الفصل السابع

في التقوى ومكارم الأخلاق

 

 

«وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللهِ وَالاِْقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَالاَْخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الاَْوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لاَِنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الاَْخْذِ بِمَا عَرَفُوا، وَالاِْمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ بَتَفَهُّم وَتَعَلُّم، لاَ بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ، وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ.

وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالاِْسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ، وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَة أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَة، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَة. فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ أنت لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ، وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءِ، وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ. وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ، وَالاِْمْسَاكُ عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ».

 

إنّ مسألة التقوى لم يفتأ الإمام (عليه السلام) يكرّر الوصية بها في مواعظه وارشاداته البالغة، كما يتّضح ذلك بجلاء إذا ما عطفت نظرة واحدة على هذه الوصيّة الخاصّة، وبقية وصاياه ومواعظه عامّة، ومنشأ ذلك: هو أنّ التقوى أساس التعبّد، وأصل الطاعة، وبها تؤتى الأعمال على أتمّ الوجوه.

 

حقيقة التقوى:

ولقد كان من أهمّ ما دعا إليه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بعد الدعوة إلى الايمان والإسلام، الدعوة إلى التقوى، وجعلها معيار التفاضل بين المسلمين حيث يقول: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى»(1).

وبقوله تعالى: (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)[الحجرات : 13].

وقضى (صلى الله عليه وآله) كلّ أيّامه وهو ينصح المؤمنين بالتزامها والتزوّد منها، حيث يقول تعالى: (وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى واتّقون يا أُولي الألباب) [البقرة : 197 ]وجاء القرآن مليئاً بالآيات التي تدعو إلى التقوى ـ كما سبق لنا أن أشرنا إلى ذلك في الفصل الثالث من هذا الكتاب ـ وأخبرنا جلّ وعلا بأنّ جميع الأعمال التعبدية، لم تشرع إلاّ لتكون وسائل إلى التقوى، بما تطبعه في النفس من ملكة مراقبة الله، فتكون تقيّة نقيّة، راضية مرضية.

ولقدحسبهابعض الناس درجة في الصلاح لاتنال إلاّبالتفرّغ للصلوات،وملازمة المساجد، والانقطاع عن الدنيا، والزهد في كلّ ما فيها من الملذّات، ممّا يكون دليله في الظاهر الفقر والمسكنة، ولبس مرقوع الثياب، وهذا خطأ لا يقرّه الإسلام.

فالتقوى في اللغة مشتقّة من اتّقى فلاناً ـ أي حذره وخافه ـ فتقوى الله مخافته وتجنّب كلّ ما يغضبه.

وهي أثر الايمان الكامل بالله، وهي النتيجة الطبيعية التي يصل إليها كلّ من يؤمن بأنّ الله الذي خلقه وأبدع كلّ دقيقة في جسمه، قادر على تعذيبه عاجلا وآجلا، إذا هو أقدم على معصية واستهان بأوامره، كما يوقن بعلمه تعالى بكلّ شيء يصدر منه، بحيث يتصوّره مشرفاً عليه حتّى في خلواته، ورقيباً على جميع حركاته وسكناته، فيحمله هذا على محاسبة نفسه عن كلّ فعل، فلا يقدم على أيّ أمر فيه معصية خالقه أو الاضرار بمصالح عباده، وفي هذا يقول تعالى: (إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون) [الأعراف : 201].

وذكر الله العصاة بعلمه بكلّ ما يصدر منهم، وتوعّدهم بعذابه حيث قال: (أرأيت إن كذّب وتولّى  ألم يعلم بأنّ الله يرى  كلاّ لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية)[العلق 15-13] وأمرنا أن نتخيّر في أعمالنا ما ينفعنا في الحياة الأُخرى حيث قال: (يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون) [الحشر : 18].

 

خمس خصال للمتقين:

وأخبرنا الله جلّ وعلا بأنّه قد أعدّ الجنّة في الآخرة للمتّقين، ووصفهم لنا بأعمالهم المنبعثة عن قوّة ايمانهم بقلوبهم اشارةً إلى أنّ التقوى هي في الأُمور التي يشعر بها الإنسان في نفسه، فيدرك مبلغ قربه من ربّه ورضائه عنه، ولو لم تدلّ على ذلك مظاهره حيث يقول تعالى:

(وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتّقين  الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين  والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون  أُولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربّهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) [آل عمران : 136-133].

وهذا صريح في أنّ التقوى ليست بكثرة الصلاة والصوم وأمثالهما من العبادات الظاهرة، وليست هي بالتقشّف والدروشة، وإنّما تتحقّق بخمس خصال هي:

1 ـ حبّ البذل والانفاق في سبيل الله في حالتي الشدّة والرخاء.

2 ـ ضبط النفس ومقاومة هواها فيما يغضب مولاها.

3 ـ الأخذ بمبدأ التسامح والعفو عند القدرة.

4 ـ الاحسان إلى المسيء.

5 ـ مراقبة الله ودوام الخوف منه والرجوع إليه من أثر المعاصي بالندم والاستغفار، وعدم الاصرار على فعل السيّئات.

فالتقوى بهذا الاعتبار من الأُمور التي لا تمنع المسلم في هذه الحياة من العمل للدنيا، ولا تحرمه من التمتّع بملذّاتها المشروعة، ولا تفرض عليه مقاومة نفسه إلى حدّ المستحيل في ترك المعاصي كلياً، بل إنّما تدعوه فقط إلى مراقبة الله، والخوف منه والثقة به، والرجوع إليه بطلب الرحمة والغفران في كلّ وقت لا سيّما عند كلّ زلّة ومعصية.

ومن أجل هذا حرص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على أن يمكّن في قلوب أتباعه خوف الله، واليقين بقدرته على كلّ شيء إلى حدّ ينتفي معه الخوف من غيره تعالى، وحصر الأمل فيه جلّ وعلا دون سواه، باعتباره هو وحده صاحب السلطان المطلق، القادر على وقاية كلّ من يريد وقايته في كلّ مكروه، وينصر من يريد نصرته بما يملك من قوى خفيّة وظاهرة، حيث يقول تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون) [آل عمران : 102].

 

حق التقوى:

وحقّ التقوى هو خوف الله أكثر من كلّ ما سواه، وإلى هذا أشار تعالى بقوله: (أتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) [التوبة : 13].

وحقّ التقوى هو أن يؤثر الإنسان عفو الله وغفرانه وثوابه في الآخرة عن كلّ شيء في الدنيا، بل يتحمّل في سبيل ذلك مرّ العذاب، ولذلك امتدح الله في كتابه أُولئك السحرة الذين آمنوا بالله ايماناً لم يبالوا معه بالجهر بعقيدتهم، برغم ما توعّدهم به فرعون من أنواع العذاب حيث:

(قالوا آمنّا بربّ هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنّه لكبيركم الذي علّمكم السحر فلأُقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأُصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا إنّا آمنّا بربّنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) [طه : 73-70].

 

نتيجة التقوى:

ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى ما يترتّب على التقوى وخوف الله، من مجانبة النفس للشهوات الممقوتة، وما يكون جزاءها على ذلك في الآخرة بقوله: (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى)[النازعات : 41-40]، (وأزلفت الجنّة للمتّقين غير بعيد هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) [ق : 33-31].

ولم يكتف الله بهذا في حضّ الناس على التقوى، بل إنّه تعالى أكّد لهم تخليص المتّقين في الدنيا من كلّ ما يعترضهم من مشاكل الحياة، وتيسير سبيل الرزق لهم من حيث لا يأملون، حيث يقول: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً  ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) [الطلاق : 4-3].

ذلك لأنّ التقوى معناه دوام ذكر الله تعالى ومراقبته في جميع الأحوال وحصر الأمل فيه، وهذا من شأنه أن يمنع الإنسان عن الاقدام على كلّ أمر يعصى الله به، ويضرّ أحداً من خلقه، ويجعله كريم الخلق والعادات، وكلّ هذا ممّا يسبّب عون الله للإنسان وتأييده في كلّ موقف، وشموله برحمته وحسن رعايته، وخوف الله يقتضي تجريد قلب الإنسان من خوف غيره، ويعود هذا عليه بأعظم الفوائد في هذه الحياة.

قرأت في كتاب: «الرعاية لحقوق الله»: وقد روي في الحديث: إنّ المنادي ينادي يوم القيامة: (يا عباد لاخوف عليكم اليوم ولاأنتم تحزنون) [الزخرف: 68 ]فترفع الخلائق رؤوسهم يقولون: نحن عباد الله عزّ وجلّ، ثمّ ينادي الثانية: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين)[الزخرف : 69] فينكس الكفار رؤوسهم، ويبقى الموحّدون رافعي رؤوسهم.

ثمّ ينادي الثالثة: (الذين آمنوا وكانوا يتّقون) [يونس : 63] فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قدأزال الكريم عنهم الخوف والحزن كما وعدهم، لأنّه أكرم الأكرمين لا يخف وليّه ولا يسلمه عند الهلكة.

* * *

إتخاذ القدوة الصالحة:

قوله (عليه السلام): «وَالاَْخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الاَْوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ».

أمره (عليه السلام) أن يتّخذ من سلفه الصالح قدوة يتّجه معهم حيثما اتّجهوا، وفيه واضح دلالة على أنّ من سبقوه من سلفه الطاهر، هم بمنزلة يصحّ أن يأمر مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده البارّ أن يقفو أثرهم، ويتّبع خطاهم في السلوك المرضيّ عند الله تعالى ولا غرو في ذلك.

فإنّ أعظم من يقتدى به من أُولئك الأطهار، هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين نفسه، وسروات المجد من هاشم، كشيخ الأُمّة وأبي الأئمّة وسيّد الأبطح أبي طالب ـ  سلام الله عليه ـ .

 

لمحة عن شخصية أبي طالب:

فقد كان ممّن انتهت إليه الوصاية من لدن الأنبياء.

فنهض بعبء الدعوة الإلهية في ظعنه وإقامته، ولم يأل جهداً في مكافحة الزندقة وعبّاد الأوثان، فهو رجل الايمان، ومثال التقوى، لم يعبد صنماً قط، ولا جنح إلى باطل يوماً ما، بالرغم ممّا تحذلق به بعض المؤرّخين المغرضين، أهل الأحن والأضغان، الذين لم يجدوا طريقاً لعليّ (عليه السلام) أن يصموه بكلّ نقيصة، فاتّجهوا نحو أبيه فوصموه بما هو منه براء من عبادة الأوثان، وسوق القرابين إليها إذا أصابه جدب.

والمأثور من شعره الرائع ونثره البليغ، ما فيه دلالة واضحة على تأصّل التوحيد في أعماق نفسه، وتغلغل الروح الإسلامية فيه، وبهذه المناسبة استعرض أبياتاً لشيخنا الحجّة العلم الأوحد المجاهد دون الحقّ ببيانه ولسانه الشيخ محمّد على الأُردبادي ـ حفظه الله ـ قالها في رجل الايمان أبي طالب (عليه السلام):

بشيخ الأبطحين فشا الصلاح *** وفي أنواره زهت البطاح

براه الله للتوحيد عضباً *** يلين به من الشرك الجماح

وعمّ المصطفى لولاه أضحى *** حمى الإسلام نهباً يستباح

نضاً للدين منه صفيح عزم *** عنت لمضاءه القضب الصفاح

وأشرع للهدى بأساً مريعاً *** تحطّم دونه السمر الرماح

وأصحر بالحقيقة في قريض *** عليه الحقّ يطفح والصلاح

صريخة هاشم في الخطب لكن *** تزم لنيله الابل الطلاح

أخو الشرف الأثيل أقام أمراً *** حداه لمثله الشرف الصراح

فلا عاب يدنسه ولكن *** غرائز ما برحن به سجاح

فعلم زانه خلق كريم *** ودين فيه مشفوع سماح

ومنه الغيث إمّا عمّ جدب *** وفيه الغوث إن عنّ الصباح

وصفو القول أنّ أبا علي *** له الدين الأصيل ولا براح

ولكن لابنه نصبوا عداءاً *** وما عن حيدر فضل يزاح

فنالوا من أبيه وما المعالي *** لكلّ محاول قصداً يتاح

وضوء البدر أبلج لا يوارى *** وإن يك حوله كثر النباح

(وهبني قلت هذا الصبح ليل) *** أهل يخفى لذي العين الصباح

فدع بمتاهة التضليل قوماً *** بمرتبك الهوى لهم التياح

فذا شيخ الأباطح في هداه *** تصافقه الامامة والنجاح

أبو الصيد الأكارم من لوي *** مقاديم جحاجحة وضاح

لهم كأبيهم إن جال سهم *** لأهل الفضل فائزة قداح

أجل إنّ ايمان أبي طالب (عليه السلام) أجلى من أن يعتريه شكّ أو ريب، وإنّما الشكّ جاء من مرض القلوب وعمى البصائر، وهذا المرض الدفين وتلك العماية البارزة، هما اللذان دفعا بالأُمم السابقة لمقاومة الأنبياء باليد واللسان، وجهّزا لقريش والعرب جنوداً تطوّعت لحرب النبي الأمين (صلى الله عليه وآله) حتّى أرغمها الله بسيف أمير المؤمنين (عليه السلام)، فخضعت لكلمتي الشهادة طوعاً وكرهاً، ورغبةً ورهبة.

ولكن ما زالت تلك الأمراض مستولية على القلوب، والعمى آخذ بالبصائر، غير أنّ السيف حاجز عن اظهار ما في القلوب والنفوس، ولما وجدوا الفرصة بموت النبي (صلى الله عليه وآله) انتهزوها للوثبة، فأظهروا حسيكة النفاق، واستمرّوا على الانقلاب، يقاومون الحقّ وأهله، فمن يوم السقيفة إلى يوم الشورى، إلى يوم البصرة، إلى يوم صفّين، إلى يوم النهروان.

أين أنت عن يوم الطفّ الذي تجلّت فيه الضلالة، أَخفي على القوم أنّه ابن بنت رسول الله وسبطه، وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنّة؟ أفهل أنكر عليه أحد يوم احتجّ عليهم بملابسه وشمائله، إذ قال لهم هل تعلمون أنّ هذه عمامة جدّي رسول الله أنا لابسها؟ قالوا: اللّهمّ نعم ... .

ولكن ما قادهم لحربه إلاّ الضغائن والأحقاد، والطلب بثارات بدر وتلك المواقف، وأنا لا أدري أكان الطفل الرضيع صاحب الثار حتّى ينتقموا منه، أو النساء المخدّرات حتّى ينتصفوا منها بسلب الأبراد ونهب الرحال.

 

الدليل على إيمان أبي طالب (عليه السلام):

وكيفما قلت سنتلو عليك الدليل المفصّل في اسلام أبي طالب (عليه السلام) ولا تخرج بما سنسجّله عن المروي في كتب أهل السنّة، ولا ننقل إلاّ مقال علمائهم الأعيان، وفقهائهم المتبحرين، فقد عدّوه من أكابر الصحابة وفضلائهم، وخذ ما أورده العلماء المتتابعون على تكفيره، اصراراً وعناداً وستراً لوجه الحقيقة.

فمن تلك المصرّحات بخلوص ايمانه أشعاره الرائقة، وخطبه الفائقة التي في جميعها يقول: أنا مسلم ومؤمن بنبوّة ابن أخي محمّد، ومصدّق بدعواه، وأثق انّ ما جاء به هو حق، وأنّه من عند الله، وأنّ الله ابتعثه، وانّ دينه من خير الأديان.

نقل ابن أبي الحديد في شرحه مجلد 3 : 315 قوله:

يا شاهد الله علي فاشهد *** انّي على دين النبي أحمد

من ضلّ في الدين فإنّي مهتد

وقوله ينعى على قريش القطيعة، ويحذّرهم الحرب:

تطاول ليلي لأمر نصب *** ودمع كسح السقاء السرب

للعب قصي بأحلامها *** وهل يرجع الحلم بعد اللعب

وقالوا لأحمد أنت امرؤ *** خلوف الحديث ضعيف السبب

وإن كان أحمد قد جاءهم *** بصدق ولم يأتهم بالكذب

فكيف يكون الإسلام؟ وبماذا يعرف الايمان؟ وهل بين قوله ـ وإن كان أحمد قد جاءهم بصدق ولم يأتهم بالكذب ـ وبين قول المسلم: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، فرق عند ذي اللبّ والمعرفة الذي ينهى النفس عن الهوى، ويتنكّب سبل الردى؟

وقوله يخاطب قريشاً في القطيعة أيضاً:

وبلغ على الشحناء أفناء غالب *** لوياً وتيماً عند نصر العرائم

ألم تعلموا أنّ القطيعة مأثم *** وأمر بلاء قاتم غير حازم

وإنّ سبيل الرشد يعرف في غد *** وإنّ نعيم اليوم ليس بدائم

فقوله: «وإنّ سبيل الرشد يعرف في غد» يريد يوم القيامة، وقوله: «وإنّ نعيم اليوم ليس بدائم» يريد نعيم الدنيا ليس بدائم ونعيم الآخرة دائم، وهذا إذا تأمله منصف رآه اقراراً صريحاً من أبي طالب (عليه السلام)، بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)من القيامة والبعث والنشور، والثواب والعقاب وغير ذلك من أُمور الآخرة، ألا ترى إلى قوله: «إنّ القطيعة مأثم» والاثم هو ما يجازى عليه في الآخرة.

وإنّ أُمية بن خلف الجمحي جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بعظم نخر فسحقه في وجهه وقال: أنت تزعم يا محمّد أنّ هذا العظم يعود حيّاً، تكذيباً لما جاء به الرسول، فأنزل الله تعالى فيه: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يُحيِ العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم)[يس : 78 ـ 79](2).

وأبو طالب ـ سلام الله عليه ـ صرّح في هذه الأبيات وغيرها بالاقرار بالبعث بخلاف ما عند القوم، ومنها قوله:

فلا تسفهوا أحلامكم في محمّد *** ولا تتبعوا أمر الغواة الأشائم

يمنونكم أن تقتلوه وإنّما *** أمانيكم تلكم كأحلام نائم

فإنّكم والله لا تقتلونه *** ولما تروا قطف اللحى والجماجم

ولم تصر الأموات منكم ملاحماً *** تحوم عليها الطير بعد ملاحم

وتدعو بأرحام أواصر بيننا *** وقد قطع الأرحام وقع الصوارم

ونسموا بخيل نحو خيل تحثّها *** إلى الروع أولاد الكماة القماقم

أخلتم بأنّا مسلمون محمّداً *** ولمّا نقاذف دونه ونزاحم

من القوم مفضال أبي على العدى *** تمكّن في الفرعين من آل هاشم

أمين محبّ في العباد مسوّم *** بخاتم ربّ قاهر للخواتم

يرى الناس برهاناً عليه وهيبة *** وما جاهل في فعله مثل عالم

نبيّ أتاه الوحي من عند ربّه *** فمن قال لا يقرع بها سنّ نادم

أفلا ينظر العاقل وذو الحلم الرصين إلى هذا الاقرار بالنبوّة، وتوحيد الربّ جلّت عظمته في قوله: «أتاه الوحي من عند ربّه» ومن أين يعرف الكفّار الوحي، ثمّ يقول في هذه الأبيات: «فمن قال لا يقرع بها سنّ نادم» يريد أنّ من لا يقرّ بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) يندم إذا شاهد عذاب الله.

وقوله: «محبّ في العباد مسوّم» يريد أنّه (صلى الله عليه وآله) موسوم بخاتم النبوّة الذي كان بين كتفيه، وقلّما ذكره (صلى الله عليه وآله) أحد من شعراء المسلمين في شعر، إلاّ وذكر الخاتم وقريشاً ودعاهم إلى الإسلام، فمن ذلك قول الشاعر:

وآمنوا بنبيّ لا أباً لكم *** ذي خاتم صاغه الرحمن مختوم

وقول ابن الزبعري للنبي (صلى الله عليه وآله) حين أسلم بعد العداوة والمضاغنة والمباينة والمكاشفة:

وعليك من نور الإله دلالة *** وجه أغرّ وخاتم مختوم

فهل فوق هذا الاقرار إقرار، وبعد هذا الايمان ايمان، وهل يسع مسلم يسمع هذا الاقرار بنبوّة محمّد من أحد الكفّار، ولا يجري عليه أحكام المسلمين ويخرجه من جملة الكافرين، وإن لم يكن في الإسلام ذا بلاءً عظيم وعناء جسيم.

وقوله (عليه السلام) يذكّر أمر الصحيفة الذي ذكرناه:

ألا من لهمّ آخر الليل منصب *** وشعب العصا في قومك المتشعب

إلى قوله:

فأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً *** على سخط من قومنا غير متعب

وهل يكون اقرار بالرسالة، أو ايمان بالنبوّة أبلغ من هذا، ولكن العناد يمنع من اتّباع الحق، ويصدّ عن قول الصدق، ومن يكون بمنزلة أبي طالب (عليه السلام) من البصيرة في الأُمور والعقل الغزير، ويعلم أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) نبيّ مقرّب، ويقرّ له بذلك في شعره، كيف يتقدّر منه أن يكفر به، وهذا هو العناد العادل عن سبيل الرشاد.

وقوله لما غضب لعثمان بن مظعون عندما عذّبته قريش:

ألا يرون أقلّ الله خيرهم *** أنّا غضبنا لعثمان بن مظعون

ونمنع الضيم من يرجو مضيمتنا *** بكلّ مطرد في الكفّ مسنون

ومرهفات كأنّ الملح خالطها *** نشفي بها الداء من هام المجانين

حتّى تقرّ رجال لا حلوم لهم *** بعد الصعوبة بالأسماح واللين

إلى قوله:

أو يؤمنوا بكتاب منزل عجب *** على نبيّ كموسى أو كذي النون

فعجباً للبصير كيف يتعامى عندما يقرأ هذه الأبيات، ويرى اقرارأبي طالب (عليه السلام)بالكتاب، وأنّه منزل عجب، كما قال تعالى حاكياً عن مؤمني الجنّ حين سمعوا القرآن: (إنّا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنّا به) [الجن : 1 و2].

وإلى قوله: «على نبيٍّ كموسى أو كذي النون» فسبحان الله من أين يعرف الجاهلي موسى ويونس (عليهما السلام) ، ومن أين يعرف الكتاب المنزل، وهل يؤمن بأنبياء الله تعالى ورسله وكتبه من يشرك به، إنّ هذا إلاّ هوىً قاهر، وعناد ظاهر.

ثمّ ما كفى أبا طالب صريح الاقرار ومحض الايمان، حتّى حثّ المشركين على اتّباعه، والايمان به، فأمر ولده أن يؤمنوا به، ويصدّقوه ويصلّوا خلفه، ولا يؤمن هو به، وهو ذو الحلم الرصين، والعقل المتين، وهذا هو المحال الذي لا يخفى على أرباب الحجال.

قال أبو ضوء بن صلصال: «كنت أنصر النبي (صلى الله عليه وآله) مع أبي طالب قبل اسلامي فإنّي يوماً لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدّة القيظ، إذ خرج أبو طالب إليّ شبيهاً بالملهوف، فقال لي: يا أبا الغضنفر، هل رأيت هذين الغلامين ـ يعني النبي وعلياً ـ ؟ فقلت: ما رأيتهما مذ جلست، فقال: قم بنا في الطلب فلست آمن قريشاً أن تكون اغتالتهما.

قال: فمضينا حتّى خرجنا من أبيات مكة، ثمّ صرنا إلى جبل من جبالها، فاسترقبناه إلى قلّته فإذا النبي (صلى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام)عن يمينه، وهما قائمان بازاء عين الشمس يركعان ويسجدان.

فقال أبو طالب (عليه السلام) لجعفر ابنه وكان معنا: صلّ جناح ابن عمّك، فقام جنب علي، فأحسّ بهما النبي (صلى الله عليه وآله) فتقدّمهما وأقبلوا على أمرهم حتّى فرغوا ممّا كانوا فيه، ثمّ أقبلوا نحونا فرأيت السرور يتردّد في وجه أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ انبعث يقول:(3)

إنّ علياً وجعفراً ثقتي *** عند ملمّ الزمان والنوب

لا تخذلا وانصرا ابن عمّكما *** أخي لأُمّي من بينهم وأبي

والله لا أخذل النبي ولا *** يخذله من بني ذو حسب

قال القاضي دحلان في «أسنى المطالب»: فلولا أنّه مصدّق بدينه، لما رضي لبنيه أن يكونا معه، وأن يصلّيا معه، بل ولا كان يأمرهما بالصلاة، فإنّ عداوة الدين أشدّ العداوات كما قيل:

كلّ العداوة قد ترجى إماتتها *** إلاّ عداوة من عاداك في الدين

ثمّ قال: فهذه الأخبار كلّها صريحة في أنّ قلبه طافح وممتلئ بالايمان بالنبي (صلى الله عليه وآله)، وللسائل أن يسأل كيف أمر أبو طالب ابنه جعفراً بالصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يصلّ هو، إذا قلتم: إنّه كان بالله مؤمناً وبرسوله، قلنا: إنّما منعه من ذلك مراقبته لصاحبه الذي جاء معه، ونصره وآزره، لئلاّ يحرفه عنه استبقاءً لنصرته، وحفظاً لمساعدته، ليقوى أمر النبي (صلى الله عليه وآله)، وتنتشر دعوته، وتشيع كلمته.

ألا ترى أنّ صاحبه الذي جاء معه ينصره، كيف روى في حديثه انّه كان ينصر النبي مع أبي طالب (عليه السلام) وهو بعد لم يسلم، فلم يأمن أبو طالب إذا صلّى ظاهراً أن يفشي صاحبه أمره في جميع أنصاره وأعوانه، وعامّتهم مقيم على الشرك، متظاهر بالكفر، فيصيرون يداً عليه، ويوجهون عداوتهم إليه، ويفسد عليه أُموره، ويبطل تدبيره، لأنّه (عليه السلام)كان يخادع القوم لتقوى شوكة رسول الله، ويظهر دين الله.

وقال يأمر أخاه حمزة بن عبد المطّلب (قدس سره) بالاسلام، ويحضّه على نصر نبيّ الهدى:

فصبراً أبا يعلى على دين أحمد *** وكن مظهراً للدين وفقت صابرا

وحظّ من أتى بالدين من عند ربّه *** بصدق وحق لا تكن حمز كافرا

فقد سرّني إذ قلت أنّك مؤمن *** وكن لرسول الله في الله ناصرا

ونادي قريشاً بالذي قد أتى به *** جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا

لم يكفه (عليه السلام) أمره لأخيه بالصبر على عداوة قريش والنصر للنبي (صلى الله عليه وآله) حتّى أمره باظهار الدين والاجتهاد في حياطته، والدفاع عن بيضته، ثمّ شهد لأخيه حمزة أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) أتى بالدين من عند ربّه بصدق وحقّ، وحذّره الكفر في قوله: «لا تكن حمز كافرا».

ثمّ يقول له: «قد سرّني إذ قلت أنّك مؤمن» فتراه يسرّ لأخيه بالايمان، ويختار لنفسه الكفر الموجب لغضب الجبّار والخلود في النار، وهل يتصوّر مثل هذا من ذي عقل، وهل يعلم الإسلام بشيء أبين من هذا؟! ولكن العناد يصدّ عن سلوك نهج الرشاد.

وقوله (عليه السلام) يمدح النجاشي، وذلك لمّا حلّ جعفر ومن معه من المسلمين بساحته، واستقوا من روايته، لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله)لما كثر أصحابه وظهر أمره، اشتدّ على قريش ذلك، وأنكر بعضهم على بعض، وقالوا قد أفسد محمّد بسحره سفلتنا، وأخرجهم عن ديننا، فلتأخذ كلّ قبيلة من فيها من الصباة، ولتعذّبه حتّى يعود عمّا علّق به من دين محمّد (صلى الله عليه وآله).

وكانت كلّ قبيلة تعذّب من فيها من المسلمين، فيأخذ الأخ أخاه وابن العمّ ابن عمّه فيشدّه ويوثقه كتافاً، ويضربه ويخوفه وهم لا يرجعون، حتّى أنزل الله تعالى على نبيّه: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) [النساء : 97] فخرج جماعة من المسلمين إلى الحبشة، يقدمهم جعفر بن أبي طالب، فنزلوا على النجاشي ـ ملك الحبشة ـ فأقاموا عنده في كرامة ورفيع منزلة وحسن جوار.

وعرفت قريش ذلك فأرسلوا إلى النجاشي عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، فلمّا قدما على النجاشي في رهط من أصحابهما، فتقدّم عمرو فقال: أيّها الملك إنّ هؤلاء قوم من سفهائنا صباة، قد سحرهم محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب، فادفعهم عنك فإنّ صاحبهم يزعم أنّه نبيّ قد جاء بنسخ دينك ومحو ما أنت عليه، فلم يلتفت النجاشي إلى قوله، ولم يحفل بما أرسلت به إليه قريش، وجرى على اكرام جعفر وأصحابه، وزاد في الاحسان، بلغ ذلك أبا طالب فقال يمدحه:(4)

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر *** وعمرو وأعداء النبي الأقارب

وهل نال إحسان النجاشي جعفراً *** وأصحابه أم عاق ذلك شاغب

تعلم خيار الناس إنّك ماجد *** كريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلم بأنّ الله زادك بسطةً *** وأسباب خير كلّها لك لازب

فلمّا بلغت الأبيات النجاشي سرّ بها سروراً عظيماً، ولم يكن يطمع أن يمدحه أبو طالب بشعر، فزاد من اكرامهم، وأكثر من اعظامهم، فلمّا علم أبو طالب (عليه السلام)بسرور النجاشي، قال يدعوه إلى الإسلام، ويحثّه على اتّباع النبي (صلى الله عليه وآله):

تعلم خيار الناس أنّ محمّداً *** وزير لموسى والمسيح بن مريم

أتى بالهدى مثل الذي أتيا به *** فكلٌّ بأمر الله يهدي ويعصم

وإنّكم تتلونه في كتابكم *** بصدق حديث لا حديث المترجم

فلا تجعلوا لله ندّاً وأسلموا *** فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم(5)

فمن أنصف الحقّ، وترك العناد، ونظر إلى هذه الشهادة لمحمّد (صلى الله عليه وآله) من عمّه وكافله، أنّه وزير لموسى والمسيح (عليه السلام)، وأنّه أتى بالهدى مثل الذي أتيا به، أيقن يقيناً لا شكّ فيه، أنّه ايمان محض بالنبيّين، واعتراف بما جاؤوا به من الهدى، فهل فوق هذا تصديق، وأعظم منه تحقيق، ثمّ يقول: فلا تجعلوا لله ندّاً وأسلموا.

أليس هذا أمراً صريحاً منه بالتوحيد لله تعالى، والإسلام الذي جاء به ابن أخيه، ثمّ يقول: «فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم»، فياليت شعري من يرى طريق الحقّ ليس بمظلم، وأنّه واضح وهو سديد عاقل، كيف يختار الضلال والشرك، نعوذ بك اللّهمّ من اتّباع الهوى المورد لظى النار، والموجب لغضبك، اللّهمّ انتقم ممّن ظلم عمّ رسولك وافترى عليه، ونسب إليه ما هو بريء منه.

 

نبذة من أشعاره في التوحيد:

وأمّا أشعاره المتضمّنة إقراره بالتوحيد لله تقدّست أسماؤه، فهي مسطورة في كتب العلماء، وتعاليق الأُدباء، كثيرة لا يبلغ مداها، ولا يحصر منتهاها، ونحن نذكر منها نبذة وجيزة، وأبياتاً قليلة، كراهية الاطناب، فمنها قوله (عليه السلام):

مليك الناس ليس له شريك *** هو الجبّار والمبدي المعيد

ومن فوق السماء له بحقّ *** ومن تحت السماء له عبيد

وقوله:

لا تيأسنّ إذا ما ضقت من فرج *** يأتي به الله في الروحات والدلج

فما تجرع كأس الصبر معتصم *** بالله إلاّ سقاه الله بالفرج

روي عن الحسن بن جمهور القمي البصري يرفعه قال: أنشد عمر بن الخطّاب قول زهير بن أبي سلمى:

فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكم *** ليخفى ومهما تكتم الله يعلم

يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر *** ليوم الحساب أو يعجّل فينقم

فقال عمر: ما رأيت جاهلياً أعلم بالحكم من زهير، ولو قلت إنّ شعره شعر مؤمن يدخل الجنّة لإقراره بالبعث والنشور لقلت حقّاً.

فيا لله وللمسلم، ألا يرى اللبيب أنّ من أعجب العجيب أنّ عمر بن الخطّاب يسمع بيتي شعر لزهير، في أحدهما ذكر الحساب فيقطع له بالجنّة، ولا يرتاب مع شهادته عليه أنّه جاهلي، لم يدرك الإسلام ولم يعرف الايمان، وهذا أبو طالب (عليه السلام)ابن عبد المطّلب له ديوان شعر يضاهي شعر زهير في الكثرة أو يزيد عليه، يتضمّن جميعه الاقرار بالرسول (صلى الله عليه وآله) والتصديق له، والحثّ على اتّباعه والتوحيد لله وذكر المعاد والحساب.

قال ابن شهر آشوب في كتابه «متشابه القرآن» في ضمن تفسير قوله تعالى: (ولينصرنّ الله من ينصره) [الحج : 40] ما هذا لفظه: إنّ أشعار أبي طالب الدالّة على ايمانه، تزيد على ثلاثة آلاف بيت، يكاشف فيها من يكاشف النبي (صلى الله عليه وآله)، ويصحّح نبوّته، ثمّ أورد جملةً وافية منها(6).

وأهل العصبية الباطلة، والحمية الفاسدة يجعلونه من الكفّار الخالدين في النار، ولا يتدبّرون ما يؤثرون من أخباره الشاهدة بايمانه، ولا يتفكّرون فيما يروونه من أشعاره الناطقة باسلامه.

 

فقهاء المذاهب يفتون بكفر من أبغض أبي طالب:

وشتّان بين جعله من الكفّار الخالدين في النار، وبين إفتاء جماعة من أعلامهم بكفر من أبغضه ومن ذكره بمكروه، لأنّ ذلك أذيّةً للنبي.

قال مفتي الشافعية العلاّمة الدحلاني في كتابه «أسنى المطالب» ص60 ما هذا لفظه: ذكر الإمام أحمد بن الحسين الموصلي الحنفي المشهور بابن وحشي في شرحه على الكتاب المسمّى بـ «شهاب الأخبار» للعلاّمة ابن سلامة القضاعي: «إنّ بغض أبي طالب كفر».

ونصّ على ذلك أيضاً من أئمّة المالكية العلاّمة علي الأجهوري في «فتاويه»، والتلمساني في «حاشيته على الشفا» فقال عند ذكر أبي طالب: «ولا ينبغي أن يذكر إلاّ بحماية النبي (صلى الله عليه وآله) لأنّه حماه ونصره بقوله وفعله، وفي ذكره بمكروه أذيّةً للنبي (صلى الله عليه وآله)، ومؤذي النبي كافر يُقتل».

وقال أبو طاهر: «من أبغض أبا طالب فهو كافر» والحاصل أنّ ايذاء النبي (صلى الله عليه وآله)كفر يُقتل فاعله إن لم يتب، وعند المالكية يُقتل وإن تاب، ـ إلى أن قال: ـ وكثيراً من الأولياء العارفين من أرباب الكشف قالوا بنجاة أبي طالب، منهم القرطبي، والسبكي، والشعراني، وخلائق كثيرون وقالوا: هذا الذي نعتقده وندين الله به.

ـ ثمّ قال: ـ فقول هؤلاء الأئمّة بنجاته أسلم للعبد عند الله تعالى، وهؤلاء إنّما حكموا بنجاته من حيث أنّه مات مسلماً، فكيف يتقدّر للإنسان بعد هذا أن يعرف الحقّ ويعدل عنه معانداً، ويلقى الله بعد معرفته جاحداً.

وإذا رجع الخصم إلى شعر أبي طالب (عليه السلام) محلّلا منه نفسيّته ومستكشفاً منه ميله وهواه، لوجده أصدق شاهد على اسلام شيخ الأبطح، وانقياده إلى هذا الدين، بل لوجد روح الايمان الصادق تتجلّى له من خلال أبياته، وتلوح لعينيه ظاهرة بين فجواته ومنعرجاته.

هذا شيخ الأبطح بملأ فيه منادياً كما مرّ: «يا شاهد الله عليّ فاشهد»، ونداؤه أيضاً:

ولقد علمت بأنّ دين محمّد *** من خير أديان البريّة دينا

حقاً إن لم يكن هذا صريحاً في الايمان فلا أقل انّه صريح في إلقاء السلم كما لا يخفى، وإلاّ فما الذي حدا أمنع الناس داراً، وأعزّهم جواراً أن يهتف بهذا النداء، ويشهد الله على ما يقول سوى الانقياد لمحمّد (صلى الله عليه وآله)، ففي هذه الجمهرة من شعره ما يكفي لافلاج حجة الخصم، وإقامة الحجّة عليه فيما تمحل له من التشكيك في ايمان شيخ الأبطح(7).

* * *

الأخذ بالمعارف:

قوله (عليه السلام): «فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لاَِنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الاَْخْذِ بِمَا عَرَفُوا، وَالاِْمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا».

أجل فإنّهم لم يقتصروا على التقليد في مسائل الفقه، بل نظروا لأنفسهم، وتأمّلوا أدلّة الشرع الشريف، ودقّقوا فيها، فأخذوا بما عرفوا وعملوا بما استنبطوا، بمعنى أنّهم اجتهدوا فعملوا باجتهادهم، وأراحوا أنفسهم من مرحلة التقليد التي هي اليوم من أصعب المراحل.

 

الاجتهاد والتقليد:

يعتقد الامامية، أنّ لله بحسب الشريعة الإسلامية في كلّ واقعة حكماً حتّى أرش الخدش، وما من عمل من أعمال المكلّفين من حركة أو سكون، إلاّ ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والاباحة.

وما من معاملة على مال أو عقد نكاح ونحوهما، إلاّ وللشرع فيه حكم صحّة أو فساد، وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نبيّه خاتم الأنبياء، وعرفها النبي بالوحي من الله أو الالهام، ثمّ انّه ـ سلام الله عليه ـ حسب وقوع الحوادث أو حدوث الوقائع وحصول الابتلاء، وتجدّد الآثار والأطوار، بيّن كثيراً منها للناس، وبالأخصّ لأصحابه الحافّين به الطائفين كلّ يوم بعرش حضوره، ليكونوا هم المبلّغين لسائر المسلمين في الآفاق، (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)[البقرة : 143].

وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعي والبواعث لبيانها، أمّا لعدم الابتلاء بها في عصر النبوّة، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها، والحاصل أنّ حكمة التدريج اقتضت بيان جملة من الأحكام وكتمان جملة، ولكنّه ـ سلام الله عليه ـ أودعها عند أوصيائه، كلّ وصي يعهد به إلى الآخر لينشره في الوقت المناسب له، حسب الحكمة من عام مخصّص أو مطلق مقيّد، أو مجمل مبيّن إلى أمثال ذلك، فقد يذكر النبيّ عامّاً ويذكر مخصّصه بعد برهة من حياته، وقد لا يذكره أصلا بل يودعه عند وصيّه إلى وقته.

ثمّ انّ الأحاديث التي نشرها النبي في حياته، قد يختلف الصحابة في فهم معانيها على حسب اختلاف مراتب أفهامهم وقرائحهم، (أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها)[الرعد : 17].

ولكن تأخذ الأذهان منه *** على قدر القرائح والفهوم

ثمّ انّ الصحابي قد يسمع من النبي في واقعة حكماً ويسمع الآخر في مثلها خلافه، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين، وغفل أحدهما عن الخصوصية، أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث، فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً ولا تنافي واقعاً.

ومن هذه الأسباب وأضعاف أمثالها احتاج حتّى نفس الصحابة، الذين فازوا بشرف الحضور في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد والنظر في الحديث، وضمّ بعضه إلى بعض، والالتفات إلى القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر ومراد النبي خلافه، اعتماداً على قرينة كانت في المقام، والحديث نُقل والقرينة لم تنقل، وكلّ واحد من الصحابة ممّن كان من أهل الرأي والرواية ـ إذ ليس كلّهم كذلك بالضرورة ـ ، تارةً يروي نفس ألفاظ الحديث للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راو ومحدّث، وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات بحسب نظره واجتهاده، فهو في هذا الحال مفت وصاحب رأي، وأهل هذه الملكة مجتهدون، وسائر المسلمين الذين لم يبلغوا إلى تلك المرتبة إذا أخذوا برأيه مقلدون.

وكان كلّ ذلك قد جرى في زمن صاحب الرسالة وبمرأى منه ومسمع، بل ربّما أرجع بعضهم إلى بعض على أنّ الناس من هذا بازاء أمر واقع لا محالة.

وإذا أنعمت النظر في ما ذكرناه، اتّضح لديك أنّ باب الاجتهاد كان مفتوحاً في زمن النبوّة وبين أصحابه فضلا عن غيرهم، وفضلا عن سائر الأزمنة التي بعده، نعم غايته أنّ الاجتهاد يومئذ كان خفيف المؤنة جدّاً لقرب القرائن، وامكان السؤال المفيد للعلم القاطع.

ثمّ كلّما بعد العهد من زمن الرسالة، وتكثرت الآراء واختلطت الأعارب بالأعاجم، وتغيّر اللحن، وصعب الفهم للكلام العربي على حاق معناه وتكثرت الأحاديث والروايات، وربّما دخل فيها الدسّ والوضع، وتوفّرت دواعي الكذب على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي يصعب ويحتاج إلى مزيد مؤنة واستفراغ وسع، وجمع بين الأحاديث، وتمييز الصحيح منها من السقيم، وترجيح بعضها على بعض.

وكلّما بعد العهد وانتشر الإسلام، وتكثّرت العلماء والرواة ازداد الأمر صعوبة، ولكن مهما يكن الحال فباب الاجتهاد كان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) مفتوحاً، بل كان أمراً ضرورياً عند من يتدبّر، ثمّ لم يزل مفتوحاً عند الامامية إلى اليوم، والناس بضرورة الحال لا يزالون بين عالم وجاهل، وبسنّة الفطرة وقضاء الضرورة أنّ الجاهل يرجع إلى العالم، فالناس إذاً في الأحكام الشرعية بين عالم مجتهد، وجاهل مقلّد، يجب عليه الرجوع في تعيين تكاليفه إلى أحد المجتهدين، والمسلمون متّفقون أنّ أدلة الأحكام الشرعية منحصرة في الكتاب والسنّة، ثمّ العقل والاجماع، ولا فرق في هذا بين الامامية وغيرهم من فرق المسلمين.

 

خصائص مذهب الامامية:

ثمّ يفترق الامامية عن غيرهم هنا في أُمور:

منها: أنّ الامامية لا تعمل بالقياس، وقد تواتر عن أئمّتهم (عليهم السلام): «إنّ الشريعة إذا قيست محق الدين»(8) والكشف عن فساد العمل بالقياس يحتاج إلى فضل بيان لا يتّسع له المقام.

ومنها: انّهم لا يعتبرون من السنّة ـ أعني الأحاديث النبويّة ـ إلاّ ما صحّ لهم من طرق أهل البيت عن جدّهم ـ يعني ما رواه الصادق عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسين السبط، عن أبيه أمير المؤمنين، عن رسول الله سلام الله عليهم جميعاً ـ ، أمّا ما يرويه مثل أبي هريرة، وسمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وعمران بن حطان الخارجي، وعمرو بن العاص ونظائرهم، فليس لهم عند الامامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر، كيف وقد صرّح كثير من علماء السنّة بمطاعنهم، ودلّ على جائفة جروحهم.

ومنها: أنّ باب الاجتهاد ـ كما عرفت ـ لا يزال مفتوحاً عند الامامية، بخلاف جمهور المسلمين فإنّهم قد سدّ عنهم هذا الباب وأقفل على ذوي الألباب، وما أدري في أي زمان، وبأي دليل، وبأي نحو كان ذلك الانسداد، ولم أجد من وفى هذا الموضوع حقّه من علماء القوم، وتلك أسئلة لا أعرف من جواباتها شيئاً، والعهدة في ايضاحها عليهم.

وما عدا تلك الأُمور، فالامامية وسائر المسلمين فيها سواء لا يختلفون إلاّ في الفروع كاختلاف علماء الامامية أو علماء السنّة فيما بينهم من حيث الفهم والاستنباط.

والمراد بالمجتهد: من زاول الأدلّة واستفرغ وسعه فيها، حتّى حصلت له ملكة وقوّة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي من تلك الأدلّة، وهذا أيضاً لا يكفي في جواز تقليده، بل هناك شروط أُخرى ـ أهمّها العدالة ـ وهي: ملكة يستطيع معها الكفّ عن المعاصي، والقيام بالواجب، كما يستطيع من له ملكة الشجاعة اقتحام الحرب بسهولة بخلاف الجبان، وقصاراها أنّها حالة من خوف الله ومراقبته تلازم الإنسان في جميع أحواله، وهي ذات مراتب أعلاها العصمة التي هي شرط في الإمام.

ثمّ انّه لا تقليد ولا اجتهاد في الضروريات، كوجوب الصلاة والصوم وأمثالها ممّا هو مقطوع به لكلّ مكلّف، ومنكره منكر لضروري من ضروريات الدين، كما لا تقليد في أُصول العقائد كالتوحيد، والنبوّة، والمعاد، ونحوهما ممّا يلزم تحصيل العلم به من الدليل على كلّ مكلّف، فإنّها تكاليف علمية، وواجبات اعتقادية لا يكفي الظنّ والاعتماد فيها على رأي الغير (فاعلم أنّه لا إله إلاّ الله) [محمد : 19] وما عداها من الفروع فهو موضع الاجتهاد والتقليد.

وأعمال المكلّفين التي هي الموضوع لأحكام الشرع، يلزم معرفتها اجتهاداً أو تقليداً، ويعاقب من ترك تعلّمها بأحد الطريقين، لا تخلو امّا أن يكون القصد منها المعاملة بين العبد وربّه، فهي العبادات الموقوف صحّتها على قصد التقرّب بها إلى الله تعالى (بدنيّة) كالصوم والصلاة والحجّ، أو «مالية» كالخمس والزكاة والكفارات، أو «المعاملة» بينه وبين الناس، وهي امّا أن تتوقّف على طرفين كعقود المعاوضات والمناكحات، أو تحصل من طرف واحد كالطلاق والعتق ونحوهما، أو المعاملة مع خاصّة نفسه، ومن حيث ذاته كأكله وشربه ولباسه وأمثال ذلك.

والفقه يبحث عن أحكام جميع تلك الأعمال في أبواب أربعة: العبادات، المعاملات، الايقاعات، الأحكام.

 

العبادات الكبرى في الاسلام:

وأُمّهات العبادات ستّة: اثنتان بدنيّة محضة، وهي الصلاة والصوم، واثنتان مالية محضة، وهما الزكاة والخمس، واثنتان مشتركة على المال والبدن وهما الحجّ والجهاد (جاهدوا بأموالكم وأنفسكم) [التوبة : 41] أمّا الكفارات فعقود خاصة على جرائم مخصوصة.

الصلاة:

الصلاة عند الامامية بل عند عامة المسلمين عمود الدين، والصلة بين العبد والربّ ومعراج الوصول إليه، فإذا ترك الصلاة فقد انقطعت الصلة والرابطة بينه وبين ربّه، ولذا ورد في أخبار أهل البيت (عليهم السلام): «انّه ليس بين المسلم وبين الكفر بالله العظيم إلاّ ترك فريضة أو فريضتين»(9).

وعلى أيٍّ فإنّ للصلاة بحسب الشريعة الإسلامية مقاماً من الأهمية، لا يوازيه شيء من العبادات، واجماع الامامية على أنّ تارك الصلاة فاسق لا حرمة له، قد انقطعت من الإسلام عصمته، وذهبت أمانته، وحلّت غيبته، وأمرها عندهم مبني على الشدّة جدّاً، والواجب منها بحسب أصل الشرع خمسة أنواع: الفرائض اليومية، صلاة الجمعة، صلاة العيدين، صلاة الآيات، صلاة الطواف، وقد يوجبها المكلّف على نفسه بسبب من نذر أو يمين أو استئجار، وما عدا ذلك فنوافل.

وأهمّ النوافل عندنا «الرواتب» يعني رواتب اليوم والليلة، وهي ضعف الفرائض التي هي «سبع عشرة ركعة» فمجموع الفرائض والنوافل في اليوم والليلة عند الشيعة إحدى وخمسون، وخطر على بالي هنا ذكر ظريفة أوردها الراغب الاصفهاني في كتاب «المحاضرات» وهو من الكتب الممتعة، قال: كان بأصبهان رجل يقال له الكناني في أيّام أحمد بن عبد العزيز، وكان يتعلّم أحمد منه الإمامة، فاتّفق أن تطلّعت عليه أُمّ أحمد يوماً فقالت: يا فاعل جعلت ابني رافضياً، فقال الكناني: يا ضعيفة العقل الرافضة تصلّي كلّ يوم احدى وخمسين ركعة، وابنك لا يصلّي في كلّ أحد وخمسين يوماً ركعة واحدة، فأين هو من الرافضة(10).

ويليها في الفضل والأهمية نوافل شهر رمضان، وهي: ألف ركعة زيادة عن النوافل اليومية، وهي كما عند اخواننا من أهل السنّة سوى أنّ الشيعة لا يرون مشروعيّة الجماعة فيها (إذ لا جماعة إلاّ في فرض)، والسنّة يصلّونها جماعة، وهي المعروفة عندهم بالتراويح، وباقي الفرائض كالجمعة، والعيدين، والآيات وغيرها كبقيّة النوافل قد استوفت كتب الامامية بيانها على غاية البسط، وتزيد المؤلّفات فيها على عشرات الأُلوف، ولها أوراد، وأدعية، وآداب، وأذكار مخصوصة قد أفردت بالتأليف، ولا يأتي عليها الحصر والعدّ.

ولكن تتحصّل ماهية الصلاة الصحيحة عندنا شرعاً من أُمور:

الأوّل: الشروط: وهي أوصاف تقارنها، واعتبارات تنتزع من أُمور خارجة عنها، وأركان الشروط التي تبطل بدونها ستّة: الطهارة، الوقت، القبلة، الساتر، النيّة، أمّا المكان فليس من الأركان وإن كان ضرورياً، ويشترط إباحته وطهارة موضع السجود.

الثاني: أجزاؤها الوجودية ـ التي تتركّب الصلاة منها ـ وهي نوعان ركن تبطل بدونه مطلقاً وهي خمسة:

الأوّل: النيّة; وهي القصد لامتثال أمر المولى قربة إليه بتلك الصلاة المعيّنة، لأنّ الصلاة عبادة، والعبادة بلا نيّة كالجسم بلا روح، ويكفي فيها الداعي القلبي، ولا يعتبر فيها الاخطار بالبال ولا التلفّظ، فحال الصلاة وسائر العبادات حال سائر الأعمال والأفعال الاختيارية من حيث النيّة، نعم تزيد عليها باعتبار القربة فيها بأن يكون الداعي والمحرّك هو الامتثال والقربة، ولغايات الامتثال درجات:

1 ـ وهو أعلاها أن يقصد امتثال أمر المولى، لأنّه تعالى أهل للعبادة والطاعة، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»(11).

2 ـ أن يقصد به شكر نعم الله التي لا تُحصى.

3 ـ أن يقصد به تحصيل رضاه، والفرار من سخطه.

4 ـ أن يقصد به حصول القرب إليه.

5 ـ أن يقصد به الثواب ورفع العقاب، بأن يكون الداعي إلى إمتثال أمره رجاء ثوابه وتخليصه من النار، فهذه آداب يلزم حفظها ولفت النظر إليها، حتّى يكون العمل خالصاً لوجهه تعالى غير مشوب بشيء.

الثاني: تكبيرة الاحرام; وهي أوّل الأجزاء الواجبة للصلاة، وأن يأتي بها مقارناً للنيّة، وصورتها «الله أكبر» من غير تغيير ولا تبديل، ولا يجزي مرادفتها ولا ترجمتها بالعجمية أو غيرها.

الثالث: القيام حال تكبيرة الاحرام، والقيام المتّصل بالركوع; بمعنى أن يكون الركوع عن قيام، فلو كبّر للإحرام جالساً أو في حال النهوض بطل ولو كان سهواً، وكذا لو ركع لا عن قيام، بأن قرأ جالساً ثمّ ركع، أو جلس بعد القراءة أو في أثنائها وركع، أو نهض متقوّساً إلى هيئة الركوع القيامي، وكذا لو جلس ثمّ قام متقوّساً من غير أن ينتصب ثمّ يركع، ولو كان ذلك كلّه سهواً فبجميع صوره باطل، هذا لمن كان فرضه القيام، أو ما يقوم مقامه للعاجز عن القيام على حسب مراتب العجز.

الرابع: الركوع; وهو الانحناء المتعارف بقدر ما يمكنه من وضع أصابعه بل راحته على ركبتيه، وهو ركن تبطل الصلاة بتركه عمداً كان أو سهواً، وكذا بزيادته.

الخامس: السجود; وهو وضع الجبهة على الأرض أو على ما أنبتته، ممّا لا يؤكل ولا يُلبس، ووضع الكفّين والركبتين، ورؤوس أباهم الرجلين على الأرض، أو على ما هو مستقرّ عليها بقصد الخضوع لله سبحانه، ويسجد سجدتين في كلّ ركعة وهما معاً ركن في الصلاة.

فهذه الأركان الخمسة المعروفة بأركان الصلاة، وبقي هناك واجبات أُخر، وهي النوع الثاني من الأجزاء الوجودية، لكن الفرق بينها وبين الأركان، أنّ الأركان تبطل الصلاة بزيادتها ونقصانها عمداً أو سهواً، وتلك إنّما تبطل الصلاة بزيادتها أو نقصانها عن عمد ولا تبطل عن سهو، كالقراءة، والذكر، والتشهّد، والتسليم، والترتيب، والموالاة، فإنّها يمكن تداركها إذا زاد أو نقّص فيها عن سهو.

فينبغي للمرء حفظ هذه الأُمور واتقانها، لئلاّ يخلّ بشيء منها فتبطل صلاته وببطلان الصلاة بطلان جميع الأعمال، كما أنّ بقبولها قبول جميع الأعمال، وقد ورد في الحديث: «إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن ردّت رُدّ ما سواها»(12).

 

وصية الامام عليّ بالصلاة:

ولعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة في موضوع الصلاة، يحثّ الناس على حفظها والمسارعة إليها والاستكثار منها، بقوله:

«تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقرّبوا بها، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلّين، وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق، وتطلقها اطلاق الربق.

وشبّهها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحمّة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات فما عسى أن يبقى عليه من الدرن، وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرّة عين من ولد ولا مال، يقول الله سبحانه: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) [النور : 37]»(13).

يريد (عليه السلام) بقوله: «تعاهدوا أمر الصلاة» أي جدّدوا العهد بها وراقبوا عليها في أوقاتها المخصوصة ولا تضيّعوها ولا تغفلوا عنها، لأنّها عماد الدين، ومعراج المؤمنين، وقربان كلّ تقي ومؤمن نقي، وأوّل ما يحاسب به العبد، إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها، وقد ذمّ الله أقواماً توانوا عنها واستهانوا بأوقاتها، فقال: (فويل للمصلّين  الذين هم عن صلاتهم ساهون) [الماعون : 5-4] يعني أنّهم غافلون.

وقوله (عليه السلام): «وحافظوا عليها» أي على أوقاتها ورعاية آدابها وسننها وحدودها ومراسمها وشروطها وأركانها، فلقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من ترك صلاته متعمّداً فقد هدم دينه»(14).

وقال: «لا تضيّعوا صلاتكم فإنّ من ضيّع صلاته حشره الله مع قارون وفرعون وهامان، وكان حقّاً على الله أن يُدخله النار مع المنافقين، فالويل لمن لم يحافظ على صلاته»(15).

وقد أمر الله تعالى بمحافظتها في الكتاب العزيز بقوله: (حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين)[البقرة : 238] أي داوموا على الصلواة المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها، ثمّ خصّ الوسطى تفخيماً لشأنها فقال: (والصلوة الوسطى) وهي صلاة الظهر على الأظهر، وذلك لأنّها واقعة بين صلاتين بالنهار، ولأنّها في وسط النهار.

وإنّما خصّها الله تعالى وأكّد بالمحافظة عليها من دون غيرها من الصلاة، لأنّها أشدّ على الإنسان من بقيّة الصلاة، فهي تقع في شدّة الحرّ والهاجرة، وهي وقت شدّة تنازع النفس إلى النوم والراحة، فكانت بهذه المناسبة أشقّ على المرء «وأفضل العبادات أحمزها» وأيضاً الأمر بمحافظة ما كان أشقّ أنسب وأهم، لأنّها أوّل صلاة فرضت، ولأنّها في الساعة التي تفتح أبواب السماء فلا تغلق حتّى تصلّى الظهر ويُستجاب فيها الدعاء، جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): انّه كان يصلّي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلّي صلاة أشدّ عليه منها(16).

وقوله (عليه السلام): «واستكثروا منها»، فإنّها خير موضوع فمن شاء أقلّ منها ومن شاء أكثر، حدّث الإمام الصادق (عليه السلام)وقد ذُكرت عنده الصلاة فقال: «إنّ في كتاب علي (عليه السلام) الذي أملاه رسول الله (صلى الله عليه وآله): انّ الله لا يعذّب على كثرة الصلاة والصيام ولكن يزيد خيراً»(17).

وعنه (عليه السلام) قال: «أتى رسول الله رجل فقال: أُدع الله أن يدخلني الجنّة، فقال (صلى الله عليه وآله): أعنّي بكثرة السجود»(18).

وعن أبي جعفر العطّار قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول: «جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله كثرت ذنوبي وضعف عملي، فقال (صلى الله عليه وآله): أكثر السجود، فإنّه يحتّ الذنوب كما تحتّ الريح ورق الشجر»(19) وغيرها من الأخبار الحاثّة على استكثار الصلاة.

وقوله (عليه السلام): «وتقرّبوا بها فإنّها قربان كلّ تقي»، قال الإمام الرضا (عليه السلام): «الصلاة قربان كلّ تقي»(20).

وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم، فقال (عليه السلام): ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً)[مريم : 31](21)، ولمّا أمر (عليه السلام)بتعاهدها ومحافظتها والتقرّب بها، عقّب ذلك وعلّله بوجوه مرغبة.

أحدها قوله: «فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً» أي كانت على المؤمنين واجبة ومفروضة، وقيل معناه فرضاً موقوتاً أي منجماً يؤدّونها في أنجمها أي في أوقاتها.

عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله تعالى: (إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)[النساء : 103] قال: كتاباً ثابتاً، وليس إن عجّلت قليلا أو أخّرت قليلا بالذي يضرّك، ما لم تضيّع تلك الاضاعة فإنّ الله جلّ وعلا يقول لقوم:(أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً) [مريم : 59](22).

وتخصيص المؤمنين بها، لتحريضهم وترغيبهم على حفظها وحفظ أوقاتها حالتي الأمن والخوف، ومراعاة جميع حدودها في حالتي الأمن والايمان، وإنّ ذلك من مقتضى الايمان وشعار أهله فلا يجوز أن تفوتهم، وإنّ التساهل فيها يخلّ بالايمان.

الثاني: قوله (عليه السلام): «ألا تسمعون إلى جواب أهل النار» والغرض منه تنبيه المخاطبين على أنّ ترك الصلاة يوجب دخول النار، وسخط الجبّار، ليتحرّزوا من تركها ويحافظوا عليها، وذلك أنّ أهل النار حين سئلوا على ما حكى الله عنهم في سورة المدّثر بقوله:

(كلّ نفس بما كسبت رهينة  إلاّ أصحاب اليمين  في جنّات يتساءلون  عن المجرمين  ما سلككم في سقر  قالوا لم نكُ من المصلّين  ولم نكُ نطعم المسكين  وكنّا نخوض مع الخائضين  وكنّا نكذّب بيوم الدين) [المدّثر : 46-38].

فكلّ نفس بما كسبت رهينة، أي محبوسة بعملها، مطالبة بما كسبته من طاعة أو معصية، ثمّ استثنى سبحانه أصحاب اليمين، وهم الذين يعطوهم كتبهم بأيمانهم، وقوله تعالى: (يتساءلون عن المجرمين) أي عن حالهم وعن ذنوبهم التي استحقّوا بها النار ما سلككم في سقر، وهذا سؤال توبيخ، يعني يطلع أهل الجنّة على أهل النار، فيقولون لهم: ما أوقعكم في النار؟ قالوا: لم نك من المصلّين، أي كنّا لا نصلّي الصلاة المكتوبة على ما قرّرها الشرع.

وفي هذا دلالة على أنّ الاخلال بالواجب يستحقّ به الذمّ والعقاب، لأنّهم علّقوا استحقاقهم العقاب بالاخلال بالصلاة، وقوله: (ولم نكُ نطعم المسكين)معناه لم نكُ نخرج الزكاة التي كانت واجبة علينا، والكفّارات التي وجب دفعها إلى المساكين وهم الفقراء، وقوله: (وكنّا نخوص مع الخائضين) أي كلّما غوى غاو بالدخول في الباطل غوينا معه، والمعنى كنّا نلوّث أنفسنا في المرور بالباطل كتلويث الرجل بالخوض.

الثالث: قوله (عليه السلام): «انّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق» أي تسقطها من الرقاب سقوط الأوراق من الأشجار، كما وقع التصريح به في الرواية عن سلمان الفارسي (قدس سره)قال: «كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ظلّ شجرة، فأخذ غصناً منها فنفضه فتساقط ورقه، فقال (صلى الله عليه وآله): ألا تسألوني عمّا صنعت؟ فقالوا: أخبرنا يا رسول الله، فقال: إنّ العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاطّت خطاياه كما تحاطّت ورق هذه الشجرة»(23).

هذا والتشبيه في كلامه (عليه السلام) من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، وكذلك في قوله (عليه السلام): «وتطلقها اطلاق الربق» والمراد أنّها تطلق أعناق النفوس، أي تفكّها من أغلال الذنوب اطلاق أعناق البهائم من الارباق.

ولمّا ذكر (عليه السلام) اسقاطها للذنوب، أيّده بقوله: «وشبّهها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحمة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها، ويطهّر جسده من الأوساخ في اليوم والليلة خمس مرّات، فما عسى أن يبقى عليه شيء من الدرن» وكذلك من صلّى الصلوات الخمس لا يبقى عليه شيء من الذنوب.

ولمّا أهبط آدم من الجنّة ظهرت به شامة سوداء من قرنه إلى قدمه حتّى طبعت بدنه بالسواد، فطال حزنه وبكاؤه على ما ظهر به، فأتاه جبرئيل فقال: ما يبكيك يا آدم؟ فقال: على ما ظهر بي، ألا ترى هذه الشامة التي طبعت بدني بسوادها، قال: قم فصلّي فهذا وقت الصلاة الأُولى.

فقام وجبرئيل يعلّمه فصلّى الصلاة فانحطّت الشامة إلى عنقه، فجاءه في الصلاة الثانية، فقال: قم فصلّي فهذا وقت الصلاة الثانية، فلمّا صلّى انحطّت الشامة إلى سرّته، ثمّ جاءه للصلاة الثالثة ـ وهي المغرب ـ فلمّا صلاّها انحطّت الشامة إلى ركبتيه، وكذلك في الرابعة والخامسة حتّى ابيضّ بدنه، فقال له جبرئيل: يا آدم مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشامة(24).

الرابع: ما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: «وقد عرف حقّها وقدرها رجال من المؤمنين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرّة عين من ولد ولا مال» لعلمهم بأنّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربّهم ثواباً وخير أملا.

* * *

الاستعانة بالله تعالى:

قوله (عليه السلام): «وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالاِْسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ، وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَة أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَة، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَة».

أمره (عليه السلام) أن يبدأ قبل كلّ شيء بالاستعانة بربّه، بأن يطلب المعونة والمساعدة على اتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده.

والاستعانة بالله كلية من كلّيات العقيدة الإسلامية، عميقة الأصل ظاهرة الأثر، فلا عبادة إلاّ لله، ولا اتّجاه لغير الله، وما من قوّة في الكون إلاّ قوّته، فالله وحده يعبد، والله وحده يستعان، يقول السبزواري في أُرجوزته:

أزمّة الأُمور طرّاً بيده *** والكلّ مستمدّة من مدده

وكما أمرنا الله تعالى بأن لا نعبد غيره; لأنّ السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلاّ له دون غيره فلا يشاركه فيها أحد، كذلك أمرنا بأن لا نستعين بغيره أيضاً، وهذا يحتاج إلى البيان; لأنّه أمرنا أيضاً في آيات أُخرى بالتعاون (وتعاونوا على البرّ والتقوى) [المائدة : 2] فما معنى حصر الاستعانة به مع ذلك؟

الجواب: انّ كلّ عمل يعمله الإنسان تتوقّف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدّية إليه، وانتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه.

وقد مكّن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوّة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل في اتقان أعمالنا كلّ ما نستطيع من حول وقوّة، وأن نتعاون ويساعد بعضنا بعضاً على ذلك، ونفوّض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كلّ شيء، ونلجأ إليه وحده، ونطلب المعونة المتمّمة للعمل والموصلة لثمرته منه سبحانه دون سواه، إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكلّ البشر على السواء إلاّ مسبّب الأسباب وربّ الأرباب.

والاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله، وتعلّق من النفس به، وذلك من مخّ العبادة، فإذا توجّه العبد بها إلى غير الله تعالى كان ضرباً من ضروب العبادة الوثنية التي كانت ذائعة في زمن التنزيل وقبله.

أرشدتنا هذه الكلمة الوجيزة من الإمام (عليه السلام) إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة:

أحدهما: أن نعمل الأعمال النافعة، ونجتهد في اتقانها ما استطعنا، لأنّ طلب المعونة لا يكون إلاّ على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفّه حقّه، أو يخشى أن لا ينجح فيه، فيطلب المعونة على اتمامه وكماله، فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على امساكه.

ومن وقع تحت عبء ثقيل يعجز على النهوض به وحده، يطلب المعونة من غيره على رفعه، ولكن بعد استفراغ القوّة في الاستقلال به، وهذا الأمر هو مرقاة السعادة الدنيوية، وركن من أركان السعادة الأُخروية.

وثانيهما: تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك، وهو روح الدين وكمال التوحيد الخالص.

وهنا مفرق الطريق في التحرّر الإنساني المطلق من القوى المخلوقة جميعاً، قوى الإنسان أو قوى الطبيعة ـ أي التحرّر من عبودية النظم ومن عبودية الأوهام ـ وإذا كان الله وحده هو المستعان فقد تخلّص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، فيكون المؤمن مع الناس حرّاً خالصاً وسيّداً كريماً لا سلطان لأحد عليه، ومع الله عبداً خاضعاً مخبتاً.

وأيضاً أنّ عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيّته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيّته، أمّا الأوّل فظاهر; لأنّه هو الإله الحقّ فلا يعبد بحقّ سواه، وأمّا الثاني فلأنّه هو المربّي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية والمعنوية.

ومن هنا تعلم أنّ ايراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم، واسم الربّ الأكرم في القرآن المجيد إنّما هو لترتّبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف.

والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكّل على الله وتحلّ محلّه، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى: (ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كلّه فاعبده وتوكّل عليه) [هود : 123].

فهذه الاستعانة هي ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإنّ من معنى العبادة الشعور بأنّ السلطة الغيبيّة التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفاً على مقارنة العبادة بالتوكل.

فمن كان موحّداً خالصاً لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلباً من الله تعالى، ولكنّه يحتاج في تحقّق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبي، وما كان غير داخل فيها يتوجّه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.

وبهذا البيان تعلم أنّه لا منافاة بين التوحيد والتوكّل من ناحية، وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى فيهما من ناحية، بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيّد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدواً وعشياً، وجعل لهم خَدَماً يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلاّ بالاختلاف إلى المائدة، وإنّما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشأها بماله، وسخّر أُولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره.

هذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبّباته، والعبد إذا احتاج شيئاً من الأشياء التي لم يجعلها سيّده مبذولة لجميع عبيده في كلّ وقت، طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلّة ثقته بمولاه، وجعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل.

هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد، فكيف إذا كان العبد الذي يتوجّه إلى مولاه لا يجد من يتوجّه إليه سواه إلاّ أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله، لأنّه هو السيّد الصمد الذي ليس له كفؤاً أحد؟

ثمّ أنّ لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الربّ تعالى الاعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام به، وفي هذا تكريم للإنسان يجعل عمله أصلا في كلّ ما يحتاج إليه لا تمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أنّ ترك العمل والكسب ليس من سنّة الفطرة ولا من هدي الشريعة، فمن تركه كان كسولا مذموماً لا متوكّلا محموداً، وبتذكره من جهة أُخرى بضعفه لكيلا يغترّ فيتوهّم أنّه مستغن بكسبه عن عناية ربّه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره.

وصفوة القول إنّ الذي استعرضناه، هو الذي يقتضيه محض الايمان بالله، إذ الاستعانة بالله شعبة من شعب الايمان به وفرع من فروعه.

الايمان الذي هو ركن من أركان الإسلام، وأهمّ أصل من أُصوله، وقد نادت الشرائع والأديان كافّة بالايمان بالله، فقد كانت دعوة كلّ نبيّ ورسول على توالي الزمن أنْ آمنوا بالله.

وقد قرَّب الإسلام صفات الله للناس بما أوضحه لهم في القرآن الكريم من سمات هذه الأوصاف، وبما ضربه لهم من الأمثال على هذه الصفات.

فقطع القرآن الكريم بوحدانيّة الله، وحدانية منزّهة عن الشرك وعن المثل، فليس لله سبحانه وتعالى شريك، لم يلد ولم يولد، وقد تنزّه عن الأشياء فليس له كفواً أحد: (قل هو الله أحد  الله الصمد  لم يلد ولم يولد  ولم يكن له كفواً أحد)[سورة الاخلاص].

(وما من إله إلاّ إلهٌ واحد) [المائدة : 73].

(فاعلم أنّه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك)[محمّد : 19].

(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) [النساء : 36].

(ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله)[المؤمنون : 91].

(لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا) [الأنبياء : 22].

وقرّر الإسلام أنّ الله سبحانه وتعالى ربّ كلّ شيء في الوجود، فهو ربّ العالمين، العلوي والسفلي، والظاهر والباطن، ليس فوقه شيء، وهو الأوّل فليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، لا حول ولا قوّة إلاّ به، له الملك لا شريك له ولا إله إلاّ هو، إليه النشور، له الأمر كلّه، والحياة والموت بأمره، ربّ السماوات والأرض وربّ ما بينهما، وربّ العرش العظيم.

(ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين)[الاعراف : 54].

(قل من ربّ السموات والأرض قل الله)[الرعد : 16].

(ربّ السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته) [مريم : 65].

(الله لا إله إلاّ هو ربّ العرش العظيم)[النمل : 26].

(ذلكم الله ربّكم فتبارك الله ربّ العالمين)[غافر : 64].

وهو الخالق، خلق كلّ شيء، السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما، (قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القهّار) [الرعد : 16].

(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور)[الأنعام:1].

(إنّ في اختلاف الّيل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتّقون) [يونس : 6].

 

الآثار النفسيّة للايمان:

إنّ الايمان بالله الذي هذه سماته وصفاته، والذي هذه قدرته وقوّته يفعل في المؤمن به ما لا يستطيع الطب بكافة أنواعه أن يقوم به.

يقول الدكتور «كارل يونج» من أعظم أطبّاء النفس في كتابه «الإنسان العصري يبحث عن نفسه»: «وإنّ كلّ المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية من كلّ أنحاء العالم كان سبب مرضهم هو نقص ايمانهم وتزعزع عقائدهم، ولم ينالوا الشفاء إلاّ بعد أن استعادوا ايمانهم».

ولقد قال أفلاطون: «إنّ أكبر أخطاء الأطبّاء أنّهم يحاولون علاج الجسد دون العقل، في حين أنّ العقل والجسد وجهان لشيء واحد، فلا ينبغي أن يعالج أحد الوجهين على حدة».

وبعد ألفين وثلاثمائة عام، وهي المدّة التي استغرقها علم الطبّ ليتحقّق من صدق هذا القول، أنشئ «الطبّ النفسي الجسماني» بعد أن أصبحت الخسائر التي تحدثها الأمراض النفسية في الأرواح عشرة آلاف ضعف خسائر مرض الجدري مثلا الذي تحاربه الدول، وتعقد الاتّفاقات الدولية في سبيل حماية العالم من شرّه.

وليست الأمراض النفسية أمراضاً وهمية، إذ يقول الدكتور «جوبر» كبير اتحاد المستشفيات بأمريكا: «ليست الأمراض النفسية أمراضاً وهمية بل هي حقيقة لها ألم يعدل ألم الأسنان التالفة وربّما أشدّ منها بمئات الأضعاف، وأذكر مثلا لهذه الأمراض: عسر الهضم العصبي، وقرحة المعدة، واضطرابات القلب، والأرق، والصداع، وبعض أنواع الشلل».

وتعاني الإنسانية في كافّة الدول من الأمراض النفسية ما جعلها تضع الطبّ النفسي الآن في مقدّمة فروع الطب، وزوّدت المصانع والمؤسّسات ومعاهد التعليم في كلّ البلاد بالعيادات النفسية لخطورة ما تسبّبه هذه الأمراض.

وقد صرّح الدكتور «مايو» وهو أحد أصحاب المستشفى المعروف بهذا الاسم في أمريكا: بأنّ أكثر من نصف عدد المخادع في كافة المستشفيات يشغلها أشخاص يشكون من اضطرابات عصبيّة لا جسمانية، واستقرّ الرأي أخيراً على أنّ قرحة المعدة سببها القلق، فيقول الدكتور «جوبر»: «إنّ القلق يجعل العصارات الهاضمة تتحوّل إلى عصارات سامّة تؤدّي في كثير من الأحيان إلى قرحة المعدة».

ويقول الدكتور «جوزيف مونتاجي» في كتابه «اضطرابات المعدة العصبيّة»: «إنّ قرحة المعدة لا تأتي ممّا تأكله ولكنّها تأتي ممّا يأكلك».

ويقول الدكتور «الكسيس كاريل» الحائز على جائزة نوبل في الطبّ: «إنّ الذين لا يكافحون القلق يموتون مبكراً».

ومن عجب أن يصل البُحّاث والأطبّاء إلى أنّه لا علاج لهذه الأمراض إلاّ الايمان بالله القادر الواحد الأحد، فيقول «وليم جيمس» أُستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد: «إنّ أعظم علاج للقلق ولا شكّ هو الايمان».

ويقرّر الدكتور «بريل»: «إنّ المرء المتديّن حقّاً لا يعاني قطّ مرضاً نفسياً». ويقول ديل كارنيجي: «إنّ أطباء النفس يدركون أنّ الايمان القوي والاستمساك بالدين كفيلان بأن يقهرا القلق والتوتّر العصبي، وأن يشفيا هذه الأمراض».

وهل هناك ايمان أقوى من ذلك الذي دعا إليه الإسلام في آيات القرآن الكريم؟!

أو ليست دعوة الإسلام إلى الايمان المطلق بالله ايماناً كاملا قوياً وقاية للإنسان وعلاجاً له من كافّة الأمراض النفسية وكثير من الأمراض العضوية.

 

الله مقدّر الأرزاق:

ومن ضمن الصفات التي وصف الإسلام بها الله سبحانه وتعالى: أنه الرزّاق وغيره المرزوق، وأنّه صاحب الرزق ومقسمه إن شاء أعطى بغير حساب وإن أراد قدَّر الرزق كيف يشاء.

(الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القويّ العزيز) [الشورى : 19].

(والله يرزق من يشاء بغير حساب)[النور : 38].

(إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين)[الذاريات : 58].

(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) [الرعد : 26].

فليس إذاً للإنسان من أمر رزقه شيء، اللّهمّ إلاّ السعي للحصول عليه دون أن يكون له فيه شيء من زيادة أو نقص، فما هدف الإسلام من ذلك؟

تدلّ الاحصاءات على أنّه في كلّ خمس وثلاثين دقيقة يقع حادث انتحار، وفي كلّ مائة وعشرين ثانية يصاب شخص بالجنون، ولقد تفشى بين الناس ما سمّي بمرض الانهيار العصبي، وهو أخطر الأمراض النفسية والعضوية، ومعظم حالات الانتحار والجنون والانهيار العصبي إن لم تكن كلّها، مرجعها إلى الرزق أو الاصطراع في سبيله، أو الكارثة بفقده، أو الطمع في زيادته.

وقد جاء في احصائية نشرتها مجلة «ليديز هوم جورنال»: «أنّ سبعين في المائة من القلق الذي يعانيه الناس مرجعه إلى المال». وليس من وقاية للإنسان من هذه الحوادث إلاّ الايمان بالله الرزاق، الذي قسَّم الأرزاق بين العباد دون أن يكون للمرء دخل فيها.

يقول «ديل كارنيجي»: «كان والداي يعملان جاهدين كالعبيد المسخّرين ستّ عشرة ساعة في اليوم، وبرغم ذلك فقد كان يثقلنا الدين ويركبنا سوء الطالع على الدوام، ولقد دأبت الفيضانات المتعاقبة على إغراق محصولاتنا وتحالف مع الفيضانات المتوالية وباء الكوليرا الذي كان يفتك بماشيتنا، وبعد أعوام طويلة من المجهود المضني والعمل الشاقّ الفينا أنفسنا لا معدمين فحسب بل مُرهَقين بالدين الفادح.

وانتهى الأمر بأن رهنت مزرعتنا، ولقد طالما أذاقنا المصرف المرهونة لديه أرضنا صنوفاً من الهوان وفنوناً من الإذلال، وطالما هدّدنا بانتزاع ملكية الأرض التي هي مورد رزقنا الوحيد، وقد وقع أبي فريسة القلق وانهارت صحّته وتناقص وزنه، وأنبأ الطبيب والدتي أنّ أبي قد فقد الرغبة في مواصلة الحياة، وكثيراً ما سمعت والدتي تقول: إذا تأخّر أبي عن موعد عودته فإنّها تشفق أن تسعى إليه فتجد جثّته متدلية من طرف حبل غليظ.

وفي ذات يوم جدّد المصرف وعيده لأبي بانتزاع مزرعتنا، فلمّا مرّ أبي في طريق عودته إلى البيت بجسر فوق النهر أوقف عربته وترجل منها، ووقف ذاهلا شارداً يتأمّل مياه النهر المنسابة تحته، وكأنّما يهمّ بأن يلقي نفسه بين أحضانها، وقد حدّثني أبي بعد ذلك بأعوام فقال: إنّ الحائل الوحيد الذي منعه من القاء نفسه في اليمّ هو اعتقاده الراسخ بوجود الله، وأنّه سبحانه لابدّ متبع العسر بيسر، وكان أبي على صواب، فقد جاء الفرج بعد الكرب وعاش أبي بعد ذلك في رغد من العيش مدّة اثنين وأربعين عاماً».

هذا هو أحد أهداف الايمان المطلق بالله الرزّاق، ولو عرف كلّ إنسان أنّ رزقه هو كما شاء الله له، أفيطغى شريك على آخر؟ أيأخذ مؤمن غير حقّه بهتاناً أو زوراً؟ أيحقد انسان على غيره لسعة رزقه؟ أتظلّ الخلافات والحوادث التي سببها بغي الفرد وطمع الشريك في رزق قدّره الله ورتّبه وقرّره؟

 

الله عليم بكل شيء:

وهل اقتصر فضل الايمان بالله على ذلك؟

يعلمنا القرآن الكريم أنّ الله سبحانه وتعالى عليم بكلّ شيء، لا تخفى عليه خافية، حتّى الورقة التي تسقط، والحبّة في الظلمات، بل عليم بذات الصدور.

(إنّ الله عالم غيب السموات والأرض إنّه عليم بذات الصدور) [فاطر : 38].

(إنّ الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعملون)[الحجرات : 18].

(يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرّون وما تعلنون) [التغابن : 4].

(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو ويعلم ما في البرّ والبحر وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين)[الأنعام : 59].

هذا العليم ـ إذا ما امتلأ القلب ايماناً به وبأنّه يرى ويسمع في كلّ لحظة وآن، وفي كلّ مكان وأوان ـ هل يعصيه المؤمن؟ إنّ اللصّ لا يحاول أن يسرق إلاّ في غفلة من الشرطي الذي يمثّل أمامه القوّة والسلطة، وأي مجرم لا يرتكب جرمه إلاّ خلسة في جنح الظلام حتّى يأمن الاختفاء من حُماة القانون، فهل يسرق المرء إذا آمن ايماناً كالذي يدعو إليه الإسلام؟ أيسرق وهو يعلم أنّ الله معه وأنّه يراه؟

أيزني وهو يعرف أنّ الله يرقبه؟ أيقتل وهو مؤمن بأنّ الله سيتولّى قصاصه وحسابه؟ أيرتكب خيانة أو فحشاً مهما كان نوع الخيانة قولا أو فعلا؟

إنّ الإنسان يردعه وجود الأكبر منه معه أياً كان أخاً أو رئيساً أو قاضياً، فكيف بربّ السماوات والأرض؟ إنّ الإنسان ليخشى مع المخالفة سلطة القانون فيحاول دائماً أن يرتكبها في غفلة منه، فكيف ببطش ربّك الشديد، الذي يراك وتقلبك في كلّ آونة وحين؟

 

الايمان هو العلاج الحقيقي:

أولا يكون علاج المجتمع من جرائمه في ضرورة تفهّم المسلم ما أراده الله من الدعوة إلى الايمان بالله في الإسلام؟

وقد وصف الإسلام الله سبحانه وتعالى بالرحمة فهو الرحمن الرحيم، وإنّه هو الذي تفرّد بالرحمة وانفرد بالمغفرة.

(نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم) [الحجر : 49].

(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم)[الزمر : 53].

(ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) [النساء : 110].

فايمان الإنسان بأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنّه إذا استغفره الإنسان غفر له، من ضمن وسائل العلاج المستحدثة التي لم يصل إليها الطبّ إلاّ في العصر الحديث، وإن كان لم يصل إلى ما وصل إليه طبّ الإنسان في هذه الآيات الشريفة.

فقد قرّر علماء النفس ـ وعلى رأسهم «فرويد» مؤسّس مدرسة التحليل النفسي ـ أنّ كافة الأمراض النفسية ترجع إلى الكبت الذي يسبّب عقداً نفسية لا شفاء منها إلاّ بما يسمّونه التحليل النفسي الذي يتمّ بأن يجلس الإنسان في عيادة الطبيب النفساني ويعترف أمامه بأخطائه.

وهذا الاعتراف يقول عنه الأطبّاء إنّه صفة منطقية نفسية سلوكية تكشف عن أخطاء المريض فيراها ويشعر بها، فتحدث مهادنة بين النفس والضمير، فيتسامح الضمير، وإذا ما تسامح الضمير واستشعر الإنسان العفو منه والصفاء بينه وبين النفس زالت العقدة النفسية، وعاد الإنسان إلى حالته الطبيعية.

هذا والعقد النفسية ليست وهماً، وليس ما تسبّبه من أمراض وهماً، كما أنّ الألم والظواهر التي تصاحب هذه الأمراض إنّما هي أشدّ من الأمراض العضوية وتماثلها في الأعراض، وكثيراً ما تسبّب هذه العقد الصداع واضطرابات القلب، وأمراض الضغط العالي وغيرها من الأمراض، وإذا كان علاجها هو الاعتراف بالخطأ أمام الطبيب ليتسامح الضمير فأيّ فرق بين الاعتراف أمام الله وأمام الطبيب؟ وأي فرق بين غفران الله وتسامح الضمير؟ هذا هو الفرق بين دعوة الإسلام إلى الايمان بالله وبين أيّة دعوة لغير الله.

 

الله مع الانسان:

ويدعو الإسلام الناس كافّة إلى الايمان بأنّ الله مع كلّ انسان على الدوام، ولذا فإنّ الإنسان ليس وحده في الدنيا.

(هو الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) [الحديد : 4].

(إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون) [النحل : 128].

(ألم تر أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثمّ ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلّ شيء عليم)[المجادلة : 7].

(قال لا تخافا إنّني معكما أسمع وأرى) [طه : 46].

وايمان الإنسان بأنّه ليس وحيداً وأنّ الله معه يعتبر وقاية من أخطر ما يصيب الإنسان بسبب وحدته وانعزاله، فكثيراً ما ينعزل طفل عن المجموعة لسبب أو غيره ممّا يمتّ للشعور بالوحدة، ويسبّب هذا الانعزال ما يسمّى بالنكوص، وهو انطواء النفس على ذاتها وقطع صلتها بالغير.

ويعتبر أطبّاء علم النفس حالات النكوص أخطر المشاكل السلوكية التي تعترض الإنسان، إذ تتّخذ دائماً شكلا مرضياً لا شكّ فيه، ولها أعراض مميّزة، بل لها أمراض مخصّصة هي نواتج لهذه الاحساسات، منها المرض السوداوي الذي من أعراضه الكآبة والخوف والتشاؤم وعدم الرغبة في الحياة والشعور بالرغبة في الانتحار الذي كثيراً ما يلجأ إليه المريض ليتخلّص من هذه الاحساسات.

ومن أمراض النكوص كذلك ما يسمّى بالفصام الذي يظهر في سنّ المراهقة، وأعراضه تماثل أعراض المرض السوداوي إلاّ أنّها تزيد عليه باحساس المريض بأنّه يعيش في عالم يفقد مادّيته وواقعيّته وحقيقته، وإذا اشتدّ هذا المرض سبّب ما يسمّى الجنون الهذائي التأويلي.

وأهمّ ما يشير به علماء النفس في علاج مثل هذه الحالات هي دفع المريض إلى الاشتراك في النشاط الاجتماعي، حتّى يحسّ الإنسان بأنّه مع غيره وبأنّه عضو في مجتمع مرتبط به، وحتّى يقيم أواصر مودّة مع غيره من أفراد المجتمع ليعوّض ما كان يحسّه من انطواء، كما أنّ أهمّ ما ينصح به أطبّاء النفس للوقاية والعلاج من مثل هذه الأمراض هي خلق صداقة مع المريض حتّى ينعدم فيه الشعور بالانعزال.

وهل هناك نسبة بين الصديق ـ مهما كان هذا الصديق ـ وبين الله سبحانه؟ وإذا أحسّ الإنسان من يوم أن يدرك الحياة بأنّ الله معه، يسمعه ويراه، ويأخذ بيده ويرعاه، فهل يحسّ بالوحدة أو العزلة؟ وهل يحتاج بعد ذلك إلى علاج؟(25) أو هل تنتابه مثل هذه الأمراض؟ وما أصدق ـ جون أنتوني ـ المحامي بمدينة هدستون بولاية تكساس وهو يقول:

«ما أسهل أن يهزم الرجل الذي يقاتل بمفرده، أمّا الرجل الذي يتّخذ من الله سنداً ونصيراً فممتنع على الهزيمة».

 

التقدير بيد الله:

وممّا أورده القرآن الكريم من صفات الله ـ التي طالب الإسلام الناس بالايمان بها ـ أنّه سبحانه المقدّر لكلّ أمر، الفعّال لكلّ ما يحدث في الكون والخلق، من قبل الخلق إلى ما بعد الانتهاء، وأنّه سبحانه كما قدّر دوران الأكوان في مداراتها، قدّر حظّ كلّ كائن من يوم أن يخطو إلى أن ينتهي به المسير، وهذه الصفات لله تحتم على الإنسان أن يؤمن بأنّ كلّ شيء كائن إنّما هو مقدّر من الله.

(هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء) [آل عمران : 6].

(وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) [القصص : 68].

(قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكّل المؤمنون)[التوبة : 51].

(إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) [يس : 82].

وكما أنّ الله سبحانه وتعالى قد رسم للأفلاك نظامها، فهي لا تحيد عنه إلاّ بما شاء، كذلك رسم للإنسان ـ وهو أحد أحياء هذا الكون ـ ما ليس له فيه دخل، فرزقه وأجله وعقله ممّا لا دخل للإنسان فيه، أمّا العمل الصالح وغير الصالح فهو نسيج الإنسان وحده، فيقول الله في سورة يونس:

(قل يا أيّها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها وما أنا عليكم بوكيل) [يونس : 108].

وفي سورة الإنسان:

(إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) [الإنسان : 3].

ولقد كان الايمان بالقضاء والقدر موضع دراسات كثيرة من يوم أن نادى به الإسلام، وكان خصوم الإسلام يتّخذون من هذا التسليم المطلق لله وسيلة لقولهم إنّ الإسلام دين تواكل واستسلام، وقد أوضح العلم الحديث ـ بعد أن تقدّمت أبحاث علوم النفس والاجتماع ـ مدى ما هدف إليه الإسلام بالايمان بالقضاء والقدر من خير المسلم والإسلام.

إنّ الايمان بالقضاء والقدر يخلق في نفس المؤمن به رضاً يجعله يقبل كلّ ما يصيبه من مكروه ويسترجع ويستعيذ بالله القائل:

(الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون) [البقرة : 156].

فهل هناك عزاء للنفس، وتصبير للمصاب أكثر من ذلك.

والاحساس بالرضا بما ليس منه بُد، هو ما ينصح به علماء النفس وحكماء العصر الحديث، فنصيحة «وليم جيمس» وهو أحد مشاهير الفلاسفة، التي يضعها علماء النفس موضع الاعتبار نصّها: «كن مستعدّاً لتقبّل ما ليس منه بد، فإنّ تقبل الأمر الواقع خطوة أولى نحو التغلّب على ما يكتنف هذا الأمر الواقع من صعاب».

أمّا شوبنهور الفيلسوف المعروف فإنّه أودع نتائج دراسته لشؤون الحياة في حكمته القائلة: «إنّ التسليم بالأمر الواقع ذخيرة لا غناء عنها في رحلاتنا عبر الحياة».

وعندما قالت «مرجريت فوللر» إحدى زعيمات النهضة النسائية في نيوإنجلند، في اجتماع كبير بها: «إنّني أرضى بكلّ صروف الدهر» علّق «توماس كارليل» الكاتب المعروف قائلا: «إنّ هذا والله خير ما تفعله». يقول «سينكا» أحد فلاسفة الرومان العظام: «إذا بدا لك كلّ ما لديك قليلا فاعلم أنّك لو امتلكت الدنيا لاعتقدت أنّ ما لديك قليل».

ويقول «ديل كارنيجي»: «لقد قرأت خلال الأعوام الثمانية الماضية كلّ كتاب وكلّ مجلة وكلّ مقالة عالجت موضوع القلق، فهل تريد أن تعرف أحكم نصيحة وأجداها خرجت بها من قراءاتي الطويلة، إنّها: إرضَ بما ليس منه بد».

وايمان الناس بأنّ الله قد كتب عليهم كلّ ما يصيبهم يجعلهم يتوخّون في معاملاتهم السماحة، والصفاء، والحبّ، والسلام، طالما أنّ الرابح يعلم أنّ ربحه من الله، وغير الرابح يؤمن بأنّ هذا ما أراده الله فلا حقد إذاً ولا حسد، إنّما صفاء ومحبّة.

وكلّ خير يصيب الإنسان ويعلم بأنّ الله صاحبه، وكلّ نعمة يذكرها المرء على أنّها من عند الله لها تأثيرها في عقل الإنسان وجسمه فيقول الله في هذا: (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها)[النحل : 18]، (وسيجزي الله الشاكرين)[آل عمران : 144].

والإسلام يطلب أن نعدّ نعمة الله، ويقرّر أنّنا بشكرنا الله على هذه النعم لنا الجزاء في الدنيا والآخرة، أمّا في الآخرة فسيتولاّه الله بما يعلم، وأمّا في الدنيا فقد أوضح علم النفس أنّ حديث الإنسان إلى نفسه عمّا يستحقّ شكر الله عليه هو وسيلة النجاح في الحياة، والتخلّص من كلّ العقد النفسية التي تصيب الإنسان.

فيقول «ديل كارنيجي» مؤسّس معهد العلاقات الإنسانية بنيويورك: إنّ كالنتبورن بعد أن أصاب نجاحاً كبيراً في أعماله طلب منه نصيحة يقدّمها للشباب المتلهّف على النجاح فقال: «فليتحدّثوا كلّ يوم إلى أنفسهم كما كنت أفعل، ففي هذا حفز على العمل وشحذ للهمم، فإنّ حياتنا من نسيج أفكارنا وخواطرنا.

وبحديثك إلى نفسك كلّ صباح تستطيع أن تزوّد نفسك بخواطر الشجاعة والسعادة والقوّة والسلام، وبحديثك إلى نفسك عن الأشياء التي تستحقّ أن تشكر الله عليها تملأ ذهنك بخواطر البهجة والانشراح، وإذا ملأت ذهنك بالأفكار الصحيحة وسعك أن تستمتع بأيّ عمل مهما يثقل عليك».

ويقول «جون ميللر» مؤلّف كتاب «إلق نظرة على نفسك»، إنّه قد التزم في حياته خطّة ينصح بها الدكتور سيرولهيم أوسلر الذي يعتبر من كبار رجال الطبّ والذي يسمّوه عبقرياً في معالجة الحياة، وهي: «أن تعاقب الليل والنهار كفيل من تلقاء ذاته بمحو القلق، فلذا لا أُفكّر في مشكلة تطرأ لي وتستحثّني على القلق حتّى ينقضي عليها أُسبوع».

وبديهي أنّه بعد هذه المدّة إمّا أن تكون المشكلة حلّت، وإمّا أن يكون قد تغيّر التفكير فيها.

أمّا بودلي فيقول في «عشت في جنّة الله»:

«إنّني لم أُعان شيئاً من القلق قطّ وأنا أعيش في الصحراء، بل هناك في جنّة الله وجدت السكينة والقناعة والرضا، وكثيرون من الناس يهزؤون بالجبرية التي يؤمن بها الأعراب، ويسخر من امتثالهم للقضاء والقدر، ولكن من يدري؟ فلعلّ الأعراب أصابوا كبد الحقيقة، فإنّي إذ أعود بذاكرتي إلى الوراء، وأستعرض حياتي، أرى جلياً أنّها كانت تتشكّل في فترات متباعدة تبعاً لحوادث تطرأ عليها، ولم تكن قط في الحسبان أو ممّا أستطيع له دفعاً.

والعرب يطلقون على هذا اللون من الحوادث «مكتوب أو قسمة أو قضاء الله» وسمّه أنت ما شئت، وإنّني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء ما زلت أتّخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأُقابل الحوادث التي لاحيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة، ولقد أفلحت هذه الطباع التي كسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر ممّا تفلح آلاف المسكّنات والعقاقير».

ويقول ادوارد ايفانز في «مذكّراته» بعد أن أصابته كوارث مالية كادت أن تودي بحياته: «لم أستطع أن آكل أو أنام، وانتابني المرض، المرض الذي جرّه عليّ القلق وشيء غير القلق، وبينما أنا أسير ذات يوم أدركني الأعياء وتهاويت في عرض الطريق وحملني الناس إلى بيتي، ولم ألبث حتّى تفجّر جسمي بثوراً مؤلمة حتّى إنّ مجرّد الرقاد في الفراش أصبح محنة شديدة.

وكان هزالي يزداد يوماً بعد يوم، وأخيراً أنهى إليّ الطبيب أنّني لن أمكث حيّاً أكثر من أُسبوعين، وصدّقت ذلك وكتبت وصيّتي ولبثت في الفراش أنتظر النهاية المحتومة، لم يعد يجدي إذ ذاك الخوف والقلق، ومن ثمّ امتثلت للأقدار واسترخيت ورحت في نوم عميق بدأت بعده المتاعب التي كنت أحسّها تختفي وعادت شهوتي إليّ ... وبعد أسابيع قليلة استطعت المشي، ثمّ استطعت أن أعود إلى العمل مرّة أُخرى».

وقد نجح «ايفانز» بعد ذلك نجاحاً منقطع النظير، وأصبح رجلا من أنجح رجال الأعمال في الولايات المتّحدة، وفي «جرينلاند» الآن مطار يحمل اسمه.

أليس ذلك بسبب امتثاله لقضاء الله؟

هذا هو بعض ما هدف إليه الإسلام في دعوته إلى الايمان بالله، أوضحها التقدّم في العصر الحديث.

وهذا هو الايمان الذي دعا إليه الإسلام، ايمان بالله الذي لا حول ولا قوّة لأحد إلاّ به، ولا ملجأ منه إلاّ إليه، ولا تدب نملة سوداء على حجر صلد في الليل البهيم إلاّ وهو يراها، ولا ينبض عرق في جزء من كائن في أيّ مكان إلاّ بأمره، ولا يغفل عن شيء بآخر، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تقوم الحياة إلاّ بأمره، وإذا أراد شيئاً فإنّما يقول له كن فيكون.

هذا الايمان بالله كما دعا إليه الإسلام، ليملأ شعاب القلب والفكر والنفس والحسّ، ويملك على المرء حواسّه ومشاعره، يجعل من الله الحقيقة الكبرى، وفي ذلك يقول «جيمس متشز»: «وكثيراً ما أحسست وأنا أعيش بين المسلمين أنّ الله عندهم حقيقة أكبر ممّا هي عند المسيحيّين».

وصدق الله العظيم الذي يقول:

(يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) [الحديد : 12].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) الاختصاص : 341; عنه البحار 22 : 348 ح64.

(2) البحار 7 : 23 ح2.

(3) على ما حدّثنا به ابن الحديد في شرحه 3 : 373 ط مصر; والخطيب البغدادي في تأريخه 3 : 374.

(4) نقل ذلك العلاّمة ابن أبي الحديد في شرح النهج 3 : 314 ط مصر.

(5) أورد هذه الأبيات الحاكم النيسابوري في المستدرك 3 : 633 ط حيدر آباد.

(6) متشابه القرآن 2 : 65.

(7) هذا فصل من فصول كتابنا «منية الطالب في حياة أبي طالب» أثرنا نقله هنا من حيث المناسبة.

(8) راجع الكافي 1 : 57 ح15.

(9) راجع البحار 82 : 202 ح2.

(10) المحاضرات 2 : 449 باب الأذان المعير بترك الصلاة.

(11) البحار 70 : 186 ح1.

(12) راجع البحار 10 : 394.

(13) نهج البلاغة، الخطبة: 199.

(14) جامع الأخبار : 185 ح455; عنه البحار 82 : 202 ح1.

(15) جامع الأخبار : 186 ح459; عنه البحار 82 : 202 ح2.

(16) البحار 82 : 277 ضمن حديث 24.

(17) البحار 82 : 308 ح8.

(18) البحار 82 : 232 ضمن حديث 57.

(19) البحار 85 : 162 ح6.

(20) البحار 82 : 307 ح4.

(21) البحار 82 : 225 ح50.

(22) البحار 82 : 315.

(23) البحار 82 : 208 ح17.

(24) البحار 11 : 166 ح11.

(25) فقد ورد الاشارة إلى هذا المعنى في المناجات الشعبانية حيث يقول: «الهي انّ من تعرّف بك غير مجهول، ومن لاذ بك غير مخذول ... الهي انّ من انتهج بك لمستنير، وانّ من اعتصم بك لمستجير».