الفصل الثامن
الاعتراف بالجهل وطلب العلم
«فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، وَأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ، وَأَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ، وَالاِْبْتِلاَءِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ، أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ تَعْلَمُ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ، فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلا ثُمَّ عُلِّمْتَ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الاَْمْرِ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ!».
* * *
التوحيد في كل الحالات:
قوله (عليه السلام): «فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، وَأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ، وَأَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي».
يرمز ـ صلوات الله عليه ـ بهذا القول إلى التوحيد فيما ينوب الإنسان من أحوال متفاوتة، وعوارض متباينة، ويعلم بذلك أنّه في كلّ حال تحت قبضة المولى سبحانه وقدرته مسيطرة عليه، فلا يمكنه الحيدان عن سلطانه، ولا المهرب من بطشه.
فإذا شيئت له الحياة فبمشيئته، وإذا تقرّرت له الوفاة فتحت نفوذه وقهره، وهو الذي يدير الأمر في الحالين ويدبّره، وإنّ الذي يباشر تكوينه منذ بدأ الخليقة هو الذي يعيد كيانه بعد فناء حياته وبلاء جثمانه، فهو الذي أنعم عليه بنعمة الخلقة أوّلا وسوف يعيده إلى النعيم الخالد أو العذاب الواصب.
وقيّد خيرة الإنسان ما يرتئيه لمستقبله الكشّاف من خير وشر، قال تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) [الأسراء : 7] وإنّ الذي يمتحنه ليظهر مدى صبره المتأكّد، وايمانه الراسخ هو الذي يمنحه العافية والنجاة.
والبلاء على ما يقال منحة ومحنة، فقد يراد التشديد عليه لاكبار مقامه وعلوّ رتبته، فيثاب عليه ويظهر فضله ومقدار صبره، وقد يرام منه الشدّة فحسب من غير انتهاء إلى مثوبة فهو نقمة وخذلان نعوذ بالله منهما، وقديماً ما قيل «التكليف بلاء» لما فيه من المشقّة للبدن، والمخالفة للنفس.
الفقر في لسان الأحاديث:
ومن أجلى مصاديق البلاء هو الفقر المدقع الشديد، وقد اختلفت المأثورات في ذمّه ومدحه، والحقيقة التي لا محيد عنها، أنّ الأحاديث الذامّة مسوقة لذمّ المعنى المصدري الذي هو المبدأ، وأمّا الأحاديث المادحة فالمراد بها حامل المبدأ كالفقير الذي قرن فقره بالصبر والشكر.
فمن الفريق الأوّل: قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلماته القصار: «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، وهو (عليه السلام) القائل: «ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر»(1).
وقال الصحابي الكبير الزاهد أبو ذر الغفاري (قدس سره): «عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»، وهو القائل أيضاً: «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك»، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الفقر سواد الوجه في الدارين»(2).
ومن الفريق الثاني: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الفقر فخري»(3) وقال: «أكثروا معرفة الفقراء، واتّخذوا عندهم الأيادي فإنّ لهم دولة»(4).
وقال (صلى الله عليه وآله): «يقوم فقراء أُمّتي يوم القيامة وثيابهم خضر، وشعورهم منسوجة بالدرّ والياقوت، وبأيديهم قضبان يخطبون على المنابر فيمرّ عليهم الأنبياء، فيقولون: هؤلاء من الملائكة، وتقول الملائكة: هؤلاء من الأنبياء، فيقولون: نحن لا ملائكة ولا أنبياء، بل من فقراء أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فيقولون: بم نلتم هذه الكرامة؟ فيقولون: لم تكن أعمالنا شديدة، ولم نصم الدهر، ولم نقم الليل، ولكن أقمنا على الصلوات الخمس، وإذا سمعنا ذكر محمّد (صلى الله عليه وآله) فاضت دموعنا على خدودنا»(5).
والظاهر الجلي من هذه الرواية أنّ الذي سنّمهم هذا المرتقى هو الايمان الخالص والحبّ البالغ لنبيّ العظمة (صلى الله عليه وآله)، وهو الذي كان يحدو بهم إلى أن يجروا دموعهم غزاراً على خدودهم شوقاً ومودّةً.
وروي عن طريق أهل البيت (عليهم السلام): «إنّ الله تعالى إذا أحبّ عبداً ابتلاه، وإذا أحبّه الحبّ البالغ اقتناه، قيل: وما اقتناه؟ قال: لم يترك له أهلا ولا مالا»(6).
ويعلم من هذه الرواية: أنّ اقتناء العبد له سبحانه لحصر أمله فيه، وقطعه عن غيره، وبهذا الانقطاع يعلي سبحانه درجته، ويرفع مقامه في يوم الجزاء، في يوم تشخص إليه الأبصار، في يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، ولا ملجأ إلاّ إليه.
(يوم يفرّ المرء من أخيه وأُمّه وأبيه وصاحبته وبنيه) [عبس : 34].
(هذا يوم الفصل جمعناكم والأوّلين)[المرسلات : 38].
(قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) [الواقعة : 50-49].
(إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقّاً انّه يبدؤ الخلق ثمّ يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) [يونس : 4].
هذا العود، وهذا الرجوع المعبر عنه بالمعاد الجسماني تضاربت فيه الآراء فبعدت وقربت، وإنّي أرى من الخير النافع للقرّاء، أن أستعرض هذا البحث ـ بحث المعاد الجسماني ـ وأخوض فيه على ضوء ما آتاني الله من علم وهو ضئيل.
المعاد الجسماني:
غيرة على الحقائق والإنسانية، أتمنّى لكلّ إنسان أن يميّز حدود إدراكه، ويعرف مواقع جهله، فلا يشوّه العلم ويضطهد الحقائق وشرف الإنسانية بالجهل المركّب.
فما أجمل علم الإنسان بحدود إدراكه ومواقع جهله، وهذا هو الذي يسمّيه العلماء «الجهل العلمي»، قالوا: «انّه هو الذي تصل إليه النفوس الكبيرة».
وهو بالحقيقة العلم القائم بمعرفة الإنسان نفسه، وهو نادر الوجود بين الناس يحفظ صاحبه من الوساوس والزيغ والضلال.
وإنّ الجهل المركّب يكون عند أُناس هم بين بين، وهم الذين أُخرجوا قليلا عن بساطة العوام، وتقحموا في الجولان في ميدان العلم بأقدام مرتعشة حتّى في مباديه، فهم يقلقون العالم ويشوّهون العلم، تارةً بالتقليد الأعمى في المسموعات الموافقة للأهواء، وتارةً بالوسوسة والتشكيك في كلّ شيء.
فمن تلك الحقائق التي يقابلها المادّيون، ومن مشى وراءهم بالجحود وخيالات الامتناع، حقيقة المعاد الجسماني، واحياء الأجسام بأنفسها للجزاء في يوم المعاد، وقد أخبر القرآن الكريم وبشّر وأنذر به، وكافح الأوهام في خيالات امتناعه، واحتجّ على امكانه بالحجّة الكافية التي تستلفت العقول إلى مبديء الإنسان ومبدعه من وجوده العجيب، فيهون عليها التصديق بوقوع المعاد بالتدرّج في النظر في حكمة الخالق ورحمته وقدرته.
يقول جلّ وعلا: (يا أيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة) [الحج : 5].
أوّل شيء له اسم وعنوان يعرفه نوع الإنسان، مبدءاً لنشأ أفراده وتصويرها، هو النطفة التي يتعاقب عليها التصوير في الرحم، حتّى تكون إنساناً مولوداً وناشئاً ورشيداً.
والنطفة هو المقدار من السائل، سواء كان مراد القرآن منها هو منيّ الذكر كما هو المعهود، أم سائل بيضة الأُنثى، أو سائل حويصلتها الجرثومية على الرأي الجديد.
أفلم يرَ الإنسان كيف بلغ به الخلق والتصوير من هذه النطفة إلى حالته التي يشعر فيها بما في هيكله من عجائب التراكيب، التي تهتف بخالقها القادر وقصده لغاياتها الشريفة، يكفي تلك التراكيب الظاهرة لكلّ أحد وغاياتها الكبيرة المعلومة من العجائب التي تبهر العقول في بدائع القدرة، وبواهر الحكم والغايات.
كيف لا تكفي الإنسان رؤيته لذلك في إذعانه بأنّ الذي بلغ به في التصوير والخلق من النطفة إلى حال شعوره ورشده هو خالق قادر حكيم عالم بالغايات؟
ترى الإنسان تضطرّه الفكرة في أمر طفيف ـ بالنسبة إلى ما ذكرناه ـ وهو صنع الآلات «الدقيقة» فيذعن بلا شكّ بأنّها صنعت بصنع قادر عالم بغاياتها، صنعها لأجل غاياتها، فكيف يعرقل شعوره ويكابر وجدانه، فيتجاهل ويجحد قدرة خالقه وعلمه وحكمته، ويكون من أجل ذلك خصماً يبيّن خصومته في أمر المعاد، ويتمثّل بالعظام التي تبلى وتصير رميماً، فيضرب بجهالته هذا المثل السخيف لجحود المعاد، ويقول: إنّ العظام التي صارت رميماً كيف تحيى، ومن هذا الذي يقدر على جمع أجزائها التي تشتّتت وعلى إحيائها، ومن هذا الذي يحييها وينشئها على صورتها الأُولى ويحبوها بالحياة؟!.
ذلك الخالق القادر العليم، الذي أنشأها أوّل مرّة، وقدّر أوضاعها وأشكالها ومقاديرها وصلابتها ولينها ومفاصلها على مقتضى الحكمة، وحاجة الغاية ووصلها بالأربطة، وأكمل نظامها بآلات البدن العجيبة، فأجرى فيها أعمال الحياة وحفظ الكيان.
أيّها الجاحد للمعاد، هذا الخالق العظيم الذي ينشأ العظام في الأدوار المتعدّدة، والمواليد المتعاقبة بكثرة لا تقدر أن تحصيها، وقدّر نشوء متماثلاتها على ناموس واحد، وتماثل باهر، ليست هي وحدها بل جميع مواليد العالم في أدوارها.
هذا الخالق الذي تُعرِّفك أنواع مخلوقاته التي لا تُحصى وأطوارها بأدوارها، وتشهد بأنّه لا يعييه خلق، ولا يغيب عن علمه خلق، وأنّه بكلّ خلق عليم، وبكلّ مخلوق عليم، فهل يغيب عن علمه جمع رميم العظام وخلقها على صورتها الأُولى واحيائها، وماذا يكبر احياء العظام الرميمة على إنشاء العظام من النطفة، واحيائها في دور من أدوار النشأة الأُولى؟
يقول تعالى في الآية 48 من سورة «الاسراء» المكّية: (أُنظر كيف ضربوا لك الأمثال) في جحود المعاد (فضلّوا)في غيّهم وأصرّوا على خيالات الأهواء، وانهمكوا في أوهامهم، فلا يعتبرون بمبدئهم، ولا يفكّرون في خلقهم ونشئهم، وأبعدوا أفكارهم عن جادة الرشد، والسير في نهج الاعتبار، ودلالة الهدى إذاً (فلا يستطيعون سبيلا) إلى معرفة الحقّ ما داموا معطين قياد أفكارهم بيد الأهواء والاصرار عليها، حتّى استدبرت بهم الطريق، وورطتهم في خبط العشواء.
وفي الآية 49 منها يقول تعالى: (وقالوا) في غوايتهم في ضرب الأمثال لجحود المعاد، وحسبوا أنّهم جاؤوا بالحجّة والقول الفصل والبرهان الكبير، مع أنّ جهد ما خيّلت لهم أوهامهم هو أن يقولوا: (أَءِذا) تقطّعت أوصالنا و (كنّا عظاماً) مجرّدة (ورفاتاً) عظاماً متحطّمة بالية بعد ذلك (أءِنّا لمبعوثون خلقاً جديداً) في الصورة من تلك المواد البالية.
وفي الآية 50 منها يقول تعالى: (قل) لا تقتصروا في المثل على العظام والرفات، بل لتتقلّب بعد ذلك بأجزائكم الصور، وتلعب بها عوامل التغيير المقدّر في نظام العالم، لتُبعد أوصالكم عن صورة الإنسان كيفما أبعدتها عوامل التغيير، وجهد ما تتصوّرون من البُعد و (كونوا حجارةً) من أيّ أنواع الحجارة (أو حديداً أو خلقاً ممّا يكبر في صدوركم) في مقام الترقّي في ضرب المثل وبُعده عن صورة أجزاء الإنسان، فإنّكم تُبعثون بحسب الصورة خلقاً جديداً، تردّ به أجزاؤكم إلى صورتها الإنسانية، وتتعلّق أرواحكم بها (فسيقولون من يُعيدنا قل) يعيدكم القادر على ذلك مهما تغافلتم في مقام الجحود.
لا أبعد لكم الاشارة إليه هو ذاك (الذي فطركم أوّل مرّة) وبلغ بخلقه لكم إلى ما ترونه من أحوال نوعيتكم وخصائص شخصيّاتكم، فانظروا أقلا إلى فطرتكم الإنسانية من بعدما كنتم نطفةً، وإلى وجودكم الإنساني بعد أن لم تكونوا كذلك.
وإن خادعتكم أوهام الأهواء ونظرتم إلى ما قبل ذلك فمهما تجاهلتم وافترضت أوهامكم القدم لأوّلكم في المادة، فإنّكم لابدّ لكم من أن تذعنوا بأنّ مادّتكم التي تقلّبت بها تغيّرات الصور، وتصرّف بتغيّرها عوامل التكوين لابدّ من أن تكون مُحدَثة مفطورة.
هذه المادة الخاضعة للتغيّرات بالصور وعوامل التصرّف والمقترنة بفقر الامكان لا تكون واجبة الوجود، إذن فانظروا إلى ما يصل إليه إدراككم من أوّل فطرتكم، وانظروا إلى تصرّف القدرة بابداعه، وأعمالها الباهرة في تصويراته، فهذا القادر الذي فطركم أوّل مرّة، وأراكم من أعمال قدرته في نشوئكم ونشأتكم ما ترونه من العجائب، هذا هو الذي يعيدكم تارةً أُخرى.
يقول تعالى في الآية 5 من سورة «الحجّ»: (يا أيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث) لأجل تفرّق أجزاء الإنسان بالبلا، فتستبعدون ا حصائها وجمعها واحيائها تارةً أُخرى (فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مُخلَّقة)ظهرت عليها بالخلق معالم أعضاء الإنسان (وغير مخلَّقة) من قبل ذلك.
ومن حكم هذا التقدير والتدرّج في الخلق استلفاتكم إلى تصرّف القدرة الإلهيّة في خلق الإنسان بما له من الجسم وتركيبه العجيب في حكمه وغايات أجزائه، وبما له من الحياة والشعور والعقل، لئلاّ تكونوا على غفلة فتقولون: خلق الإنسان صدفة ولا ندري كيف صار، بل لتلتفتوا إلى مبادئ نشأته البسيطة الفاقدة للحياة، وترقّيها بالخلق إلى التراكيب الباهرة بحكمتها، وإلى جمال الحياة وكمال العلم و (لنبيّن لكم) بالاستلفات مواقع القدرة في مبادئ النشوء وأطواره.
(ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى) محدود للولادة، ونحبوه في الرحم بعظائم النعم ومواد التغذية ولوازم الحياة، على نهج مغاير لنهج عالم الولادة في طرق التغذية والافراز ودورة الدم ونحو ذلك (ثمّ نخرجكم طفلا)عاجزاً عن أمره، نجدّد له صورة غذائه ومنبعه وطريق التغذّي ومخرج الافرازات والفضلات، وتغيّر دورة دمه ونحبوه بحنان الوالدين، ثمّ تتدرّج بكم الأطوار في النموّ ومراتب الشعور، والادراك والعلم والقوّة (لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفّى)حينما يبلغ أشدّه حسبما تقتضيه الحكمة في الشخص أو النوع (ومنكم من يُردُّ الى أرذل العُمُر) أي تكون عاقبته بعد العلم وجودة الادراك وصفاء الشعور (لكيلا يعلم بعد علم شيئاً)، وفي هذا استلفاتكم وتنبيه اعتباركم في خلقكم.
(وترى الأرض هامدة)قاحلة لا نبات فيها ولا بهجة (فإذا أنزلنا عليها الماء) بالقدرة الباهرة في توليد المطر على الأنحاء المختلفة في توليد السحاب وحمله الماء، وعجائب نشئه وضغطه في توليده وسوقه وتسييره وارساله المطر، فإذا نزل على الأرض الميتة (اهتزّت) بحياة الانبات (وربت) بالنموّ (وأنبتت من كلّ زوج بهيج) تكفيكم بهجته في أطواره في الدلالة على باهر القدرة، وإن غاب عنكم ما في النبات من الخصائص والفوائد الكبيرة المتنوّعة، وما لأزواجها من خاصية التلقيح ليبقى نوعها وتوالدها على ناموس مستقيم (ذلك) الذي تُلي عليكم من مبادئ نشوء الإنسان ومبالغ نشوه وحفظ نوعه، بنواميس تواليده وما في مراتب ذلك من عجائب القدرة ودلائل الحكمة وقصد الغاية، وفي نشوء النبات، هذا كلّه يشهد بأنّ موجده إله قادر حكيم عالم بغايات خلقه، يوجد المخلوقات لحكمة غاياتها.
ويشهد وجود هذه الموجودات المذكورة ونشؤها وخلقها وحياتها واستقامة توليدها (بأنّ الله) الإله القادر العليم الحكيم واجب الوجود (هو الحقّ) لا الصدفة العمياء، ولا الطبيعة البكماء، ولا الحركة الحادثة المتصرّمة، ولا المادّة المتغيّرة المقرونة بدلائل الحدوث والحاجة إلى الموجد.
وأنّ الله (يحيي الموتى) كلّ ميّت، الإنسان والنبات، ترى الحياة تطرأ على أصل ميّت لا حياة فيه، بل يحييه الله تعالى بقدرته، ويتصرّف بخلقه بآثار القدرة الباهرة (وانّه الله على كلّ شيء) تتصوّرونه في ناحية الخلق وأنواعه وأطواره ونشأته متسلّط (قدير)، (وأنّ الساعة) يوم القيامة وإحياء الناس بعد بلائهم للحشر (آتية لا ريب فيها) لامحلّ للريب فيها.
فإنّ نبوات الحقّ المؤيّدة بدلالة المعجز، قد أخبرت عن الله جلّ اسمه بها، وإنّ دلائل القدرة في خلقكم وخلق النبات وغيره من الحيوان، وأنواع الجماد وأطوارها وتوالدها وغاياتها تقيم الحجّة الواضحة عليكم بأنّ الله الخالق في النشأة الأُولى بقدرته وحكمته هو قادر في النشأة الأُخرى على إحياء العظام الرميم (وإنّ الله يبعث من في القبور).
وقال تعالى في الآية 33 من سورة «الأحقاف» المكّية: (أولم يروا أنّ الله الذي خلق السموات والأرض) بما فيها من عجائب التقدير ومواقع الحكمة ومحاسن النظام، بحيث يجلو النظر في ذلك لكلّ إنسان حسب استعداده، ويوضح مواقع القدرة والحكمة وقصد الغاية بأوضح المظاهر. (خلق السماوات) أي العالم العلوي، (والأرض) أي العالم السفلي بهذا النظام العجيب بوضعه وحكمته (ولم يعي بخلقهنّ) ويتعذّر عليه شيء منه، أليس هذا الخالق القادر العليم الحكيم (بقادر على أن يُحيي الموتى) ويبعثهم ليوم الجزاء (بلى) إنّ أقلّ نظر حر في خلق هذا العالم ومظاهر القدرة يشهد (إنّه على كلّ شيء قدير).
هذا بعض ما في القرآن ممّا يستلفت النظر المنزّه، وينبّه العقل الحر إلى الحجّة الساطعة على امكان المعاد الجسماني، واحياء الأجسام بعد بلاها.
قيام الساعة وكشوفات العلم الحديث:
قوله تعالى: (يسئلونك عن الساعة أيّان مرساها قل إنّما علمها عند ربّي لا يجليها لوقتها إلاّ هو) [الأعراف : 187].
وقد ذكرنا في أبحاث بعض هذه الفصول شيئاً عن الحياة بعد الموت، والآن نستعرض عجائب من العلم الحديث، ليقف القارئ على علم العلماء وحكمة الحكماء.
1 ـ إنّ عالماً يسمّى «لوفن هوك» شاهد سنة 1701م أنّ حيواناً يبلغ طوله مليمتراً، وهو يعيش على الطحلب وعلى السقوف وفي مجاري الأمطار المنزلية، ولمّا جفّفه وأصبح تراباً بقي خمسة أشهر لا أثر للحياة فيه، ثمّ لمّا غمره بالماء رجع إلى الحياة مرّة أُخرى وأخذ يسعى ويتغذّى.
2 ـ وفي سنة 1743 شاهد العلامة «بندهام» وغيره شاهد نفس هذا الأمر أيضاً، ذلك أنّ الناس يشاهدون بعض حبّ القمح مصاباً بمرض، فيكون ضعيفاً متغيّر اللون، فلمّا بحث العلماء هذا الحبّ وجدوا فيه عجباً عجاباً، مثل ما شاهده العلامة «بندهام» وتفصيل ذلك:
أنّ هناك حيوانات صغيرة جدّاً، تعيش في سنابل القمح وتبيض فيها وتفقس، ويخرج من بيضها علقات تسبح حتّى تدخل تلك الحبّات، ويكون في كلّ حبّة من تلك الحبّات من عشرة آلاف إلى عشرين ألف حيوان، فإذا حصد القمح وجفّ الحبّ جفّ هذا الحيوان فيه، فإذا أصابه الماء حييت تلك الحيوانات ثانياً، وبعثت من مرقدها، وطلبت لها نباتاً من القمح تعيش فيه، ولا تزال هكذا حتّى إذا ظهر السنبل سمنت تلك الحيوانات وفعلت ما فعله آباؤها من قبل.
ولقد اختلف العلماء لمّا رأوا هذه العجائب، وقالوا: أدائمة هذه الحياة أم هي منقطعة وأعقبها بعث، تحيّروا وشكّوا ورجعوا إلى التجارب.
3 ـ ففي سنة 1776م جرّب العالم الراهب الايطالي «سبلتراني» في حيوانات تعيش في الماء تجارب كثيرة، فإنّه جفّفها فانعدمت معالم الحياة فيها انعداماً تامّاً، وجعلها على هيئة تراب مدّة ثلاث سنوات، وعرضها للبرد الشديد والأشعة المحرقة، وبعد ذلك نداها بالماء فرجعت لها الحياة.
4 ـ وأيضاً جرّب العالم المذكور حبّة القمح التي تحتوي على أكثر من عشرة آلاف حيوان كما قدّمنا، فجفّفها كما تقدّم 16 مرّة وبعد كلّ تجفيف نداها بالماء فرجعت لها الحياة.
5 ـ وقام العلامة «دويير» سنة 1840 إلى سنة 1842م فوضع بعض تلك الحيوانات المتقدّمة في وعاء فُرّغ من الهواء تفريغاً تامّاً مدّة أيّام ثمّ عرضها إلى درجة 100 أو إلى درجة 110 سنتجراد مدّة دقيقتين، ولمّا نداها بالماء رجعت إلى الحياة.
6 ـ ومثله العلاّمة «جفري» سنة 1859م.
7 ـ وحذا حذوه العلاّمة «دافين» جفّف دود القمح فصار على شكل تراب أبيض اللون، مكوّن من خيوط بيضاء دقيقة جدّاً خالية من كلّ مرونة، وبعد أشهر نداها بالماء فحييت وسبحت، مع أنّ الدودة وهي حيّة لا تتحمّل بعض هذا بل تموت، وجفّف بعض الحيوانات وحفظها عشر سنوات، ولمّا نداها حييت مع أنّ حياتها العادية لا تزيد عن بعض أسابيع.
8 ـ وعلقات القمح المتقدّمة لا تعيش إلاّ عشرة أشهر، فلمّا جفّفت عاشت أربع سنوات، ثمّ حييت لما نزل عليها الماء، بل جفّفها «دافين» عشر مرّات ثمّ رجعت للحياة كلّ مرّة.
9 ـ والعلاّمة «بيكر» ندى علق القمح بالماء بعدما جفّ 28 سنة وهذا من المدهشات، من هنا جزم «دافين» و «دويير» بعد هذه الأبحاث التي استمرّت إليه سنة 1860 أنّ الحياة انقطعت في هذه الحيوانات انقطاعاً تامّاً، ولكن العلاّمة «بوستي» قال: الحياة مستمرّة.
هناك عيّنت الجمعية الحيوية الباريسية لجنة مكوّنة من خمسة علماء تحت رآسة «بروكا» المشرح الشهير، فوضعت هذه اللجنة بعض الدواب العجلية، مجفّفة في الفراغ الجاف ـ أعني الذي لا بخار ماء فيه ـ مدّة 82 يوماً متتابعة، ثمّ بعد ذلك عرضت تلك الحيوانات إلى حرارة مائة درجة مدّة نصف ساعة، وبعد ذلك كلّه رجعت تلك الدويبات إلى الحياة بعد التندية.
فالعجب من العلم الحديث كيف أظهر أنّ البعث للأحياء حاصل فعلا، وإنّ حبّة القمح فيها آلاف من المخلوقات، وأنّ تلك المخلوقات تموت ثمّ تُحيى متى نزل عليها الماء.
وكأنّ حبّة القمح التي نراها ضعيفة هي أرضنا التي نعيش عليها.
وكأنّ الحيوانات التي فيها هي أنفسنا، وإنّ جفافها ورميها في الفراغ، وتعرّضها للحرارة تارةً والبرودة أُخرى، وجعلها دقيقاً أشبه بما يحصل لأرضنا من التفريق والأحوال المختلفة، أو أنّ حياة تلك العلقات الكامنة فيها بعد هذه الأحوال العظيمة أشبه بحياتنا بعد موتنا، وتعرّض أجسامنا إلى أحوال مضنية.
فيا ليت شعري كيف وصل العلم الحديث إلى أنّ البعث يحصل في هذه الدنيا؟ وكيف تكذب هذه الجمعية الحيوية في باريس مَنْ ينكر حياة تلك الحيوانات بعد موتها الذي شاهدوه؟ وكيف يوافق هذا مئات الآيات القرآنية.
يقول الله تعالى: (ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج)[ق : 11-9].
جعل خروجنا بعد الموت كحياة الأرض بالنبات بنزول الماء، ولا جرم أنّ حبّة القمح المذكورة إذا نزل عليها الماء بعث الحيوان منها بعد موته.
* * *
سير الدنيا يتطابق مع الحكمة الالهية:
قوله (عليه السلام): «وَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ، وَالاِْبْتِلاَءِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ، أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ تَعْلَمُ».
يريد (عليه السلام) أنّ الدنيا وكلّ ماجرياتها مطابق للصالح الأتمّ، وإن كان الإنسان لجهله لا يعرف كلّ تلكم المصالح، فمن العبث السير الحثيث وراء إبقاء ما يرتئيه ويحسبه صالحاً، والانهماك دونه بحيث يلهيه عن الانقطاع إلى بارئه، وهو جدّ عليم بأنّ الذي يعلم حقائق الأحوال وصوالح الأعمال ليس إلاّ المولى سبحانه.
جرى قلم القضاء بما يكون *** فسيان التحرّك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق *** ويرزق في غشاوته الجنين
ومراد القائل الانتهاء إلى الحرص دون الاجمال في الطلب، فليست هذه دعاية إلى البطالة كما يتوهّمه القاصر.
وإنّ ممّا يتوقّف عليه استقرار الدنيا هو الاعتقاد بأنّ ما يقع فيها من الأعمال فالصالح منها منته إلى المثوبة الإلهية، وأمّا الطالح فما له إلاّ العقوبة الأُخروية، أو ما يصيب الإنسان في حياته من العلل والأوصاب التي يقصد بها التأديب والتهذيب، وهذا النوع من الناس أحسن حالا ممّن تدّخر عقوبته ليوم الحساب، فإنّ ذلك ممّا لا قبل لأيّ ابن أُنثى له فإنّه الخزى والهوان.
* * *
الدعوة إلى التعلّم والاعتراف بالجهل:
قوله (عليه السلام): «فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ، فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلا ثُمَّ عُلِّمْتَ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الاَْمْرِ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ».
فأمّا قوله هذا: فلعلّ فيه ايعازاً إلى الطبيعي من أحوال الإنسان من التدرّج في العلوم، وإنّه بطبعه الأوّلي خلوٌّ منها، ثمّ إنّ الحنكة والتجاريب والسمع الصادق توقفه على الحقائق الراهنة وما عزب عنه منها، من غير نظر إلى شخصية الإمام المجتبى (عليه السلام) التي هي شرع سواء في مباشرة العلوم حتّى في عالم الأجنة، فهو من سادة من بعث في المهد نبيّاً، وفاز بشرف النبوّة صبيّاً.
وليس عهد عيسى ويحيى (عليهما السلام) عنّا ببعيد، ولا لما أوتياه من رفعة المقام مزيد على ما أُوتي الإمام السبط (عليه السلام)، إذاً فما هو إلاّ الاشارة والايعاز إلى الطبيعي من أحوال الإنسان وتدرّجه في العلوم، ليصل إلى معرفة الواجب عليه، الباعث على القيام باللاّزم له من شرائع دينه وتوابع دنياه، فيخرج من ظلمة الجهل إلى نور الهدى.
من أجل ذلك فرض الإسلام على الأُمّة التي تعتنقه أن تكون أُمّة متعلّمة ترتفع فيها نسبة المثقّفين، وتهبط أو تنعدم نسبة الجاهلين.
ذلك لأنّ حقائق هذا الدين ـ من أُصول وفروع ـ ليست طقوساً تنقل بالوراثة، أو تعاويذ تشيع بالايحاء، وتنتشر بالايهام، كلاّ إنّها حقائق تُستخرج من كتاب حكيم، ومن سنّة واعية، وسبيل استخراجها لا يتوقّف على القراءة المجرّدة، بل لابدّ من أُمّة تتوفّر فيها الأفهام الذكية، والأساليب العالية، والآداب الكريمة.
ولا شكّ أنّ مدارسة مناهج الإسلام تخلق في أيّ أُمّة تعنى بها جوّاً من الفقه التشريعي القائم على الأوامر والنواهي ـ أي بالحقوق والواجبات ـ وجوّاً من الآداب الاجتماعية الدقيقة المتعلّقة بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوّاً من البحث والاجتهاد الصحيح لمدّ رواق الإسلام على ما تفد به الأعصار من أقضية شتى، وشؤون متجدّدة.
فإذا قلّت هذه العناصر في بيئة مّا اضمحلّ أمر الإسلام وذبلت أغصانه، كما تبلى الشجرة الباسقة في أرض ذَهَبَ خصبها، وجفّ ماؤها.
وهناك بعد ذلك التفكير في الكون الذي أطرد الأمر به في سورة القرآن، واعتبر الأساس الأوّل لاقامة ايمان ثابت وطيد، إنّ هذا التفكير هو الذي فتق الأذهان عن روائع الحضارة الحديثة، ويسرّ للدنيا هذه الكشوف الجليلة لأسرار الوجود، وسخّر للناس ما لم يكونوا يحلمون به.
ثمّ هناك أيضاً التوصية باتّباع الحقّ وحده والبحث عنه مهما خفي، واستنكار الظنون العائمة، والنهي عن الجري وراءها، ووضع رقابة محكمة على السمع والبصر والفؤاد، إنّ هذا كفيل بايجاد مجتمع بعيد عن الخرافات، منزّه عن الأوهام والمساخر، لا مجتمع يفيض بالشعوذة وتتركّز فيه الأراجيف والترهات، وتحكمه تقاليد غامضة ما أنزل الله بها من سلطان.
إنّ العلم للإسلام كالحياة للإنسان، ولن يجد هذا الدين مستقراً له إلاّ عند أصحاب المعارف الناضجة، والألباب الحصيفة.
ولأمر ما يقول الله تعالى عنه: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنّما هو إله واحد وليذَّكَرَ أُولوا الألباب)[إبراهيم : 52].
ويقول مصوّراً أحاديث أهل جهنّم: (لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير) [الملك : 10].
ويقول فيمن طمست مشاعرهم، وماتت مواهبهم، واستغلقت أذهانهم: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً صمٌّ بكم عمي فهم لا يعقلون) [البقرة : 171].
إنّ الله شرّف الحياة بالاسلام بعدما بلغت رشدها، ونمت قواها، واستعدّت لأن تتلقّى منه أزكى التعاليم وأرقاها، فكان مجيئه ملائماً لتطوّر الحياة نحو الكمال، بل كان هو شوطاً واسعاً في الخطو بها نحو الرقي المادي والأدبي.
وأنت إذا نظرت إلى الصلاة ـ وهي العبادة الأُولى في الإسلام ـ وجدت أداءها والأذان لها عملا عقلياً بحتاً، فالدعوة إلى الصلاة كلمات تقرع العقل، وتوقظ القلب، تكبير لله وشهادة بتوحيده، وحثّ على الفلاح، وليست جرساً يرسل رنينه في الفضاء، ويخاطب المشاعر المبهمة، والصلاة نفسها آيات تتلى من كتاب جامع لعزائم الخير ودلائل الرشد، ومدى قبولها مقرون بصحو الفكر في اقامتها، وتدبّر العقل لمعانيها.
والحقّ أنّه على قدر ذكاء الشخص واستنارته واستقامة فطرته يكون رسوخ قدمه في الإسلام، وهيهات أن يسبق في هذا الدين بليد الرأي سقيم الوجدان.
إنّ أوّل ما نزل من آيات القرآن قول الله لنبيّه: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم) [العلق : 5-1].
وهذه أوّل صيحة تسمو بقدر القلم، وتنوّه بقيمة العلم، وتعلن الحرب على الأُمّية الغافلة، وتجعل اللبنة الأُولى في بناء كلّ رجل عظيم أن يقرأ وأن يتعلّم.
وسما الله عزّ وجلّ بدرجات العلماء حتّى قرنهم بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيّته، والاقرار بعدالته: (شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأُولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم) [آل عمران : 18].
ولا غرو فأنّى للعقول الكليلة، والمعارف الضعيفة أن تدرك جلال الكبير المتعال، وأنّى لمن يعيش على هامش الحياة ـ بجهله وظلمته ـ أن يعرف الحقّ عن ربّ الحياة، أو يلمح طرفاً من صفاته العظمى وآياته الكبرى، لذلك أعزّ الله العلماء وآثرهم بكرامته وفضله.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يقول الله عزّ وجلّ للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيّه للفصل بين العباد: إنّي لم أجعل علمي وحلمي فيكم إلاّ وأنا أُريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم ولا أُبالي»(7).
أُنظر إلى قوله سبحانه وتعالى: «علمي وحلمي» وأمعن النظر فيه يتّضح لك من إضافته إليه عزّ وجلّ، أنّه ليس المراد به علم أكثر أهل زماننا المجرّد عن العمل به والاخلاص.
وفي عطف الحلم على العلم ما يشير إلى أنّه علم لم يستبد به النزق ولم تسخّره الشهوات، إنّ المعرفة الجيّدة أسبق عند الله من العمل المضطرب، ومن العبادة الجافّة المشوبة بالجهل والقصور.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فضل العلم خير من فضل العبادة»(8).
وقال: «قليل العلم خير من كثير العبادة»(9).
وقال: «أفضل العبادة الفقه»(10).
وقال: «يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خيرٌ لك من أن تصلّي مائة ركعة، ولأن تغدو فتَعلم باباً من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلّي ألف ركعة».
والسرّ في هذا الحكم أنّ عبادة الجهّال ـ كصداقتهم ـ قليلة الجدوى، وهم يضرّون أنفسهم من حيث يريدون نفعها، ويؤذون أصدقاءهم من حيث يبغون راحتهم، وجهلة العبّاد يستمسكون بالدين استمساكاً شديداً، ويتعصّبون له ظاهراً، ولكنّهم في ساعة رعونة وغباء يقفون منه الموقف الذي يلحق به الأذى والمعرّة، ويجرِ عليه المتاعب الجمّة، أمّا أُولو العلم فإنّ بصيرتهم الذكيّة تحكّم مسلكهم وتلهمهم الرشد، فلو قلّ عملهم كثر ما يصحبه من سداد وبصر.
ولذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد»(11)، وذلك لأنّ الشيطان يبدع البدعة للناس فيبصرها العالم فينهى عنها، والعابد مقبل على عبادة ربّه لا يتوجّه لها ولا يعرفها.
ولمّا كان ضيق الأُفق لا يدع للإيمان امتداداً، ولا للإحسان منفذاً، قال الله عزّ وجلّ: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون) [العنكبوت : 43]، وبيّن أنّ الضمير الدافع إلى الخير، الوازع عن الشر، المراقب له، الحريص على مرضاته، هو ضمير العالم المستنير الخبير بربّه.
وقال تعالى: (أمّن هو قانت آناء الّيل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أُولوا الألباب)[الزمر : 9].
كل أنواع العلم مطلوبة:
والعلم الذي يُقبل المسلم عليه، ويستفتح أبوابه بقوّة، ويرحل لطلبه من أقصى المشارق والمغارب، ليس علماً معيّناً محدود البداية والنهاية، فكلّ ما يوسّع مفاتيح النظر، ويزيح السدود أمام العقل النهم إلى المزيد من العرفان، وكلّ ما يوثق صلة الإنسان بالوجود، ويفتح له آماداً أبعد من الكشف والادراك، وكلّ ما يتيح له السيادة في العالم، والتحكّم في قواه، والافادة من ذخائره المكنونة، ذلك كلّه علم ينبغي التطلّع له والتضلّع فيه، ويجب على المسلم أن يأخذ بسهم منه، وهذا الشمول دلّت عليه الآيات والسنن.
فأمّاالأحاديث المشيرة إلى التزوّدمن المعارف أيّاًكانت فكثيرة، منهاقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنّة»(12).
وقال: «ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى، أو يردّه عن ردى»(13).
فالسياق في هذه السُنَن يوجّه إلى أيّ علم يُطلب، وتعلّم الخير وكلما يقي من الضرر، وما يقرّب من النفع، إنّ الإسلام رفع منازل العلماء وقدّر جهودهم، وكرّم ثمارهم إلى حدّ بعيد.
خطبة الامام علي (عليه السلام) في طلب العلم:
قال عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام): «تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وهو عند الله لأهله قربة، لأنّه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبيل الجنّة، وهو أنيس في الوحدة، وسلاح على الأعداء، وزين الأخلاء، يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمّة يقتدى بهم، وترمق أعمالهم، وتقتبس آثارهم، وترغب الملائكة في خلّتهم، يمسحونهم بأجنحتهم في صلواتهم.
لأنّ العلم حياة القلوب، ونور الأبصار من العمى، وقوّة الأبدان من الضعف، ينزّل الله حامله منازل الأبرار، ويمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا والآخرة، وبالعلم يُطاع الله ويُعبد، وبالعلم يُعرف الله ويُوحّد، وبالعلم توصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل، والعقل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء»(14).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 20 : 301.
(2) البحار 72 : 30 ح26.
(3) المصدر نفسه.
(4) المحجّة البيضاء 7 : 323.
(5) جامع الأخبار : 301 ح822، عنه البحار 72 : 47 ح58.
(6) المحجة البيضاء 7 : 322.
(7) البحار 2 : 25 ح86.
(8) البحار 77 : 87 ضمن حديث 3.
(9) البحار 1 : 185 ح104.
(10) البحار 1 : 167 ح11.
(11) البحار 1 : 177 ح48.
(12) البحار 1 : 164 ح2.
(13) احياء العلوم 1 : 80 / في العقل.
(14) البحار 1 : 166 ح7.