله جوهراً نفيساً لا جوهر أنفس منه ولا أعلى عند ذوي العقول، ولما كان يستفاد من القرآن ويستخرج منه جعله معدناً له، وأمّا أنّه بحبوحته ووسطه فلأنّ الايمان بجميع أجزائه وشرائطه ومراسمه يدور عليه، فهو بمنزلة القطب والمركز لدائرة الايمان كما هو ظاهر.

والثانية عشر: أنّه ينابيع العلم وبحوره، أمّا انّه ينابيع العلم: فلأنّ العلوم بجميع أقسامها منه تفيض كالعيون الجارية منها المياه، وأمّا انّه بحوره فلاحتوائه بفنون العلم كاحتواء البحر بمعظم الماء.

والثالثة عشر: أنّه رياض العدل وغدرانه، أمّا كونه رياض العدل فلأنّ الرياض عبارةً عن مجامع النبات والزهر والرياحين التي تبتهج النفوس بخضرتها، وتستلذّ الطباع بحسنها وبهجتها، كما قال تعالى: (حدائق ذات بهجة) [النمل : 60 ]فشبّه التكاليف الشرعية المجعولة عن وجه العدل والحكمة بالزهر والنبات الحسن لايجابها لذّة الأبد، وجعل الكتاب العزيز رياضاً لها لاجتماعها فيه واستنباطها منه.

وأمّا كونه غدران العدل، فلأنّ الغدير عبارةً عن مجمع الماء، فشبّه الأحكام العدلية بالماء لما فيها من حياة الأرواح كما أنّ بالماء حياة الأبدان، وجعله غديراً لجامعيّته لها.

والرابعة عشر: أنّه أثافي الإسلام وبنيانه: والأثافي هي عبارةً عن الأحجار التي عليها القدر، فجعله (عليه السلام) أثافياً للإسلام لاستقراره وثباته عليه، مثل استقرار القدر على الأثافي، وبهذا الاعتبار أيضاً جعل الصلاة والزكاة والولاية أثافيه.

 

لمحة عن أهمية الصلاة:

جاء في «الكافي» عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة والزكاة والولاية، ولا تصحّ واحدة منهنّ إلاّ بصاحبتها»(10).

قال المحدّث المجلسي (قدس سره): وإنّما اقتصر عليها لأنّها أهمّ الأجزاء، وأهمّ من الكلّ الصلاة لأنّها كعمود الفسطاط لهن، فإذا سقط العمود سقط الفسطاط، كما أنّها أحبّ الأعمال إلى الله تعالى.

قال عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّه ليس عمل أحبّ إلى الله تعالى من الصلاة، فلا يشغلكم عن أوقاتها شيء من أُمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ أقواماً فقال: (الذين هم عن صلاتهم ساهون)[الماعون : 5] ـ يعني أنّهم غافلون ـ استهانوا بأوقاتها»(11).

وجاء في «الكافي» باسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم، فقال (عليه السلام): «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيّاً)»[مريم : 31](12).

فما أحسن الرجل يسبغ الوضوء ثمّ يتنحّى حيث لا يراه أنيس، فيشرف عليه وهو راكع وساجد، إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادى إبليس: يا ويلي أطاعوا وعصيت، وسجدوا وأبيت(13).

وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله إليه وأقبل عليه حتّى ينصرف، وأظلّته الرحمة من فوق رأسه إلى أُفق السماء، والملائكة تحفّه إلى أُفق السماء، ووكّل الله تعالى به ملكاً قائماً على رأسه، يقول: أيّها المصلّي لو تعلم من ينظر إليك ومن تُناجي ما التفتّ، ولا زلت من موضعك أبداً»(14).

فعلى المصلّي إذاً التدبّر فيما يقول، فإنّ التدبّر من أجزاء الصلاة، فإذا قلت: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فانو به التبرّك باسمه تعالى، واعلم أنّ الأُمور كلّها لله، وهي من فيض رحمته في الدنيا والآخرة، فإذا كانت النعم الدنيوية والأُخروية مبدأها وجوده، وكانت كلّها من بحر كرمه كما قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) [النحل : 53] فاعلم أنّه لا يليق الحمد والثناء إلاّ لله سبحانه فقل: (الحمد لله).

فلو كنت ترى نعمة من عند غيره، وتتوقّع منه الوصول إليها، وتقرع بيد السؤال بابه بزعم استقلاله فيها لا باعتقاد أنّه واسطة في ايصالها إلى يديك، فشكره بذلك واجب، ففي تسميتك وتحميدك نقصان، وأنت بقدر التفاتك إلى غيره كاذب فيهما.

ثمّ اعلم أنّك تأسّيت في تحميدك لله بالملائكة المقرّبين حيث قالوا قبل أن يخلق الله سبحانه هذه النشأة: (نحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك) [البقرة : 30] وبعباد الله الصالحين حيث أنّهم بعدما يحكم بينهم وبين المجرمين الحاقة فيحمدون ربّهم كما أخبر عنهم تعالى بقوله: (وقضي بينهم بالحقّ وقيل الحمد لله ربّ العالمين)[الزمر : 75].

وبعدما يعبرون الصراط، ويجدون رائحة الجنان يقولون: (الحمد لله الذي هدانا لهذا)[الاعراف : 43]، وبعدما يتمكّنوا في قصور الجنّات، ويجلسون في وسط الروضات يقولون: (الحمد لله الذي صدقنا وعده)[الزمر : 74]، وبعدما ينالون غاية الآمال ويجزون الحسنى بالأعمال، يكون آخر كلامهم حمداً لربّ المتعال (وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين)[يونس : 10].

فإذا كان بداية العالم ونهايته مبنية على الحمد، فاجتهد أن يكون بداية عملك ونهايته كذلك، وكما أنّ حمد هؤلاء المقرّبين ناشئ عن وجه الاخلاص واليقين، فليكن ثناؤك كذلك.

وإذا قلت: (ربّ العالمين) فاعلم أنّه سبحانه مربّيك ومربّي سائر الخلائق أجمعين، حيث أنّه خلقهم، وقدّر أرزاقهم، ودبّر أُمورهم، وقام بمصالحهم، وبدأ بالآمال قبل السؤال، وأنه ربّاهم بعظيم ما لديه من دون جلب ربح ومنفعة منهم إليه، كما هو شأن سائر المربّين والمحسنين ليربحوا على ذلك، وينتفعوا به إمّا ثواباً أو ثناءً.

فإذا كان تربيته كذلك فليثبت منك مزيد الشوق والرجاء إلى فضله ونواله، وليشتدّ ذلك الرجاء إذا قلت: (الرحمن الرحيم) فإنّ رحمته سبحانه لا نهاية لها، فبرحمته الرحمانية خلق الدنيا وما فيها، وبرحمته الرحيمية يجزي المؤمنين الجزاء الأوفى.

وهو الذي ينادي عبده، ويشرّفه بألطف الخطاب، حين ما واروه في التراب، وودّعه الأحباب، يقول: «عبدي بقيت فريداً وحيداً، فأنا أرحمك اليوم رحمةً يتعجّب الخلائق منها».

 

نماذج من رحمة الله ولطفه:

وفي ودّي أن أستعرض بعض النكت العجيبة الدالّة على عظمة رحمة الجليل جلّ وعلا ولطفه بخلقه، فمن ذلك ما حكي عن إبراهيم بن أدهم أنّه قال: كنت ضيفاً لبعض القوم فقدّم المائدة، فنزل غراب وسلب رغيفاً، فأتبعته تعجّباً فنزل في بعض التلال، وإذا برجل مقيّد مشدود اليدين، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه.

وروي عن ذي النون أنّه قال: كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي، وصرت بحيث ما ملكتُ نفسي، فخرجت من البيت وانتهيت إلى شطّ النيل فرأيت عقرباً يعدو فتبعته، فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعاً واقفاً على طرف الوادي، فوثب العقرب على ظهر الضفدع، وأخذ الضفدع يسبح ويذهب، فركبت السفينة وتبعته.

فوصل إلى الطرف الآخر من النيل، ونزل العقرب من ظهره وأخذ يعدو فتبعته، فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة ورأيت أفعى يقصده، فلمّا قربت الأفعى من ذلك الشاب، وصل العقرب إلى الأفعى فلذعه والأفعى أيضاً لذع العقرب، فماتا معاً وسلم الشابّ منهما.

ويحكى أيضاً أنّ ولد الغراب إذا خرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش، فيكون كأنّه قطعة لحم أحمر، والغراب يفرّ منه ولا يقوم بتربيته، ثمّ أنّ البعوض يجتمع عليه لأنّه يشبه قطعة لحم ميّت، فإذا وصلت البعوض إليه التقمها واغتذى بها، ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت الريش، عند ذلك تعود إليه أُمّه، فظهر بهذه الأمثلة أنّ فضل الله عام، وإحسانه شامل، ورحمته واسعة.

وروي أنّ فتىً قرب وفاته اعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلاّ الله، فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبروه به، فقام (صلى الله عليه وآله) ودخل عليه، وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرّك ويضطرب ولا يعمل لسانه، فقال (صلى الله عليه وآله): أما كان يصلّي، أما كان يصوم، أما كان يزكّي؟ فقالوا: بلى، فقال: هل عقّ والديه؟ فقالوا: بلى، فقال: هاتوا بأُمّه.

فجاءت وهي عجوز عوراء، فقال (صلى الله عليه وآله): هلاّ عفوت عنه، فقالت: لا أعفو لأنّه لطمني ففقأ عيني، فقال (صلى الله عليه وآله): هاتوا بالحطب والنار، فقالت: وما تصنع بالنار؟ فقال: أحرقه بين يديك جزاءً لما عمل بك، فقالت: عفوت، أللنار حملته تسعة أشهر، أللنار أرضعته سنتين، فأين رحمة الأُم، فعند ذلك انطلق لسانه وذكر الشهادة.

والنكتة أنّها كانت رحيمة وما كانت رحمانة، فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوّزت الاحراق بالنار، فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرّر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده، كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلاّ الله سبعين سنة بالنار.

ثمّ مع هذا كلّه فينبغي لك أن لا تغتر بذلك، ولا تأمن من غضبه، واستشعر من قلبك الخوف وإذا قلت: (مالك يوم الدين) فأحضر في نظرك أنواع غضبه وقهره على أهل الجرائم والجرائر، واعلم أنّه لا مانع ذلك اليوم من سخطه، ولا رادّ من عقابه لانحصار الملك يومئذ فيه، فليس لأحد لجاء يؤويه.

ثمّ إذا حصلت بين الخوف والرجاء فجرّد الاخلاص والتوحيد وقل: (إيّاك نعبد) أي لا يستحقّ العبادة إلاّ أنت، ولا معبود سواك، ولا نعبد إلاّ إيّاك، وتفطن لسرّ التكلّم بصيغة الجمع نكتة تشريك الغير معك في الاذعان بالعبودية، وهو أنّ من باع أمتعة كثيرة صفقة بعضها صحيح وبعضها معيب، فاللاّزم على المشتري أمّا قبول الجميع أو ردّ الجميع، ولا يجوز له ردّ المعيب وأخذ الصحيح.

فهاهنا قد مزجت عبادتك بعبادة غيرك من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقرّبين، وعباد الله الصالحين، وعرضت الجميع صفقة واحدة على حضرة ربّ العالمين، فهو سبحانه أجلّ من أن يرد المعيب ويقبل الصحيح، فإنّه نهى عباده عن ذلك، فلا يليق بكرمه ذلك، كما لا يليق به ردّ الجميع لكون بعضها مقبولا ألبتة، فلم يبق إلاّ قبول الجميع وهو المطلوب.

ثمّ القيام منك بوظائف العبودية الايمان بلوازم الطاعة، لما لم يكن ممكناً إلاّ باعانة منه سبحانه، وافاضة منه الحول والقوّة إليك، فتضرّع إليه تعالى، واطلب منه التوفيق والاعانة وقل: (وإيّاك نستعين).

وتحقّق أنّه ما تيسّرت طاعتك إلاّ باعانته، وانّه لولا توفيقه لكنت من المطرودين، ثمّ إذا ظهرت حاجتك إليه سبحانه في افاضة الاعانة والتوفيق فغيّر مسؤولك، واطلب منه تعالى أهمّ حاجاتك، وليس ذلك إلاّ طلب القرب من جواره، ولا يكون ذلك إلاّ بالحركة والسكون نحوه، وسلوك السبيل المؤدّي إليه، ولا يمكن ذلك إلاّ بهدايته سبحانه فقل: (إهدنا الصّراط المستقيم).

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «يعني ارشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك»(15).

وزد ذلك شرحاً وتفصيلا وتأكيداً بقولك: (صراط الذين أنعمت عليهم)وهم الذين أنعم عليهم بالتوفيق والطاعة لا بالمال والصحة، وهم الذين قال تعالى فيهم: (ومن يطع الله والرسول فأُولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أُولئك رفيقاً) [النساء : 69].

وأمّا الذين أنعم عليهم بالمال والصحّة فربّما يكونون كفّاراً وفسّاقاً من الذين لعنهم الله وغضب عليهم، أو من الضالّين المكذّبين، ولذلك حسن التأكيد بأن تقول: (غير المغضوب عليهم) وهم اليهود، قال تعالى فيهم: (من لعنه الله وغضب عليه)[المائدة : 60]، (ولا الضالين)وهم النصارى، قال تعالى فيهم: (قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً)[المائدة : 77].

فإذا فرغت من قراءة فاتحة الكتاب فاقرأ ما شئت من السور، وعليك بالترتيل، وتعمّد الاعراب في الألفاظ التي تقرؤها، والتفكّر في معناها، وسؤال الرحمة والتعوّذ من النقمة عند قراءة آيتيهما، ثمّ إذا فرغت في القراءة فجدّد ذكر كبرياء الله سبحانه وعظمته، وارفع يديك حيال وجهك وقل: «الله أكبر» استجارةً بعفوه من عقابه، واتّباعاً لسنّة رسوله.

ثمّ تستأنف له ذلاًّ وتواضعاً بركوعك، وتجهد في ترقيق قلبك، وفي استشعار الخشوع له، وعليك بالطمأنينة والوقار، وتسوية ظهرك، ومدّ عنقك، فقد قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): «من أتمّ ركوعه لم تدخله وحشة في القبر»(16)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا ركع لو صبّ على ظهره الماء لاستقرّ لاستواء ظهره، وأمّا مدّ العنق فمعناه إنّي آمنت بك ولو ضربت عنقي.

ثمّ تشهد على ربّك بالعظمة وأنّه أعظم من كلّ عظيم فتقول: «سبحان ربّي العظيم وبحمده» وتكرّر ذلك على القلب وتؤكده بالتكرير، ثمّ تنتصب قائماً وتقول: «سمع الله لمن حمده» ثمّ تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات التذلّل والاستكانة، حيث ألصقت أعزّ جوارحك وأشرفها وهو الجبهة، بأذلّ الأشياء وأخسّها وهو التراب، وقد نهيت عن السجود على الذهب والفضّة، والمطاعم، والملابس لأنّها متاع الحياة الدنيا، والسجدة زاد الآخرة.

ثمّ اجلس للتشهّد وهو تجديد العهد لله سبحانه بالشهادة بالرسالة، وتصلّي على النبي (صلى الله عليه وآله) وآله، الذين هم وسائط الفيوضات النازلة، وبهم قبول الصلاة وسائر العبادات، وبالتقرّب إليهم يرجى نزول الرحمة من الحقّ، لكونهم واسطة بينك وبين الرسول، كما أنّه واسطة بين الله وبين الخلق.

ثمّ أحضر شخصه (صلى الله عليه وآله) في قلبك وقل: «السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته» لتدخل في زمرة المؤمنين المجيبين لنداء: (يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً) [الاحزاب : 56] ثمّ سلّم على نفسك وعلى عباد الله الصالحين، وتأمل إنّ الله تعالى يردّ عليك سلاماً بعدد عباده الصالحين.

وأمّا قولك: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فتقصد بخطابك فيه الأنبياء والملائكة والأئمة (عليهم السلام) والمؤمنين من الجنّ والإنس، وتحضرهم ببالك وتخاطبهم به، وإلاّ كان التسليم بصيغة الخطاب لغواً وإن كان مخرجاً عن العهدة.

وحقيقة هذا التسليم هو الرجوع عن الحقّ إلى الخلق، فإنّ الصلاة معراج للمؤمن كما ذكرنا، ومناجاة للعبد مع معبوده، وحضور له من الله تعالى، وغيبة له عمّا سواه، فإذا انصرف منه لزم عليه تجديد العهد بالخلق، والتسليم عليهم كما يسلّم الغائب إذا قدم من سفره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) نضب الماء نضوباً: غار في الأرض.

(2) سوف نلاحظ في مجمل كلمات المستشرقين عن التاريخ والحضارة الاسلامية تأكيدهم على البُعد القومي العربي، واذا لم يكن ذلك بأهداف مقصودة مسبقاً لصبغ الاسلام بالصبغة القومية فانه قد يكون ناشئاً من اعتبار اللغة العربية هي لغة الثقافة الاسلامية / المصحح.

(3) نهج البلاغة : الخطبة 158 عنه البحار 92 : 23 ح24.

(4) الأثافي ـ جمع أثفية: الحجر يوضع عليه القدر، أي عليه قام الإسلام.

(5) نهج البلاغة : الخطبة 198، عنه البحار 92 : 21 ح21.

(6) الكافي 2 : 600 ح7.

(7) الكافي 2 : 626 ح22.

(8) الكافي 2 : 621 ح8.

(9) مجمع البيان 1 : 36; عن تفسير العياشي 1 : 20 ح9.

(10) الكافي 2 : 18 ح4.

(11) البحار 83 : 13 ح21.

(12) الكافي 3 : 264 ح1.

(13) الكافي 3 : 264 ح2.

(14) الكافي 3 : 265 ح5.

(15) البحار 27 : 222 ح11.

(16) البحار 6 : 244 ح71.